داريوس يغزو سكوثيا
بدأت استعدادات داريوس لغزو سكوثيا، فأوفد الرسل إلى جميع الجهات يحملون أوامر الملك؛ فعلى بعضهم أن يمدَّ الجيش بالجنود، وبعض آخر يمده بالسفن، وغير هؤلاء يقيمون جسرًا فوق البوسفور. وفي هذه الأثناء توسَّل أرتابانوس بن هوستاسبيس شقيق داريوس، توسَّل إلى الملك أن يتنازل عن هذه الحملة مُبيِّنًا له المشقات البالغة التي تكتنف الهجوم على سكوثيا. وعلى الرغم من حُسن نصيحة أرتابانوس فإنها لم تفلح في إقناع داريوس بالرجوع عن تلك الحرب؛ ولذلك كف عن نصح داريوس، وعندما تمت استعدادات الجيش، قاده داريوس من سوسا.
حدث أن جاء إلى داريوس رجل فارسي يُدعَى أيوبازوس، وكان أبًا لثلاثة أولاد، كانوا جميعًا ذاهبين مع الجيش، فتوسل أيوبازوس إلى الملك أن يسمح لأحد أبنائه بأن يبقى معه، فأجاب داريوس بأنه إذا نظر إليه نظرة صديق تقدَّم بطلب متواضع: «سيسمح لهم جميعًا بالبقاء.» فسُر أيوبازوس سرورًا لا مزيد عليه متوقعًا إعفاء أولاده من الخدمة العسكرية، فأمر الملك خدمه بأن يأخذوا أولاد أيوبازوس، ويقتلوهم، وهكذا بقوا جميعًا ولكن بعد أن جُرِّدُوا من حياتهم.
عندما بدأ داريوس سيره من سوسا ووصل إلى منطقة خالكيدون على شواطئ البوسفور حيث أُقِيم الجسر، ركب سفينة وأبحر إلى الجزر الكوانيانية التي — تبعًا لرواية الإغريق — طفت ذات مرة على وجه الماء. فاتخذ مجلسه في المعبد، وطفق يشاهد بحر بونت، الجدير بحق بكل اعتبار. والحقيقة أنه لا يوجد في الدنيا بحر آخر بتلك الروعة، فيمتد طوله إلى أحد عشر ألفًا ومائة فورلنج، وعرضه في أكثر أجزائه اتساعًا ثلاثة آلاف وثلاثمائة فورلنج، وأما مصبه فعرضه أربعة فورلنجات. ويُسمَّى هذا البوغاز الذي أقيم فوقه جسر داريوس باسم البوسفور، وطوله مائة وعشرون فورلنجًا، ويمتد بين أيوكسيني وبروبونتيس. أما البروبونتيس فعرضه خمسمائة فورلنج وطوله ألف وأربعمائة فورلنج، ويَصُب مياهه في الهيلسبونت الذي طوله أربعمائة فورلنج، ولا يزيد عرضه على سبعة فورلنجات، ويوصل إلى بحر متسع يسمى بحر إيجة.
بعد أن انتهى داريوس من تأمله في البحر، عاد ثانية إلى الجسر الذي أقامه له ماندروكليس أحد الرجال الساميين، كما أنه أمعن النظر في شواطئ البوسفور، فأقام عليها عمودين من الرخام الأبيض، نقش عليهما أسماء جميع الأمم التي يتكون منها جيشه. نقش الأسماء على أحد العمودين باللغة الإغريقية، وعلى العمود الآخر باللغة الآشورية. كان جيشه يتألف من جميع الشعوب الخاضعة لحكمه، وفيما عدا رجال البحرية، كان جيشه يبلغ سبعمائة ألف رجل بما فيهم الفرسان. أما الأسطول فكان قوامه ستمائة سفينة. وبعد ذلك بمدة نقل البيزنطيون هذين العمودين إلى مدينتهم، واستخدموهما في إقامة مذبح لديانا الأرثوسية، وتركوا قطعة منهما بجوار معبد باخوص في بيزنطة، وكانت مليئة بالكتابة الآشورية. وبحسب تخميني يقع الموضع الذي أقام فيه داريوس الجسر على البوسفور في منتصف المسافة بين مدينة بيزنطة والمعبد القائم عند مدخل البوغاز.
سُر داريوس أيما سرور بالجسر الذي أقامه ماندروكليس السيامي فوق ذلك البوغاز، لدرجة أنه لم يمنحه الجوائز العادية فحسب، بل وأعطاه عشرة من كل نوع منها. ولكي يقدم ماندروكليس أولى هذه الجوائز عمل على صنع صورة للجسر كله، ظهر فيها داريوس وهو يتبوأ مجلس الصدارة، وجيشه يمر من فوق تلك القنطرة، ثم قدم هذه الصورة لمعبد جو نوفي ساموس.
بعد أن كافأ داريوس .. ماندروكليس، عبَر البحر إلى أوروبا، وأمر الأيونيين بدخول بحر بونتوس والإبحار إلى مصب نهر إيستر؛ حيث أمر بإقامة جسر فوق ذلك النهر، وانتظار مجيئه. كانت البحرية تتكون أساسًا من الأيونيين والأيوليين، وسكان الهيلسبونت. وعلى ذلك أبحر الاسطول مارًّا بالجزر الكواينانية، واتجه رأسًا إلى نهر إيستر، ودخل ذلك النهر حتى المكان الذي يتفرع فيه مجراه وهذا يقع على مسافة إبحار يومين من البحر، وألقى مراسيه هناك. وفي ذلك الوقت اجتاز داريوس البوسفور وسار خلال تراقية. وإذ عثر على منابع التيروس أقام معسكره وظل هناك ثلاثة أيام.
يقول جميع من يسكنون بجوار التيروس إنه صحي أكثر من أي نهر آخر، ويشفي أمراضًا عدة منها الجرب سواء أُصيب به الإنسان أو الحيوان، وتستمد منابعه — التي يبلغ عددها ثمانية وثلاثين منبعًا — ماءها من صخرة واحدة، وبعض هذه المنابع بارد، في حين أن بعضها الآخر ساخن، وتقع جميعًا في منتصف المسافة بين مدينة هيرمايوم القريبة من بيرنيثوس وبين مدينة أبولونيا الواقعة على نهر أيوكسيني، وتبلغ مسيرة يومين من كل من هاتين المدينتين، ونهر تيروس هذا هو أحد روافد نهر كونتاديسدوس الذي يصب في نهر أجريانيس، وهذا بدوره يصب في نهر هيبروس الذي يصب في البحر قرب مدينة أينوس.
توقف داريوس عند شواطئ نهر التيروس حيث أقام معسكره، وقد أعجبه هذا النهر لدرجة أنه أمر بإقامة عمود على شاطئه في ذلك الموضع، ونقش عليه «إن منابع نهر التيروس لَتُخرِج مياهًا أجود وأجمل من مياه الأنهار طرًّا. لقد زارها أجمل الرجال جميعًا داريوس بن هوستاسبيس ملك الفرس وجميع القادة أثناء مسيره لمحاربة سكوثيا.» هذه هي العبارة التي نقشها على النُّصب الذي أقامه في ذلك الموضع.
بعد أن أتم الملك كلامه أخذ سيرًا من الجلد، وعقد فيه ستين عقدة، ثم استدعى إليه جميع رؤساء الأيونيين، وتحدث إليهم بقوله: «أيا رجال أيونيا، لقد سحبت أوامري السابقة بخصوص ذلك الجسر. انظروا ها هو ذا سير من الجلد خذوه ونفذوا كل ما آمركم به بخصوصه … ابتداءً من اليوم الذي أترككم فيه قاصدًا سكوثيا حلوا كل يوم عقدة، فإذا لم أرجع قبل اليوم الذي تحلون فيه آخر عقدة فغادروا مكانكم وعودوا في البحر إلى مختلف أوطانكم، وفي تلك الأثناء يجب أن تعرفوا أنني غيرت رأيي بشأن هذه القنطرة التي يجب أن تقوموا بحراستها بكل عناية! وبالمحافظة على سلامتها وبقائها، بهذا تسرونني أبلغ السرور.» وما إن قال داريوس هذه الأقوال، حتى شرع يسير بكل سرعة.