أسطورة سولون
بهذه الطريقة جعل كرويسوس نفسه سيدًا على جميع المدن الإغريقية في آسيا، وأجبرها على أن تتبعه. بعد ذلك أنشأ يُفكر في بناء أسطول ليهاجم به سكان الجُزر الإغريقية، فأعد عُدته لتنفيذ تلك الرغبة، بيد أن بياس البرييني أحبط مسعاه في ذلك المشروع، فقد سأله الملك عندما عاد من سارديس عما إذا كان قد سمع أخبارًا من بلاد الإغريق، فأجابه بقوله: «نعم يا سيدي؛ يَجِدُّ سكان الجُزر في جمع عشرة آلاف حصان للقيام بحملة عليك وعلى عاصمة مُلكك»، وإذ اعتقد كرويسوس أن بياس يقول الحقيقة صاح قائلًا: «عسى أن تضع الآلهة هذه الفكرة في أذهانهم كي يهاجموا أبناء الليديين بالفرسان!» فرد عليه بياس يقول: «يبدو أيها الملك أنك تريد مهاجمة سكان الجزر بالفرسان فوق الأرض الأصلية، وإنك لتعلم حق العلم ماذا ستكون النتيجة، وماذا تظن أن يأمل فيه أهل الجزر خيرًا من هذا بعد أن سمعوا أنك تزمع بناء أسطول لتهاجمهم به وتنتقم منهم جزاء إساءة إخوانهم الذين استعبدتهم؟» وقع ذلك الكلام في نفس كرويسوس موقع السحر، واعتقد أن هناك ما يُبرر جمعهم للخيول، فصرف من ذهنه فكرة بناء أسطول، وأبرم معاهدة صداقة مع أيونيِّي الجزر.
لهذا السبب، ولكي يرى العالم، خرج سولون في رحلاته فذهب إلى مصر إلى بلاط أماسيس، وذهب أيضًا لزيارة كرويسوس في سارديس فأكرم كوريسوس وفادته واستضافه في قصره الملكي. وفي اليوم الثالث أو الرابع أمر كرويسوس خدمه أن يطلعوا سولون على كنوزه وعظمته وأُبَّهته، فلما رأى سولون كل ذلك وفحص بنفسه كل شيء، سأله الملك: «أيها الغريب الأثيني لقد سمعنا الكثير عن حكمتك ورحلاتك خلال البلدان حبًّا في المعرفة ورغبة في مشاهدة غرائب الدنيا لهذا تجدني متلهِّفًا لأعرف منك؛ من هو أسعد رجل رأيته؟» ألقى كرويسوس هذا السؤال على سولون؛ لأنه كان يظن نفسه أسعد رجل على ظهر الغبراء، بَيْد أن سولون أجابه بلا نفاق ولا تملُّق، بل تبعًا لشعوره الحق، فقال: «أسعد رجل شاهدته هو تيلوس الأثيني يا سيدي.» فذُهل كرويسوس مما سمع، وقال محتدًّا: «ولماذا تعتبر تيلوس أسعد رجل؟» فأجابه سولون بقوله: «أولًا: لأن مملكته ازدهرت في عصره، وله هو نفسه أولاد على قدرٍ بالغ من الجمال والصلاح، ولأنه عاش ورأى كلاًّ منهم يُنجب أطفالًا، ورأى أولئك الأطفال وقد كبروا وترعرعوا، وزيادة على ذلك فبعد أن قضى حياته فيما يعتبرها شعبنا حياة مريحة مات بمجد منقطع النظير؛ إذ هبَّ لنجدة شعبه في قتالٍ بين الأثينيين وجيرانهم قرب اليوسيس فمات شجاعًا في حومة الوغى، فدفنه الأثينيون باحتفال رائع في البقعة التي سقط فيها، وقدموا له أعظم فروض التبجيل والاحترام.»
هكذا نصح سولون كرويسوس بالمثل الذي قدمه له عن تيلوس، مُعَدِّدًا مميزات السعادة الكثيرةَ المظاهر. وبعد أن انتهى سولون من ذلك سأله كرويسوس مرةً ثانيةً عمن يعتبره في المرتبة الثانية من السعادة بعد تيلوس، متوقعًا أن يكون هو في تلك المنزلة، مهما كانت الظروف، غير أن سولون خيَّب ظنه بقوله: «كليوبيس وبيتو؛ إنهما شابان من سكان أرجوس، كانَا ذوَي أموال تكفي لسد حاجاتهما، وقد وُهِبا علاوةً على ذلك قوة بدنية نالا بواسطتها الجوائز في المباريات الرياضية، ويروي القوم عنهما هذه القصة: كان الشعب يحتفل بعيد الربة جونو في أرجوص، وكان لابد من أن تذهب والدتهما إلى المعبد في عربة، بَيْد أن الثيران التي تجر العربة تأخرت في المجيء من الحقل، فخشي الشابان أن يمنع ذلك ذهاب أمهما إلى المعبد في الوقت المناسب، فما كان منهما إلا أن وَضعَا النير على عنقيهما وجرَّا العربة التي ركبتها أمهما لمسافة خمسة وأربعين فورلنجًا (الفورلنج ٨/١ ميل) حتى وقفَا بها أمام المعبد. وهكذا قامَا بعمل مجيد أمام كافة جمهور المحتفلين بتكريم الربَّة، كما أن حياتهما انقضت على خير ما تكون عليه نهاية الحياة، وكذلك أوضح الرب أن الموت أفضل للإنسان من الحياة؛ فقد أثنى الرجال الملتفون حول العربة على شجاعة وقوة الشابين، وأثنت النساء الأرجوسيات على تلك الأم التي حوبيت بنعمة مثل هذين الابنين، واغتبطت الأم نفسها بذلك العمل وبالثناء الذي نالته فوقفت أمام تمثال الربة، وتوسلت إليها أن تمنح ولديها كليوبيس وبيتو اللذين كرَّماها وشرَّفاها أقصى نعمة يمكن أن ينالها البشر، وما إن انتهت من صلاتها حتى قدمت الذبائح واشترك الجميع في الوليمة، وبعد ذلك غلب النعاس الشابين فناما في المعبد، ولكنهما لم يستيقظَا من النوم بعد ذلك، بل غادرَا الدنيا، وإذ اعتبرهما الأرجوسيون من بين أفاضل الرجال، صنعوا لهما تمثالين أقاموهما في محراب دلفي.»
عندما وضع سولون هذين الشابين في المرتبة الثانية من السعادة صاح كرويسوس غاضبًا فقال: «إذن فماذا تكون سعادتي أيها الغريب الأثيني، إذ لم تقدرها بشيء، ولم تضعها حتى في مستوى الرجال العاديين؟!»
فقال سولون: «أي كرويسوس! إنك لتسأل عن حال الإنسان، وتوجه سؤالك إلى رجل يعرف أن السلطة هي أكثر شيء مُلئ بالحسد، ومولعة بالتنكيد علينا غاية النكد، فالحياة الطويلة تمكِّن المرء من أن يرى كثيرًا، ويجرب كثيرًا ما لا يحبه، إنني أعتبر أقصى حياة للإنسان سبعين عامًا، فيكون مجموع الأيام التي يقضيها في ذلك العمر ستة وعشرين ألفًا ومائتين وخمسين يومًا لا يمر منها يومٌ إلا ويرى فيه حادثًا يختلف عن سائر الأحداث التي شاهدها قبل ذلك، وعلى ذلك يكون المرء مجموعة من الأحداث. أما عن نفسي فأرى أنك واسع الغنى بدرجة مدهشة، وأنك سيد على عدة أمم. وأما بخصوص السعادة التي تسألني عنها فليس عندي ما أرد به عليك إلا بعد أن أسمع أنك أنهيت حياتك نهاية سعيدة، فمن المؤكد أن من يملك خزائن الدنيا من الكنوز ليس أقرب من السعادة ممن يملك ما يكفي حاجته اليومية فحسب، إلا إذا حالفه حسن الحظ، وبذا يستمر يتمتع بخيراته إلى آخر أيام حياته. فقد عاكَسَ الحظ كثيرين ممن يملكون ثروات طائلة، كما ساعد الحظ كثيرين من متوسطي الحال، ولا يتفوق النوع الأول من هذين على النوع الثاني إلا في ناحيتين، أما النوع الثاني فيتفوق على الأول في عدة نواحٍ؛ فالرجل الغني أقدر من متوسط الحال على نَيْل كل حاجاته والتغلب على المصائب المفاجئة، أما النوع الثاني فأقل مقاومة لهذه النوائب (التي يحفظه حسن حظه منها)، غير أنه يتمتع بكل النعم التالية: إنه كامل الصحة، وأقوى على مقاومة الأمراض، وخالٍ من سوء الحظ، سعيد بأولاده وبحسن منظره، فلو أنهى حياته علاوة على ذلك نهاية طيبة كان حقيقة هو الرجل الذي تنشدُه، الرجل الذي يصح بحقٍّ أن يوصف بالسعادة، وإلى أن يموت، ذلك الرجل يمكنك أن تطلق عليه أي اسم قل إنه محظوظ، وليس سعيدًا، والحقيقة أنه من النادر أن يتصف أي رجل بجميع هذه الميزات، مثله في ذلك مثل الدول فما من دولة تملك في بلدها كل ما تحتاجه، فبينما تملك كل منها أشياء معينة ينقصها أشياء أخرى، وأفضل دولة هي التي تملك معظم احتياجاتها. كذلك الأمرُ؛ ما من مخلوق بشري واحد كامل من جميع الوجوه، لا بد من وجود نقص ما. فمن يضم أكبر عدد من المميزات ويحتفظ بها إلى يوم مماته؛ حيث يموت هادئًا هو وحده تبعًا لحُكمي يا سيدي مَن يصح أن يُقال عنه إنه سعيد. إننا ننتظر النهاية في كل حالة؛ فالرب يمنح البشر قبسًا من السعادة، ثم يغمرهم بعد ذلك في الخراب.»
هكذا تحدَّث سولون إلى كرويسوس، وهو حديث لم يجلب عليه مالًا ولا أمجادًا، فعندما رحل عن البلاد لم يهتم به الملك؛ إذ كان يعتقد أن من لا يحكم بالغِنى الحاضر، وينتظر معرفة النهاية أولًا، لا شك معتوه غشى الله على بصيرته.