القبائل السكوثية
تشاور السكوثيون فيما بينهم بشأن تلك الظروف التي استجدَّت عندهم، فوجدوا أن قوتهم وحدهم ليست كافية للوقوف أمام جيش داريوس في القتال وجهًا لوجه. وعلى ذلك أوفدوا رسلًا إلى الشعوب المجاورة لهم والتي كان ملوكها قد اجتمعوا للتشاور في موضوع الهجوم الذي سيقوم به عليهم مثل ذلك الجيش العرمرم. لقد اجتمع ملوك الثاوريين، والأجاثورسيين، والنيوريين، والأندروفاجيين، والميلانخلانيين، والجيلونيين، والبودينيين، والساوروماتيين.
كانت تقاليد الثاوريين تقضي بأن يضحوا للعذراء بجميع الأشخاص الناجين من السفن المحطمة، وبجميع الأغارقة الذين تضطرهم الأحوال الجوية إلى الجنوح إلى البر. وهاك طريقتهم في التضحية بهؤلاء: بعد إتمام الاحتفالات التمهيدية يضربون الضحية على رأسه بهراوة، ثم يقذفون بجثته من فوق صخرة شاهقة فيسقط إلى الهوة السحيقة؛ حيث يوجد المعبد. أما الرأس فيثبتونه إلى صليب.
والأجاثورسيون قوم بالِغو الترف مولعون أشد الولع بالتحلي بالذهب، وزوجاتهم مشاعات فيما بينهم جميعًا حتى يكونوا كلهم إخوة كأعضاء في أسرة واحدة، لا يحسد أحد منهم الآخر، ولا يحمل له حقدًا ولا ضغينة.
وعادات النيوريين شبيهة بعادات السكوثيين. وقد حدث قبل هجوم داريوس أن هجر أحد الأجيال دياره أمام هجوم جموع كبيرة من الأفاعي غزت بلادهم. كانت بعض تلك الأفاعي مما تربى في بلادهم، والبعض الآخر وفد إليهم من الصحراء الشمالية. وإذ أصيبوا بخسائر فادحة من جراء هذه المصيبة، هجروا وطنهم ولجئوا إلى بلاد البودينيين.
أما الأندروفاجيون فأشد وحشية من أي شعب آخر؛ فهم لا يعرفون العدالة ولا يخضعون لأية قوانين. إنهم قوم رُحَّل، يلبسون الزي السكوثي، ويتكلمون لغة غريبة عليهم هم أنفسهم، وعلى خلاف أي شعب آخر في هذه المناطق يأكلون لحوم البشر.
ويلبس الميلانخلانيون جميعًا عباءات سوداء، ومن هنا جاء اسمهم، وعاداتهم سكوثية.
والبودينيون أمة ضخمة قوية، عيونهم جميعًا زرقاء، وشعورهم حمراء زاهية اللون، ويطلقون على مدينتهم اسم «جيلونوس» وتحيط بها أسوار عالية، ويبلغ طولها ثلاثين فورلنجًا من كل ناحية، وهي مصنوعة كلها من الخشب، ويتكلم أولئك القوم لغة نصفها إغريقي ونصفها الآخر سكوثي.
ولا يتكلم البودينيون نفس اللغة التي يتكلمها الجيلونيون، كما أنهم يختلفون عنهم في طريقة معيشتهم. إنهم الوطنيون الأصليون لهذه المنطقة، وهم شعب رُحَّل، وعلى خلاف كل جيرانهم يأكلون القمل. أما الجيلونيون فعلى عكس ذلك يفلحون الأرض ويأكلون الخبز، ولديهم حدائق، ويختلفون عن البودينيين في كل من الهيئة ولون البشرة.
يُروَى عن الساوروماتيين أنهم عندما اشتبك الأغارقة في حرب مع شعب الأمازون أبحر الأغارقة بعد انتصارهم في المعركة، وأخذوا معهم ثلاثًا من سفنهم مليئة كلها بالنساء الأمازونيات اللواتي وقعن في الأسر، وما إن ابتعدت السفن عن اليابسة وصارت في وسط البحر حتى ثارت الأمازونيات على البحارة وقتلنهم جميعًا لآخر رجل، ولما كنَّ لا يعرفن شيئًا عن الملاحة ولا عن السفن، ولا يعرفن كيف يستخدمن الدفة ولا المجداف ولا الشِّراع، ذهبن بعد موت الرجال إلى حيث ساقتهن الريح والأمواج. وأخيرًا وصلن إلى شواطئ بالوس مايوتيس، إلى الموضع المُسمَّى كريمني، أي «الصخور» … الواقع في أرض السكوثيين الأحرار، فنزلن إلى البر وسرن صوب المناطق المسكونة، وعندما التقين بأول سرب من الخيول استولين عليه وامتطين ظهوره، وشرعن في نهب تلك المنطقة السكوثية.
لم يدرِ السكوثيون ماذا يعملون إزاء ذلك الهجوم؛ فهم لا يعرفون نوع تلك الثياب التي يرتديها من هاجموهم ولا لغتهم ولا الشعب الذي ينتمون إليه. كانوا يحسبونهم رجالًا … غير أنه عندما وقع في أيديهم بعض القتلى أدركوا الحقيقة. عند ذلك تشاوروا فيما بينهم، فقرروا ألا يقتلوا منهن واحدة بعد ذلك، وأن يُرسِلوا إليهنَّ فرقة من أصغر الرجال سنًّا، يقرب عدد أفرادها من عدد النساء حسب تقديرهم، وأن يُؤمروا بإقامة معسكرهم في المنطقة القريبة من معسكر أولئك النساء، وأن يحاكوهن في كل ما يعملنه، وإذا تقدمت منهم الأمازونيات فعليهم أن ينسحبوا ولا يشتبكوا معهن في قتال، وإذا توقفن اقترب منهن الشُّبان وضربوا فساطيطهم بقرب معسكر أولئك الأعداء … فعلوا كل هذا رغبة في الحصول على ذرية من هذا الشعب الشهير.
بناءً على هذا … رحل الشبان، ونفذوا الأوامر التي تلقوها حرفيًّا، وسرعان ما أدركت الأمازونيات أن هؤلاء لم يأتوا ليصيبوهن بأذى، وعلى ذلك لم يقمن من ناحيتهن بمعاكسة السكوثيين بعد ذلك، ثم أخذ المعسكران يقتربان من بعضهما يومًا بعد يوم، وكان كل من الفريقين يحيا الحياة نفسها التي يحياها الفريق الآخر، ولم يملك أي منهم شيئًا سوى السلاح والخيول. وهكذا اضطروا إلى الحصول على قوتهم من الصيد والنهب.
وأخيرًا، تصادف أن التقى اثنان منهم، واستطاع الرجل أن يكسب بسهولة مودة المرأة التي أخبرته بالإشارات (لأن كلًّا منهما لم يكن يعرف لغة الآخر) أن يُحضِر معه أحد أصدقائه في اليوم التالي، إلى الموضع نفسه الذي التقيا فيه، ووعدته بدورها بأن تحضر معها سيدة أخرى، ففعل الشاب ما طلبته منه تلك المرأة وبرَّت هي بوعدها، فلما سمع بقية الشبان بما حدث، سعى كل منهم إلى اكتساب ودِّ امرأة أمازونية.
ما هي إلا فترة وجيزة حتى اندمج المعسكران في معسكر واحد، وعاشر السكوثيون الأمازونيات معاشرة الأزواج، ولم يكن بوسع الرجال أن يتعلموا لغة النساء، في حين أن النساء سرعان ما تعلمن لغة الرجال، فلما استطاع كل منهم أن يتفاهم مع الآخر، قال الرجال للأمازونيات: «إن لنا آباء وأمهات، ولنا ممتلكات، وبناءً على هذا هيا بنا نترك طريقة الحياة هذه ونرجع إلى أمتنا؛ حيث نعيش معهم ستكُنَّ زوجاتنا، ونعدكن بأننا لن نتزوج غيركن.» بَيْد أن الأمازونيات أجبنهم قائلات: «إننا لا نستطيع الحياة مع نسائكم؛ لأن عاداتنا تختلف عن عاداتهن تمام الاختلاف، فدَيدَنُنا جذب القوس وقذف الرمح وركوب الخيل، أما شئون السيدات فلا ندري منها شيئًا، وأما نساؤكم فعلى نقيض ذلك لا يفعلن شيئًا من هذا، بل يقضين حياتهنَّ داخل العربات حيث يَقُمن بالأعمال النسوية، ولا يخرجن قط للصيد أو لعمل أي شيء. لا يمكن أن نتفق وإياهن إطلاقًا. ولكن، إن كانت لكم رغبة حقيقية في الاحتفاظ بنا كزوجات لكم، ومعاملتنا بعدل وإخلاص، فاذهبوا إلى والديكم في بلدكم، واطلبوا أن يعطوكم ميراثكم، ثم عودوا إلينا لنعيش وحدنا معًا.»
استصوب الشبان مشورة السيدات وعملوا بها، فذهبوا وأخذوا نصيبهم من الممتلكات، ثم عادوا إلى زوجاتهم اللائي خاطبنهم عند إذ بقولهن: «إننا لنخجل ونخاف من أن نعيش في هذه البلاد التي نحن فيها الآن. فلم نسرقكم من آبائكم فحسب، بل وأصبنا سكوثيا بأضرار جسيمة بوساطة غاراتنا للسلب والسرقة، وبما أنكم تُحِبوننا كزوجات، نرجو أن توافقوا على الطلب الذي سنطلبه منكم. هيا بنا نهجر هذه الديار كلية ونرحل فنعيش فيما وراء نهر تانايس.» ومرةً أخرى وافق الشبان.
بعد أن عبروا نهر تانايس اتجهوا شرقًا إلى مسيرة ثلاثة أيام من ذلك النهر، ثم اتجهوا شمالًا إلى مسيرة ثلاثة أيام من بالوس مايوتيس حيث وصلوا إلى المكان الذي يعيشون فيه الآن، واتخذوه مسكنًا لهم. ولا تزال نساء الساوروماتيين محافظات على عاداتهن منذ ذلك الوقت حتى اليوم، يُمارِسن الصيد وهن على ظهور الخيل بصحبة أزواجهن، وأحيانًا وحدهن. وفي الحرب ينزلن إلى معمعان القتال مرتديات نفس الزي الذي يرتديه الرجال.
يتكلم الساوروماتيون لغة سكوثيا، ولكنهم لا يتكلمونها صحيحة قط؛ إذ تعلمتها الأمازونيات سقيمة في أول الأمر، ويقضي قانون الزواج عندهم ألا تتزوج فتاة ما إلا إذا قتلت رجلًا في معركة، ويحدث أحيانًا أن تظل سيدة بغير زواج إلى سن متقدمة؛ لأنها لم تستطع القيام بهذا الشرط.
لما دخل مبعوثو سكوثيا إلى حضرة ملوك هذه الشعوب الذين كانوا مجتمعين للمداولة أخبروهم بأن ملك الفرس بعد أن أخضع القارة كلها أقام قنطرة فوق بوغاز البوسفور، واجتازه إلى قارة أوروبا، حيث أخضع التراقيين، وإنه لَيُقِيم الآن قنطرة فوق نهر إيستر قاصدًا أن يُخضِع أوروبا كلها لحكمه.
تداول الملوك المجتمعون بعد أن سمعوا ما قاله السكوثيون، وفي النهاية انقسموا في الآراء، فاتفق ملوك الجيلونيين والساوروماتيين والبودينيين، وتعهدوا بتقديم المساعدة للسكوثيين. أما ملوك الأجاثورسيين والنيوريين والأندروفاجيين والميلانخلانيين والثاوريين فردوا على الطلب الذي تقدم به إليهم السكوثيون هكذا: «إذا لم تكونوا قد بدأتم بمحاربة الفرس لوجدنا طلبكم عادلًا، ولوافقنا على رغباتكم وضممنا قواتنا إلى قواتكم، ولكن الذي حدث هو أنكم انفردتم بدوننا بغزو أرض الفرس، وطيلة المدة التي وهبكم الرب فيها القوة استخدمتموها في أن تحكموها. والآن لمَّا رفعهم نفس الرب أتوا اليكم ليفعلوا بكم مثل ما سبق أن فعلتم بهم. أما نحن فلم يسبق أن تعرضنا بالأذى لأولئك القوم في الحرب الماضية، ولن نكون البادئين بالأذى الآن. فإذا غزوا أرضنا وبدءوا بالاعتداء علينا، فلن نسمح لهم به. ولكننا سنظل في أرضنا حتى نرى ذلك يحدث منهم؛ لأننا نعتقد أن الفرس قد حضروا الآن، لا ليهجموا علينا، بل ليعاقبوكم أنتم يا مَن اعتديتم عليهم أولًا.»
عندما وصل هذا الرد إلى السكوثيين قرروا بسبب رفض جيرانهم محالفتهم ألا يشتبكوا مع العدو في أية معركة وجهًا لوجه، وإنما ينسحبون أمامهم، ويأخذون معهم قطعانهم، ويردمون جميع الآبار والعيون في أثناء تقهقرهم، ويتركون البلاد كلها جرداء وخالية من الكلأ.