الانسحاب من سكوثيا
بعد أن أرسل السكوثيون الهدايا إلى داريوس، كان دور الجيش السكوثي الذي لم يتحرك إلى نهر الإيستر، أن يشتبك، بفرسانه ومشاته، في قتال مع الجيش الفارسي. وبدا كأنما الجيشان سيلتحمان ما في ذلك شك. ولكن حدث أن جرت أرنب بين الفريقين، فأسرع السكوثيون الذين أبصروها بمطاردتها وهم يصيحون ويحدثون فوضًى بالغة. فلما سمع داريوس تلك الجلبة استفسر عن سببها، فأخبروه بأن السكوثيين قد جروا لصيد أرنب، فاستدار إلى من تعوَّد أن يتحدث إليهم، وقال: «الحقيقة أن أولئك القوم يحتقرونني كل الاحتقار، وأرى الآن أن جوبرياس كان على حقٍّ عندما فسر معنى الهدايا. وإذ اتفقت وإياه في الرأي الآن، أرى أن نضع خطة حكيمة نضمن بها الأمان أثناء تقهقُرنا وعودتنا إلى بلادنا.» فقال جوبرياس: «نعم يا مولاي، كنت على يقين تام قبل مجيئي إلى هنا من أن هذا شعب صعب المراس. ومنذ حضرنا زاد يقيني، وخصوصًا الآن وقد رأيتهم يلعبون بنا. وعلى هذا فمشورتي هي أنه عندما يخيم الليل، نوقد النيران كعادتنا في الأيام الماضية ونترك هنا جزءًا قليلًا من جيشنا، من الرجال الضعفاء غير القادرين على احتمال المشاق، كما نترك حميرنا مربوطة إلى مذاودها، ونتراجع عن سكوثيا قبل أن يسير أعداؤنا إلى نهر الإيستر ويهدموا الجسر، أو يتخذ الأيونيون قرارًا يكون فيه خرابنا.»
هكذا أشار جوبرياس. وعندما أقبل الليل عمل داريوس بنصيحته، فترك جنوده المرضى ومَن لا يهتم كثيرًا لخسارتهم، وترك معهم الحمير مربوطة في المعسكر، وعاد أدراجه؛ ترك الحمير حتى يسمع العدو نهيقها، وترك الرجال لأنهم كانوا مرضى وعديمي الفائدة، حتى يظن العدو أنه يوشك أن يهجم عليه بخبرة رجاله، وفي الوقت ذاته لكي يحرس أولئك الرجال معسكره. وبعد أن أعلن داريوس خطته للرجال، أمر بإشعال النيران، وبدأ سيره حثيثًا صوب نهر الإيستر. فلما أحست الحمير برحيل الجيش، أخذت تنهق عاليًا أكثر مما كانت تفعل في أي وقت مضى. فلما سمع السكوثيون صوتها، لم يخامرهم أي شك في أن الفرس لا يزالون في مكانهم ذاته.
عندما بزغ فجر اليوم التالي ورأى الرجال الفارسيون الباقون بالمعسكر أن داريوس خدعهم، رفعوا أيديهم إلى السكوثيين، وتحدثوا إليهم بما يناسب موقفهم. فما إن سمع العدو بذلك حتى ضم جميع قواته معًا، كما انضم إليه كل حلفائه من الساوروماتيين والجيلونيين والبودينيين وشرعوا يجدُّون في مطاردة داريوس، واتجهوا مباشرة نحو نهر إيستر. ولما كان أغلب الجيش الفارسي من المشاة ولا يعلمون شيئًا عن الطرق القريبة في تلك البلاد في حين كان السكوثيون كلهم من الفرسان، ويعرفون أقصر الطرق. وهكذا حدث أن الجيشين لم يلتقيا. فوصل السكوثيون إلى الجسر قبل أعدائهم. فلما وجدوا أن الفرس لم يصلوا بعدُ، خاطبوا الأيونيين الذين كانوا على ظهور سفنهم، وقالوا: «يا رجال أيونيا! لقد انتهى موعدكم، ومن الخطأ أن تبقوا هنا. لا شك في أن الخوف هو الذي حجزكم والآن يحق لكم أن تهدموا الجسر وأنتم مطمئنون، وتسرعوا عائدين إلى وطنكم، وتفرحوا بنيل حريتكم، وتشكروا من أجلها الآلهة والسكوثيين. أما نحن فسنتولى أمر مولاكم وسيدكم السابق، ولن يقاتل أي أحد منكم بعد ذلك.»
عندئذٍ عقد الأيونيون مجلسًا. فقام مليتاديس الأثيني ملك الخيرسونيسيين المقيمين على الهيلسبونت، ورئيسهم على نهر الإيستر ونصح القواد الآخرين بأن يفعلوا حسب رغبة السكوثيين، ويستعيدوا الحرية لأيونيا. غير أن هيستيايوس الميليسي عارض هذه الفكرة بقوله «إننا لا نتمتع بعروشنا في مختلف دولنا إلا عن طريق داريوس، فإذا أُطيح بقوته فلن أبقى سيدًا على ميليتوس، ولا تبقى أنت ملكًا على مدنك، فما من مدينة منها تفضل الملكية على الديمقراطية.» فلما سمع بقية الرؤساء الذين كانوا على وشك الموافقة على كلام هيستياديس، غيروا آراءهم مؤيدين هذا الأخير.
وإذ اعتزم الرؤساء الأغارقة العمل بنصيحة هيستيايوس، قرروا فيما بينهم أن يردوا على السكوثيين ويفعلوا هكذا: أن يتظاهروا بموافقة السكوثيين، ولكي يرى هؤلاء أنهم يهدمون الجسر في حين أنهم في الحقيقة لا يعملون شيئًا ذا أهمية، ولكي يمنعوهم في الوقت ذاته من عبور نهر الإيستر بالقوة عن طريق ذلك الجسر، أن يهدموا الجسر المستند فوق أرض سكوثيا إلى مسافة قاب قوسين من ضفة النهر، فقام هيستيايوس وخاطب السكوثيين، باسم جميع الأغارقة، قائلًا: «ما أروع نصيحتكم، أيها السكوثيون وحسنًا فعلتم بالمجيء إلينا بهذه السرعة؛ فقد أرشدتمونا إلى الطريق الصحيح، وها أنتم ترون بعيونكم، أننا نهدم الجسر. ثقوا بأننا سنبذل قصارى جهدنا في سبيل نيل حريتنا. وفي الوقت نفسه، الذي ننكب فيه على عملنا، من واجبكم أن تبحثوا عن الفرس، من أجلنا ومن أجلكم، وأن تنتقموا منهم بما يستحقون!»
وثق السكوثيون بوعود رؤساء الأيونيين، وعادوا أدراجهم أملًا في الالتقاء بالجيش الفارسي، ومع ذلك فلم يعثروا له على أثر، ويقع اللوم في ذلك على الخطوات التي اتخذوها في أول الأمر، فلو لم يُتلِفوا جميع المراعي، ولم يردموا جميع الآبار والعيون الموجودة في بلادهم؛ لسهل عليهم أن يعثروا على الفرس متى أرادوا، ولكن الذي حدث أن الخطة التي ظنوها حكيمة كانت في الواقع سبب إخفاقهم. لقد ساروا في طريق به ماء وكلأ لخيولهم، وأخذوا يبحثون عن خصومهم فيه متوقعين منهم أن يتقهقروا في ذلك الطريق نفسه الذي يمكن الحصول فيه على هذه الأشياء. أما الفرس فساروا في الطريق الذي سلكوه من قبل، ولم يحيدوا عنه إطلاقًا. ورغم هذا، فقد وصلوا إلى القنطرة بشقِّ الأنفس، وكان وصولهم إليها ليلًا، فذعروا غاية الذعر عندما وجدوها مهدمة؛ إذ ظنوا أن الأيونيين قد رحلوا.
كان بجيش داريوس رجل مصري، صوته أقوى من صوت أي رجل آخر في العالم كله، فأمره داريوس بالوقوف عند حافة الماء وأن ينادي هيستيايوس الميليسي، فلبى هذا الرجل أمر داريوس، وسمعه هيستيايوس من أول نداء. فجاء بالأسطول ليساعد في عبور الجيش، وأصلح القنطرة من جديد.
بهاتين الوسيلتين هرب الفرس من سكوثيا، في حين كان أعداؤهم يبحثون عنهم بغير جدوى، ومنذ ذلك الوقت والسكوثيون يحتقرون الأيونيين ويقولون عنهم: إنهم أنذل الناس أحرارًا؛ وأوفى الناس عبيدًا! وأكثرهم تملُّقًا لسادتهم.
وبعد أن اجتاز داريوس تراقيَا، وصل إلى سيستوس في الخيرسونيز؛ حيث عبره إلى آسيا بمساعدة أسطوله، تاركًا ميجابوزوس الفارسي ليحكم الجانب الأوروبي. هذا هو الرجل الذي كرمه داريوس أمام جميع الفارسيين تكريمًا عظيمًا … وكان داريوس يوشك أن يأكل بعض الرُّمان، فلما كسر أول رمانة سأله أخوه أرتابانوس: «ما الذي تريده بكثرة حب الرمان؟» فقال: «أن يكون لدي بعدد حبوب الرمان من أمثال ميجابوزوس؛ فهذا يسرني أكثر من أن أكون ملكًا على بلاد الإغريق.» هذا هو الإطراء الذي كرم به داريوس ذلك القائد الذي عهد إليه برئاسة القوات التي تركها في أوروبا، ويبلغ عددها حوالي ثمانين ألف رجل.