قصة أدراستوس
بعد أن غادر سولون بلاط كرويسوس انتقم الرب من هذا الملك المغرور انتقامًا فظيعًا عقابًا له على اعتباره نفسَه أسعد رجل. بدأ ذلك الانتقام بأن رأى كرويسوس حلمًا أبانَ له حقيقة الكوارث التي توشك أن تحيق به في شخص ولده؛ فقد كان لكرويسوس ولدان؛ أحدهما مصاب بعاهة طبيعية؛ إذ كان أصم وأبكم، أما الابن الثاني فيمتاز على سائر أترابه في جميع الصفات. كان اسمه آتوس، وهو الذي أشار إليه الحلم بأنه سيموت بضربة من سلاح حديدي، فلما استيقظ كرويسوس من نومه ذُعِر ذعرًا بالغًا فقام في الحال يخطب عروسًا لابنه، وكان من عادة ذلك الابن في السنين الماضية أن يخرج مع القوات الليدية إلى ميدان القتال، بَيْد أن والده الآن لم يسمح له بمرافقتهم، وزيادة في الحيطة انتزع الأب جميع الحراب والرماح وأسلحة القتال من مساكن الرجال بالقصر، ووضعها في أكوام بغرف السيدات؛ لئلا تسقط إحداها وهي معلقة على الحائط فوق ابنه فتقتله.
حدَث أن ظهر في الوقت نفسه خنزير بري ضخم في أوليمبوس الموزية، كان يهبط من المنحدرات الجبلية ويعيث فسادًا في حقول القمح التي يملكها الموزيون، وكثيرًا ما تجمع الفلاحون ليصيدوه، ولكن بدلًا من أن يصيبوه بالأذى كان هو يُمنِّيهم بخسائر فادحة في الأرواح. وأخيرًا أوفدوا رسلًا إلى كرويسوس يقولون له: «أيها الملك! لقد ظهر في بلادنا وحش ضخم عبارة عن خنزير بري، خرب مزروعات أراضينا، وقد حاولنا جهدنا أن نفتِك به ولكن دون جدوى، والآن، نتوسل إليك أن تبعث إلينا بابنك ليصحبنا ومعه نخبة من الشبان الأقوياء وكلاب الصيد؛ حتى نستطيع أن نخلص بلدنا من ذلك الوحش.» هكذا نص توسلهم.
بيد أن كرويسوس تذكر حلمه، فرد عليهم بقوله: «تتحدثون بعد الآن عن ذهاب ابني معكم، فليس هذا من الحكمة في شيء لقد تزوج حديثًا، وهو جدُّ مشغول في زواجه، سأمنحكم فئة منتخبة من الليديين، وجميع الرجال المتخصصين في الصيد، وكذلك كلاب الصيد، وسآمر مَن أُرسلهم بأن يقدموا لكم كل مساعدة لتخليص بلادكم من ذلك الوحش.»
قنع الموزيون بهذا الرد، غير أن آتوس سمع بطلب الموزيين، وبرفض أبيه أن يرسله معهم، فدخل على أبيه فجأة وخاطبه بقوله: «أبتاه! كانت أشرف وأنسب مهمة لي من قبل أن أُرافق الجنود في الحروب، وأشترك في فرق الصيد، وبذا أنال المجد لنفسي، إلا أنك تحرمني الآن كليهما، مع أنك لم تشاهدني قَط جبانًا، بأي وجه أسير جيئةً وذهابًا؟ ماذا يظن بي المواطنون؟ وماذا تظن بي عروسي الشابة؟ فإما تسمح لي بمطاردة ذلك الخنزير، أو تقنعني بأنه من الخير لي أن أسير تبعًا لرغباتك.»
قال: «اسمع يا بني! لم أمنعك بسبب أنني رأيتُ منك جبنًا أو نحوه أغضبني وجعلني أمنعك الذهاب، ولكني أمنعك لأنني رأيتُ حلمًا في نومي، حذرني من أنك ستموت في ريعان شبابك بطعنة من سلاح حديدي. هذا هو ما حدَا بي أن أُسرِع بتزويجك، ثم جعلني أمنعك الآن أن تذهب في هذه الرحلة، إنني أبذل كل جهدي في مراقبتك؛ عساي أُبعِد عنك القضاء بكل وسيلة في مدة حياتي؛ لأنك ابني الوحيد، أما أخوك الآخر الفاقد السمع فلا أعتبره موجودًا.»
فقال الشاب: «لن ألومك يا أبتاه على مراقبتك إياي بعد أن رأيت مثل ذلك الحلم المزعج، ولكن ماذا لو كنتَ مخطئًا؟ ولو أخطأت في فهم الحلم فهمًا صحيحًا فلا لوم عليَّ أن أوضحتُ لك موضع خطئك … يتكهن الحلم الذي رأيته أنت نفسك بأنني سأُقتل بسلاح حديدي، فهل للخنزير البري يدان يضرب بهما؟ وأين له بسلاح من الحديد يضرب به؟ هذا ما تخافه عليَّ. لو قال الحلم إنني سأُطعن بناب لحقَّ لك أن تمنعني الذهاب لصيد ذلك الوحش، ولكنه قال إنني سأُطعن بسلاح، ولن نقاتل رجالًا في هذه الرحلة، بل حيوانًا متوحشًا؛ إذن أرجوك أن تُصرح لي بالذهاب معهم.»
فقال كرويسوس: «الحق معك يا ولدي، إن تفسيرك للحلم لأصح من تفسيري، إذن فأنا أخضع لهذا التفسير، وأُغيِّر رأيي، وأُصرح لك بالذهاب.»
عندئذٍ أرسل الملك لطلب أدراستوس الفروجي، فلما جاء قال له: «عندما ضربتُك بقضيب اللعنة طهرتك وجعلتك تعيش معي في قصري ولم أمنعك شيئًا، والآن ينبغي أن ترد لي هذا الجميل بأن تقبل مُرافقة ولدي في رحلة الصيد هذه، وأن تحرسه فيها لو هاجمتكم عصابة لصوص في خلال الطريق، وفضلًا عن هذا فمن حقك أن تذهب حيث تستطيع أن تنال الشهرة لنفسك بالأعمال النبيلة، هذه تقاليد أسرتكم، وإنك لشجاع وقوي.»
فأجاب أدراستوس بقوله: «لولا طلبك يا مولاي لابتعدت عن مغامرة الصيد هذه؛ إذ أرى أنه لا يليق برجل منحوس الطالع مثلي أن يُرافق زملاء أسعد منه حظًّا، وعلاوة على هذا فليست لي الجرأة على مثل هذا العمل، لقد تخلفت عنها في مرات كثيرة ولأسباب عدة، ولكن بما أنك تُحَتِّم عليَّ الذهاب فيها فأنا مُلزم بعمل ما يُرضيك (إذ الحقيقة أنه يجب عليَّ أن أرد الجميل)، وعلى ذلك فأنا طوع أمرك، أما عن ابنك الذي تضعه في عهدتي فتأكد أنه سيعود إليك سليمًا سالمًا، بقدر ما تتوقف هذه السلامة على عناية حارسه.»
ما إن اطمأن كرويسوس على سلامة ولده حتى سمح لهما بالرحيل برفقة فئةٍ من الشبان المختارين، ومعهم عدد من كلاب المُطاردة. ولما بلغ الجميع أوليمبوس، انتشروا في طلب ذلك الحيوان، وسرعان ما عثروا عليه، فالتفَّ حوله الصيادون في دائرة، وأخذوا يمطرونه وابلًا من أسلحتهم، فحاكاهم الرجل الغريب الذي تطهر من لعنة الدماء، والذي يُسمَّى أدراستوس، فقذف رمحه نحو الخنزير، ولكنه أخطأ الهدف فطاش الرمح وأصاب آتوس، وهكذا قُتل ابن كرويسوس بسلاح حديدي، وتحققت نبوءة الحلم، فأسرع رسولٌ يحمل النبأ إلى الملك في سارديس، وأخبره بقصة القتال وبالقضاء الذي أصاب ولده.
وكان وقْع الصدمة بالغًا على كرويسوس، أن يعلم بموت ولده، ولكنَّ ألمه كان أشد وأنكى عندما عرف أن الشخص الذي طهره هو بنفسه الذي قتل ولده، وفي ذروة حزنه نادى جوبيتر كاثارسيوس؛ ليكون شاهدًا على ما أصابه على يدي ذلك الرجل الغريب.
ولم يمضِ وقت طويل حتى عاد الليديون يحملون جثة الشاب، ومن خلفهم القاتل، وما إن صار في حضرة الملك حتى اتخذ موقفه أمام الجمع، ومد يديه نحو كرويسوس مسلِّمًا نفسه إليه، وتوسل إليه أن يُضحيَ به فوق جثة ابنه، «كانت جريرته الأولى عبئًا ثقيلًا، فإذا به يُضيف إليها جريرة أخرى، وجلب الخراب على الرجل الذي طهره، وعلى ذلك لا يستطيع أن يعيش»، وعندما سمع كرويسوس كلامه تأثَّر غاية التأثُّر، فأخذته الشفقة على أدراستوس برغم ألمه الشديد على فَقْد فلذة كبده، فقال: «كفى يا صديقي! لقد نلتَ كل ما أريده من انتقام؛ إذ حكمت على نفسك بالموت، بَيْد أن الحقيقة هي أنك لست بالشخص الذي ضرني، بل الفاعل الحقيقي والمُتَسبب فيما أصابني من نحس هو أحد الآلهة، وقد حُذِّرت منه منذ زمن طويل، أما أنت فكنت الأداة التي قامت بالضربة عن غير قصد.» بعد ذلك دَفَن كرويسوس ابنه بالاحتفال والأمجاد اللائقة به. أما أدراستوس بن جوردياس بن ميداس، قاتل أخيه وجالب الخراب على مَن طهَّره فقد اعتبر نفسه أتعس مخلوق عرفه، انتظر حتى شمل الهدوء ذلك المكان ثم قتل نفسه فوق قبر آتوس. وأما كرويسوس فلزم الحداد سنتين كاملتين حزنًا على ولده.