أسطورة كوروس
أوضحنا فيما سبق كيف وقع الليديون تحت نير الحكم الفارسي. ومن سياق التاريخ أراني مُضطرًّا إلى البحث عمن يكون كوروس هذا الذي خرَّب الإمبراطورية الليدية، وبأية وسائل صار الفرس سادة آسيا كلها. وسأتبع هنا روايات المصادر الفارسية التي يبدو أن هدفها ليس تفخيم الفتوحات الفارسية، بل ذكر الحقيقة المجردة، وعلاوة على هذا فإني أعرف ثلاثة طرق أخرى تُروى بها قصة كوروس، وكلها تختلف عن روايتي لها.
كان يعيش في فارس رجل ميدي يُدعى ديوكيس، ابن فراور تيس، وكان على قدرٍ بالغ من الحكمة، فأدرك حاجته إلى التمتع بسلطان الملك، ولكي يحصل على ما يطمح إليه كوَّن لنفسه خطة، وعمل على تنفيذها بالطريقة الآتية: لما كان الميديون يعيشون في ذلك الوقت في قرى مُتناثرة دون أن تحكمهم أية سلطة مركزية، سادت الفوضى وانتشرت السرقة والنهب والقتل في جميع أنحاء البلاد، وكان ديوكيس هذا ذا مكانة محترمة في قريته، فقرَّر أن يلتزم هو نفسه الاستقامة والجد، ويُراعي العدل في الحكم بين المتنازعين من زملائه. كان العدل والظلم في حرب دائمة، وعلى ذلك شرع يسلك مسلكًا مستقيمًا ظاهرًا. وسُرعان ما لاحظ أهل قريته أمانته ونزاهته، فانتخبوه قاضيًا يفصل في منازعاتهم. ولما كان يضع نُصب عينيه أن يصير ملكًا أبْدى مُنتهى الأمانة والعدل في أحكامه. وبذا نال منزلة سامية بين أهل قريته حتى جذب إليه أنظار أهالي القرى المُحيطة. كان الأهلون فيما مضى يعانون الأمَرَّين من الظلم وأحكام الاستبداد لدرجة أنهم عندما سمعوا عن استقامة ديوكيس، وإحقاقه الحق بصورة مُنقطعة النظير صاروا يلجئون إليه في شتى مُنازعاتهم وقضاياهم، حتى أصبحوا لا يثقون في أحد غيره.
كان عدد الشكاوى التي تُقدم إليه في ازدياد مُطرد، كلما عَلِم الناس بعدل أحكامه. فلما شعر بأهميته بين مواطنيه، أعلن أنه لن ينظر في القضايا بعد ذلك، ولم يعد يظهر في المكان الذي اعتاد الجلوس فيه للفصل في القضايا وإقامة العدل قائلًا: «إن مما يتعارض ومصالحه أن يقضي اليوم كله في تنظيم شئون غيره من الناس ويُهمل أمور نفسه.» ولذلك اجتمع الميديون من كافة البلاد، وعقدوا مجلسًا يتشاورون فيه في أمور دولتهم، وكان معظم الخطباء على ما أعتقد من أصدقاء ديوكيس، فكانوا يقولون: «لا يُمكننا الاستمرار في المعيشة بهذه المملكة في حالتها الراهنة، وعلى ذلك هيا بنا نُعيِّن لنا ملكًا يحكم البلاد بالعدل ويضرب على أيدي المفسدين، وبذا نستطيع نحن أنفسنا أن نلتفت إلى شئوننا الخاصة، ولا نضطر إلى ترك وطننا بسبب هذه الفوضى.» فتأثر المجلس بهذه الحجج وقرر تعيين ملك.
صنع ديوكيس كل هذه التحصينات من أجل نفسه، ومن أجل قصره. أما الشعب فكان عليه أن يبني بيوته خارج نطاق الأسوار. ولما انتهى من بناء المدينة بدأ ينظم قواعد التشريفات الملكية، فلم يُسمح لأحد بالاتصال بالملك مباشرة، وإنما يكون اتصال الشعب به عن طريق الرسل، وحرَّم على أفراد الرعية رؤية ملكهم، كما حرم على أي فرد مهما كانت منزلته أن يضحك أو يبصق في حضرة الملك. وضع ديوكيس هذه المراسيم التي كان أول من ابتدعها ضمانًا لسلامته؛ لأن نبلاء مملكته الذين نشئوا وتربوا معه وكانوا من أصل عريق حقًّا وليسوا أقل منه في صفات الرجولة، إذ اختلطوا به كثيرًا، تأثروا من رؤيته متفوقًا عليهم، وبذا لا يستبعد أن يدبروا المؤامرات ضده، بينما إذا امتنعت عليهم رؤيته ظنوه من طينة غير طينتهم.
بعد أن أتم ديوكيس هذه الترتيبات، ووطَّد مركزه على العرش استمر يفصل في القضايا بنفس العدل الذي كان يحكم به من قبل، كانت القضايا تُرسَل إليه كتابةً، فيفصل فيها ويصدر حكمه، ثمَّ تبلغ الأحكام إلى أطراف النزاع. وعلاوة على هذا، كان له جواسيس وعيون في جميع أنحاء مملكته، يبلغونه عن كل ما يرونه من أعمال الظلم والخروج على القانون، وعندئذٍ ينال الآثم العقاب الذي يتفق وما ارتكبه من إثم.
وهكذا جمع ديوكيس الميديين في أمة واحدة، وحكمهم بمفرده.
تُوفِّي ديوكيس بعد أن حكم ثلاثة وخمسين عامًا، فتولى الحكم بعده ابنه فراورتيس. لم يقنع هذا الأمير بممتلكاته التي لم تتجاوز الأمة الميدية فحسب، فبدأ في توسيع ملكه بمهاجمة الفرس. سار إليهم على رأس جيش فأخضعهم تحت نير الحكم الميدي قبل أية دولة أخرى، فأصبح بعد نجاحه في تلك الحرب ملكًا على أمتين بالِغَتَي القوة، ثم شرع في فتح آسيا متغلِّبًا عليها منطقة بعد أخرى. وأخيرًا اشتبك في حرب مع الآشوريين الذين كانت تتبعهم نينوى، والذين كانوا من قبل سادة آسيا، في ذلك الوقت تمرد عليهم حلفاؤهم وتخلوا عن مساعدتهم، فوقفوا وحدهم في القتال. ومع ذلك، كانت أحوالهم الداخلية مزدهرة كما كانت من قبل. ولما هاجمهم فراورتيس هلك في حملته عليهم هو ومعظم جيشه، وبذا مات بعد أن حكم الميديين اثنتين وعشرين سنة.
بعد موت فراورتيس خلَفه على العرش ابنه كياكساريس، ويُروَى عنه أنه كان مُحبًّا للقتال أكثر من أي ملك آخر من أسلافه، وأنه أول من نظم الجيوش في آسيا، وقسم الجنود إلى كتائب، وجعل الرمَّاحين قسمًا منفصلًا عن النبَّالين وعن الفرسان بعد أن كانوا مختلطين معًا قبل ذلك. كان ذلك الملك هو الذي حارب الليديين عندما تحول النهار فجأة إلى ليل، وأخضع لحُكمه جميع دول آسيا إلى ما بعد نهر هاليس. جمع ذلك الملك كل الأمم الخاضعة لحكمه وسار بهم لمحاربة نينوى معتزمًا الأخذ بثأر أبيه، ومؤمِّلًا أن ينتصر في غزو هذه المدينة، فالتحم الجيشان في معركة هُزم فيها الآشوريون، وبدأ كياكساريس بحصار المدينة فإذا بجيش عرمرم من السكوثيين يهجم عليهم بقيادة الملك ماديس، وكاد يُطارد الكيميريين من أوروبا، وهكذا دخل السكوثيون الأراضي الميدية.
بعد أن غزا السكوثيون ميديا وجدوا معارضة قوية من الميديين الذين اشتبكوا معهم في حرب شعواء، ولكنهم هُزموا في النهاية وفقدوا إمبراطوريتهم، وبذا أصبح السكوثيون سادة آسيا.
ظل السكوثيون يحكمون آسيا مدة ثمانٍ وعشرين سنة، أظهروا فيها منتهى الوقاحة والغطرسة والاستبداد حتى عمَّ الخراب كل مكان؛ ففضلًا عن الجزية المعتادة فرضوا كثيرًا من الضرائب الإضافية على عدة أمم، وكانوا يحددونها حسبما يتراءى لهم، وعاثوا فسادًا في طول البلاد وعرضها، ونهبوا من جميع الأفراد كل ما أمكنهم نهبه، وأخيرًا وقد بلغ السيل الزُّبَى، دعا كياكساريس والميديون أكبر عدد منهم إلى وليمة قدموا لهم فيها كميات وافرة من الخمر حتى سكروا، عندئذٍ أعملوا فيهم التقتيل حتى أبادوهم عن بكرة أبيهم. وبعد ذلك استعاد الميديون إمبراطوريتهم بكامل حدودها السابقة، فأخذوا نينوى — وسأروي كيفية أخذهم إياها في باب آخر — وفتحوا جميع آشور ما خلا منطقة بابل، بعد ذلك مات كياكساريس وقد حكم الميديون أربعين سنة بما فيها المدة التي حكم فيها السكوثيون.
هكذا تزوج قمبيز (وهو اسم الرجل الفارسي) مانداني، وفي السنة الأولى لزواجها رأى أستياجيس حلمًا آخر. رأى كرمة نبتت من رحم ابنته وظللت جميع آسيا، وبعد أن عرضه أيضًا على مفسري الأحلام أرسل في استدعاء مانداني التي كانت وقتذاك حُبلى في شهورها الأخيرة، وعندما حضرت إليه أقام عليها الحراسة مُعتزِمًا قتل الطفل الذي تلده؛ لأن الكهنة أخبروه بأن مولود ابنته سيحكم آسيا بدلًا منه، ولكي يتحاشى أستياجيس حدوث هذا، ما إن ولدت ابنته طفلها كوروس حتى أرسل يستدعي هارباجوس، وكان رجلًا من أفراد بيته، كما كان أخلص ميدي للملك الذي اعتاد على أن يعهد إليه بجميع شئونه، فقال له: «إني آمرك يا هارباجوس ألا تُهمل في العمل الذي سأعهد به إليك، لا تَخُن مصالح مليكك من أجل خاطر الآخرين؛ لئلا تجلب الخراب على رأسك في أي وقت تظهر فيه خيانتك. خذ الطفل الذي ولدته ابنتي مانداني معك إلى بيتك حيث تقتله، ثم ادفنه»، فأجاب الآخر قائلًا: «لم يحدث أن عصى هارباجوس لك أمرًا في وقت يا سيدي، كن على يقين من أنه سيظل كذلك في المستقبل جميعه، ولن يأتيَ أمرًا أبدًا يُمكن أن تستاء منه، فطالما كانت مشيئتك أن يتم هذا الأمر فمن واجبي أن أُنفذ أمرك بكل إخلاص.»
عندما سَمِعَ الملك إجابة هارباجوس هذه سلمه الطفل ملفوفًا في ثياب الموت، فأسرع الأخير إلى منزله يبكي، فلما بلغه وجد زوجته فقص عليها الخبر، فقالت: «وماذا تنوي في دخيلة نفسك أن تفعل الآن؟» قال: «لن أُنفذ رغبة أستياجيس، فلن يكون في أي وقت أشد جنونًا ولا تهورًا منه الآن، ولكني لست ذلك الرجل الذي يوافقه على هذا أو يُساعده على القتل بهذه الصورة، هناك عدة أسباب تمنعني من قتل الطفل؛ فأولًا: ينتمي إليَّ هذا الطفل من ناحيتَي القرابة والصداقة، وثانيًا: إن أستياجيس رجل عجوز لا ولد له، فإذا مات ورثت ابنته التاج — ابنته التي يريد أن يستخدمني في قتل ابنها هذا — فماذا يبقى لي إذن غير الخطر، وأشد الأخطار هولًا؟ حقًّا يجب أن يموت الطفل حفظًا لسلامتي، ولكنَّ شخصًا ما من أتباع أستياجيس هو الذي سيقتله ولست أنا أو أحد من أتباعي.»
ما إن قال هذا حتى بعث رسولًا يطلب حضور رجل يُقال له ميتراداتيس وهو أحد الرعاة التابعين لأستياجيس؛ إذ كان هارباجوس يعرف أن مراعيه أنسب مكان يتم فيه هذا الغرض؛ لأنها تقع وسط الجبال وتؤمُّها الوحوش الكاسرة، وقد تزوج هذا الرجل إحدى إماء الملك واسمها الميدي سباكو؛ ومعناه بالإغريقية كونو ومعنى اللفظ الميدي «خنزيرة» وتقع الجبال التي ترعى الماشية على جوانبها، شمالي أجباتانا جهة إيوكسين، وهذه الأخيرة منطقة ميدية على حدود ساسبيريا عبارة عن مرتفع كثير الجبال ومكسو بالغابات، بينما سائر الأراضي الميدية الأخرى سهول منبسطة.
أسرع ذلك الراعي بتلبية نداء هارباجوس، فلما وصل إليه قال له الأخير: «يأمرك أستياجيس بأن تأخذ هذا الطفل وتضعه في أكثر مناطق الجبال خطرًا؛ حيث تفتك به الوحوش بسرعة، كما أمرني أن أُخبرك بأنك إذا لم تقتل هذا الطفل، وسمحت له بالهروب بطريقةٍ ما فسيقتلك أشنع قتلة، وقد عينني أنا نفسي لأتأكد من موت الطفل.»
بعد أن سمع الراعي هذا الكلام أخذ الطفل على ذراعيه، وعاد به من الطريق التي جاء منها حتى بلغ الموضع الذي ترعى فيه قطعانه، ولحسن الحظ كانت زوجته حبلى في آخر شهورها فجاءها المخاض في غياب زوجها، ووضعت طفلًا ذكرًا، وكان كل من الراعي وزوجته في قلق على الآخر. أما هو؛ فبسبب أن زوجته كانت في آخر أيام الحمل ويتوقع أن تلد طفلها الأول في أية لحظة، وأما هي؛ فلأن هارباجوس لم يسبق أن أرسل في طلب زوجها قبل ذلك، فلما وصل إلى بيته ورأته زوجته يعود إليها على غير انتظار، كانت أول من بدأ بالكلام، ورجته في أن يُخبرها لماذا أرسل هارباجوس في طلبه بهذه السرعة، فقال لها: «زوجتي عندما ذهبت إلى المدينة رأيت وسمعت أشياء — أقسم بالسماء — أنني لم أرَ مثلها يحدث لسادتي من قبل، كل فرد في بيت هارباجوس كان يبكي، ففزعت غاية الفزع، ولكني برغم هذا دخلت البيت، وماذا رأيت بمجرد دخولي غير طفل فوق الأرض يصرخ ويتلوى، وقد غُطي كله بالذهب، ولُف بملابس جميلة الألوان، وما إن رآني هارباجوس حتى أمرني بأن أحمل الطفل بين ذراعي وأنصرف به، وماذا تظنين أن أفعل به؟ أن أتركه في الجبال حيث تكثر الوحوش المفترسة، وأخبرني بأن الملك نفسه هو الذي أمر بهذا، وهددني بالوعيد المُخيف إن لم أُطِع أمره. وهكذا حملت الطفل على ذراعي وجئت به، وكنت أعتقد أنه ابن إحدى إماء الملك، وقد أدهشتني حقًّا رؤية الذهب وملابس الطفل الجميلة، ولم أستطع تعليل مثل ذلك البكاء في منزل هارباجوس، ولكن سُرعان ما عرفت الحقيقة كلها، فقد أرسلوا معي خادمًا يدلني على الطريق إلى خارج المدينة، ويُسلمني الطفل، فأخبرني ذلك الخادم أن أم الطفل هي مانداني ابنة الملك، وأن أباه قمبيز بن كوروس، وأن الملك هو الذي أمر بقتله، وانظري ها هو الطفل.»
عند ذلك كشف الراعي الغطاء عن الطفل لتراه زوجته، فما إن رأت جماله وحُسن شكله حتى انخرطت في البكاء وتعلَّقت بركبتي زوجها متوسلة ألا يتصرف في هذا الطفل بحال ما، فأجابها بأنه لا يستطيع أن يفعل غير ما أُمر به؛ إذ من المؤكد أن هارباجوس سيرسل من يتأكد من تنفيذ الأمر، وإن خالف فلا ينتظر غير أشنع ميتة، فلما وجدت الزوجة أنها أخفقت في أولى محاولاتها، قالت ثانية: «إذن، فبما أنه لا فائدة من أي توسل أو رجاء ولا بد من رؤية طفل مقتول فوق الجبال فلا أقلَّ من أن تفعل ما سأشير به عليك، خذ الطفل الذي ولدته ميتًا منذ لحظات، وضعه على الجبل، وبذا نربي نحن مولود ابنة أستياجيس، ولا تُتهَم أنت بعدم الإخلاص للملك، ولا نكون قد أسأنا التصرف في صالح أنفسنا، سيحظى ابننا الميت بجنازة ملكية، ولا يُقتل هذا الطفل الحي.»
وجد الراعي أن هذه المشورة هي خير رأي يُمكن العمل به في مثل هذه الظروف، وعلى ذلك عمل بها في الحال، فأعطى زوجته الطفل الذي كان عليه أن يقتله، وأخذ طفله الميت ووضعه في المهد الذي حمل فيه الآخر بعد أن ألبسه جميع الملابس الملكية الفاخرة، ثم انصرف به فتركه في أشد مواضع الجبال وحشية، وبعد ثلاثة أيام ترك أحد مساعديه لحراسة الجثة، وانطلق إلى المدينة فذهب مباشرة إلى بيت هارباجوس وأعلن استعداده لإطلاعهم على جثة الطفل، فأرسل هارباجوس رجلًا من حرسه الخاص كان يثق به أكثر من غيره ليرى الجثة بنفسه، ولما اقتنع برؤيتها أمر بإقامة الجنازة، وهكذا دُفن ابن الراعي، أما الطفل الآخر الذي عُرِف بعد ذلك باسم كوروس فأخذته زوجة الراعي ونشَّأته باسم آخر.
لما بلغ الصبي العاشرة من عمره حدث أمر سأرويه الآن كان سببًا في اكتشاف حقيقة شخصيته، «كان يلعب ذات يوم في القرية حيث تُرعَى قطعان الماشية مع بعض غلمان من نفس سنه، فاختار الصبيان ابن الراعي كما كانوا يسمونه؛ ليكون ملكهم، فأخذ يُصدِر أوامره إليهم؛ بعضهم يبني له البيوت، وآخرون يعملون حرسًا له، ويكون أحدهم جاسوسًا للملك، وآخر يقوم بتوصيل الرسائل، وهكذا كان لكل غلام من أصدقائه عمل في مملكته، وكان بينهم ابن أرتيمباريس أحد أعيان الميديين المُبرَّزين، فرفض ذلك الولد أن يقوم بما خصصه له كوروس من عمل، فما كان من كوروس إلا أن أمر بالقبض عليه، ولما نُفِّذ أمره أخذ السوط فضربه به ضربًا مُبرِّحًا، وما إن أخلى سبيلَ ابن أرتيمباريس حتى أسرع إلى المدينة وهو في أشد حالات الغضب مما أصابه على يدي ابن الراعي من ضرب لا يليق بمنزلته، وشكا إلى والده — والدموع تنهمر غزيرة من مآقيه — ما لقيه من كوروس، وطبعًا لم يقل إن اسمه كوروس؛ إذ لم يكن قد سُمِّي بهذا الاسم بعد، بل قال إنه ابن راعي أبقار الملك، فانطلق أرتيمباريس والشرر يتطاير من عينيه ودخل على أستياجيس، ومعه ولده فشكا إليه ما حل بابنه، وأشار إلى كتف الصبي وقال: «هكذا أيها الملك أهان كرامتنا أحد عبيدك … ابن راعٍ».»
عندما رأى الملك آثار الضرب، وسمع هذه الألفاظ، أراد أن يقتص لابن أرتيمباريس إكرامًا لخاطر والده، فأرسل يستدعي الراعي وابنه، فلما مثُلا بين يديه، أحدق أستياجيس في عيني كوروس، وقال له: «كيف أتتك الجرأة وأنت ابن رجل حقير كهذا، أن تفعل ما فعلت بابن هذا النبيل الذي هو من أعظم أفراد حاشيتي؟!» فأجاب الصبي قائلًا: «مولاي لم أفعل به غير ما يستحق، لقد انتخبني صبيان القرية ملكًا عليهم في اللعب؛ لأنهم اعتقدوا أنني خير من يصلح لهذا المنصب، وكان هذا الغلام نفسُه واحدًا ممن انتخبوني، وقد فعل سائر الصبيان الآخرين ما أمرتهم بعمله إلا هذا الصبي الذي رفض أمري واستخف به، حتى نال جزاءه الوفاق، فإن كنتُ أستحق العقاب على هذا العمل فها أنا ذا على استعداد لتُنزله بي.»
بينما كان الصبي يتكلم شك أستياجيس في شخصيته، خُيل إليه أنه يرى في وجه الغلام ملامحَ تشبه ملامحه هو نفسه، كما أن هناك نُبلًا في إجابته، وعلاوة على ذلك فإن سنه تنطبق وسن حفيده الذي أمر بقتله، وإذ دُهش أستياجيس من كل هذا ظل صامتًا لا يستطيع الكلام فترة من الوقت، ثم استعاد قدرته بصعوبة، ورغب في التخلص من أرتيمباريس كي يستطيع استجواب الراعي على انفراد، فقال للأول: «أعدك يا أرتيمباريس بأن أُسوي هذه المسألة بحيث لا تكون لك أو لابنك أي شكوى بعد ذلك»، فخرج أرتيمباريس من حضرته، ثم أشار الملك إلى الخدم فأخذوا كوروس إلى جناح داخلي، ولما بقيَ الملك والراعي وحدهما سأله من أين حصل على ذلك الصبي، ومَن الذي أعطاه إياه، فأجاب الراعي بأن الصبي ابنه، أنجبه هو بنفسه، وأن الأم التي ولدته لا تزال على قيد الحياة، وتعيش معه في بيته، فلاحظ أستياجيس أن الرجل وقع فريسة مشورة سيئة فأوقع نفسه في مثل هذا المأزق، فأصدر الملك أمره إلى الحراس بالقبض عليه، وبينما كانوا يجرونه إلى السجن بدأ القصة من أولها، وقص على الملك القصة من بدايتها كما حصلت فعلًا دون أن يُخفِيَ شيئًا، وفي النهاية توسل إلى الملك مُتَضرعًا أن يمنحه العفو.
لما عرف أستياجيس الحقيقة من الراعي لم يهتم بعقابه بعد ذلك، ولكن غضبه كله انحصر في هارباجوس، فأمر الحراس باستدعائه إلى حضرته، فلما جاء سأله الملك: «بأية ميتة يا هارباجوس قتلتَ طفل ابنتي الذي سلمته إليك؟» فلما أبصر هارباجوس راعي البقر في الحجرة لم يعمد إلى الكذب؛ لئلا يظهر افتراؤه وخيانته، فأجاب بقوله: «مولاي عندما وضعت الطفل بين يدي أخذتُ أفكر من فوري في الطريقة التي أُنفذ بها رغبتك، فرأيت ألا أحمِل في رقبتي جرم تلويث يدي بالدم الذي كان في الحقيقة دم ابنتك، ودمك أنت نفسك، وأكون في الوقت ذاته مخلصًا لشخصك، وهاك الطريقة التي عمدت إليها: استدعيت هذا الراعي وأعطيته الطفل، وأخبرته بأن يقتله بأمر الملك، ولستُ كاذبًا في هذا لأنك أمرت به، وفضلًا عن هذا، فلما أعطيته الطفل أمرته بأن يتركه في مكان موحش بالجبال، ويراقبه عن كثب حتى يموت، وهددته بأقسى أنواع العقاب إن أهمل، وبعد أن نفذ كل ما أمرته به ومات الطفل أرسلت أحد خصياني الذي أثق به أكثر من غيره فرأى الجثة نيابة عني، وبعد ذلك دفنت الطفل، هذه يا مولاي هي الحقيقة الخالصة، وهذه هي الميتة التي مات بها ذلك الطفل.»
هكذا روى هارباجوس القصة كلها بطريقة بسيطة صادقة، وعند ذلك لم يُظهِر أستياجيس أية أمارة تنمُّ عن غضبه الشديد، بل أخذ يُكرِّر على مسامعه ما عرفه من الراعي، ثم أردف قائلًا: «وهكذا بقي الطفل حيًّا، وهذا خير ما عمل؛ إذ سبَّب لي قتل الطفل حزنًا شديدًا، وحزَّت في قلبي تعنيفات ابنتي حقًّا، لقد لعب الحظ دورًا خدمنا به في هذه المسألة، انصرف إلى بيتك الآن وأرسل ابنك ليكون بصحبة هذا الضيف العزيز. وإني لأعتزم تقديم الذبائح إلى الآلهة الذين يستحقونها شكرًا على سلامة الطفل، ويسرني أن أدعوك الليلة إلى الوليمة.»
عندما سمع هارباجوس قول الملك تنفس الصعداء، ورجع إلى بيته مبتهجًا إذ وجد أن عدم طاعته أمر الملك كان من حسن حظه، وأنه بدلًا من العقاب مدعوٌّ إلى مأدبة تقديم الشكر للآلهة بمناسبة هذا الحادث السعيد، فما إن وصل إلى بيته حتى نادى ابنه، وكان شابًّا في حوالي الثالثة عشرة من العمر، وحيد والديه، وأمره بأن يتوجه إلى قصر أستياجيس ويقوم بكل ما يطلبه منه. وفي غمرة سروره ذهب إلى زوجته وأخبرها بكل ما حدث. في تلك الأثناء أخذ أستياجيس الغلام ابن هارباجوس، وذبحه ثم قطعه قطعًا، شوى بعضها على النار، وسلق بعضًا آخر منها، ولما انتهى من إعدادها جميعًا حفظها لوقت الحاجة إليها.
ولما أقبلت ساعة الوليمة، جلس المدعوون جميعًا إلى المائدة، وقُدِّمت إليهم صنوف اللحم، أما هارباجوس فجلس وحده إلى مائدة خاصة، لم يقدم له سوى لحم ابنه ليس غير، وُضِع أمامه جميع اللحم ما عدا اليدين والقدمين والرأس، التي حُفِظت في سلة ووُضِع فوقها غطاء، ولما أكل هارباجوس كفايته من اللحم، استدعاه إليه أستياجيس ليعرف منه كيف التَذَّ بالوليمة، فأجاب أنه تمتع بوليمة فاخرة، وعندئذٍ أحضر المختصون السلة ووضَعوها أمام هارباجوس وطلبوا منه أن يكشف غطاءها، ويختار لنفسه ما يُحِبُّ منها، فرفع الغطاء عن السلة فرأى بداخلها بقايا جثة ابنه، ومع ذلك فلم يُفقِده منظرها رشده أو يُخرِجه عن صوابه، ولما سأله الملك عما إذا كان يَعرِف أي حيوان هذا الذي أكل من لحمه، أجاب بأنه يعرفه حق المعرفة، وأن كل ما يفعله الملك جميل مقبول. وبعد أن رد عليه هكذا حمل معه بقايا الجثة وبعض قطع اللحم المطهية التي لم يأكلها، وعاد إلى بيته ودفن تلك البقايا.
ذلك كان عقاب أستياجيس لهارباجوس. بعد ذلك شَرَع الملك يُفكر فيما يعمله بحفيده كوروس، فأرسل إلى الكهنة الذين سبق أن فسروا له حلمه، وسألهم عمَّا يهم خاطره، وكيف فسروه له، فأجابوه إجابة لا تختلف قط عما سبق أن قالوه: «يجب أن يكون هذا الولد ملكًا إذا كبر ولم يمت صغيرًا.» فقال لهم أستياجيس: «ولكن الصبي أفلت من الموت، ولا يزالُ حيًّا، لقد رُبِّي في الريف، وأقامه أطفال القرية الذين يلعب معهم ملكًا عليهم، كان له حرسه الخاص، وحُجابه، ومراسلوه، وجميع الموظفين الآخرين اللازمين لخدمة الملك، فأخبروني إذن ما معنى هذا الأمر؟ وماذا ينطوي عليه؟» فأجاب الكهنة: «إذا كان الغلام قد عاش وحكم ملكًا دون تدبير أحد فإننا نُبشِّركَ بالفرح، لا تخف منه بعد ذلك فلن يحكم ثانيةً، فقد سَبق أن رأينا تكهنات كثيرة تتم بطريقة غريبة، وأحلامًا أكثر منها تحققت بصورة عجيبة.» فلما سَمِعَ أستياجيس ردهم قال: «هذا ما فكرت فيه أنا نفسي، وأميل إلى تصديقه، لقد صار الغلام ملكًا، وبذا تم تحقيق الحلم، وليس هناك ما يدعو إلى الخوف منه بعد ذلك، ومع هذا فأرجو أن تهتموا بذلك الأمر غاية الاهتمام ثم انصحوني بخير النصائح اللازمة لسلام بيتي ومصالحكم أنتم أنفسكم.» فأجاب الكهنة قائلين: «حقًّا أيها الملك إنه لمن صالحنا جدًّا أن تظل مملكتك ثابتة على أساس راسخ؛ إذ لو ذهبت إلى هذا الصبي لوقعت في أيد أجنبية؛ لأنه فارسي، وعندئذٍ نفقد حريتنا نحن معشر الميديين، ويحتقرنا الفرس ويعتبروننا أغرابًا، ولكن طالما تبقى يا مواطننا فوق العرش فإننا نحظى بكل ما يحفظ شرفنا، ومع ذلك فلسنا محرومين من نصيب في حكومتك، إذن فهناك كثير من الأسباب تدعونا إلى التنبؤ بعناية من أجلك ومن أجل مملكتك، وإن وجدنا أي داعٍ للخوف في الوقت الحاضر فكن على يقين من أننا لن نُخفيه عنك، بَيْد أننا اقتنعنا حقًّا بأن الحلم قد تحقق بهذه الطريقة البريئة، وبذا زالت جميع مخاوفنا واطمأنت نفوسنا، ونطلب منك أن تترك مخاوفك أنت أيضًا، أما بخصوص الولد نفسه فإننا ننصحك بإرساله إلى أبويه في فارس.»
سُر أستياجيس عندما سَمِعَ تأويل الكهنة، وأرسل يستدعي كوروس ليَمثُل بين يديه، فلما جاء قال له: «أي طفلي، دعاني حلم إلى أن أُلحِق بك الأذى، غير أن ذلك الحلم انتهى إلى لا شيء، وقد أنقذَك من هذا الأذى حظُّك الحسن، ارحل الآن مُطمئنًّا إلى فارس، وسأُرسِل معك من يُرافِقك في رحلتك وستحظى في نهاية تلك الرحلة برؤية أبيك وأمك الحقيقيين، وهما يختلفان تمام الاختلاف عن ميتراداتيس راعي الأبقار وزوجته.»
صرف أستياجيس حفيده بهذه الكلمات. وعندما وصل الغلام إلى بيت قمبيز، شاهد والدَيه اللذين عندما عَرَفا شخصيته عانقاه بحرارة بعد أن كانَا يعتقدان أنه قُتِل بعد ولادته مباشرة، وعلى هذا سألاه كيف نجا من الموت، فأخبرهما بأنه لم يكن يَعرِف من أمره شيئًا إلى ما قبل ذلك بفترة وجيزة، وكان مُخطِئًا كل الخطأ في حقيقة نسبه، ولم يعرفه إلا في أثناء الطريق وهو آتٍ من ميديا، كان يعتقد أنه ابن راعي أبقار الملك، غير أن رسول الملك الذي رافقه في الرحلة قَصَّ عليه كل شيء، ثم تحدَّث عن زوجة الراعي التي ربته، وأفاض في الثناء عليها، فكان يُكرر دائمًا في حديثه عن نفسه اسم كونو، كانت كونو كل شيء، فلما سَمِع أبواه الاسم من فمه أذاعَا بين الفرس أنه عندما تُرِكَ كوروس بين الجبال أرضعته خنزيرة. هذا هو منشأ تلك الإشاعة.
عندما بَلغَ كوروس مبلَغَ الرجال واشتهر بأنه أشجع وأبرز شخصية بين مواطنيه بدأ هارباجوس الذي صمم في دخيلة نفسه على الانتقام من أستياجيس يتودَّد إليه، ويُبدي إخلاصه له بالهدايا وبالرسائل؛ إذ كانت منزلته متواضعة لا يأمل بواسطتها في الانتقام بغير مساعدة أجنبية، فلما وجد أن كوروس الذي لحقه من الضرر ما يُماثِل ضرره قد كبر بهذه الصورة رأى فيه مَن ينتقم له، فأخذ يعمل على تأييده ومساعدته في ذلك الأمر، ومهَّد الطريق فعلًا لتنفيذ خطته بأن أَوعَز إلى كثير من عظماء النُّبلاء الميديين الذين استاءوا من فظاظة مَلِكهم وحكمه الاستبدادي أن خير ما يُمكِنهم عمله هو أن يقيموا كوروس ملكًا عليهم، ويخلعوا أستياجيس. فلما تمَّت هذه الاستعدادات، وصار هارباجوس مستعدًّا للثورة تلهف إلى إبلاغ نواياه إلى كوروس الذي كان لا يزال مُقيمًا بفارس، بيد أن الحراسة كانت شديدة على الطريق بين فارس وميديا؛ ولذا كان عليه أن يتدبر وسيلة لتوصيل كلمة إلى كوروس سرًّا، فلجأ إلى الوسيلة الآتية: أخذ أرنبًا وشق بطنها دون أن يُتلِف فراءها، ثم وضع بداخل البطن خِطابًا بكل ما يُريد أن يقول له، وبعد ذلك خاط البطن بعناية، وأعطى الأرنب إلى عبد من أخلص عبيده، فتَنَكَّر العبد في زي صياد يَحمِل شباك الصيد، وذهب إلى فارس يحمل ذلك الصيد هدية إلى كوروس، وأمره بأن يُخبِر كوروس شفويًّا أن يفتح بطن الأرنب بنفسه دون أن يكون معه أحد في ذلك الوقت.
تم كل شيء كما أراد هارباجوس، عندما شق كوروس بطن الأرنب وجد بداخله الخطاب، فقرأ فيه: «يا ابن قمبيز لا شك أن الآلهة ترعاك، وإلا لَمَا اجتزت كل هذه المغامرات العديدة العجيبة. هذا هو الوقت الذي تأخذ فيه بثأرك من أستياجيس قاتلك. تذكَّر أنه كان يريد موتك، وأنك لتدين بحياتك الآن لي وللآلهة، ولا أظنك جاهلًا ما فعله بك، ولا ما أصابني على يديه بسبب أني سلمتُك لراعي الأبقار ولم أقتلك. أصغِ إليَّ الآن وأطِع مشورتي، تُصبِح إمبراطورية أستياجيس كلها ملكًا لك، ادفع راية العصيان في فارس، ثم سِر مباشرة إلى ميديا، فسواء اختارني أستياجيس لقيادة قواته ضدك، أو اختار غيري من أمراء ميديا، فكل شيء سيتم حسبما ترغب، سيكونون أول من يتخلى عنه وينضمون إلى جانبك، وسيحاولون جهدهم تأليب قواته ضده، تأكد أن كل شيء من جانبنا على أتم استعداد، وما عليك إلا أن تقوم بدورك وتقوم به على وجه السرعة.»
ما إن علم كوروس بمضمون الخطاب حتى شرع يُفكر في الكيفية التي يحثُّ بها الفرس على الثورة، وبعد تفكير طويل عزم على الفكرة الآتية: كتب ما رآه لازمًا على قرطاس، ثم طلب عقد اجتماع للفرس، فلما اجتمعوا أفضى إليهم بمحتويات القرطاس، وقرأ فيه أن أستياجيس قد عيَّنه قائدًا عليهم، ثم قال: «والآن، بما أن الأمور صارت على هذا النحو فإني آمر كل فرد منكم أن يُحضِر منجله ويعود.» وبعد ذلك صرف الاجتماع.
أطاع الفرس أمر كوروس، وعادوا إليه بمناجلهم، فقادهم إلى بقعة من الأرض مربعة الشكل طول ضلعها ثمانية عشر أو عشرون فورلنجًا، مليئة بالشوك، وأمرهم بتطهيرها من الأشواك قبل أن ينصرم النهار. ولما أنجزوا ما أمرهم به أصدر إليهم أمرًا ثانيًا أن يستحم كل واحد منهم في صباح اليوم التالي ويأتي إليه، وفي أثناء ذلك جمع كل قطعان والده من الأغنام والماعز، كل ثيرانه وذبحها جميعًا، واستعد لتقديم وليمة للجيش الفارسي برمته، كما أعد لهم خمرًا وخُبزًا من أجود الأنواع. وعند مطلع الغد جاء الفرس، فأمرهم بالجلوس على الحشائش والتمتع بالوليمة، وبعد أن انتهوا من الطعام والشراب، طلب منهم أن يخبروه: «أيهما ألذ لهم، عمل اليوم أم عمل الأمس؟» فأجابوا على الفور «إن التناقض لعظيم حقًّا؛ فلم يأتِ لهم عمل الأمس إلا بكل قبيح شاق، أما عمل اليوم فجاءهم بكل ما هو حسن لذيذ.» فما إن سمع كوروس منهم هذا حتى تمسك بأقوالهم وأفضى إليهم بما يهدف إليه قائلًا: «هكذا يا رجال فارس ستصير الأمور معكم، إن اخترتم طاعة أمري استمتعتم بهذه الخيرات وبعشرات الآلاف مثلها، ولم تعرفوا للمشقات بعد ذلك طعمًا، أما إذا رفضتم العمل بمشورتي فاستعدوا من الآن لأعمال مُتعِبة كثيرة، شبيهة بعمل الأمس، وعلى ذلك أطيعوني الآن وكونوا أحرارًا، أما عن نفسي فإني أشعر بأن العناية الإلهية قد اختارتني لتحريركم، وأما أنتم فلا أعتقد أنكم أقل من الميديين في أي شيء، ولا سيما في الشجاعة، جاهروا بعصيانكم لأستياجيس دون أن تتأخروا في ذلك لحظة واحدة.»
كان الفرس يئنون تحت نير الحكم الميدي، فلما وجدوا من يقودهم الآن سرهم أن يدفعوا عنهم ذلك النير .. في أثناء ذلك عَلِمَ أستياجيس بأفعال كوروس، فأوفد إليه رسولًا يطلب مثوله بين يديه، فأجاب كوروس: «قل لأستياجيس إنني سأحضر إليه بأسرع مما يُحِب.» وعندما تسلم أستياجيس الرد قام في الحال وسلح جميع رعاياه، وكأنما قد جردته الآلهة من كل إدراك فعيَّن هارباجوس قائدًا لجيشه ناسيًا أنه سبق أن جرحه جرحًا لا يلتئم، وعندما التقى الجيشان واشتبكا قاتلت فئة قليلة من الميديين لم يكونوا على علم بالسر، وانضم آخرون علنًا إلى جموع الفرس، أما الجزء الأكبر الباقي فألمَّ به الذعر والخوف فأطلق العنان لقدميه.
لما عَلِم أستياجيس بفرار جيشه المُخزي، وتشتيت شمله، أخذ يكيل التهديد والوعيد ضد كوروس قائلًا: «لن يجد كوروس داعيًا لفرحه بعد ذلك»، فقبض في الحال على الكهنة الذين أشاروا عليه بالسماح لكوروس بالهرب وقتلهم، ثم سلح جميع الميديين الباقين في المدينة، صغارًا وكبارًا، وهاجم بهم الفرس في معركة هُزِم فيها هزيمة ساحقة؛ إذ أُبِيد جيشه ووقع هو نفسه في أيدي العدو.
عندئذٍ اقترب منه هارباجوس وأخذ يُعلِن له شماتته، ويتهكم عليه، ويُذكِّره بأعمال الظلم التي كان يأتيها، ومنها ذلك العشاء الذي قَدَّمَ له فيه لحم ابنه، وسأله كيف يتمتع وقتئذٍ بالعبودية بعد أن كان ملِكًا؟ فسأله أستياجيس بدوره: لماذا ينسب إلى نفسه أعمال كوروس؟ فأجاب هارباجوس يقول: «لأن خطابي هو الذي جعله يتألب ضدك، وهكذا يكون لي شرف هذا التدبير.» فاتهمه أستياجيس بأنه إذن أغبى وأظلم رجل، أغبى؛ لأنه كان في مقدوره أن يلبس التاج على رأسه إن كانت هذه المؤامرة كلها من تدبيره بدلًا من أن يضعه على رأس رجل آخر، وأظلم؛ لأنه بسبب وليمة جلب العبودية على الميديين، فلو فُرِض أنه اضطر إلى تحويل السلطان إلى شخص آخر لكان الأولى أن يكون هذا الشخص ميديًّا وليس فارسيًّا، وعلاوة على ذلك، فقد استُعبِد كل الميديين الذين لم يشتركوا في المقاومة بدلًا من أن يصيروا سادة، كما استُعبِد جميع الذين غدوا رعايا حتى ذلك الوقت.
وهكذا فقد أستياجيس تاجه بعد أن حكم خمسة وثلاثين عامًا، وأوقع الميديين تحت حكم الفرس نتيجةً لقسوته، فقد ظلت إمبراطوريتهم في آسيا إلى ما بعد نهر هاليس مدة مائة وثمانٍ وعشرين سنة، باستثناء الفترة التي حكمهم فيها السكوثيون. بعد ذلك ندم الميديون على خضوعهم للأجنبي، فثاروا ضد داريوس ولكنه هزمهم في المعركة التي دارت رحاها وأخضعهم، وعلى ذلك حدث في عهد أستياجيس أن ثار الفرس على الميديين بزعامة كوروس، وصاروا نتيجة لهذا حكام آسيا. أما أستياجيس فقد أبقاه كوروس في بلاطه بقية حياته، ولم يُصِبه بأي أذى بعد ذلك.
هذه هي ظروف مولد وتنشئة كوروس، وتلك هي الخطوات التي أوصلته إلى العرش. وفي تاريخ متأخر هاجمه كرويسوس، بَيْد أنه هُزِم كما سَبق أن أوضحنا في باب مُتقدم، وكانت هزيمته لكرويسوس سببًا في جعله سيدًا على آسيا كلها.