بابل
كانت آشور تضم عددًا كبيرًا من المدن، أهمها وأقواها في ذلك الوقت «بابل» التي نُقِل إليها مقر الحكومة بعد سقوط مدينة نينوى. وهاك وصفًا لهذا البلد:
يجري نهر وسط تلك المدينة فيقسمها إلى قسمين؛ إنه نهر الفرات، ويمتد سور المدينة إلى كل من جانبي النهر، وعلى ذلك يصل ركن السور إلى نهاية كل شاطئ في صورة حاجز من الآجر. ومجرى نهر الفرات عميق سريع الجريان، ينبُع من أرمينيا، ويصُب في بحر أروثريا، أما البيوت فيتكون أغلبها من ثلاثة أو أربعة أدوار، وشوارعها كلها مستقيمة، منها الموازي لمجرى النهر، ومنها المستعرض الموصل إلى شاطئيه. وتوجد في نهاية هذه الشوارع عند الشاطئ أبواب منخفضة الارتفاع مفتوحة في السور المُحاذي للنهر، تُشبه الأبواب العظيمة الموجودة في السور الخارجي، وهي كذلك مصنوعة من النحاس الأصفر، وتفتح إلى المياه.
حكم مدينة بابل هذه عدة ملوك بذلوا جهودًا ومساعدات في بناء أسوارها وتزيين معابدها، وسأتكلم عنهم في سردي لتاريخ آشور. وكان من بينهم سيدتان وتُسمَّى أولاهما سميراميس، تولت الحكم خمسة أجيال قبل أن تأتي بعدها الملكة التالية. ومن أعمالها أنها أقامت بعض الجسور الجديرة بالذكر في السهل المجاور لمدينة بابل؛ للإشراف على النهر الذي كان — حتى ذلك الوقت — يفيض على جانبيه فيُغرِق جميع الأراضي المُحيطة به.
أما الملكة الثانية فهي نيتوكريس، وكانت أكثر حكمةً من سابقتها فلم تترك وراءها تخليدًا لذكرى جلوسها على العرش، ولكنها لما رأت قوة الميديين البالغة، ومشروعاتهم العظيمة، وأنهم استولوا على عدد كبير من المدن من بينها نينوى، وتوقعت أن تُهاجَم بدورها، بذلت كل مجهود مُستطاع لتقوية وسائل دفاع إمبراطوريتها؛ فبدأت بنهر الفرات الذي كان يخترق المدينة في خط مستقيم، فحفرت بعض المجاري على مسافة من أعلى النهر، وبذا صار يدور ويحف بالقرية نفسها ثلاث مرات، وهي قرية في آشور كانت تُسمى أرديريكا. وإلى يومنا هذا كل من يذهبون من بحرنا إلى بابل عندما ينزلون إلى ذلك النهر يمرون بنفس تلك البقعة ثلاث مرات، في ثلاثة أيام مختلفة. كما أقامت جسرًا بطول كل من جانبي نهر الفرات، وكانَا عجيبَين في عرضهما وفي ارتفاعهما. وحفرت حوضًا لبحيرة على مسافة بعيدة من بابل إلى جوار هذا النهر، وكان الحوض عميقًا في كل نقطة يصل فيها إلى المياه، وكان عرضه هائلًا حتى إن مُحيطه ليبلغ أربعمائة وعشرين فورلنجًا. واستخدمت الأتربة الناشئة من حفر هذا الحوض في تعلية الجسور بطول مجرى الماء. وبعد أن أتمت حفره أحضرت الأحجار وأقامت بها حوائط تُبطِّن محيط الحوض بأكمله. وهكذا أتمت هذين العملين وهما التفاف النهر وحفر البحيرة حتى يصير التيار أبطأ بسبب عدد الانحناءات التي يدور فيها، وتغدو الرحلة طويلة دائرية حتى يضطر القائم بها إلى المرور حول البحيرة فيقطع شوطًا بعيدًا. كل هذه الأعمال تمت على جانب مدينة بابل حيث تقع الممرات. وكانت الطرق المؤدية إلى ميديا أكثر استقامة، وغرض الملكة من هذا هو أن تمنع الميديين من الاتصال بالبابليين؛ وبذا لا يكونون على علم بشئونها.
بينما استخدمت التربة المُستخرَجة من حفر البحيرة في إقامة وسائل دفاع المدينة، شغلت نيتوكريس نفسها في عمل آخر، هو في الحقيقة نابع للعملين السابقَين وأقل شأنًا منهما. يقسم النهر المدينة كما أسلفنا إلى قسمَين منفصلَين، فكان في عهد الملوك السابقِين إذا أراد شخص أن ينتقل من أحد القسمَين إلى الآخر اضطُر إلى عبور النهر في قارب، وهذه مسألة يبدو لي أنها كانت شاقة متعبة، ما في ذلك ريب، وعلى هذا بينما كانت نيتوكريس تحفر البحيرة أرادت الانتفاع بها في التغلب على هذه الصعوبة، فتُخلف وراءها تذكارًا آخر لجلوسها على عرش بابل، فأصدرت أمرها بقطع كتل من الأحجار بالغة الضخامة، فلما قُطعت وحُفر الحوض حولت جميع مجرى نهر الفرات إلى مكان قطع الأحجار، وبهذا بينما يمتلئ الحوض بالماء يكون المجرى الطبيعي للنهر جافًّا تمامًا. فأنشأت تُنفذ هذا العمل، فبدأت أولًا بتبطين ضفَّتَي النهر داخل المدينة بجسرين من الآجر، وكذلك مواضع النزول أمام الأبواب المُطِلة على النهر مستعملة طريقة البناء نفسها التي استُخدِمت في بناء سور المدينة. بعد ذلك بنت بالمواد التي أُعدَّت قنطرة من الحجر قريبة من وسط المدينة قدر المُستطاع، وربطت أحجارها بعضها إلى بعض بالحديد والرصاص، وفي أثناء النهار كانت توضع معابر من الخشب بين الشاطئين يمر فوقها السكان عند عبور النهر من جانب إلى آخر. بَيْد أن تلك المعابر كانت تُرفع ليلًا لئلا يمر الناس من أحد القسمين إلى الآخر بغية السرقة. وبعد أن ملأت مياه النهر مكان قطع الأحجار، وتم إنشاء القنطرة، حُوِّل النهر ثانية إلى مجراه القديم، وهكذا تحول الحوض فجأة إلى بحيرة تفي بالغرض الذي أُنشئت من أجله، وحظي سكان المدينة بمساعدة ذلك الحوض بقنطرة تريحهم في عبور النهر.
كانت هذه الملكة نفسها هي التي دبرت الخدعة الشهيرة، فقد شيدت مقبرة لها في الجزء العلوي من أحد الأبواب الرئيسية للمدينة، في مستوًى يرتفع فوق رءوس المارين، ثم كتبت عليها هذه العبارة: «إذا احتاج أحد الملوك .. الذين سيخلفونني على عرش بابل .. إلى الأموال فليفتح قبري يأخذ منه ما يشاء ولا يفعلن ذلك إلا إذا كان مُحتاجًا حقًّا إلى الأموال وإلا فلن يفيد منه شيئًا.» ظل ذلك القبر كما هو لا يمسه أحد حتى جاء داريوس إلى المملكة فرأى من الوحشية ألا يكون في مكنته استخدام أحد أبواب المدينة، وأن يبقى مبلغ من المال محبوسًا دون الانتفاع به. وعلاوة على هذا شق على نفسه أن يمنع يده من الوصول إلى ذلك الكنز، فامتنع عليه استخدام الباب؛ لأنه عندما يمر بعربته تكون الجثة الميتة فوق رأسه. وبناءً على كل ذلك فتح القبر، ولكنه بدلًا من أن يرى الكنز وجد الجثة الميتة ليس غير، وبجوارها كتابة تقول: «لو لم تكن جشعًا ومولعًا بجمع المال الحرام ولا يهمك من أي طريق تحصل عليه، لَمَا تجرأت على فتح ضريح الموتى.»
قامت حملة كوروس ضد ابن هذه الملكة، الذي كان يُسمى بنفس اسم أبيه لابينيتوس، وكان هذا الابن ملكًا على الآشوريين، وكان من عادة الملك العظيم عندما يخرج إلى الحرب أن تأتيه من وطنه مئونة تُجهَّز بعناية هناك، وتحملها دواب من ماشيته هو نفسه. كما كان يحمل معه الماء اللازم لشربه مأخوذًا من نهر خواسبيس الذي كان يجري في سوسا (أو شوشانة، وكانت عاصمة منطقة سوسيانا، وكان من عادة ملوك الفرس أن يقضوا فيها فصل الشتاء)؛ لأنه الماء الوحيد الذي كان يذوقه ملوك فارس. وأينما رحل الملك تتبعه عربات ذات أربع عجلات تجرها البغال تحمل ماء نهر الخواسبيس مغليًّا ومُعدًّا للاستعمال، ومُعبأً في قوارير من الفضة تُنقل معه من مكان إلى آخر.