الفصل الثالث

حُكم الثلاثة

(١) أنطونيوس

وانتهى الخامس عشر من آذار السنة ٤٤ قبل الميلاد بليل دامس مخيف، فأعضاء السناتوس فروا مذعورين، وأنطونيوس القنصل الجديد الوحيد الباقي امتنع في بيته، و«لبيدوس Lepidus»، «كبير الفرسان Magister Equitum» يمين الدكتاتور عبر نهر التيبر، والقتلة الفائزون المفتخرون الذين انطلقوا من قاعة المجلس منادين بالحرية اضطروا أن يلجئُوا إلى الكبيتول بضغط من الشعب، وبات زعماء السياسة ينتظرون موقف هؤلاء من سياسة رومة وخطتهم للمستقبل. وكان بروتوس قد ذكر اسم شيشرون عندما رفع خنجره واقترف جرمه، مشيرًا بذلك إلى وجوب المحافظة مع شيشرون على الجمهورية وتقاليدها، فزار شيشرون في اليوم التالي القتلة في الكبيتول، فاتضح أنهم لم يرموا إلى شيء سوى التخلص من قيصر والمحافظة على التقليد. وجرت اتصالات في السابع عشر بين أنطونيوس والقتلة، فالتأم السناتوس في هيكل تلوس بالقرب من بيت أنطونيوس، فطالب طيباريوس نيرون، وكان جمهوريًّا متطرفًا، بمكافأة القتلة الذين أنقذوا رومة من يد المغتصب المستبد. وقال غيره بإلقاء جثة قيصر في التيبر، فذكَّر أنطونيوس أن إلغاء أحكام قيصر يؤدِّي إلى ما لا تُحمد عقباه، وإلى تنازل كثير من أعضاء السناتوس نفسه عن مقاعدهم فيه. ونصح شيشرون بالاعتدال، فقال قوله كثيرون، وامتنع السناتوس عن محاكمة القتلة، واعترف في الوقت نفسه بأحكام قيصر، وأوجب تنفيذ وصيته، والاحتفال بدفن جثمانه احتفالًا رسميًّا، وبعد الاجتماع دعا أتباع قيصر القتلة إلى عشاء مشترك.
وكان أنطونيوس من أقرب المقربين إلى قيصر وزميله في القنصلية، وكان يأمل أن يكون وريثه وابنه بالتبني.1 ومن هنا إصراره على الاعتراف بأحكام قيصر في جلسة السناتوس، وعلى تصديق وصيته، فلما تُليت الوصية في بيته، وتبين أن يوليوس تبنى أوكتافيوس، وأوصى له بما عنده، واكتفى بذكر أنطونيوس بين الورثاء الثانويين، انفصمت عرى آماله، وتقوَّضت حصونها، ولكنه رأى الظرف ملائمًا والفرصة سانحة لتسنم المراتب العالية، فاندفع يستغل الحوادث لصالحه، فصالَحَ القتلةَ وتقرب وتودد إلى أتباع قيصر، وأرضى السناتوس بالمحافظة على النظم الجمهورية والتقاليد، وسعى أن يكون تحت إمرته جيش يقاتل به عند الضرورة، وذلك بتسلم مقاليد الحكم في إحدى الولايات القريبة من إيطالية.2
وعلم الشعب الروماني بأمر وصية قيصر، وأنه وهب كل مواطن روماني ثلاثمائة «سستركة sesterce»، وأنه وهب الشعب جنائنه التي وراء التيبر،3 فلما احتُفل بجنازته في العشرين من آذار، وتُليت القرارات باحترامه وإكرامه، ومرَّ رداؤه الملوَّث بالدم هاج الشعب وطالب بإعدام القتلة، فاضطر بروتوس وكاسيوس أن يخرجا من المدينة ويبتعدا عنها، فكان ذلك في صالح أنطونيوس، ولم يعارض أنطونيوس وصول «دولابلة Dolabella» القيصري إلى القنصلية، وعاون لبيدوس القيصري في الوصول إلى رتبة «الحبر الأعظم Pontifex Maximus»، واسترضى السناتوس باتخاذ قرار ألغى به الدكتاتورية، وأظهر السناتوس الرضى بأن منح أنطونيوس حكومة مقدونية ودولابلة حكومة سورية. ولكن أنطونيوس لم يكتفِ بهذا القدر من السلطة، فإنه لجأ إلى استمالة الجنود الذين خاضوا غمار حروب قيصر، فوزع عليهم الأراضي، وخرج في نيسان إلى كامبانية؛ ليشرف بنفسه على توزيع الأراضي، وكان لا يزال ملتحيًا حزينًا على فقد سيد الجنود! ودسَّ على وصية يوليوس، فمنح الصقليين حقوق المواطن الروماني، وأعطى «ديوتاروس Deiotarus» أرمينية الصغرى، وأدخل أنصاره إلى مقاعد السناتوس، وغض النظر عن عودة كليوبترة وابنها الصغير إلى مصر، فارتاب الشيوخ الأرستوقراطيون في أمره، وقال شيشرون: إن الدكتاتورية لا تزال حية على الرغم من وفاة الديكتاتور، وشاع في أيار خبر وصول أوكتافيوس إلى رومة، فهرول أنطونيوس إليها.

(٢) أوكتافيوس الشاب

figure
هو «غاليوس أوكتافيوس Gaius Octavius» ابن «آتية Atia» بنت «يولية Julia» أخت يوليوس قيصر، وابن غابيوس أوكتافيوس، الذي تحدَّر من أسرة «وليترة Velitroe» المحترمة. ولدى الاطلاع على نص وصية الخال الكبير يوليوس قيصر اتخذ أوكتافيوس لنفسه الاسم غايوس يوليوس قيصر «أوكتافيانوس Octavianus»، فعُرف به حتى السنة ٢٧ق.م.، ثم اشتهر بعد ذلك باللقب «أوغوسطوس Augustus». وُلد في الثالث والعشرين من أيلول سنة ٦٣ق.م.، وتوفي والده وهو لا يزال في الرابعة من العمر. ومع أن والدته تزوجت من مركيوس فيليبوس، فإنها عُنيت عناية فائقة بتربية ولديها أوكتافيوس وأوكتافية تربية صالحة وبتهذيبهما أيضًا. ثم نال أوكتافيوس قسطًا وافرًا من العلوم على يد أشهر الأساتذة كأبولوذوروس البرغامي وآريوس الإسكندري. وكان منذ نعومة أظفاره جميل الوجه أبيًّا ذكيًّا، فأحبَّه خاله الأكبر وشمله بعطفه، فأرسله إلى أبولونية في خريف السنة ٤٥؛ ليكمل علومه، ويختبر الحياة العسكرية مع الضباط والجنود الذين كانوا يتدربون فيها. ولكن أوكتافيوس شكا منذ صغره من ضعف البنية والمرض، فكان لا بد من الاعتناء بصحته عناية خصوصية.
وبينما كان أوكتافيوس ينتظر في أبولونية صدور الأوامر لتحرك الجيش نحو حدود برتية في الشرق، تلقى في أواخر آذار سنة ٤٤ رسالة من والدته تنبئه فيها بمقتل خاله يوليوس، فهبَّ لساعته يستعد للعودة إلى رومة، وعلم الضباط بذلك، فأكدوا استعدادهم للزحف معه على رومة، ولكنه آثر التريث، وعاد إلى رومة مع بعض الرفاق. ونزل في برنديزي، فعلم فيها مضمون وصية خاله، وأنه هو وريثه وحامل اسمه. وجاءت أمه ترجوه ألَّا يرث مخاطر خاله، فأبى وجعل أخذ الثأر شعاره،4 ولدى وصوله إلى رومة أعلن اسمه الجديد غايوس يوليوس قيصر أوكتافيانوس، وطالب بصفته ابن يوليوس قيصر ووريثه بالإرث المتروك. وكان لا بد من موافقة «مجلس العشائر Comitia Curiata» على الاسم الجديد قبل اتخاذه رسميًّا، فعرقل أنطونيوس هذا السعي مدة من الزمن، ولكن أوكتافيانوس لم ينتظر صدور الموافقة، ومضى يتكلم ويطالب كأنه الوريث الوحيد، ولم يكترث أنطونيوس بادئ ذي بدء، لمقاومة أوكتافيوس، واستخف به لصغر سنه وقلة اختباره، فكان يشير إليه باللفظ «الولد»، ولم يعلم أن منكبيه الغضين كانا يحملان رأس شيخ حنكته السنون.
ونظر أوكتافيانوس إلى البيئة التي وجد فيها نظرة الحصيف، ولم ينسَ أن يستفيد من سيرة أبيه بالتبني، فاستغل اسم هذا الأب ونهج نهجه. ما كاد أنطونيوس يخرج من رومة ليلاقي الجيش القادم من مقدونية، حتى قام أوكتافيانوس إلى كامبانية يستميل جنود قيصر المجربين الأبطال، فالتفوا حوله، وانضم إليهم نصف الجنود القادمين من مقدونية، وهكذا، فإن أنطونيوس وجد نفسه قبل انتهاء السنة ٤٤ بين عدوين «ديكيموس بروتوس Decimus Brutus» في الشمال، وأكتافيانوس في الجنوب، فرأى أن يضرب ديكيموس أولًا، وقام إلى وادي البو على رأس ما تجمَّع لديه من جنود، وخشي ديكيموس تفوق جنود أنطونيوس، فامتنع في «موتينة Mutina» أي مودينة الحالية. فاضطر أنطونيوس أن يحاصره فيها، وانتهت السنة ٤٤ في إبان الحصار، وتم انتخاب القناصل الجدد، فنجح كل من «هورتيوس Hurtius» و«بنسة Pansa»، اللذين رشحهما قيصر قبل مقتله.

(٢-١) حصار موتينة

وتوجَّس السناتوس خوفًا من مطامع أنطونيوس، ورأوا في شخص ديكيموس بروتوس وموقفه دعامة للحكم الجمهوري، ورغبوا في الإفراج عنه، وتشاوروا في الأمر، فلم يجدوا لدى القنصلين الجديدين من القوة العسكرية ما يكفي لمجابهة أنطونيوس وإكراهه على التراجع. فعرض أوكتافيانوس خدماته في هذا المضمار، فاعترض المتطرفون من الشيوخ، وآثروا هلاك ديكيموس على قبول مساعدة من رجل يحمل اسم قيصر، ولكن شيشرون رجل الساعة آنئذٍ اكتسح الموقف لصالح أوكتافيانوس. وكان هذا قد اتصل بشيشرون، وأكد له أكثر من مرة استعداده للمحافظة على الجمهورية، فأعطى السناتوس «السلطة imperium» لأوكتافيانوس، وخوَّلوه حق التجييش والتعاون مع القنصلين لرفع الحصار عن موتينة، وقام الجميع إلى الشمال، فكانت موقعة حاسمة عند «فوروم غالورم Forum Gallorum»، أدت إلى انسحاب أنطونيوس من ميدان القتال في إيطالية، واتجاهه شطر غالية نفسها لاستمالة لبيدوس وفرقه. ولم يجد أوكتافيانوس في أثر أنطونيوس؛ لأن جنوده لم يرضوا عن محاربة رفاقهم في السلاح القيصري لمجرد الدفاع عن قتلة قيصر وأصدقائهم في السناتوس.5

(٢-٢) الزحف على رومة

واستطار خبر الانتصار على أنطونيوس فأبهج السناتوس، وبولغ فيه، فغلبت على الشيوخ نشوةُ الطرب، ولم يملكوا أنفسهم، فاعتبروا أنطونيوس وجنوده مجرمين لا يؤاخَذ أحد على قتلهم، وأظهروا لجنود أوكتافيانوس وضباطه مقدار ما عندهم من الرأفة والتبصر والتمييز، وكان القنصلان هيرتيوس وبنسة قد تُوفِّيا في ميدان القتال، فحوَّل السناتوس قيادة جيوشهما إلى ديكيموس، فتمرد هؤلاء والتحقوا بجيش أوكتافيانوس. وكان من عنفوان السناتوس أيضًا، أنهم أقاموا لجنة تحقيق في أعمال أنطونيوس، ولم يعينوا أحدًا من أصدقاء قيصر فيها، فخشي جنود أوكتافيانوس سوء العاقبة، وأوجبوا إشراك أوكتافيانوس في أعمالها وانتخابه قنصلًا حتى نهاية السنة. ولكن الشيوخ كانوا لا يزالون في غفلة معرضين، فأثاروا قضية عدم اكتمال الشروط في شخص أوكتافيانوس، فأمر هذا بفض مضرب الخيم، وقام على رأس جيشه زاحفًا على رومة. فاستفاق الشيوخ، وفاوضوا على أساس مطالب الجند، ثم ترددوا على أثر وصول الجنود من أفريقيا، ولكن هؤلاء أعلنوا انضمامهم إلى صفوف أوكتافيانوس، فرضخ الشيوخ، وانتخبوا أوكتافيانوس قنصلًا، وكذلك «بيديوس Pedius» أحد أنسبائه (آب ٤٣)، ثم اتخذ مجلس العشائر قرارًا اعترف به ببنوة أوكتافيانوس لقيصر Lex Curiata، ولم يلبث القنصل الجديد طويلًا في رومة، فإنه بعد أن سن السناتوس قانونًا يوجب إنزال العقاب بقتلة قيصر، اتجه شطر الشمال؛ ينهي قضية أنطونيوس.6

(٣) حكم الثلاثة

وكان أنطونيوس قد وصل إلى غالية، وتمكن من التفاهم مع لبيدوس قائد الجيش في إسبانية و«بلانكوس Plancus» قائد القوات في غالية. وكان شيشرون قد كتب إلى هذين القائدين يحضهما على الدفاع عن النظام الجمهوري، ويجوز القول: إن القائدين أحبا الوقوف إلى جانب السناتوس، ولكنهما لمسا نفورًا في نفوس جنودهما من السناتوس، وتعلقًا بذكريات قائدهم القديم العظيم قيصر، وامتناعًا عن التناحر فيما بينهم بعد أخوة في السلاح دامت طويلًا، وأدت إلى نصر مبين. وهكذا، فإن أنطونيوس كان قد أصبح سيد الموقف فيما وراء الألب في غالية والغرب، وتمكن — والحالة هذه — من استمالة الجنود، الذين كانوا لا يزالون تحت إمرة ديكيموس بروتوس، الذي امتنع في موتينة، ثم تأثر أنطونيوس حتى غالية نفسها. فلما علم ديكيموس بفوز أنطونيوس في استمالة جنوده فرَّ هاربًا، فقبض عليه أمير غالي، وقضى عليه بإشارة من أنطونيوس.7 وكان مركوس بروتوس زعيم المؤامرة على حياة قيصر ولونجينوس كاسيوس شريكه فيها قد أصبحا سيدي الموقف في الشرق. فلم يرَ أنطونيوس بدًّا من منازلتهما فتودد إلى أوكتافيانوس، وكان هذا يرى أن قوة أنطونيوس قد أصبحت عظيمة، وأن المصلحة تقضي بالتفاهم لا باللجوء إلى العنف، فلما زحف على رأس جيوشه من رومة إلى الشمال التقى بأنطونيوس ولبيدوس في «بونونية Bononia» في وادي البو، ففاوضهما واتفق معهما على إنشاء حكومة ثلاثية تنظم أمور الجمهورية وتضبطها Triumviri Reipublicae Constituendae، واعترف بالواقع، وأقر «القانون التيتي Lex Titia» في السابع والعشرين من تشرين الثاني سنة ٤٣ق.م.، فأنهى بذلك النظام الجمهوري.8

(٤) تطهير إيطالية

ورأى الثلاثة في اجتماعهم التمهيدي أن رأفة يوليوس وحلمه أديا إلى اغتياله، وأنه لا بد من الشدة والعودة إلى قساوة سولَّا وبطشه ومصادراته، ورأوا أيضًا أن المصادرة تضمن سد العجز الذي طرأ على الخزينة، ولما انتقلوا إلى إعداد اللوائح قبل التنفيذ لم يتفقوا على الأشخاص الذين سيحل بهم العقاب، فأقروا حق كل منهم بإضافة أسماء الأشخاص الذين يرغب في إعدامهم أو إبعادهم أو مصادرة أملاكهم، سواء أرضي الآخران أو لم يوافقا. فاضطر أوكتافيانوس أن يضحي بشيشرون ليُرضي أنطونيوس، الذي لم ينسَ تهجم الخطيب عليه بفيليبياته. وأوعز الثلاثة إلى «القنصل الثاني Pedius» الذي كان لا يزال في رومة، بالقبض على كبار الرجال، الذين تقرر إعدامهم وتنفيذ الحكم فيهم حالًا وسريعًا. وبعد أن تم ذلك قام الثلاثة، كل على رأس أفضل ما لديه من الجند، إلى رومة. ولدى وصولهم إليها لم يلقوا من أعضاء مجلسها أية مقاومة لمشروعهم المفاجئ، فاتخذ حكمهم الثلاثي شكلًا قانونيًّا بإصدار القانون التيتي، الذي خول الثلاثة صلاحيات واسعة لإعادة النظر في نظام الجمهورية لمدة خمس سنوات. وفور صدور هذا القانون أعلن الثلاثة أسماء جميع من شملهم التطهير، وأكدوا أن مصلحة الدولة قضت بتطهير رومة من عناصر الفساد قبل الشروع بملاحقة قتلة قيصر في بلاد بعيدة، ولكنه لم يخفَ على أحد أن سبب التوسع في التطهير والمصادرة كان ماديًّا لا سياسيًّا، وأن حاجة الثلاثة إلى ما يعوضون به على جنودهم قضت بهذا التوسع. وشملت لوائح التطهير ثلاثمائة شيخ من شيوخ السناتوس، وحوالي مائة فارس من طبقة الأغنياء الوجهاء. وتمكن بعض هؤلاء من الفرار والالتحاق بمعسكر بروتوس في مقدونية، كما تمكن غيرهم من العبور إلى صقلية والالتجاء إلى سكستوس بومبايوس وأسطوله القوي.
وأرسل شيشرون عائلته عبر الأدرياتيك، وكان بمقدوره أن ينجو بنفسه أيضًا، ولكنه آثر الموت مع الجمهورية التي أحب ودافع عنها، ثم ألح عليه أصدقاؤه بوجوب الالتحاق بعائلته، فحاول ولكنه لم يفلح، فقُطع رأسه في السابع من كانون الأول سنة ٤٣ وحُمل إلى رومة، فوضعه أنطونيوس على «الدكة rostrum» نفسها التي كان شيشرون يقف عليها، وجاءت «فولوية Fulvia» امرأة أنطونيوس وزوجة كلوديوس سابقًا، وشكت مثقبًا في اللسان الذي هجا زوجها الأول والثاني بفصاحته النادرة.9

(٥) يوم فيليبي

figure
ترى في هذا الشكل وجهي قطعة نقود، سكها بروتوس في السنة ٤٣-٤٢ق.م.؛ ليدفع بها مرتبات جنوده، ويشاهد على الوجه الواحد رأس بروتوس والكلمات Brut (us) Imp(erator)، وعلى الوجه الآخر خنجران، يشيران إلى مقتل قيصر، وخوذة ترمز إلى الحرية، والكلمتان Eid(ibus) Mar(tits) منتصف آذار، وهو تاريخ مصرع قيصر.
وكان مركوس بروتوس وغايوس كاسيوس قد فرَّا إلى الشرق بعد اغتيال يوليوس، كما سبق وأشرنا. وكان بروتوس قد استقر في مقدونية، أما كاسيوس، فإنه كان قد تسلم مقاليد الأمور في ولاية سورية، وكان أنطونيوس قد نصَّب دولابلا زميله في القنصلية واليًا على سورية بعد وصوله إلى الندوة، فقام دولابلا إلى سورية مارًّا بآسية الصغرى، فاعترض سبيله «تريبونيوس Trebonius» أحد المشتركين في اغتيال قيصر، ولكنه أخفق ووقع في يد دولابلا فأمر هذا به فقُتل. فلما وصل دولابلا إلى سورية اعترضه كاسيوس في ساحل اللاذقية وقضى عليه، فظلت السلطة في الشرق وفي مقدونية بيد القتلة المتآمرين، فجندوا وجيشوا واستعدوا ليوم الحساب، وحاول شيشرون إقناع بروتوس بضرورة الزحف على رومة لتدعيم الجمهورية، ولكن دون جدوى، فإن بروتوس لم يرضَ عن تعاون شيشرون مع أوكتافيانوس، واعتقد أن اتفاق أنطونيوس والسناتوس كان أمرًا مستحيلًا، ولعله خشي خبرة الجنود القيصريين، الذين التفوا حول أنطونيوس وأوكتافيانوس وتعلقهم بيوليوس، ولم يثق بمن كان قد دخل في خدمته في الشرق.
وما كاد الثلاثة يتفاهمون في الغرب ويتسلطون، حتى اتجهوا بأنظارهم شطر الشرق، موجبين تعقب القتلة والتخلص منهم، فبقي لبيدوس في رومة يدبر شئونها، ونهض أنطونيوس وأوكتافيانوس على رأس قواتهما، فعبرا الأدرياتيك ونزلا في بلاد اليونان، وكان بروتوس وكاسيوس قد وصلا بقواتهما إلى «فيليبي Philippi» في شرق مقدونية عند شاطئ إيجه بالقرب من «قولة» الحديثة، وانتقيا ميدان القتال خارجها في محل تفصله عن البحر مستنقعات واسعة، فلما أطل أنطونيوس وأوكتافيانوس في أوائل تشرين الأول سنة ٤٢ على فيليبي، ودرسا ميدان القتال، شرع أنطونيوس في تشييد طريق عبر المستنقعات يهدد بها مؤخرة كاسيوس، ثم انقض على معسكر كاسيوس، وأعمل السيف في رقاب رجاله، فيئس كاسيوس وانتحر. أما بروتوس، فإنه بعد أن هجم على معسكر أوكتافيانوس ونجح نجاحًا ملموسًا، اضطر إلى التراجع بعد انتحار زميله، ولكنه ثبت في وجه خصميه عشرين يومًا. وكان في صالح أنطونيوس وأوكتافيانوس أن يستدرجا خصمهما إلى قتال فاصل، فكان لهما ذلك في الثالث والعشرين من تشرين الأول، وكان لهما نصر مبين. وانتحر بروتوس في التلال المجاورة، فأصبح «الثلاثة» أسياد الموقف في عالم المتوسط.10

(٦) أوكتافيانوس والغرب

وجلس العظيمان بعد فيليبي يدرسان الموقف، فهالهما فراغ الخزينة، وعجزها عن التعويض على الجنود تعويضًا كاملًا مُرضِيًا، فرأَيَا أن لا بد من اللجوء مرة ثانية إلى المصادرة، ورأيا أيضًا أن لا بد من الاستعانة بمال الشرق لهذه الغاية، فأظهر أنطونيوس رغبة في تولي أمور الشرق، ولم يستطع أوكتافيانوس أن ينازعه في ذلك؛ لأنه كان قد قضى شطرًا وافرًا من وقته، إما مريضًا وإما مستجمًّا. وكان أنطونيوس قد تحمل مسئُولية الحرب ومخاطرها، فتم الاتفاق بين الاثنين على أن يعود أوكتافيانوس إلى إيطالية ويتدبر شئونها، ويدبر الأموال اللازمة لإرضاء الجنود، وعلى أن يتجه أنطونيوس إلى الشرق؛ لضبط أموره وفرض السلطة فيه، واستعادة هيبة رومة.

وما كاد أوكتافيانوس يصل إلى إيطالية ويشرع في تنفيذ الاتفاق الذي تم بينه وبين أنطونيوس حتى جُوبه بمشاكل ومشاكل، فالجنود رغبوا في مصادرة الأموال في المدن، وأبناء المدن احتجوا على ذلك، ورأوا فيه إجحافًا، وتدخلت فولوية زوجة أنطونيوس في هذا الأمر، واتفقت وسلفها لوكيوس أنطونيوس — القنصل آنئذٍ — على حماية المدن وتزعم معارضتها، وكان لا يزال تحت تصرف لوكيوس بعض جنود أخيه، فكان لجوءًا إلى العنف أدى إلى ما يعُرف بحرب «بيروسية Perusia» لامتناع لوكيوس فيها وقيام أوكتافيانوس إليها على رأسه جنوده، وبعد حصار دام فترة من الزمن استسلم لوكيوس، فلم يعاقبه أوكتافيانوس، ولم يتعرض لفولوية بأذى، بل سمح لهما بالالتحاق بزميله في الشرق. ولكنه خشي مغبة ذلك، فبدأ يستعد للدفاع عند الحاجة، وتوفي والي غالية، وكانت لا تزال تُحسب على أنطونيوس، فتسلم أوكتافيانوس إدارتها، وتولى قيادة جيوشها، فأمسى سيد إيطالية وغالية وإسبانية، أما أفريقية، فإنها كانت لا تزال بيد لبيدوس أحد «الثلاثة».11

(٧) سكستوس بومبايوس

وأما صقلية، فإنها كانت خارج نطاق الحكم الثلاثي؛ لأن سكستوس ابن بومبايوس كان قد امتنع فيها، وسكستوس هذا كان أصغر أبناء بومبايوس، وكان قد رافق والده بعد موقعة فرسلوس من جزيرة لسبوس حتى مصر وشاهد مصرعه فيها، ثم انتقل إلى أفريقية مع غنايوس أخيه الأكبر، ولكنه لم يشترك في الحرب الأفريقية. ولما أنفذ الجمهوريون غنايوس إلى إسبانية؛ ليغذي الثورة فيها ضد الحاكم القيصري، لجأ سكستوس إليها، واستقر في شمالها، وتمرد على السلطات جاعلًا من نفسه رئيس عصابة. وبعد مقتل قيصر في الخامس عشر من آذار سنة ٤٤ ودخول رومة في حربها الأهلية، تُرك سكستوس يفعل ما يشاء، فعظم أمره، وأمسى سيد إسبانية القصوى له جيشه وأسطوله. وعندما قامت الحرب حوالي موتينة في السنة ٤٣، نهض سكستوس على رأس قواته إلى مسالية في جنوب غالية يراقب سير الحوادث، وينتظر فرصة مواتية، واتصل شيشرون به، وأسند السناتوس إليه قيادة الأسطول، ولكنه لم يعبأ بذلك، ظنًّا منه أن الجمهورية لا ترغب في بومبيايوس جديد، وجاء حكم الثلاثة في السنة ٤٣، فتوج اسمه لائحة المحكومين بالإعدام، فعاد إلى الأسطول والقرصنة، ثم احتل صقلية، وجعلها قاعدته.12

(٨) أنطونيوس والشرق

وكان ما كان من أمر بروتوس وكاسيوس في ميدان فيليبي في خريف السنة ٤٢ق.م.، فقام أنطونيوس إلى الشرق؛ ليدبر شئونه، ويجمع المال لسد نفقات الحرب، فأحبه الأثينيون لتهلنه، واستقبله أهل أفسس استقبال الآلهة، فرأوا فيه ذيونيسوسًا جديدًا واهبًا الفرح والنعمة، والتف حوله الأمراء المحليون الشرقيون طالبين الرضى مقدمين الهدايا.

واستقر أنطونيوس بعض الوقت في مدينة طرسوس في قيليقية، فاستدعى في السنة ٤١ كليوبترة إليها؛ ليناقشها الحساب حول موقفها من الحرب الأهلية، وقبلت كليوبترة الدعوة، ولكنها أجلت السفر وماطلت لتستوقد شوقه. وفيما كان جالسًا في إحدى باحات طرسوس المطلة على النهر يقضي بين الناس، اضطرب الجمهور، واندفع شطر المرفأ، وترك أنطونيوس وشأنه، فتساءل أنطونيوس ما الخبر؟ فقيل: هي إفروديتية إلهة الجمال والحب والخصب، جاءت تسامر ذيونيسوس الجديد لخير آسية. وأطلَّت الذهبية الملكية بمقدمها المذهب ومقاذيفها المفضضة وقلوعها الحريرية الأرجوانية، وقد اتكأت ملكة مصر بثيابها الأفروديتية تحت مظلة مذهبة، يحيط بها جوق من أجمل الصبية في ملابس آلهة الجمال، ووصيفات فاتنات يحركة الدفة، ويمسكن حبال القلوع، وشبان أشداء ظرفاء يقذفون على وقع الموسيقى وألحان السماء، وكان النسيم ينقل إلى ضفتي النهر روائح الطيب والعطر.

ونزلت كليوبترة إلى طرسوس، ولبت دعوة القائد القنصل، ودعاها إلى تناول الطعام معه فأبت، وأصرت أن يكون هو ضيفها، فقبل الدعوة وصعد إلى الذهبية الراسية، فشاهد من نفائس الأواني ما لم يره قط، وذاق من ألوان الطعام ما لذَّ وطاب، وأُعجب بما رأى من النفائس، فقالت: هي لك هدية صغيرة، فأزهفت هذه العظمةُ عقله، وازدهفت لبه، فأمر بإخراج أرسنوة منافسة كليوبترة من هيكل أرتميس في أفسس وبقتلها، وقضى بمثل هذا على كل من بطليموس الكاذب الثالث عشر، الذي ادَّعى أنه هو أخو كليوبترة الحقيقي، وعلى سيرابيون الذي كان قد التحق بكاسيوس على رأس الأسطول المصري، واكتفت كليوبترة بهذا القدر من النصر، وعادت فجأة إلى مصر في خريف السنة ٤١، وتركت في طرسوس قائدًا كاد قلبه يطير وراءها.

وكان على أنطونيوس أن ينظر في مشاكل إدارية سياسية ملحة، فأنتيغونوس المكَّابي كان يضايق هيرودوس بن أنتيباتر صديق قيصر ونصيره، وكان أنطونيوس قد ولَّى هيرودوس وأخاه الحكم في فلسطين رغم معارضة اليهود. وكان على أنطونيوس أيضًا أن يعين واليًا على سورية، ويحدد الضرائب فيها، كما كان عليه أن يستعد لصد هجوم على هذه الولاية قد يقع في كل لحظة من جانب البرت من وراء الفرات. ولم تكن رومة قد ثأرت بعد لقائدها كراسوس، الذي خرَّ صريعًا على يد البرت. ولكن أنطونيوس لم يعبأ بشيءٍ من هذا، فإنه كان قد وَلع بكليوبترة وراعه ثراؤها، فأراد أن يتعرف بأم عينه إلى بلد قد يصبح فيما بعد أفضل قاعدة لأعماله في الشرق وفي الغرب، فعجَّل أمور سورية وفلسطين تعجيلًا، فثبَّت بطليموس خلقيس في إمارته في البقاع والغوطة، وأبقى السلطة في حمص ونواحيها بيد يمبليخوس، وطرد غيرهما من الأمراء المحليين، فعبروا الفرات ولجئُوا إلى البرت، واستشار هيركانوس في أورشليم، فجعل من هيرودوس وأخيه تتراخين على فلسطين، وعين «ديكيديوس سكسا Decidius Saxa» واليًا على سورية، وأغار على تدمر لابتزاز المال، وأثقل كاهل السكان بضرائب جديدة، فثارت أرواد في وجهه، وأبقى فرقتين من جنود كاسيوس بإمرة ديكيديوس، وقام إلى مصر لتمضية شتاء السنة ٤١-٤٠ فيها إلى جانب كليوبترة.13

وبينما كان أنطونيوس يُطلق لنفسه عنان هواه في مصر، عبر فرسان البرت الحدود الشرقية، وقتلوا والي سورية، واستولوا على أورشليم، وتوغلوا في آسية الصغرى، وفتحت بعض مدنها أبوابها لهم، وتعاونت معهم، وانضم إلى صفوفهم عدد من الرومانيين الساخطين على الحكام الثلاثة، وآثر البرت نظامًا جمهوريًّا في رومة، تنقسم فيه الكلمة وتختلف فيه الآراء على حكم رجل فرد، أو رجال ثلاثة يفرضون إرادتهم فرضًا.

ولم يكن أفق أنطونيوس الغربي أقل تجهمًا، فإنه علم — وهو لا يزال في مصر — بما جرى في إيطالية، ولا سيما حوادث الحرب البيروسية، فقام من الإسكندرية إلى صور، فأصدر عنها التعليمات اللازمة لدرء الخطر البرتي، وأقلع منها إلى قبرس ورودوس فأثينة، والتقى بزوجته فولوية فروت ما جرى، وكيف أن ظلَّه تقلَّص في إيطالية وغالية، فنهض إلى إيطالية، وحاول النزول في برنديزي، فمنعه قائد حاميتها عن النزول فنزل في ضواحيها، ووصل إليها أوكتافيانوس بعد فترة قصيرة، وعسكر الطرفان مستعدين للقتال، ثم جاء خبر وفاة فولوية في أثينة، ولم يُظهر الجنود رغبة في القتال، وأيدهم في ذلك جمهور الرومانيين والإيطاليين.

(٩) اتفاقات برنديزي ومسينة

ولم يكن أوكتافيانوس واثقًا كل الوثوق من ميول بعض جنوده، ولا سيما أولئك الذين كانوا إلى حد قريب تحت إمرة أنطونيوس في غالية، كما أن أنطونيوس كان يرى الخير كل الخير في تدبير شئون الشرق ورد خطر البرت عنه، فوقع الطرفان اتفاقًا في خريف السنة ٤٠ق.م.، قضى بتقسيم المتوسط وحوضه إلى قسمين رئيسين: غربي وشرقي، وبموجب حد مر بمدينة أشقودرة في البرية من الشمال حتى الجنوب، فتولى الغرب أوكتافيانوس، وتسلط أنطونيوس على الشرق، وظلت أفريقية بيد لبيدوس. أما إيطالية، فإنها اعتُبرت مباحة للكبيرين، يجندان فيها أنى شاءا، ومكَّن أوكتافيانوس أواصر الألفة والاتفاق بالزواج، فحلَّت أوكتافية أخت أوكتافيانوس محل فولوية زوجة أنطونيوس التي توفيت في أثينة، فهتفت الجيوش ودعت للزوجين وللكبيرين، وقام الاثنان إلى رومة، فقابل أهلها خبر الاتفاق بارتياح عظيم.14
وكان سكستوس بومبايوس لا يزال مسيطرًا على صقلية والبحار، فتعذر تموين العاصمة بالحبوب وارتفعت أسعارها، وهدد الجوع الجماهير، فألحوا بوجوب تسوية الأمور، والوصول إلى تفاهم مع سكستوس، وأراد الكبيران أن يجردا حملة عليه، ولكن الشعب لم يرضَ عن تحمل نفقاتها، فعاد الكبيران إلى المفاوضة، فطلب سكستوس أن يكون هو الثالث في الحكم بدلًا من لبيدوس، ثم اعتدل فقبل بحكم صقلية وسردينية على أن يرشح إلى القنصلية في المستقبل القريب، ووقع الطرفان المتفاوضان في السنة ٣٩ق.م. اتفاق مسينة، وكانت شروط هذا الاتفاق: أن يبقى سكستوس في الحكم في صقلية وسردينية، وأن يسهِّل تموين رومة بالحبوب اللازمة، وأن يُنتَخَب قنصلًا في القريب العاجل، وأن يصدر عفو عن جميع الذين لجئُوا إليه في أثناء الحرب الأهلية، ما عدا الذين اشتركوا في التآمر على قيصر والفتك به، وأن يعاد إلى اللاجئين ربع أموالهم المصادرة، وأن يصار إلى عتق الأرقاء الآبقين الذين التجئُوا إلى سكستوس، وأن يُصيبَ جنوده من التعويض ما أصاب جنود الثلاثة الحاكمين.15

(١٠) نهاية سكستوس

وعاد أنطونيوس إلى الشرق في السنة ٣٩، ولم يتمكن سكستوس من البر بوعوده والقيام بعهوده، فكان لا بد من اللجوء إلى العنف، فربح سكستوس الجولات الأولى لتعاظم قوته البحرية، ثم نشب خلاف بين سكستوس وبين «مينيدوروس Menedorus» حاكم سردينية، فمال هذا إلى أوكتافيانوس وسلمه الجزيرة. وقارب أمَدُ حكم الثلاثة النهاية، فعاد أنطونيوس إلى إيطالية؛ ليضمن تمديد هذا الحكم، وليعجِّل إرسال المدد إليه؛ ليتمكن من رد البرت في الشرق وإعادة النظام إلى ربوعه. واعتبر أنطونيوس أن سكستوس كان أحد حلفائه، ففاوض أوكتافيانوس فيما يقدمه له مقابل التخلي عن سكستوس، فكان اتفاق جديد في برنديزي في السنة ٣٧، تخلى أنطونيوس بموجبه عن سكستوس، وتعهد بتقديم معونة بحرية إلى أوكتافيانوس مقابل تجنيد عشرين ألف روماني وإرسالهم إلى الشرق، وقام الكبيران إلى رومة، فجددا حكم الثلاثة ومدَّداه خمس سنوات جديدة، وعاد أنطونيوس إلى الشرق.
وانصرف «أغريبة Agrippa» يمين أوكتافيانوس في السنتين ٣٨–٣٦ق.م. إلى إنشاء أسطول يقضي به على مقاومة سكستوس. ولما تم له ذلك قام بأسطوله إلى شاطئ صقلية الشمالي، وقام «طوروس Taurus» بمائة وعشرين سفينة إلى شاطئ الجزيرة الشرقي، وعبر لبيدوس البحر من أفريقية مهددًا الشاطئ الغربي، وتمكن من النزول إلى البر، وإقامة رقبة جسر عند «ليليبايوم Lilybaeum»، أما أغريبة وطوروس، فإنهما اضطرا إلى التراجع؛ لهبوب عاصفة بحرية قوية، ثم أصلحا ما تخرَّب من السفن، وعادا إلى القتال، فالتقيا في الثالث من أيلول سنة ٣٦ عند «نولوخوس Naulochus»، فحطما أسطول سكستوس تحطيمًا، وفرَّ هو ببضعة سفن إلى آسية الصغرى، حيث لقي حتفه فيها على يد «تيتيوس Titius» (معاون Legatus أنطونيوس) في السنة ٣٥ قبل الميلاد، واحتل لبيدوس صقلية، وخضعت سردينية وكورسيكة إلى أوكتافيانوس.16

(١١) عزل لبيدوس

وسئم لبيدوس بُعده عن رومة، وعدم اشتراكه فيما جرى فيها من القرارات الهامة والصفقات الكبيرة، فلما نزل في صقلية جعل جنود سكستوس يستسلمون له لا لأوكتافيانوس، ووجد نفسه فجأة على رأس قوة أكبر من قوة زميله أوكتافيانوس، فتصلَّف وتغطرس، فعمل أوكتافيانوس على استمالة جنود لبيدوس، ونجح في ذلك نجاحًا باهرًا، ثم عُزل لبيدوس من الحكم الثلاثي (٣٦)، وأُمر بإقامته في إيطالية إقامة جبرية، فأمسى الحكم الثلاثي ثنائيًّا، وبات أمر الفصل بين سيد الغرب وسيد الشرق واقعًا لا محالة.

وبقي أنطونيوس طوال السنتين ٣٩–٣٧ في أثينة، يدير دفة الأمور منها، ويصدر أوامره عنها، ورافقته زوجته أوكتافية إليها وولدت له فيها بنته أنطونية. واحتفى الأثينيون بالقائد الروماني وزوجته الجديدة، وحيَّوه تحية ديونيسوس، واعتبروه ديونيسوسًا جديدًا، واقترحوا عقد زواج بين الإله الجديد وبين إلهة المدينة أثينة، فقبل أنطونيوس شاكرًا، ولكنه طالب ببائنة «دوطة» بلغت مليون درهم، فاعترض أحد الوجهاء مازحًا، وقال: «إن زفس تزوج من أمك «سميلة Semele» أم ديونيسوس بدون دوطة.» فتنازل ديونيسوس الجديد، وقبل الدوطة مقسطة ثلاث دفعات، وسُكَّت النقود فظهر وأوكتافية إلهين محسنين، وتردى باللباس اليوناني، وشارك الأثينيين أفراحهم وأتراحهم، وأنفق بسخاء، فحملت دورة ألعابهم الرياضية في آب السنة ٣٨ اسمه، فدُعيت الأنطونيات بدلًا من الأثينيات.17
وبعد أن مدد الثلاثة حكمهم خمس سنوات أخرى في السنة ٣٧، وذلك بعد اتفاق «ترنتوم Tarentum»، أرسل أنطونيوس زوجته وبنته الصغيرة إلى رومة، وقام إلى أنطاكية سورية، يستعد لهجوم على البرت هجومًا يستعيد به ما لحق بسمعة رومة من أذى، وأرسل يستدعي كليوبترة إليها؛ لتمضية فصل الشتاء معه فيها، فجاءت إليها في شتاء السنة ٣٧-٣٦، واشتركت في المهرجانات التي أقيمت فيها، احتفاء بما كان قد تم من نصر، اشتراكًا سياسيًّا وغراميًّا في آن واحد، وقضى الاستعداد للهجوم على البرت بتأمين المؤخرة، ورصد المال الكافي، وتسهيل الوصول إليه عند الحاجة، فتزوج أنطونيوس من كليوبترة،18 واعتمد هيرودوس ملك اليهود لإخماد ما قد ينشب من فتن ويُحاك من دسائس، ونهض بجيشه وحاصر أفراسية، فأضاف مأساة إلى مأساة، كما سيُذكر في حينه في الفصل السابع.
وكان أوكتافيانوس قد تعهد بتجنيد عشرين ألفًا في إيطالية، يعين بهم أنطونيوس في الشرق، فتأخر في إرسال هذا المدد، ثم اضطر في السنة ٣٥ أن يجرد حملة على البرية عبر الأدرياتيك، فأعاقته هذه الحملة عن البر بالوعد. ولما حان وقت التنفيذ، أرسل أوكتافية إلى الشرق وألفي جندي بدلًا من العشرين، وبعض السفن التي كان قد استعارها للاستيلاء على صقلية، فرأى أنطونيوس في هذا كله عرقلة لمساعيه في الشرق، فلم يسمح لأوكتافية أن تتجاوز أثينة في طريقها إلى الشرق، ولكنه لم يطلقها، فعادت إلى إيطالية، ولم يرضَ أوكتافيانوس عن هذه المعاملة، فنصح إلى أوكتافية أن تهجر بيت زوجها، ولكنها أبت.19

(١٢) أنطونيوس وكليوبترة

وتزوج أنطونيوس من كليوبترة في السنة ٣٧ق.م.، فعانى في زواجه مشقة، وقاسى فيه نَصَبًا؛ فالقانون الروماني قضى بزوجة واحدة، وأوكتافية كانت لا تزال زوجة أنطونيوس الشرعية، والعرف والقانون حرَّما زواج الروماني من أجنبية، ولم تكن كليوبترة مواطنة رومانية، ثم إن هذا الزواج من كليوبترة أسبغ على أنطونيوس صفة ملكية لم يرضَ عنها الرومان، واضطره هذا الزواج أيضًا إلى توسيع رقعة ملك البطالسة على حساب رومة، فإنه أدخل في السنة ٣٧ قيرونة وقبرص وإمارة خلقيس البقاعية والشاطئ الفينيقي حتى النهر الكبير في حوزة كليوبترة، وأضاف إلى هذه أحراج قيليقية الضرورية لأحواض السفن المصرية وجزءًا من جزيرة كريت، واعترف ببنوَّة التوءَمين، اللذين وُلدا له من كليوبترة في السنة ٤٠ بعد خروجه من مصر، وبولد ثالث أبصر النور في السنة ٣٦، ووافق على تسمية التوءمين ألكسندروس وكليوبترة تيمنًا، وعلى إطلاق الاسم بطليموس فيلادلفوس على الولد الثالث، ولا يخفى ما كان في هذه التسمية من تطلع إلى إعادة أمجاد غابرة!

وجاءت السنة ٣٤، وانتصر أنطونيوس على ملك أرمينية، وأحب أن يحتفل بالنصر، فخالف العرف الروماني، واحتفل بفوزه في الإسكندرية لا في رومة. وجاء دور المنح لهذه المناسبة، فأعلن كليوبترة «ملكة على الملوك»، واعترف بشرعية ابنها من قيصر، الذي كان يُدعى «قيصريون Caesarion»، وأشركه في الحكم معها. وجعل بطليموس ابنه منها ملكًا على سورية وقيليقية، واعتبر ألكسندروس ملكًا على أرمينية، وكليوبترة الصغيرة ملكة على قيرونة، وكتب إلى السناتوس الروماني بهذا كله، وطلب الاعتراف بقانونية عمله. ولا نعلم كيف برر عمله هذا أمام السناتوس؟ ولعله قال: إنه اتبع في ذلك خطة رشيدة إلى إقامة دول صديقة حليفة، تتولى هي أمر الدفاع عن الشرق والصمود في وجه البرت، ولكن السناتوس سكت عن رسالة أنطونيوس، ولم يعلن مضمونها، ولم يوافق عليها. ولم ير السناتوس — في الوقت نفسه — الخطر الكامن في إجراءات أنطونيوس، الذي رآه أوكتافيانوس.20

(١٣) تيقظ أوكتافيانوس وسهره

وفي السنة نفسها، التي أخفق فيها أنطونيوس في حملته على البرت (٣٦ق.م.)، تمكن مناظره أوكتافيانوس من السيطرة على صقلية والقضاء على سكستوس بومبايوس فيها، ونجح أيضًا في عزل لبيدوس، وفي فرض سلطته على أفريقية، وأبعد أوكتافيانوس بهذين الانتصارين شبح المجاعة عن رومة، وأعاد إلى مزارعها أكثر من ثلاثين ألف رقيق آبق، فاستحق شكر السناتوس، وأُقيم له تمثال ذهبي في الفوروم يحمل على قاعدته العبارة التالية: «بعد اضطراب دام طويلًا، أعاد السلم في البر والبحر.» وظهر هذا التمثال على النقود، وأضيفت العبارة «الإمبراطور قيصر.» وخطب أوكتافيانوس في الناس، وأكد حلول النظام والأمن، وأشار إلى انتهاء الاستبداد، وألغى عددًا من القوانين الاستثنائية، التي كانت قد سُنت في أثناء الحرب الأهلية، وأضاف أنه سيكون مستعدًّا للتنازل عن السلطة الاستثنائية التي مارسها بصفته أحد «الثلاثة» إذا قبل أنطونيوس بذلك وعمل به. فقابل الشعب هذه التصريحات بارتياح عظيم، ومنحه السناتوس حق الجلوس مع الترابنة، واعتبر شخصه مقدسًا لا تُخرق حرمته. وأعلن أوكتافيانوس في السنة ٣٦ أيضًا عزمه على تشييد هيكل لأبولون إله بيته وحاميه وإله «النظام والانضباط». فقارن الرومانيون بين دخول أوكتافيانوس في حماية إله النظام والانضباط، وبين قبول أنطونيوس بأن يكون ديونيسوسًا جديدًا إله فرح ونعمة، يغازل أفروديتة إلهة حب وخصب.

وجعل أوكتافيانوس الرومانيين في السنة ٣٥، يقارنون بين ارتماء أنطونيوس في حضن خليلة شرقية، وبين نفوره من سيدة رومانية شريفة هي زوجته الشرعية. فأوكتافيانوس رأى من الحكمة في السياسة أن تتولى شقيقته المحترمة زوجة أنطونيوس الشرعية تسليم المعونة المادية والعسكرية، التي قرر أوكتافيانوس إرسالها إلى أنطونيوس في الشرق، ولما رفض أنطونيوس مقابلة زوجته الشرعية، وآثر رفقة الخليلة على التعايش مع زوجته، اقترح أوكتافيانوس منح أوكتافية شقيقته، زوجة أنطونيوس، و«ليبية Livia» زوجته، شرف التساوي مع عذارى وستة آلهة الموقد العائلي الروماني. فاعتُبرتا مقدستين لا تُخرق حرمتهما، كما اعتُبرتا حرتين غير خاضعتين لأية رقابة، ومُنحتا حق إقامة صور لهما، فأمسى توقير أوكتافية وتفخيمها تحقيرًا واستصغارًا لزوجها أنطونيوس، الذي امتنع عن قبولها، وآثر مغازلة خليلة شرقية غير رومانية.21

(١٤) كشف القناع وحرب الأعصاب

وتخشَّنت الصدور، ودمنت القلوب، وقربت نهاية المدة الثانية لحكم الثلاثة، فتخشى الناس انتهاء السنة ٣٣، وهالهم صباح الحادي والثلاثين من كانون الأول، لا يدرون ما يهجم عليهم منه. وفي خريف السنة ٣٣ لجأ الطرفان إلى الدعاية، وسخَّرا لها الألسنة والأقلام. فنظم «كاسيوس البرمي Cassius Parmenensis» قصيدة قدح فيها بأصل أوكتافيانوس، فقال: إن والده عجنه من طحين أريكي، مشيرًا بذلك إلى أن أمه جاءت من «أريكة Aricia» من سلالة طحان وضيع. وكتب أنطونيوس نفسه إلى أوكتافيانوس يقول: «وما الذي يبعدك عني؟! هل هو نومي مع الملكة؟! وأي جديد ترى في هذا، وقد بدأته منذ تسع سنوات؟ وماذا نقول عنك؛ هل تنام مع «دروسلة Drusilla» فقط؟ إني أتمنى لك الخير كل الخير إذا كنت — لدى اطلاعك على هذه الرسالة — بعيدًا عن «ترتولة Tertulla» و«ترنتلة Tarentilla» و«روفيلة Rufilla» و«سلوية Salvia». وأقبح ما جاء في تهجم أنطونيوس إشارته إلى علاقة أوكتافيانوس غير المشروعة مع خاله الأكبر يوليوس، وإلى أن هذه العلاقة الجنسية كانت سبب عطف يوليوس عليه واتخاذه ابنًا له،22 ومما جاء في هذه المهاترات التي سبقت حلول العاصفة، أن مناشير الدعاية والرسائل المغفلة لم تخلُ من الإشارة إلى جبن أوكتافيانوس وخرَعه في الحروب، وأن ليس وراءه إلا الفشل والخَوَر، ومما ذُكر من هذا القبيل، أنه كان لا يزال مستغرقًا في النوم حين بدأ الهجوم في فيليبي، وأنه حُمل حملًا إلى ميدان القتال، فكانت عيناه شاخصتين إلى السماء لا تجرؤان على النظر إلى الأعداء.23
ولم يحجب أوكتافيانوس فضله عن أنطونيوس، فإنه ردَّ الكيل كيلين، وجعل العيب عيبين، وكتب له مباشرة بذلك، وأوعز إلى رجاله بالتقريع، فأوجعوا أنطونيوس لومًا، وأعد «غايوس أوبيوس Oppius» رسالة خصوصية في علاقة قيصريون بقصير، وكتب «مركوس فلاريوس ميسَّالا Messala» كتابًا في نفائس الفن والمخطوطات، التي جمعها أنطونيوس من بلدان الشرق ليهبها إلى خليلته المصرية de Antoni Statuis. ومما جاء في هذا الكتاب، أن أنطونيوس أرسل من برغامة إلى الإسكندرية أكثر من مائتي ألف درج من المخطوطات، واشتد اللوم والتقريع والتوبيخ، فاضطر أنطونيوس نفسه أن يعد رسالة يبحث فيها إدمانه على المسكر؛ ليرد على اللائمين.24
ولم يكتفِ أوكتافيانوس بما تقدم، بل إنه رفع النزاع بينه وبين أنطونيوس إلى مستوى سياسي عالٍ، فأشار إلى زواج مناظره من ملكة هلينية شرقية، وإلى صيرورته ديونيسوسًا جديدًا، واتهمه بالطمع في ملك إلهي هليني، وأيد هذا الاتهام بذكر ما أضافه أنطونيوس إلى أملاك كليوبترة وأولادها على حساب رومة، ورماه بالخيانة، فقال: إن أنطونيوس لم يعد رومانيًّا، بل أمسى بخضوعه إلى كليوبترة عدوًّا مميتًا يهدد كيان رومة. وكان الشعب الروماني قد عرف كليوبترة في أثناء إقامتها في رومة في عهد قيصر، ولم يرضَ عن سلوكها. فلما هجر أنطونيوس أوكتافية النبيلة المحترمة ليلتصق بكليوبترة، بدأ الشعب يقارن بين الاثنتين، ويحتقر هذه ويعظم تلك، فرأى أوكتافيانوس أن يستغل هذا الشعور، وأن يجعل نزاعه حربًا دفاعية في سبيل المحافظة على الكيان الروماني ضد مطامع كليوبترة وخليلها أنطونيوس.25

(١٥) موقف السناتوس

ورَقَب الشيوخ هذه الأمور كلها، ولم يغفلوها طرفة عين، ولكنهم كانوا واقعيين يعملون بما تمليه عليهم تطورات القوة التنفيذية المتسلطة وروابط الحسب والنسب ودوافع المصلحة الشخصية، وانتهت السنة الثالثة والثلاثين، وجرت الانتخابات القنصلية للسنة ٣٢، فوصل إلى هذه الرتبة اثنان من أصدقاء أنطونيوس ومريديه «دوميتيوس أهينوبربوس Ahenobarbus» و«غايوس سوسيوس Sosius» حاكم سورية. ولدى تسلمهما زمام الأمور في أول كانون الثاني من السنة ٣٢، وقف سوسيوس خطيبًا فمدح أنطونيوس ولام أوكتافيانوس وأوجع، وفنَّد وفلَّى، ولكنه لم ينجح باتخاذ أي قرار سناتوسي باللوم؛ لأن التريبون «نونيوس بلبوس Balbos» تدخل واعترض، فأبطل اتخاذ أي قرار ضد أوكتافيانوس، وكان هذا قد تعمد التغيب؛ لتفضي المعارضة بما لديها، فلما حل موعد الجلسة الثانية، دخل المجلس محاطًا بالجنود والأصدقاء، ورد على سوسيوس، واقترح متهكمًا أن يوزع أنطونيوس على جنوده الأراضي في مادي وأرمينية، ثم احتج على موقف أنطونيوس من كليوبترة، وتصرفه بأملاك الدولة لصالح هذه المرأة وأولادها، وقال: إنه سيوافي الشيوخ في الجلسة المقبلة بما لديه من أوراق ورسائل تثبت سوء تصرف أنطونيوس وسوسيوس أيضًا.26
figure
زعيم سياسي روماني.

وخشي سوسيوس وزميله أهينوبربوس مغبة ما جرى، وشاركهما في ذلك الشيوخ أصدقاء أنطونيوس، ففروا من رومة قبل موعد الجلسة التالية، وأبحروا إلى أفسس مقر زعيمهم أنطونيوس، وكان عدد هؤلاء الشيوخ ثلاثمائة من مجموع ألف.

(١٦) حرب فاصلة

وكان أنطونيوس قد عزم على الحرب في أوائل السنة ٣٣، فنهض إلى مادي والتقى صاحبها، وجدد السلم والصداقة، ثم عاد إلى أفسس، ودعا كليوبترة إليها، وبدأ بالحشد، وكان مجموع القوى الرومانية في الشرق لا يتجاوز التسع عشرة فرقة، فأبقى أربعًا منها في قيرونة، وسبعًا في مصر وسورية، وقدمت كليوبترة مائتي سفينة حربية، وعشرين ألف وزنة، وكان لا بد من إنشاء سفن جديدة، فأطلق أنطونيوس يد كليوبترة في بيروت لبناء السفن في أحواضها من خشب لبنان، وكان لا بد من الإسراع في العمل، فأمر بقطع أشجار الغابة المقدسة في جزيرة كوس، وتجمع لديه قبل البدء بالأعمال الحربية حوالي ثمانمائة سفينة.

وازداد أنطونيوس قوة بوصول القنصلين إلى معسكره، ووصول الشيوخ الثلاثمائة معهم، واعتبر أن حكومة رومة الشرعية أصبحت في أفسس لا في رومة، وجعل الشيوخ ينقضون القرار الذي اتُّخذ في رومة بنزع سلطة الحكم الثلاثي عنه وبتجريده من رتبة القنصلية، وكان لا يزال محبوبًا مؤيدًا في بعض الأوساط في إيطالية، فلو استغل وجود الشيوخ والقنصلين معه أكثر مما تقدم شرحه، ولو ارتفع في مخاصمة أوكتافيانوس إلى هذا المستوى القانوني الدستوري لتمكن من إزعاج مناظره وإضعاف معنوياته، ولكن أنطونيوس وقف عند هذا الحد.

ثم إن عددًا من الشيوخ استنكر وجود كليوبترة في أفسس في ذلك الظرف الروماني الداخلي، وطلب إلى أنطونيوس إخراجها وإبعادها، وكان أشد هؤلاء انفعالًا القنصل دوميتيوس أهينوبربوس، فإنه كان قد لمس امتعاض الرومانيين من علاقات أنطونيوس مع كليوبترة، وأدرك درجة الخطر السياسي الداخلي من بقائها في المعسكر، فامتنع عن مخاطبتها كملكة، واكتفى بذكر اسمها الشخصي، وألحَّ على أنطونيوس بوجوب إبعادها. وكان أنطونيوس يحترم دوميتيوس، فطلب إلى كليوبترة أن تعود إلى مصر، فلم تلجأ إلى الاستهواء كسابق عادتها، بل رشت «كنيديوس Canidius» أحد كبار الضباط المقربين، وجعلته يدافع عنها بما أوتي من حكمة، فأكد كنيديوس إلى أنطونيوس أنه لا يجوز إغضاب المصريين بعد أن أمسوا أكثر رجال الأسطول عددًا، كما أنه لا يجوز إغضاب من موَّل الجيش وقدَّم معظم العتاد، فعاد أنطونيوس عن قراره، وبقيت كليوبترة في المعسكر العام.
وفي ربيع السنة ٣٢، في إبان أعمال الحشد والتجييش، بينما كانت الحراب تُشحذ، والسيوف تُرهف، والتروس تُدق، رأى الزوجان الإلهان أنطونيوس وكليوبترة أن ينتقلا إلى جزيرة ساموس؛ ليشتركا في احتفال ديونيسوسي راقص كبير، احتفاء بديونيسوس الجديد وأفروديتة مصر! وظلَّت الرجال تتوافد على أفسس، فوصل «تركونديموتوس Tarcondimotus» قيليقية، الذي اتخذ لقب «صديق أنطونيوس» على ما سكَّه من نقود، و«أرخيلاوس Archealus» قبذوقية و«ديوتاروس Deiotaros» بفلغونية، و«ليكوميذس Licomedes» البونط، و«أمينتاس Amintas» غلاطية، وميتراداتس كوموجينة، وأمير حمص العربي يمبليخوس، وبوغود أمير موريتانية اللاجئ، وقدَّم ملكو النبطي العربي جنودًا ومؤنًا، وكذلك «أرتفسدس Artavasdes» المادي، ولم ترغب كليوبترة في اشتراك هيرودوس اليهودي بشخصه، لما كان لكلامه من تأثير في نفس أنطونيوس، ولكثرة عدد الساخطين عليها في المعسكر العام، فجعلت أنطونيوس يشغله بحرب محلية ضد جيرانه العرب. ولما بدأ يتغلب على هؤلاء أوعزت إلى والي البقاع، الذي حكم باسمها أن يعي أخصام هيرودوس؛ لتشغله وتضعفه في آن واحد، ثم ألحت على أنطونيوس بوجوب إلحاق مدينة غزة بممتلكاتها على حساب هيوردوس، وكان لغزة آنئذٍ أهميتها الاستراتيجية والاقتصادية التجارية.

وفي آيار السنة ٣٢، جعل أنطونيوس أثينة مقرًّا له، فتبعته كليوبترة إليها، فذكرت لياليه فيها مع زوجته أوكتافية، ولقيت من بعض الأوساط الأثينية شيئًا من السخط والسخرية على دور التفرقة، الذي كانت قد لعبته بين الزوج وزوجته الشرعية، فأوجبت التخلص من أوكتافية، فصدع أنطونيوس، وكتب إلى أوكتافية كتابًا رسميًّا بالطلاق، فقابلت أوكتافية الطلاق بالدموع، وعادت إلى خدن أخيها حاملة بنتها من أنطونيوس وابنه الأصغر من زوجته الأولى. وشاع ذلك في الأوساط الرومانية، فقوبل بامتعاض وسخط شديدين، وتمكن أوكتافيانوس من إقناع الجماهير بانقياد أنطونيوس لامرأة داهية خداعة، وخسر أنطونيوس بخروج أوكتافية من بيته في رومة حلقة وصل متينة كانت تربط بين مريديه، فإن أوكتافية ظلَّت حتى الساعة الأخيرة أمينة له، على الرغم من عدائه لأخيها، وصدَّق الجمهور ما كان يُروى عن مطامع كليوبترة بقول نُسب إليها، أنها ستعدل بين الناس من الكبيتول الروماني، وتسرَّب اليأس إلى قلوب الموالين لأنطونيوس، فاستنكروا ونفروا، وانحازوا الواحد تلو الآخر إلى جانب أوكتافيانوس.

وكان في طليعة المستنكرين النافرين «موناتيوس بلانكوس Munatius Plancus» ونسيبه «تيتيوس Titius»، فإنهما أعلنا فور وقوع الطلاق انضمامهما إلى معسكر أوكتافيانوس، ونقلا إليه محتويات الوصية، التي كتبها أنطونيوس، وأودعها عذارى ويستة لتفض بعد وفاته. فهب أوكتافيانوس لساعته يحاول الحصول على هذه الوصية؛ ليثبت بها ما كان قد شاع عن أنطونيوس من تبذير وإسراف، ورفضت العذارى تسليم الوصية، وقلن لأوكتافيانوس: إذا كان لا بد من الاطلاع عليها فخذها أنت بنفسك، فاخترق أوكتافيانوس حرمة المعبد، وتناول الوصية بيده وفضَّها، فإذا بأنطونيوس يعترف بقيصريون ابنًا شرعيًّا لقيصر، وإذا به يوزع الأراضي الرومانية في الشرق على كليوبترة وأولادها، وإذا به يوصي أنه في حالة وفاته في رومة يجب نقل جثمانه إلى الإسكندرية. وتُليت الوصية تلاوة علنية في مجلس الشيوخ، فانتصب أحدهم «كلويسيوس Calvisius»، وأدلى بتفاصيل أخرى أظهرت أنطونيوس في مظهر الانقياد والخنوع لأوامر سيدة مصر. ومما ادعى به أن أنطونيوس كان يهرع في بعض الأحيان لدلك أقدام كليوبترة، وأنه كان إذا جلس للقضاء أو تدبير شئون الدولة ووردت عليه رسائل كليوبترة، يوقف الأعمال؛ ليفض هذه الرسائل ويقرأها، وأنه إذا كان جالسًا في باحة من الباحات ومرَّت كليوبترة أمامه، يؤجل ما كان ينظر فيه إلى وقت آخر ويلتحق فورًا بها. ومما نقله أوكتافيانوس نفسه عن إنفاق كليوبترة في سبيل استرضاء أنطونيوس أنها أهدته أنواعًا منوعة من الأواني الذهبية، بينها وعاء للغائط من ذهب، صُنع خصيصًا لأنطونيوس.

وكان أوكتافيانوس قد دوَّخ بعض القبائل في البرية بين السنة ٣٥ والسنة ٣٣، وأنشأ عددًا من الثكنات المحصنة فيها، فاحتاط بذلك لهجوم بري على إيطالية قد يفاجئه به أنطونيوس، وكان أيضًا قد فرض شيئًا من هيبة رومة على القبائل الداقية الضاربة في حوض الدانوب الأسفل، وعاد إلى إيطالية ففرض الضرائب لجمع المال اللازم للحرب، فلقي بعض المقاومة، ولكنه سرعان ما أحبطها، وجاءت سياسة أنطونيوس في الشرق ضعيفة سخيفة، ففنَّدها أوكتافيانوس وقبَّحها، فالتفَّ الناس حوله وأيدوه، وانحاز إليه عدد متزايد من أنصار أنطونيوس.

وطلَّق أنطونيوس زوجته أوكتافية في أيار السنة ٣٢، فأنكر الرومان عليه فعله، ولم يروا له فيه عذرًا، ثم وُفِّق أوكتافيانوس إلى وصية أنطونيوس، وتلاها في السناتوس، فاضطربت بها الألسن، ورأى الناس في شطرها الأخير، الذي قضى بدفن أنطونيوس في الإسكندرية إلى جانب كليوبترة، وبتخصيص أولادها منه بأموال طائلة، دليلًا على عزم أنطونيوس أن يجعل الإسكندرية عاصمة الدولة بدلًا من رومة، فقالوا: إنه لم يعد رومانيًّا، وإنما أمسى أداةً بيد امرأة أجنبية.27 واستغل أوكتافيانوس هذا كله فأجمع الناس في خريف السنة ٣٢ على تأييده ﺑ «القسم conjuratio»، واعتباره قائدًا عامًّا في جهاد مقدَّس لدرء الخطر من الشرق، وشمل هذا القسم الغرب كله، فنزع أوكتافيانوس سلطة الحكم الثلاثي من يد أنطونيوس، واعتبره غير لائق لأن يكون قنصلًا في العام ٣١، ثم توجه إلى هيكل «بلونة Bellona» إلهة الحرب بصفته رئيس كهنة «الفيتيالس Fetiales»، وغمس سهمًا في الدم وسدده نحو الشرق بلاد العدو، وأعلنها حربًا مقدسة على كليوبترة لا على أنطونيوس.28
وأطلَّت السنة ٣١ق.م.، فإذا هو قنصل للمرة الثالثة، يعاونه في هذه الوظيفة «فاليريوس ميسلَّة كوروينوس Valerius Messalla Corvinus» بدلًا من أنطونيوس، وتمت الاستعدادات للحرب، فأقيم «مكيناس Maccenas» حاكمًا على إيطالية والعاصمة، وأنفذ «كورنيليوس غالوس Cornelius Gallus» إلى أفريقية؛ ليصد كل هجوم يأتي من الشرق،29 وأقلعت قوة بحرية إلى الغرب لتحمي شواطئه، وفي أوائل الربيع بعد أن أصبح البحر صالحًا للملاحة والمناورة، عَبَر أوكتافيانوس بحر الأدرياتيك، يحيط به عدد كبير من الشيوخ.

(١٧) أكتيوم

figure
سلالم الحصار البحري.
وكانت قوات أنطونيوس قد قامت إلى الشاطئ الأيوني عند مدخل الأدرياتيك في أيلول السنة ٣٢، فرابط ستون أو سبعون ألفًا من المشاة والفرسان في ساحل أبيروس والمورة، وكان معظمهم من الرومانيين أو الإيطاليين، وتجول في مياه البحر الأيوني من جزيرة كفلونية حتى جزيرة كورفو حوالي خمسمائة سفينة حربية. وكان أنطونيوس قد اتخذ من مدينة بتراس عند مدخل خليج كورنثوس مقرًّا له، وجعل خليج «أمبراكية Ambracia» قاعدة للأسطول، وكانت مدينة «أكتيوم Actium» تحرس مدخل هذا الخليج من الجنوب، ولكن أسبارطة كانت قد أيدت أوكتافيانوس، ردًّا على قساوة أنطونيوس في معاملة ملكها السابق، وكذلك لبَّة وكيدونية في جزيرة كريت،30 وكانت بيروت أيضًا قد ثارت على كليوبترة في شتاء السنة ٣٢-٣١، وعادت إلى سك العملة المدينية البيروتية،31 وكان ما كان من أمر وجود كليوبترة في المعسكر كما سبق وأشرنا، ومن تشعب الآراء واضطراب الحبل، فتثاقل أنطونيوس واحتار في أمره، فلم يبدأ بالهجوم، بل بقي منتظرًا قدوم خصمه، ولعله كان واثقًا من مقدرته في المناورة والقتال، وتفوقه في ذلك على أوكتافيانوس، فبات ينتظر وصول خصمه، معللًا نفسه أنه سينتصر في أية معركة برية مهما تنوعت ظروفها.
وحشد أوكتافيانوس ثمانين ألفًا من المشاة، واثني عشر ألفًا من الخيالة، وأربعمائة سفينة حربية، بينها البوارج الثقيلة التي خاضت معارك صقلية، والسفن الصغيرة الخفيفة السريعة المناورة والمناوشة، وتولى أغريبة قيادة الأسطول، فاتجه جنوبًا، وفاجأ بوغود الأفريقي في مرفأ «ميثوني Methone» في أقصى المورة، فقتله واستولى على المرفأ، فهدد تموين أنطونيوس بقطع مواصلاته مع مصر، وأوهمه أن الهجوم المنتظر سيهدف إلى اكتساح الميسرة واحتلال المورة. وفي خلال ذلك، انقض أوكتافيانوس على الميمنة ونزل في أبيروس، وأسرع منها جنوبًا إلى خليج أمبراكية قاعدة الأسطول المصري الأنطوني، واحتل شاطئه الشمالي وحصَّن مراكزه فيه. ثم قضى أغريبة على وحدات بحرية مصرية أخرى، وجاء يحصر أسطول الخصم في قاعدته في خليج أمبراكية نفسه.
figure
أوكتافيانوس (متحف مونيخ).
figure
أغريبة يمين أوكتافيانوس ودماغه المفكر.
وهبَّ أنطونيوس يمنع هذا الحصار البري البحري، فأنفذ قوة من الخيالة إلى معسكر أوكتافيانوس؛ لتقطع عنه مياه الشرب، فاندحرت وانحاز بعضها إلى أوكتافيانوس، وكان بين الذين انحازوا أميران من أمراء تراقية وبفلغونية. فقال أوكتافيانوس قوله المأثور: «إني أحب الخيانة، ولكني لا أحب الخائنين.» وأعاد أنطونيوس الكرة فرُدَّ على أعقابه، وانحاز أمينتاس بخيالته الغلط الألفين إلى معسكر أوكتافيانوس،32 وأيقن أنطونيوس أن لا فائدة تُرتجى من هجوم ثالث، فأمسى هو وجيشه في حالة حصار؛ لأن أغريبة كان قد نجح في قطع المدد البحري الآتي من مصر أو المورة، واضطر أنطونيوس أن يستقدم الطعام على ظهور الرجال. وكان جد بلوتارخوس المؤرخ الشهير أحد هؤلاء الذين أُكرهوا على حمل الطعام على ظهورهم عبر التلال من الشرق إلى معسكر أنطونيوس. فوهنت عزائم الرجال، وثقلت همتهم، وشرع الضباط والأمراء ينسحبون الواحد تلو الآخر؛ ليلتحقوا بمعسكر أوكتافيانوس. وحاول أنطونيوس أن يحول دون ذلك بالقساوة، فأمر بيملبيلخوس أمير حمص العربي، وبأحد أعضاء السناتوس فأُعدما، فأدت هذه القساوة إلى تعدد حوادث الفرار لا إلى إيقافها. وفرَّ في هذه الآونة دوميتيوس — على الرغم من مرضه — ولجأ إلى أوكتافيانوس، وتبعه «دليوس Dellius».
فدعا أنطونيوس إلى مجلس حربي، فرأى كنيديوس أن يُستَغنى عن الأسطول، وأن ينسحب الجيش بكامله إلى مكدونية ويقاوم فيها. أما كليوبترة، فإنها استمسكت بالأسطول، ووافقها أنطونيوس على ذلك، فعبأ أسطوله بنصف قوته البرية، أي بحوالي خمسة وثلاثين ألفًا، واستعد لكسر الحصار البحري بالقوة والإفلات من خليج أمبراكية والذهاب إلى مصر. وفي الثاني من أيلول، خرج إلى البحر الأيوني ينفذ خطته، فنجا ببعض سفنه ورجاله وخسر الباقي، ففاز أوكتافيانوس بثلاثمائة بارجة، فأحرق معظمها وزين بمقدماتها البرونزية الأثر التذكاري الذي أقامه في معسكره عند مدخل الخليج، وجانبًا من الهيكل الذي شيد ليوليوس في رومة. وحاول كنيديوس أن ينهض بمن بقي من الجنود إلى مقدونية فلم يفلح ففرَّ إلى مصر، واستسلم الجنود بعد مفاوضة دامت سبعة أيام، فحيَّا الجنود جميعهم أوكتافيانوس إمبراطورًا للمرة السادسة.33

(١٨) الإسكندرية

figure
كليوبترة في أواخر عهدها على قطعة من النقود سكت في عسقلان.
وعادت كليوبترة إلى الإسكندرية رافعة «أكاليل النصر»، وقبضت على من شكت بإخلاصهم، وأمرت بهم فأُعدموا، وأبحر أنطونيوس إلى قيرونة، فوجد أن جنوده فيها كانوا قد التحقوا بغالوس، فكاد ينتحر لولا تدخل بعض المقربين إليه، ثم تابع الإبحار إلى الإسكندرية، وبدأت كليوبترة تعد الخطط، فاقترحت النزوح إلى إسبانية والسيطرة على مناجمها الفضية، وتمثيل دور سرتوريوس مرة أخرى. ومما اقترحته أيضًا وبدأت بتنفيذه، إنشاء دولة في المحيط الهندي، وأمرت بنقل بعض سفنها عبر البرزخ إلى «هيرونوبوليس Heronopolis» على البحر الأحمر، ولكن ملكو ملك الأنباط هاجمها وأحرقها، ورأت أن تتودد إلى ملك مادي لتتحالف معه، فأمرت بإعدام «أرتفسدس Ariavasdes» ملك البرت، الذي كان لا يزال لاجئًا في مصر. وعرضت هذا كله على أنطونيوس لتنال موافقته وتعاونه، ولكن كارثة أكتيوم كانت قد حطَّمت أعصابه فأخلد إلى العجز، ورضي بالحرمان، وانزوى في بيت عند الشاطئ يمثل فيه دور تيمون المبتعد عن غيره. وحاولت كليوبترة إقالته من عثرته بشتى أنواع اللهو، فانتقل إلى قصرها، ولكنه أبى الدفاع عن مصر عند النيل؛ لأنه خشي انحياز الجنود إلى جانب خصمه كما فعلوا أخيرًا في قيرونة، وكما كانوا سيفعلون قريبًا في سورية لدى وصول أوكتافيانوس إليها، وحفظ عهده جماعة من المصارعين كانوا يتدرَّبون في شبه جزيرة كيزيكوس عند بحر مرمرا؛ ليحتفلوا بانتصاره على أوكتافيانوس، ووفُّوا وقاموا إلى مصر عبر سورية، ولكن ديديوس منعهم من العبور، فلما جاء ميسَّالة، قائد أوكتافيانوس، أمر بهم فقُتلوا.
ورأت كليوبترة أنها إذا إذا قاتلت وحدها دفاعًا عن مصر وقدِّر النصر لأوكتافيانوس ذهب ملكها وملك أولادها أيضًا. أما إذا حذت حذو هيرودوس وغيره من ملوك الشرق وأمرائه، ووضعت تاجها بين يدي أوكتافينوس، بقي لأولادها أمل في الاستمرار في الحكم. وهكذا، فإنه عندما طالب المصريون بالدفاع عن بلادهم والصمود في وجه أوكتافيانوس نصحت بالاستسلام حقنًا لدماء رعاياها!34
وفي صيف السنة ٣٠، قام أوكتافيانوس إلى مصر عن طريق سورية، بينما زحف غالوس من الغرب واحتل «برتونية Paraetonium» في غرب الإسكندرية، وأراد أنطونيوس أن يصد غالوس، ولكنه خسر أربعين سفينة في مياه برتونية، فكتب إلى أوكتافيانوس يؤكد استعداده للانتحار إذا كان في ذلك ما يخلص كليوبترة من الهلاك، فلم يجب أوكتافيانوس، واحتفظ بالصمت، ولا صحة فيما يُعزى إلى كليوبترة من خيانة من هذا الظرف،35 وجل ما هنالك أنها قدمت تاجها وصولجانها إلى أوكتافيانوس؛ راجية أن يبقي الملك لأولادها، أما هو، فإنه طلب إليها رسميًّا أن تنزع السلاح، وأكد لها سرًّا أن لا خوف عليها، وكان أوكتافيانوس يعلل نفسه بالاستيلاء على أموال كليوبترة وجواهرها؛ ليسد بها مطالب الجند. وكانت كليوبترة قد بدأت تشيد ضريحها بالقرب من هيكل إيسيس، فلما اقترب أوكتافيانوس من الإسكندرية لجأت إلى ضريحها بمالها وجواهرها واثنتين من جواريها، فكدَّست أموالها في طبقة سفلى، ولجأت هي إلى غرفة عليا، وباتت تنتظر قدوم الفاتح، فإن أبقى الملك لأولادها سلمته ما تمنى، وإن هو أبى أضرمت النار بالغرفتين. ووصلت طلائع الفرسان إلى ضواحي الإسكندرية في الحادي والثلاثين من تموز، فهبَّ أنطونيوس لقتالهم وشتت شملهم. وفي الليل سُمعت أصوات موسيقية شجية تمر بالمدينة من غربها حتى شرقها فتخرج منها، فاعتبرت أصوات جوقة ديونيسوس الذي صمم على ترك أنطونيوس وشأنه. وفي الصباح انحاز فرسان كليوبترة وبحارتها إلى جانب أوكتافيانوس، وسمع أنطونيوس أن كليوبترة ماتت فانتحر بخنجره، ولكنه لم يمت فورًا، ثم سمع أنها لا تزال حية فطلب أن يُحمل إليها، وما إن وصل حتى لفظ أنفاسه بين ذراعيها، ودخل أوكتافيانوس الإسكندرية في هذا اليوم نفسه في أول آب السنة ٣٠. ولم يُعيَّش إمبراطورًا؛ لأنه دخل المدينة بدون قتال، ولكن دخوله إليها ظهر في «التقويم Fasti»؛ ليخلد ذكرى خلاص رومة من الخطر الذي أحدق بها،36 وفور وصوله إلى الإسكندرية أرسل صديقه «بروكولايوس Proculeius» يقبض على كليوبترة حية. فذهب إلى ضريحها وكلمها فأجابته من وراء شعرية النافذة، مُصرَّة على حفظ التاج لأحد أولادها، فعاد إليها في اليوم التالي، وطلب إلى رفيقه غالوس أن يحادثها، وفي أثناء الحديث تسلق هو وبعض رفاقه حائط الضريح، ودخلوا على كليوبترة من نافذة ثانية، وقبضوا عليها. واستولى أوكتافيانوس على أموالها، ونقلها إلى رومة، فتمكن بها من سد مطالب الجنود، ودفع أثمان الأراضي التي صودرت، ومن إنشاء بعض المنشآت العمومية وتوزيع الحصص على أفراد الشعب، وسقطت الفائدة المطلوبة لأجل الديون من ١٢ إلى ٤ في المائة.37
وسمح أوكتافيانوس لكليوبترة بدفن أنطونيوس، وأمر ﺑ «تورليوس Turullius» وكاسيوس البرمي فقُتلا؛ لأنهما قتلا قيصر، وقضى كذلك بإعدام «أوينيوس Ovinius» عضو مجلس الشيوخ الروماني وكنيديوس الضابط يمين أنطونيوس، ولم يرضَ عن بقاء أنطونيوس الصغير في قيد الحياة؛ لأن والده أنطونيوس كان قد رغب في أن يكون هذا الولد خليفته. وكانت كليوبترة قد حاولت إبعاد قيصريون إلى المحيط الهندي؛ لينجو بحياته، فقبض أوكتافيانوس عليه وقتله؛ لادعائه بأنه ابن قيصر من كليوبترة، ورغب أوكتافيانوس رغبة أكيدة في زوال كليوبترة، وانتظر الرومانيون إنزال عقاب الموت بها، ولكن أوكتافيانوس أبى أن يقتل امرأة، وآثر أن تقتل هي نفسها. وكان يعلم أنها تكره كُرهَ الموت أن تظهر في موكبه في رومة مكبلة ذليلة، فأقدم بها على الانتحار بالتهويل غير المباشر بأنه سيجرَّها إلى رومة بعد أيام قلائل، فضعف احتمالها، ونفد صبرها، واستأذنت أن تزور قبر أنطونيوس، فكان لها ذلك. وعادت في العاشر من آب إلى قصرها، واستحمت وتناولت آخر وجباتها، ثم كتبت إلى أوكتافيانوس أن يسمح بدفنها قرب أنطونيوس، فما كاد أوكتافيانوس يطلع على مضمون هذه الرسالة حتى أدرك ما جرى، فأنفذ رسله على جناح السرعة إلى قصر كليوبترة، فوجدها ملقاةً على سريرها جسدًا هامدًا خافتًا. واختلف القدماء في كيفية الانتحار، ولا يزال هذا الأمر غامضًا حتى يومنا، وجل ما وُجد آنئذٍ من آثار فعل الانتحار وخزتان نحيفتان في ساعد كليوبترة الأيسر، ولا نعلم ما إذا كانت هاتان النخستان أثر لسعة صل أو وخز إبرة سامة، ولم يرَ أحد صلًّا في القصر، وإنما قال البعض: إنهم رأوا صلًّا خارج القصر عند الشاطئ، فاعتبر أوكتافيانوس الصل سبب الوفاة.38

هوامش

(1) CICERO, Phil. II, 29, 71; III, 5, 12. “testamento, ut dicebas, filius”.
(2) DEUTSCH, M.E., Caesar’s Son and Heir, (1928), 149; Antony’s Funeral Speech (1928), 127.
(3) SUETONIUS, Dio, Iul. 84, 2.
(4) CICERO, ad Att., XVI, 15.
(5) BONDURANT, B.C., Decimus Julius Brutus Albinus (1909); DRUMANN-GROEBE, Gesch. Roms. IV; TYRELL and PURSER, Corresp. of Cicero, VI.
(6) DION CASS., Hist. Rom., 46:29–39; APP., Bell. Cie., 3:53–73; SUET., Aug., 10-11.
(7) APP., Bell. Civ., 2–5; VELLEIUS, 2; BRUCGEMANN, F., De M. Aem. Lepidi Vita, (1889).
(8) AUG., Mon, Ancyr., 7; SUET., Aug., 27; App., Bell. Civ., 4:2, 5:95; HOMO L., Haut-Empire, 6; RICE HOLMES, T., Rom. Rép., I–II.
(9) CONWAY, R.S., The Proscription of 43B.C., (1928); KLOEVEKORN, H., De Proscriptionibus a.a. Chr. 43, (1891); CHARLESWORTH, M.P., The Avenging of Caesar, Cam. Anc. Hist., X, 19–22.
(10) App., 4:105–131; DIO CASSIUS, 47:42–49; COLLART, P., Philippes, (1937).
(11) App., 5:32–49; HEYWOOD, W., Hist. of Perugia, (1910).
(12) CICERO, Letters and Philippics; App., Bell. Civ., 2–5; DIO CASSIUS, 42–49; DRUMAN-GROEBE, Gesch. Roms, IV, 563–591; RICE HOLMES, T., Architect of the Rom. Emp., (1928); HADAS, M., Sextus Pompey, (1939).
(13) PLUTARCH, Ant.; VOLKMANN, H., Cleopatra, 90–106: TARN, W.W., Triumuirs, Cam. Anc. Hist., X, 35–40.
(14) DION CASS., 48:27-28; App., 5:55-56, 60–65; PLUTARCH, Ant., 30-31.
(15) DION CASS., 48:54, 49:1–10; App., 5:94–122, 142–144, HOMO, I., Haut-Emp., 10-11.
(16) DION CASS, 48:36–38; App., 5:72-73; LIV. PER., 127; HOMO, L., ep. cit., 10-11; SFLME, R., Roman Revolution, (1939).
(17) YOLKMANN, H., Cleopatra, 116–118.
(18) RICE HOLMES, T., The Architect of the Roman Empire, I, 227–231.
(19) DIO CASS, 47 ff; DRUMANN-GROEBE, Gesch Roms, IV, 250–258.
(20) DION CASS, 49:32, 41; PLUTARCH, Ant. 36, 54; STRABO, Geog., 14:5; Jos. Ant., 15:3, 4, Ind., 1:18; VOLKMANN, H., Cleopatra, 121–132, 145–151.
(21) PLUTARCH, Ant.; SUETONIUS, Caesar and Augustus; App., 3–5; DIO CASS., 47 ff., DRUMANN-GROEBE, Gesch. des Roms, IV, 250–258.
(22) SUETONIUS, Aug., 28; DIO CASS., 50:1; PLUTARCH, Ant.
(23) TRAN, W.W. and CHARLESWORTH, M.P., War of East against West, Cam. Anc. Hist., X, 90–98; VOLKMANN, H., op. cit., 155-156; CHARLESWORTH, M.P., Propaganda of Mark Antony, Class. Quart., 1933, 172–177.
(24) SCOTT, K., Octavian’s Propaganda and Antony’s “de sua ebrietate”, Class. Phil., 1929, 133; TRAN and CHARLESWORTH, op. cit., 92.
(25) VOLKMANN, H., op. cit., 157-158.
(26) DIO CASS., 50:2-3; SUETONIUS, Aug., 17; HOMO, L., Haut-Empire, 15-16; VOLKMANN, H., op. cit., 159-160; TRAN and CHARLESWORTH, op. cit., X, 90–96.
(27) DIO CASS., 50:3–5; SUETONIUS, Aug., 17; PLUTARCH, Ant., 55.
(28) HOMO, L., Haut-Empire, 16; TARN and CHARLESWORTH, op. cit., X, 97–99.
(29) DESSAU, 2672 (C.I.L., XI, 623).
(30) DIO CASS., 51:5, 6.
(31) KAHRSTEDT, U., Klio, 1910, 277.
(32) HORACE, Epode, IX, 17-18; SERVIUS, Aen, VI, 612.
(33) DIO CASS., 51:1–9; SUETENIUS, Aug., 17; PLUTARCH, Ant., 68–72; TARN and CHARLESWORTH, op. cit., X, 100–106; VOLKMANN, H., op. cit., 176–188; KROMAYER, J., Aktium, cin Epilog, Hermes, 1933, 361–383; RICE HOLMES, T., Architect of Rom. Emp., I, 253–260; TARN, W.W., Battle of Actium, Journ. Rom. Stud., 1931, 173–199; RICHARDSON, G.W., ibid., 1937, 153–164.
(34) PSEUDO-ACRO, Horace, Odes, I, 37 (Keller, I, 133).
(35) BLUMENTHAL, F., Wiener Studien, 1915, 92–97; TARN, W.W., Journ. Rom. Stud., 1931, 196.
(36) C.I.L., Fasti Fratrum Arvalum, 214, Fasti Amiterni, 244.
(37) TARN and CHARLESWORTH, op. cit., X, 108-109.
(38) SPIEGELBERG, W., Weshalb wahlte Kleopatra den Tod durch Schlangenbiss? (Sitzungberichte der bayrischen Akad. der Wissenshcaften 1925, II, 1–6); SBORDONE, F., La Morte di Cleopatra (Rev. indo-greco-italica, 1930, 1–20); IDRIS BELL, H., Egypt from Alexander to the Arab Conquest, (1948), 141, n. 39; VOLKMANN, H., Cleopatra, (1959), 189–207.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤