(١) تدبير شئون الشرق
وبلغ أوكتافيانوس ما في نفسه في آب السنة ٣٠ق.م.، فأمر بدفن كليوبترة إلى جانب
أنطونيوس في الإسكندرية، وأقام لجاريتيها تمثالين أمام ضريح سيدتهما، اعترافًا
بشجاعتهما وأمانتهما، وقبلت أوكتافية أبناء كليوبترة الثلاثة وربتهم في بيتها، ثم
انقطع خبر الصبيين واندثر أثرهما، وما القول بأن زينب الزباء تحدرت من أحدهما إلا
حديث خرافة، أما أختهما، فإنها تزوجت من «يوبة Juba» الثاني ملك موريتانية في أفريقية، وأنشأت إسكندرية جديدة
على شاطئ مراكش، ولكن غايوس قتل ابنها بطليموس، فانقطعت بموته سلالة البطالسة،
وشُطب اسم أنطونيوس من تقويم الأيام الرومانية
Fasti، وقُلبت تماثيله، ونُقضت القرارات التي
اتخذت في المدن لتكريمه، وحرَّم السناتوس الجمع بين الاسمين: مركوس وأنطونيوس.
وأشهر أحفاده الذين تحدروا منه بزواجه من أوكتافية شقيقة أوكتافيانوس الإمبراطوران
غايوس ونيرون.
وعزا أوكتافيانوس انتصاره في أكتيوم إلى الإله أبولون، فوسَّع هيكله فيها، وجعل
الاحتفال بعيده فيها خماسيًّا مساويًا في الأهمية للاحتفال بأعياد زفس في أوليمبوس،
وكرَّس أوكتافيانوس لأبولون في أكتيوم مقدمات عشر من السفن التي أسَرَ وأحْرَقَ في
الموقعة ضد أنطونيوس وكليوبترة، وبينها مقدم سفينة أنطونيوس نفسه. وأنشأ على شاطئ
خليج أمبراكية الشمالي وبالقرب من المكان الذي أقام فيه معسكره في موقعة أكتيوم
مدينة جديدة، أسماها «مدينة النصر
Nicopolis»،
وجعلها عاصمة معظم مدن أكرنانية وأبيروس. وظهر في مسكوكاته صنوًا للأنتيغونيين
الذين قهروا الباطالسة، فحمل بعضها رسم نبتون يطأ الكرة بإحدى قدميه، وزين تمثال
النصر الواقف على مقدمة مركب أنتيغونوس غوناتاس بعض هذه المسكوكات، والإشارة هنا
إلى انتصار أنتيغونوس غوناتاس على بطليموس الثاني في السنة ٢٥٨ في موقعة سموثراقية
البحرية.
1
وجعل أوكتافيانوس مصر ولاية رومانية وربطها بشخصه، ونظم أمورها تنظيمًا خصوصيًّا،
كما سنرى فيما بعد، وكان قد ثبت هيرودوس في الحكم على فلسطين ما عدا عسقلان، فأعاد
لمدن الساحل الفينيقي سابق حرياتها، وخصَّ بيروت بعطفه لقيامها في وجه كليوبترة،
فوسع سلطتها، وضرب عُنق ألكسندروس أمير حمص؛ لأنه كان قد دسَّ على أخيه يمبليخوس
لدى أنطونيوس فسبب قتله، وحرر خلقيس البقاع (مجدل عنجر)، وكافأ ليسنياس أميرها بعد
وفاته بأن جعل ابنه «زينودوروس
Zenodorus» حاكمًا
على «أبيلة
Abila» (وادي بردي). ولم يتدخل
أوكتافيانوس في شئون البلدان وراء الفرات، ولم يثأر للرومانيين الذين ذُبحوا في
أرمينية، ولكنه أبقى أخوة «أرتاكسس
Artaxes» ملك
أرمينية رهائن لديه. ومع أنه قبل تيريداتس لاجئًا في سورية في السنة ٣٠، فإنه لم
يقدم له ما طلب من معونة، واستقبل رسل «فراتس
Phrates» استقبالًا ودِّيًّا.
2
وبذل معظم أمراء آسية الصغرى الطاعة لأوكتافيانوس قبيل انتصاره، ونزلوا على حكمه،
فثبتهم فيما كانوا عليه، وكان قد أصرَّ «تركونديموتوس
Tarcondimotus» أمير الأمانوس على الإباء، وقُتل محاربًا في سبيل
أنطونيوس، فخلع أوكتافيانوس ابنه «فيلوباتور
Philopator» وضم الأمانوس إلى قيليقية. وعطف أوكتافيانوس عطفًا
خصوصيًّا على «أمينتاس
Amyntas» ملك غلاطية، الذي
انحاز إلى جانبه قبيل موقعة أكتيوم، وقدم خدمات كثيرة، فكأفأه أوكتافيانوس بإلحاق
أسورية وقيليقية «تراخية
Tracheia» وزربة ولارندة
إلى حكمه، وظل عاطفًا عليه حتى وفاته في السنة ٢٥، أما أرخيلاووس ملك قبذوقية، فإنه
ظل على ما كان عليه، ولا نعلم كيف تمكن «بوليمو
Polemo» ملك البونط من استمالة أوكتافيانوس.
3
ونالت كل من «لبَّة Lappa» و«كيدونية Cydonia» حريتهما في جزيرة كريت، وكانتا قد أيدتاه
قبل أكتيوم. أما أسبارتة حليفة أوكتافيانوس الوحيدة في بلاد اليونان، فإنها توسعت
توسعًا ملموسًا، وسيطرت على الألعاب الأكتية، وأمسى سيدها «إفريكلس Eurycles» الذي حارب إلى جانب أوكتافيانوس نافذ
الكلمة، مستبدًّا في المورة وفي خارجها أيضًا.
(٣) كراسوس والبلقان
وكان أوكتافيانوس قد وكل إدارة شئون البلقان إلى زميله في قنصليته الرابعة
«ليكينيوس كراسوس
Licinius Crassus»، وكان هذا
قد ترك أنطونيوس بعد موقعة نولاخوس في مياه صقلية والتحق بأوكتافيانوس، وكان قائدًا
قديرًا ومدبرًا حكيمًا. فلما انهزم أنطونيوس في ميدان القتال في اليونان تولى
كراسوس شئون البلقان، وأبقى تحت إمرته أربع فرق كاملة، ومع أن خطر الداقيين كان قد
تضاءل، فإن قبيلة جرمانية عُرفت ﺑ «البسترناي
Bastarnae» عبرت الدانوب، وعاثت في البلاد فسادًا، فجرد كراسوس
في السنة ٢٩ حملة عليها، وذبح ملكها «دلدو
Deldo»
وعددًا كبيرًا من أتباعه.
4
(٤) سلم ومسالمة
ولم يصل أوكتافيانوس إلى رومة قبل آب السنة ٢٩، فدخلها مظفرًا منصورًا، واحتفى
الرومانيون به احتفاء كبيرًا، وحرص هو على أن يكون إكرامهم له لأجل خلاصهم من الخطر
الذي أحدق بهم من الشرق، وليس لمناسبة تغلبه على أنطونيوس. وهكذا، فإنه أبى أن يدخل
العاصمة «زعيمًا dux» زعيم حزب معين، بل أمر أن
يكون منقذًا لرومة كلها من خطر طارئ عليها، وأدرك شعراؤه غايته في ذلك، فنسجوا على
منواله، مؤكدين أنه لو تم انتصار كليوبترة لتمشرقت الدولة بأسرها.
وغالى الرومانيون في الإكرام والتبجيل، ولكن أوكتافيانوس لم ينتشِ، بل ظل واعيًا
متنبِّهًا، وأدرك مع صديقه وزميله ماكيناس أن لا بد من إعادة النظر في نظام الحكم؛
ليدرأ نشوب اضطرابات داخلية جديدة. وكان ماكيناس قد قال له: «إن سبب اضطرابنا هو
تزايد السكان، وتكاثر واجبات الدولة، فقد تنوعت الأجناس وتفاوتت المواهب، وتضاربت
الأمزجة والرغائب، فغدا عمل الحكومة واسعًا كبيرًا لا يتم إلا بعد الجهد
الجهيد.»
5 أدرك أوكتافيانوس هذه الحقيقة منذ وصوله إلى رومة، ورغب رغبة أكيدة في
الإصلاح الإداري، ولكنه رأى أن لا بد من التمهيد له بإعادة الطمأنينة إلى النفوس
وتنمية الشعور بالاستقرار، فقضى سنتين كاملتين يعمل لتحقيق هذا الهدف، وراح يوزع
الحنطة والحبوب بسخاء
panis et circenses؛ ليُذهب
عن البال مصائب الماضي القريب، وشرع في الوقت نفسه بتشييد المباني العمومية، وإنشاء
الطرقات؛ ليشعر الناس بأن الاستقرار قد عاد إلى سابق عهده. وسدد الديون التي
استدانها، وغض النظر عن ديون الآخرين للدولة، واهتم بشأن الشيوخ الذين خسروا
أموالهم، وأعاد إليهم كرامتهم، فعمت الثقة الأسواق والمصارف وتناقصت الفوائد، فأمست
ثلث ما وصلت إليه في أثناء الحرب الأهلية. وأزاح كابوس الحرب عن صدور الناس، فأقفل
أبواب هيكل «يانوس
Janus» بالتجلة والاحترام،
وأعلن أنه أحرق كل الوثائق التي تستذنب وتدين، وبدأ بتسريح جيشه على نطاق واسع،
فأمن أصدقاء أنطونيوس وأتباعه، وارفضَّت عنهم المخاوف، ودفع أوكتافيانوس لجنوده
تعويضاتهم كاملة مكملة، وأرسلهم إلى المستعمرات في إيطالية، وإلى بعض المدن في
الولايات البعيدة كقرطاجة في أفريقية و«باريوم
Parium» في ميسية وبيروت في سورية. فركن الناس إليه، واستسلموا
واستراحوا.
6
وبعد هذا القدر الكبير من التطمين والتمهيد التفت أوكتافيانوس إلى نفسه، إلى
مركزه في الدولة، وإلى صلاحياتها فيها، أي إلى قائد قدير وراءه جيش كانت
الإمبراطورية الواسعة الأطراف والحرب الأهلية قد أثبتتا وجوب بقائه والاعتراف به،
وكان هو حذورًا يقظًا حكيمًا، سديد الرأي بعيد الغور، فرأى ألا يفرض نظامًا جديدًا
كاملًا على الرومانيين دفعة واحدة. ولعله لم يكن لديه في أي وقت من الأوقات نظام
جديد كامل شامل، فإنه كان بطبيعته حذورًا، يؤثر الفحص والاختبار والتأني قبل
الانتقال من دور إلى دور.
وكان شخص أوكتافيانوس قد أمسى «مقدسًا
sacrosanctus»، لا تُخرق حرمته منذ السنة ٣٦ق.م.،
ولحظ أوكتافيانوس أن جميع كبار القادة العسكريين الذين طمعوا بالسلطة السياسية
كانوا قد لمسوا الحاجة إلى تريبون شعبي يتعاونون معه للوصول إلى أهدافهم، وكانت
ظروف «سولَّا
Sulla» قد أظهرت بوضوح أن إصلاح
دستور الدولة لا يتم بدون رضى الترابنة وموافقتهم. وكان أوكتافيانوس بطريقًا من
البطارقة، لا يجوز له ترشيح نفسه لمنصب التربنة، وكان باستطاعته أن ينسج على منوال
«كلوديوس
Clodius»، فينتمي بالتبني إلى عائلة
بليبية شعبية، ولكنه كان بطريقيًّا حقيقيًّا فأبى ولم يفعل. وعاد إلى السناتوس في
السنة ٣٠ق.م.، ووسَّع قدسية شخصه، فجعلها تشمل امتيازات أخرى، منها السلطة على
الإكراه، ومنها حقه في تنفيذ صلاحياته خارج المدينة وإلى بعد ميل عن أسوارها،
وهكذا، فإنه فاز بصلاحيات تريبونية «غير محددة».
7
أما اللقب «إمبراطور
imperator»، فإنه كان قد
استُعمل في عهد الجمهورية نعتًا يُنعَت به القائد المنتصر. وكان هذا النعت يجيء بعد
اسم القائد لا قبله، وكان يوليوس قيصر قد أظهر ميلًا لجعل هذا النعت كنية من كناه
cognomina، ولكنه لم يثابر على ذلك مثابرة
سولَّا على الكنية السعيد
felix، أو مثابرة
بومبايوس على الكنية «العظيم
magnus». وجاء
أوكتافيانوس فجعل في السنة ٤٠ اللفظ «إمبراطور» اسمه الأول
praenomen، فأحله محل الاسم غايوس، وتردى
بالأرجواني الكامل، ثوب الإمبراطور، ثم حصر الأرجواني الكامل بنفسه، وعلى الرغم من
هذا كله، فإن اللقب الإمبراطور ظلَّ لقبًا غير رسمي، فإن طيباريوس وغايوس وكلوديوس
لم يستعملوه. وأول من عاد إليه بعد أوكتافيانوس كان «أوثون
Otho».
8
ولم يشأ أوكتافيانوس أن يظهر متميزًا بهذا الشكل دون التظاهر بالمحافظة على
التقاليد الرومانية. ولعله كان مخلصًا في ذلك؛ لأنه كان رومانيًّا لا غشَّ فيه،
فالتفت إلى الكهنوت والكهنة، وكان لبيدوس لا يزال «الكاهن الأعظم Pontifex Maximus» كما سبق وأشرنا، فلم
يتعرض أوكتافيانوس له بشيء، وإنما اكتفى باللقب «عائف augur»، وأعاد النظر في لوائح الكهنة، بناء على طلب السناتوس،
فملأ المراكز الشاغرة، وأحسن انتقاء الكهنة الجدد، وأعاد إلى الحياة الدينية
الرومانية سابق رونقها، فاشتهر بمحافظته على التقليد والدستور، وقدر الكهنة
لأوكتافيانوس خدماته، فذكر «الراقصون sallii» منهم
اسمه في طقوسهم، وأوجب السناتوس الصلاة لأجله، وسكب الخمور له في جميع المآدب
العمومية.
وفي السنة ٢٨ انتُخب أوكتافيانوس وأغريبة قنصلين، وكانت هذه قنصلية أوكتافيانوس
السادسة، وتميَّزت هذه القنصلية بعدم تغيب القنصلين عن رومة طوال مدة الوظيفة،
وبعنايتهما بالإحصاء لأول مرة بعد السنة ٧٠ق.م.، وتحاشى الاثنان اتخاذ اللقب
«المحصي
censor»، ولكنهما مارسا «صلاحيات الإحصاء
censorial potestas» بصفتهما القنصلية.
وبناء على عرف قديم سبق السنة ٤٤٣ق.م.، سنة التفريق بين القنصل والمحصي. وكان السبب
في هذا التحاشي أن المحصي كان قد أمسى في نظر الرومانيين مؤدب الشيوخ
ومجلسهم،
9 فلم يرَ القنصلان موجبًا لتنفير الشيوخ وإقلاقهم، ورأيا أن يمارسا
صلاحيات المحصي بصفتهما قنصلين؛ ليشعر الشيوخ بأن لهم يدًا في الإصلاح المنشود.
ورضي الشيوخ عن أوكتافيانوس وعن زميله، وتعاونوا معهما تعاونًا وثيقًا شاملًا وقضت
سياسة التطمين والمسالمة التي اتبعها أوكتافيانوس بإصدار عفو عام عن كل ما جرى قبل
السنة ٢٨،
10 فقوبل عمله هذا بارتياح عظيم، وظهرت مسكوكات السنة ٢٨ تحمل العبارة:
“liberatis populi Romani vindex”.
(٥) عودة إلى النظام الجمهوري
وفي الثالث عشر من كانون الثاني سنة ٢٧،
أعلن أوكتافيانوس لشيوخ الدولة أنه ينوي إعادة ما تسلم من سلطان وقوة إلى المجلس،
فقابله مؤيدوه في المجلس بوابل من الصياح والاحتجاج والاستنكار، فظهر مرة أخرى
بمظهر المسالم البعيد عن الإكراء البريء من المطاعن، المنزَّه عن النقائص. ونزولًا
عند رغبة هؤلاء الصاخبين، الذين استنكروا استعفاءه قبل «القنصلية بالوكالة
Pro consule» في إسبانية وغالية وسورية
ومصر، أي الولاية على هذه الولايات باسم القنصل، وقيادة الجيوش فيها، وذلك لمدة عشر
سنوات. واجتمع الشعب في مجلس ما، ووافق على هذه القرارات، فزادها صحة وثبوتًا. ولما
كانت هذه الولايات تشغل القسم الأكبر من الجيش أمسى أوكتافيانوس يتصرف بقوة عسكرية
كبيرة، ويتكلم باسمها. ومع أن العرف قضى بألا يمارس وكيل القنصل صلاحياته القانونية
والعسكرية في رومة، بل في الولاية أو الولايات التي عُيِّن عليها، فإن هذا العرف لم
يشمل أوكتافيانوس؛ لأنه كان وكيل قنصل «بروقنصل» في ألويات، وقنصلًا في الوقت نفسه
في رومة.
11
وفي السادس عشر من كانون الثاني من السنة نفسها ٢٧ق.م.، أطلق السناتوس على
أوكتافيانوس لقب أوغوسطوس، أي الجليل المحترم، وأطلق هذا اللفظ نفسه على الشهر
«سكستيليس
Sextilis»، فراج اللقب الجديد
رواجًا كبيرًا، وكاد لا يُعرف أوكتافيانوس بعدئذٍ إلا به، ولم يكن في هذا التقليب
الرسمي أي جديد، فسولَّا كان «سعيدًا»، وبومبايوس كان «عظيمًا»، ولكن انتقاء اللقب
الجديد كان موفقًا من الناحية الساسية؛ لأنه حمل شيئًا من التعظيم الديني، إذ ذكَّر
الرومانيين برومولوس اﻟ
augusto augurio، الذي أسس
المدينة.
12
ولم يكتفِ أوغوسطوس بهذا القدر من السلطة والسيادة الفعلية الواقعية، فإنه أنشأ
في هذه الآونة نفسها لجنة «السناتوس
الدائمة
amici caesaris» لجنة أصدقاء قيصر؛ لتعد جدول أعمال السناتوس، وتألفت هذه
اللجنة من القناصل، ومن ممثل عن كل سلطة حكومية أخرى، ومن خمسة عشر عضوًا من أعضاء
السناتوس يُنتخبون انتخابًا لمدة ستة أشهر،
13 فضيق بذلك مجال البحث في السناتوس، وإذا ما ذكرنا أنه لم يكن له كُفأً
أحد بين أعضاء هذه اللجنة، أدركنا أنه كاد يسير الأمور كما شاء.
وعلى الرغم من هذا كله، ظلَّ أوغوسطوس يدعي أنه أعاد الجمهورية إلى سالف عهدها،
وأنه لم يكن هو سوى مواطن أول
princeps في جمهورية
حرة سيدة مستقلة. ولم يكن في هذا اللقب أي جديد، فإن الرومانيين كانوا قد أطلقوه
على بومبايوس وقيصر، وكانوا قد استعملوه في صيغة الجمع منذ عهد بعيد، ولم يتخذ أي
قرار رسمي في استعمال هذا اللقب، ولم يكن اختصار اللقب الأول بين «أعضاء السناتوس
princeps senatus»،
14 وإنما كان لفظًا غير رسمي يشير إلى تقدم أوغوسطوس في الشئون المدنية،
كما أشار اللقب أوغوسطوس إلى مكانته الممتازة في الشئون والأسرار الدينية.
15
وسارع أوغوسطوس بعد أن جمع هذا المقدار من السلطة بين يديه، إلى العمل المثمر في
سبيل رومة وإيطالية. فعني بشبكة الطرقات، وخصَّ الطريق الشمالي الذي ربط رومة
بأرمينوم
Via Flaminia برعايته، بينما هب أعوانه
لإصلاح باقي الطرقات، ثم نهض إلى الولايات الغربية لتحسين أحوالها، فقضى الباقي من
السنة ٢٧ في غالية والسنتين ٢٦ و٢٥ في إسبانية. ولم يعد إلى رومة قبل ربيع السنة
٢٤.
16
(٦) تآمر مورينة وكبيو
وعلى الرغم من اتزان أوغوسطوس، وحبس عنانه وتقصير خطاه، فإنه لم يسلم من ظن بعض
الأعيان فيه واستيحاشهم من ناحيته. وتفصيل ذلك، أن أوغوسطوس أحيا في السنة ٢٦،
لمناسبة تغيبه عن رومة، وظيفة «ناظر
المدينة
praefectus urbi»، وكان ناظر المدينة في عهد الملوك يرأس المجالس
القضائية، ويتولى دفة الإدارة في أثناء غياب الملك، وكان أوغسطوس قد عين
«ميسالة
Messalla» لهذه الغاية، تقديرًا
لخدماته المتواصلة ولتعلقه بالنظام الجمهوري. ولكن الشيوخ اعتبروا إحياء هذه
الوظيفة عملًا غير جمهوري، فاضطر ميسالة أن يستقيل بعد وصوله إلى هذا الكرسي ببضعة
أيام. وفي السنة ٢٦ استبد كورنيليوس غالوس في أمور مصر، ثم انتحر، فأحيلت ممتلكاته
إلى أوغوسطوس، واحتفل بذلك احتفالًا دينيًّا على اسم أوغوسطوس، واشتد نفور الشيوخ
فتبلور بتآمر وقع في السنة ٢٣ق.م. وكان يودي بحياة أوغوسطوس، وكان بطل هذا التآمر
القائد «وارو مورينة
Varro Murena» الذي تبوأ كرسي
القنصلية مع أوغوسطوس في تلك السنة، وعاونه في ذلك «فانيوس كبيو
Fannius Caepio».
17
(٧) السنة الثالثة والعشرون
وأدرك أوغوسطوس أن استمراره في القنصلية كان يحك في الصدور. وكان هو قد أمسى
سابقًا لا يُبارى ومبرَّزًا لا يُجارى، فكف وأفسح المجال لغيره، ولكن التآمر على
حياته أسهر قلبه وأيقظ رأيه، وأوجب النظر في أمر الخلافة بعده، فرأى أن يكون الخلف
من أنسبائه المقربين؛ ليضمن التفاف الجند حوله وتأييدهم له، فوقع اختياره على
«مركلوس
Marcellus» ابن شقيقته أوكتافية من
زوجها الأول، وكان أوغوسطوس قد أزوجه من ابنته ووحيدته يولية في السنة ٢٥، وكان
أيضًا قد استصدر له في السنة ٢٤ موافقة السناتوس لتولي الوظائف الكبرى قبل بلوغه
السن القانونية، فجعله في السنة ٢٣ ناظر المصالح العمومية
aedile قبل أن يجلس على منصة القضاء، ثم جعل
السناتوس يسمح له بترشيح نفسه للقنصلية قبل بلوغه السن القانونية لهذه الوظيفة بعشر
سنوات.
18
قابل السناتوس تنازل أوغوسطوس عن القنصلية
في أول تموز السنة ٢٣ بتوسيع رقعة سلطته البروقنصلية، والاعتراف بها في داخل رومة
نفسها، ثم منحه في السنة ٢٢ صلاحية دعوة السناتوس إلى الاجتماع وعرض الأمور عليه
ius primae relationis. وفي السنة ١٩ أذن له
بالجلوس بين القناصل وبإحاطة نفسه بالحجاب الاثني عشر، ولكن هذه الامتيازات
القنصلية التي منحها السناتوس لوكيل قنصل غير اعتيادي ظلت في حد ذاتها عملًا غير
دستوري، القنصلية، التي منحها السناتوس لوكيل قنصل غير اعتيادي ظلت في حد ذاتها
عملًا غير دستوري، لا يتفق وسياسة المحافظة على التقاليد الجمهورية، التي كان
أوغوسطوس يدعي بأنه حاميها. فاضطر أوغوسطوس أن يوطد سلطته غير الاعتيادية على أساس
آخر يكون أقرب للتقليد الجمهوري وأكثر ثباتًا. وكان قد تمتع منذ السنة ٣٦ بصلاحيات
تريبونية شعبية واسعة دون أن يُنتخب تريبونًا، فوحدت هذه الصلاحيات المستمدة من
الشعب في السنة ٢٣، واعتُبرت «سلطة
تريبونية
tribunicia potestas» رسمية. ولما كان واجب التريبون هو حماية الشعب ورفع
الظلم، رأى أوغوسطوس في سلطته التريبونية أداة لرفع الظلم لا للتظلم والإكراه، ورجا
أن يراها الناس كذلك، وأن يروه بالتالي بعيدًا عن الاستئثار بالسلطة والاستبداد
بالرأي. ومن هنا قراره في أن يكون العاشر من كانون الأول من كل سنة يوم وصوله إلى
السلطة؛ لأنه كان اليوم الذي باشر فيه كل تريبون أعماله وصلاحياته. ومن هنا أيضًا،
جُعل هذا اليوم فيما بعد «يوم
السلطة
dies imperii». ومن هنا كذلك تاريخ بياناته الرسمية بالنسبة إلى بدء ممارسته
التريبونية. ومن هنا قول المعاصرين: إن السلطة التريبونية أهم من السلطة
العسكرية،
19 ولم يكتفِ أوغوسطوس بهذا القدر، بل جعل السناتوس والشعب معًا، يُمنحون
هذه السلطة الشعبية بمجلس خصوصي، عُرف ﺑ «مجلس السلطة التريبونية
Comitia tribuniciae potestatis»،
وأصدر قانونًا
Lex de Imperio بين فيه جميع هذه
السلطات التي تجمعت بين يديه.
20
(٩) مصالح الحبوب والمياه والطرقات
وفاض التيبر في شتاء السنة ٢٣-٢٢، وعقب هذا
الفيضان وباء مخيف انتشر في الريف، واجتاح كثيرًا من المزارعين والفلاحين، فقلَّت
الحبوب وارتفعت أسعارها، فعزا الجمهور ذلك إلى تنازل أوغوسطوس عن السلطة والإدارة،
فحاصروا «الكورية
Curia»، وأنذروا الشيوخ أعضاء
السناتوس بتدميرها فوق رءُوسهم، وطالبوا بجعل المواطن الأول ديكتاتورًا، فرفض
أوغوسطوس الديكتاتورية، ولكنه قبل أن يتولى إدارة «مصلحة الحبوب
cura annonae»،
23 ثم تولى بعد ذلك مصلحتي المياه والطرقات لتأمين راحة الأهلين. وكان
يدير هذه المصالح بواسطة «أمناء
curatores» يعينهم
لهذه الغاية. واضطر كذلك في السنة ٢١ أن ينظم مصلحة المطافئ؛ ليحد من شهرة
«روفوس
Engatius Rufus»، الذي أنشأ فرقة
إطفائية من أرقائه، ونال بأعمالها شهرة وولاء.
24 وهكذا، فإننا نرى أوغوسطوس يعود إلى إدارة شئون المدينة على الرغم من
تنازله عن صلاحياته القنصلية.
(١٠) السنة الثامنة عشرة
وفي السنة الثامنة عشرة قبل الميلاد، سنة انتهاء سلطته البروقنصلية، أشرك
أوغوسطوس أغريبة في السلطتين التريبونية والبروقنصلية، فأوجد لرومة خلفًا يدير
شئونها في حال وفاته، وكان الفارق الوحيد بين سلطته التريبونية وبين سلطة أغريبة أن
هذه كانت لمدة خمس سنوات فقط، بينما تلك استمرت في يدي أوغوسطوس ما دام
حيًّا.
25
وأراد أوغوسطوس في هذه السنة نفسها أن يعيد النظر في لوائح عضوية السناتوس، وأن
يجعل عدد الأعضاء ثلاثمائة، كما كان سابقًا في عهد الجمهورية. وكان هذا العمل من
واجبات «المحصين
censores». وكان أوغوسطوس قد مارس
أهم صلاحيات المحصي، كالإشراف على الآداب العامة، وتطهير الدولة، وإعادة النظر في
عضوية السناتوس وغيره من منظمات الدولة، والموافقة على أعمال التلزيم الكبرى، ولكنه
لم يرضَ أن يظهر هو محصيًّا رسميًّا. وهكذا، فإننا نراه في السنة الثامنة عشرة
يقترح إناطة إعادة النظر في عضوية السناتوس بلجنة سناتوسية مؤلفة من ثلاثين عضوًا،
ولم يرض الشيوخ الأعضاء عن هذه البدعة، فاضطر أن يقوم هو بإعادة النظر بنفسه. فغضَّ
النظر عن العدد ثلاثمائة، وجعل العدد ستمائة؛ ليرضي معظم الأوساط، ويتحاشى الظهور
بمظهر المحصي المستبد.
26
ومن أعمال أوغوسطوس في السنة الثامنة عشرة، أنه أصدر «الشرائع اليوليوسية
Leges Iuliae» بالتعاون لآخر مرة في
هذا المضمار مع الكوميتيات، وما يجدر ذكره لهذه المناسبة، أنه قبل إصدار هذه
الشرائع بهذا الشكل، كان قد رفض أن يكون «أمين
الآداب
curator morum»؛ كي يبتعد عما يمت إلى السلطة الفردية بصلة. والشرائع
اليوليوسية كانت في الواقع مجموعة قوانين جديدة حددت الأجرام المتنوعة، وأوضحت أصول
المرافعات، كما نظرت في الآداب العمومية،
27 ومن ذلك أنها أعادت النظر في جرم «الخيانة
maisstas»، فشيشرون كان قد اعتبر خائنًا كل شخص ينقص بالقول أو
الفعل من وقار الشعب أو عظمته أو سلطته، فجاء الشرع اليوليوسي يعتبر خائنًا كل شخص
ينقص بالقول أو الفعل من وقار المواطن الأول. وكان من حق كل مواطن في عهد الجمهورية
أن يرفع أمره إلى الشعب إذا حكم بالإعدام، فحل المواطن الأول محل الشعب بموجب
القوانين الجديدة، وكان سولَّا قد أنشأ عددًا من «المحاكم الاستئنافية الدائمة
quaestiones perpetuae»؛
لتمارس حق الشعب في إعادة النظر في حكم القضاة عند الاقتضاء، فأنشأ أوغوسطوس بدوره
مجلسًا قضائيًّا «استشاريًّا
consilium»، مؤلفًا
من عدد من ذوي الخبرة القضائية؛ لينظروا معه في الأحكام القضائية التي تُرفع إليه.
وهذا المجلس القضائي الاستشاري أي اﻟ
Consilium، هو
غير لجنة السناتوس الدائمة اﻟ
amici Caesaris، أو
consilium amicorum Caesaris، التي سبقت
الإشارة إليها. وظل القناصل يستمعون بعض الشكاوى، ويشاورون في أمرها أعضاء
السناتوس، فبقي مجلس السناتوس محكمة عليا. أما محاكم «المحلفين العمومية
judica publica»، فإنها لم تُهمَل، ولكن
أعضاءها انتُخبوا من طبقة الفرسان الأغنياء، ولم ينظروا — في عهد المواطن الأول —
في الدعاوى المهمة.
وجرَّت الحروب الأهلية استخفافًا بالقيم الروحية، وتساهلًا في الأمور الأخلاقية،
فاستبهمت على الحكام معالمُ القصد، وعمِيت عليهم وجوهُ الرشد، فأحدثت هذه النقائص
صدًى عميقًا في مصنفات النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد في مخلفات سلوستوس
وورجيليوس وهوراتيوس وليبيوس.
ولم يكن أوغوسطوس ممن يقول: «بعدي الطوفان»، فبدأ بإحياء الدين والمحافظة على
تقاليده. فأنشأ الهياكل والمعابد ورمم المهدَّم فيها، وأحاط رجالها بالإكرام
والاحترام، ثم التفت إلى الحياة العائلية؛ ليعيد لها سابق قدسيتها ورونقها. وكانت
هذه قد أمست على وشك الانهيار، وكاد الناس في رومة لا يفرقون بين الزواج والمساكنة،
فإنهم ما كادوا يخرجون من حروب التوسع الجمهوري حتى دخلوا في حرب أهلية طويلة.
وكانت حروب التوسع قد درت عليهم أموالًا طائلة، فلما جاءت الحرب الأهلية، وعم القلق
الأوساط الغنية آثر الأغنياء أصحاب هذه الأموال الاحتفاظَ بها نقدًا وعدم توظيفها،
وأدى تكادس المال بالنقد إلى الإنفاق على اللهو والملذات، والابتعاد عن التزاوج لما
في ذلك من مسئُوليات بعيدة الأمد، فانحطت الأخلاق بين الرجال والنساء وانتشرت
العزوبة، وقل التزاوج والتوالد. ونشأ عن التعزب والإثراء داء اجتماعي آخر، هو
موآنسة العزَّاب الأغنياء ومواصلتهم ومداهنتهم، والتملق إليهم للحصول على شيء من
ثروتهم بعد الوفاة. فأمسى هؤلاء في حلقة مفرغة: تعزُّب يؤدي إلى تملق واستعطاف،
وتملق يشجع بدوره على التعزب.
وعالج أوغوسطوس التعزب باشتراع القوانين، فأصدر في السنة ١٨ قبل الميلاد
«قانون
الزواج
Lex Iulia de Maritandis Ordinibus»، وأردفه في السنة ٩ بعد الميلاد بالقانون
Papia Poppaea، فمنع كبح الأولاد عن الزواج،
وحرَّم حصر الإرث بالعزاب، وفرض ضريبة خصوصية على العوانس، وحرم العزاب من النساء،
والرجال الذين تجاوزوا الخمسين والستين من الاستفادة من أنواع معينة من الإرث. ثم
ناصر المتزوجين بما دعاه «حق الأولاد
الثلاثة
ius trium liberorum»، فقدَّم أعضاء السناتوس الذين خدموا الدولة بالتوالد على
غيرهم، فأجاز لهم تولي المناصب قبل بلوغ السن القانونية، وفي حال تعادل الأصوات في
انتخاب القناصل فاز أبو الأولاد الأكثر عددًا، واعتبر أبا الأولاد الأكثر عددًا بعد
الانتخاب مقدمًا على غيره، وحاز مثل هذه الأفضلية في نظره من رشح نفسه للمناصب في
حكومات الولايات. والرجل الحر العادي إذا كان أبًا لثلاثة أولاد أُطلقت يده في كل
أرضه، ورُفعت يد «سيده
patronus» عما كان ممسكًا
به منها. وأم الثلاثة تميزت بزيها وبتحررها من سلطة زوجها.
28
وردع أوغوسطوس عن الطلاق ﺑ «قانون العفة وقمع
الزنى
Lex Iulia de Adulteriis Coercendis»، فلم يكن هنالك ما يعيق الطلاق سوى ضغط الرأي العام وتبكيت
المراقب، فأنشأ أوغوسطوس في السنة ١٨ محكمة للزنى، وأنزل عقابًا صارمًا بالزانية
وبالسمسار أيضًا، وعرضهما للنفي إلى الجُزر، ولخسارة ثلث ما يملكان.
29
وذهب أوغوسطوس إلى أبعد من هذا، فاتخذ إجراءات قانونية؛ ليحد بها من البذخ
والإسراف، فحدد حجم البيوت، وحظر كثرة الإنفاق على اللباس والزينة والطعام، ولكنه
لم يوفق في هذا المضمار توفيقه في الأمور الأخرى.
(١١) الاحتفال المئوي
وقسَّم الرومان الزمن أدوارًا، وجعلوا «الدور
saeculum» مائة عام. واستقبلوا الدور الجديد باحتفالات دينية شعبية،
وتميزت هذه الاحتفالات ﺑ ألعاب
ludi دينية شعبية
أيضًا، وكان «واليريوس كورفوس
Corvus» قد احتفل
بالعيد المئوي لمناسبة قنصليته الأولى في السنة ٣٤٨ق.م.، وكان مثل هذا قد جرى في
السنتين ٢٤٩ و١٤٦. وكان ويرجيليوس قد أعلن في السنة ٤٠ بدء عصر جديد بوصول
«أوكتافيوس» إلى السلطة. وكان أوغوسطوس نفسه قد بدأ يشعر أن الإصلاح الأخلاقي
المنشود لن يتم بدون العودة إلى دين الآباء والجدود، فرأى أن يجعل السنة ١٧ قبل
الميلاد سنة احتفالات دينية شعبية، تتميز ﺑ «ألعاب مئوية
ludi saeculares»، واستمال الخمسة عشر رجلًا نبوات «سبلَّة
Sibylla»
xv viri sacris
faciundis، فجعلوا الدور مائة وعشر سنوات بدلًا من مائة، وفي
حزيران السنة ١٧ استُقبل الدور الجديد باحتفالات دامت ليل نهار مدة ثلاثة أيام،
ونظم هوراتيوس شاعر رومة آنئذٍ «ترنيمة
الدور
Carmen Saeculare»، فأنشدها جوق مؤلف من سبعة وعشرين صبيًّا وسبع وعشرين
بنتًا، وجاءت سبعة أيام أخرى ملأى بحفلات المسارح والملاعب.
30
(١٢) عبادة قيصر
وأراد أوغوسطوس أن يربط شعوب الإمبراطورية بعضها ببعض على تنوع لغاتها وثقافاتها
وأجناسها، فأكرم في الاحتفال المئوي أبولون اليوناني ووينوس ومرتيوس في هيكلهم على
تلة البلاتين بقدر ما أكرم يوبيتر الروماني ويونو ومينروة على تلة الكبيتول. ولعل
التقليد الذي قال بتحدر يوليوس وأسرته من وينوس كان من الأسباب التي أدت إلى إكرام
هذا الثالوث اليوناني.
وكان السناتوس الروماني قد ألَّه يوليوس قيصر بعد مرور سنتين على اغتياله، وكان
إكرام قيصر قد شاع في جميع أنحاء الإمبراطورية. ثم أكرمت المدن الإيطالية
أوكتافيانوس في السنة ٣٦ق.م.، فأفرزت له محلًّا لائقًا في هياكلها، وأضافت رومة
اسمه منذ السنة ٢٧، إلى أسماء الآلهة في التراتيل الرسمية، وجعلت يوم ميلاده
مقدسًا، كما اعتبرته يوم بطالة. وذهب الشرق إلى أبعد من هذا، فيونان آسية استقبلوا
أوغوسطوس في السنة ٢١ استقبالًا إلهيًّا، وحيَّوه مخلصًا وبشيرًا وإلهًا ابن
إله.
31 وجرى مثل هذا في مصر أيضًا، ولم يرضَ أوغوسطوس عن هذا التأليه؛ لأنه لم
يتفق وسياسته الداخلية في رومة وإيطالية، التي ابتعدت عن كل ما يمت إلى الدكتاتورية
والملكية بصلة، ولكنه لم ير سبيلًا للرفض؛ كي لا يخيب أمل مريديه وأصدقائه، فأوعز
بعبادة آبائه في الغرب جريًا على العرف والتقليد، فصلى الرومان لأجل عائلاتهم
وعائلة أوغوسطوس في آن واحد، وأشار بالربط في الشرق بين عبادة أسرته وعبادة الآلهة
رومة، ثم أصبح أوغوسطوس في السنة ١٢ق.م. «الحبر الأعظم
Pontifex Maximus»، فراجت عبادة أسرته رواجًا كبيرًا في معظم
الولايات.
32
(١٣) البناء والتعمير
وأدى اهتمام أوغوسطوس بالدين والعبادة إلى تشييد الهياكل وترميم
القديم منها، فقد جاء في بيان أعماله
Res Gestae
أنه رمم ثمانين هيكلًا، وأنشأ عددًا كبيرًا غيرها، منها «البانتايون
Pantheon» هيكل جميع الآلهة في وسط ساحة
«مرتيوس
Campus Martius» في رومة،
33 وهيكل أبولون على تلة البلاتين، وهيكلا «يوبيتر فيريتريوس
Jupiter Feretrius» و«يوبيتر توناس
Jupiter Tonans» على تلة الكابيتول،
34 وأكمل «بهو يولية
Saepta Julia»
للاجتماعات والانتخابات العمومية، الذي كان قد بدأ بإنشائه خاله يوليوس. ومن بنايات
عصره في قلب رومة «حمامات
Thermae»
أغريبة،
35 ومسرحا بومبايوس ومركلوس. واستعان أوغوسطوس في بناء هذه الأبنية
«بالتوفة
tufa» البركانية و«التراورتينة
travertine» الرخامية والقرميد الروماني،
وبرخام كرارة الأبيض، ومن هنا قوله الشهير:إنه جاء رومة مدينة من القرميد فبرحها
رخامية، ولا بد من الإشارة إلى بعض إنشاءات أوغوسطوس العمومية الأخرى، إلى اهتمامه
بأرصفة المرافئ ومخازن الحبوب والأسواق وأقنية المياه. ومن أشهر هذه الأقنية
«قناة أغريبة
Aqua Virgo». ولا يزال جسر نيم
Pont du Gard ماثلًا شاهدًا على اهتمام
أوغوسطوس بالإنشاءات العمومية في الولايات أيضًا.
36
(١٤) النقود والمال
وكان السناتوس قد تولى سك النقود في عهد الجمهورية، وفوض أمرها لثلاثة من أعضائه،
عُرفوا ﺑ «الرجال الثلاثة
III viri»، وأجاز سكها
في الولايات لكبار القادة الولاة. وكان أوغوسطوس قد مارس هذه الصلاحية يومئذٍ، فلما
استتب له الأمر حل هو محل السناتوس، وتولى إصدار جميع النقود الفضية والذهبية. أما
البرونزية، فإنها ظلت تصدر باسم السناتوس، وكانت نقود أوغوسطوس الذهبية تُسك في
«لوغدونم
Lugdunum» للغرب والشرق معًا. أما
الفضية، فإنها كانت تُضرب للشرق في أنطاكية وللغرب في لوغدونم.
37
وظل السناتوس يشرف على أمور «الخزينة
العامة aerarium Saturni»، التي كانت تحفظ في هيكل ساتورنوس إله الزراعة، وأشرف
أوغوسطوس على «الخزينة
العسكرية aerarium militare»، وعلى «سلات fisci»
الولايات التي كانت تنقل إلى رومة مختومة، حاملة الأموال الأميرية. وأموال السلال
هذه كانت أموالًا عمومية لا علاقة لها ﺑ «دخل أوغوسطوس الشخصي Patrimonium Caesaris».
وتغذَّت الخزينة العامة بالضرائب، التي كانت تُجبى من سكان الولايات الخاضعة
للسناتوس ومن ضرائب أخرى محلية. أما الخزينة العسكرية، فإنها كانت تستوفي ضريبتين
واحدًا في المائة من المبيعات وخمسة في المائة من التركات. وكانت أموال
«السلال fisci» التي تُجبى من سكان الولايات
الخاضعة لأوغوسطوس تعتبر مالًا له، ولكنه كان يتوجب عليه أن يبين كيفية
إنفاقها.
وتحملت الخزينة العامة نفقات الإنشاءات العمومية والطرق والهياكل، وخصصت أموال
الخزينة العسكرية لرواتب التقاعد التي كان يتقاضاها رجال الجيش، أما أموال السلال،
فإنها كانت تخصَّص لنفقات الجيش والأسطول، ولتموين العاصمة بالحبوب، ولتزيينها
والترفيه عن سكانها.
ولم تتمكن الخزينة العامة من القيام بجميع النفقات المتوجبة عليها، فلجأت في غالب
الأحيان إلى أموال سلال أوغوسطوس، فخضعت بطبيعة الحال إلى المشرف على هذه الأموال،
أي إلى أوغسطوس الإمبراطور.
38
(١٦) الخلافة والخلفاء
وهدف أوغوسطوس إلى الوحدة والسلم والطمأنينة، فرأى أن وصول غير اليوليوسيين إلى
منصة الحكم يثير الحسد والطمع والمطالبة بالسلطة. فأزوج — بعد وفاة مركلوس ابن أخته
من زوجها الأول في السنة ٢٣ق.م. — أغريبة من بنته يولية؛ لينجبا خلفًا يوليوسيًّا،
وأثمر هذا الزواج، فخلَّف لأوغوسطوس حفيدين: غايوس في السنة ٢٠، ولوكيوس في السنة
١٧، فتبنى أوغوسطوس الحفيدين في السنة ١٧، وجعلهما «قيصرين caesares».
واستعان أوغوسطوس في أثناء حداثة حفيديه بأغريبة والدهما، وبطيباريوس ودروسوس ابن
زوجته ليبية من زوجها الأول، ووثق بأغريبة وفوَّض أموره إليه، ولم يداخله ريب في
ولاء طيباريوس ودروسوس، ولم يبدُ منهما ما دعا إلى التحذر، ولكنه شاع عن الاثنين
أنهما آثرا العودة إلى نظام جمهوري حقيقي.
وفي السنة ١٦ق.م.، اضطر أغريبة أن يعود إلى الشرق؛ لتدبير شئونه باسم أوغوسطوس،
فوطد حكم «بوليموس
Polemos» في البونط، ونظم شئون
الجاليات العسكرية في بيروت وبعلبك، ونظر في أمور اليهود في فلسطين ونال تقديرهم،
ثم ساءت الأحوال عند وادي الرين، فاضطر أوغوسطوس أن يتولاها بنفسه، فعين ستاتيليوس
طوروس «ناظرًا
praefectus» على رومة، ونهض إلى
غالية فوادي الرين مصطحبًا طيباريوس ودروسوس أيضًا. وبعد أن نظم شئون غالية نهض إلى
إسبانية، تاركًا حماية حد الرين في أيدي طيباريوس وأخيه، وفي السنة الثالثة عشرة
عاد أوغوسطوس إلى رومة، وعاد إليها أيضًا صهره أغريبة، وجُددت بروقنصلية أوغوسطوس
خمس سنوات أخرى، كما جُددت تربنة أغريبة مدة مماثلة، ثم ظهرت القلاقل في بانونية في
البلقان الغربي، فأسرع أغريبة إليها لإخماد نار الفتنة فيها، وعاد إلى رومة في ربيع
السنة ١٢، فنصبه المرض، وأثخنه وانتزعه من بين ذويه، فشقَّ ذلك على أوغوسطوس، وحرمه
صديقًا مخلصًا ومعاونًا قديرًا، ووصيًّا أمينًا على الأحفاد الخلفاء،
44 ووُلد لأغريبة ولد ذكر بعد وفاته، فسمي أغريبة أيضًا
Agrippa Postumus.
وهكذا، فإن أوغوسطوس اضطر أن يعيد النظر في أمر الوصاية على الأحفاد القُصَّر مرة
ثانية، فأكره طيباريوس على الزواج من يولية المترملة في السنة ١١، وذلك على الرغم
من تعلقه ﺑ «ويبسانية
Vipsania» بنت أغريبة من
زواجه الأول. وفي السنة ٩ق.م. وقع دروسوس عن ظهر حصانه في إحدى جولاته العسكرية
الموفقة في ألمانية فمات، فأمسى طيباريوس الخلف المنتظر لأوغوسطوس في حال وفاته قبل
بلوغ أحفاده السن القانونية. وفي هذه السنة أيضًا، عاد أوغوسطوس من غالية وإسبانية
سالمًا، فكرَّس السناتوس «مذبح السلام
Ara Pacis»
في فسحة مكشوفة محوطة بجدران من الرخام، مغطاة من الأسفل بزنار عريض من اللوالب
النباتية المزخرفة، وفوقها سلسلة من النقوش البارزة، تمثل إحداها البطل الخرافي
إينياس آتيًا بتقدمة إلى هيكل أسرة الآلهة الرومانية، التي حملها من طروادة إلى
لاتيوم. وانتهت مدة بروقنصلية أوغوسطوس في السنة ٨، فجددها عشر سنوات أخرى، وأشرك
طيباريوس فيها،
45 وفي السنة السادسة نال طيباريوس التربنة لمدة خمس سنوات.
وفي هذه السنة السادسة عينها بلغ غايوس حفيد أوغوسطوس الرابعة عشرة، فمهَّد جده
لانتخابه قنصلًا، فتردى الفتى في السنة التالية ﺑ «طوغة الرجال toga virilis»، وقُدِّم للجمهور مواطنًا رجلًا، وأذن له بحضور
جلسات السناتوس، ونودي به «مواطنًا أول بين
الأحداث Princeps Iuventutis» وزعيم الفرسان الأحداث، وجرى مثل هذا بالضبط لأخيه
لوكيوس بعد ثلاث سنوات.
وفوجئ أوغوسطوس في هذه السنة السادسة أيضًا باعتزال طيباريوس الحياة المدنية
العمومية، وانزوائه في جزيرة رودوس. ولم يكن السبب في ذلك إلحاح أوغوسطوس في أن
تبقى الخلافة بعد وفاته لأحفاده اليوليوسيين، وإنما كان عبث زوجته يولية بالأمانة
له، وتماديها في الخلاعة وصفاقة الوجه. ومع أنه لم يستنكف عن القيام بواجبات
الوصاية، فإنه لم يرضَ أن يكون قوادًا لامرأة، ولو كانت بنت أوغوسطوس. وما فتئ
طيباريوس منزويًا في رودوس، عاكفًا على درس النجوم والتنجيم، حتى قرر أوغوسطوس
إبعاد بنته يولية في السنة ٢ق.م.، إلى جزيرة «بندتيرية
Pandateria»،
46 فلما علم طيباريوس بذلك كتب إلى أوغوسطوس يرجو السماح له بالعودة إلى
رومة، ولكن أوغوسطوس لم يرضَ، ولم يرشح طيباريوس للتربنة عند انتهاء مدتها في السنة
١ق.م.، ولم يعد طيباريوس إلى رومة قبل السنة ٢ بعد الميلاد.
وفي غضون هذا كله جاوز الحفيدان حدَّ الصغر، وبلغا سن التكليف، ففاز غايوس في
السنة ٤ق.م. بمقعد في مجلس أوغوسطوس الخاص، وفي السنة الثانية قبل الميلاد، اشترك
هو وأخوه في تكريس «هيكل مارس
Mars Ultor» في فورم
أوغوسطوس الجديد. وفي السنة التالية، أنفذ غايوس إلى الشرق بروقنصلًا في مهمة
إدارية سياسية، وبعد ذلك بسنوات ثلاث أنفذ أخوه لوكيوس بمهمة مماثلة في الغرب، ولعل
غايوس هو الذي سكَّن غضب جده على طيباريوس، وأذهب حنقه.
47
وتوفي لوكيوس في مرسيلية، وهو في طريقه إلى إسبانية في السنة ٢ب.م.، ثم توفي
غايوس في السنة ٤ من جرح أصابه في أرمينية في أثناء قيامه بالواجب، فتبنى أوغوسطوس
طيباريوس، ومنحه التربنة عشر سنوات، ولكنه تبنى أيضًا حفيده الثالث أغريبة الصغير،
وجعل طيباريوس يتبنى بدوره ابن أخيه جرمانيكوس من زوجته أغريبينة حفيدة أوغوسطوس،
مؤثرًا بذلك الدم اليوليوسي مرة أخرى، ممهدًا لنزاع شديد نشِب بعد وفاته بين أحفاد
كلوديوس وأحفاد أوغوسطوس، ولم يكن أغريبة لائقًا بالحكم؛ لأنه نشأ فظًّا قاسيًا،
كما أن جرمانيكوس نشأ عنيدًا متصلفًا.
وتميزت السنوات العشر الأخيرة من حكم أوغوسطوس بتعاون متزايد بينه وبين طيباريوس،
واضطر أوغوسطوس في الاتكال على ربيبه الجديد في المهمات العسكرية. فلما جاءت السنة
١٣ب.م. وانتهت بها بروقنصلية أوغوسطوس وتربنة طيباريوس، اعتبر أوغوسطوس ربيبه
شريكًا له في الحكم، كما جرى في السنة ١٨ق.م. لأغريبة، وفي صيف السنة ١٤ حضرته
الوفاة، فقال لذويه: «لقد نجحت في الدور الذي لعبت، فصفقوا واصرفوني من المسرح
مصفقين متهللين.» ثم التفت إلى زوجته ليبية فعانقها، وقال: «اذكري اتحادنا الطويل،
أستودعك!» وبعد أيام قليلة حمله الشيوخ على الأكتاف إلى حقل مارتيوس، وأحرقوا جثته،
بينما كان أبناء الأسر الكريمة يرتلون ترانيم الوداع،
48 وفي أيلول السنة نفسها ١٤ب.م. رفعه الشيوخ إلى مصاف الآلهة، فأمسى
Divus Augustus.
49