(٣) رومة وبرتية
ويرى رجال الاختصاص أن البرتيين لم يحبوا الاعتداء، ولم يبالوا كثيرًا، ولكن
بومبايوس أقحمهم إقحامًا بتدخله في شئون أرمينية، وجعلها محمية رومانية، وأنه لو
اكتفى بالفرات حدًّا فاصلًا لوفر على نفسه وعلى خلفائه من بعده مشقة وعناءً
وإسرافًا،
6 ويرى رجال الاختصاص أيضًا، أن كبار الرومانيين اعتنفوا حروب برتية
اعتنافًا، وأن شيشرون قال قولًا صحيحًا، عندما أكد أنه لم يكن للرومانيين عذر
يؤاخذون البرتيين به ويعاقبونهم عليه، وأنهم هم الذين أساؤا واعتدوا، والواقع أن
بومبايوس قطع ﻟ «فرآتس
Pharaates» الثالث ملك
برتية وعودًا في أثناء القتال في أرمينية، لم يبر بها عند التصفية، وكان أهم هذه
الوعود الاعتراف بسلطة فرآتس على كل ما في الجزيرة حتى الفرات، ثم تآمر أولاد فرآتس
عليه وقتلوه في حوالي السنة ٥٧، واختلفوا في الخلافة، وتولى الملك «أورودس
Orodes» الثاني، فخرج أخوه الأصغر متراداتس عليه،
وسك النقود باسمه، فتدخل القائد سوريناس البرتي، وأعاد الملك لأورودس، ففر متراداتس
والتجأ إلى «غابينيوس
Gabinius» بروقنصل سورية،
فتبنى ممثل رومة قضية المتمرد الثائر وعَبَر الفرات في السنة ٥٥ مدافعًا مقاتلًا،
وكان بطليموس الحادي عشر قد أُكره على الخروج من الإسكندرية واللجوء إلى رومة، وكان
قد استمال بومبايوس بوعود نجهلها، فكتب هذا إلى غابينيوس موجبًا التفاهم مع
بطليموس، فوجد غابينيوس عرض بطليموس مغريًا، فعاد إلى سورية، وقام منها إلى مصر،
وأعاد بطليموس إلى عرشه، متقاضيًا عشرة آلاف وزنة، فاستعل سوريناس البرتي الموقف،
وحصر متراداتس في سلفكية، وأخذها عنوة، وأمر بمتراداتس فقُتل.
وكان اتفاق الثلاثة لا يزال ساريًا في رومة، فاجتمعوا في لوكة في السنة ٥٥،
واتفقوا على أن يتولى القنصلية بومبايوس وكراسوس، وعلى أن يتولى كراسوس شئون سورية،
وأن يستولي على برتية ويُدخلها في حوزة رومة، ولعلَّ السبب في ذلك، أن كراسوس كان
قد بدأ يشكو من مركب نقص، فكل من زميليه في الاتفاق الثلاثي كان قد أحرز نصرًا بعد
نصر، ونال حمدًا بعد ثناء، أما هو، فإنه قد ناهز الستين وثقل سمعه، ولم يكن لديه ما
يفاخر به إلَّا المال والثروة، فأحب أن ينال الشهرة والمديح اللذين نالهما زميلاه،
ولعله كان لا يزال رغيب العين واسع المطامع، يرغب في الاستيلاء على سلفكية التي على
دجلة لاحتكار تجارة الحرير وغيره من سلع الشرق الأقصى، التي كانت تمر في أسواق هذه
المدينة،
7 وجاء في التقليد الروماني أنه كان يتشوَّق إلى أبعد من هذا، إلى التوسع
في الشرق والوصول إلى المحيط الأقصى، وكان كراسوس ملمًّا بالتاريخ والجغرافية،
ولكنه كان يجهل أخبار البرتيين وأحوالهم، فظن أنهم من طبقة الأرمن، وذكر انتصارات
لوكولس على هؤلاء، فالتبس عليه وجه الصواب، وتوقع فتحًا يسيرًا.
وصدر في السنة ٥٥ القانون التريبوني،
8 فتولى كراسوس ولاية سورية لمدة خمس سنوات بصلاحيات فوق العادة، وقام
يجند فلم يلقَ إقبالًا، وعارضه «الأفضلون
Optimates» مؤكدين أن البرتيين لم يسيئوا إلى رومة، وأن الهجوم
عليهم يُعد تهجمًا وجورًا، وضُرب اليوم الخامس من تشرين الثاني سنة ٥٥ موعدًا
لخروجه من رومة على رأس جنوده، وارتدى بزته الرسمية، وحاول الخروج فجاش الشعب من
الحَنَق، وبات يزفر وينفخ، وجلس التريبون «أتيوس
كابيتو
Ateius Capito» في باب المدينة إلى جانب مجمرة من النحاس ينتظر مرور
كراسوس، فلما وصل كراسوس إلى الباب لفظ التريبون لعنات تقليدية هوت بكراسوس إلى مقر
آلهة الجحيم، وأقلع كراسوس بجيشه من برنديزي إلى ديراكيوم عبر الأدرياتيك، ثم اتجه
شطر سورية فوصلها في ربيع السنة ٥٤، وتسلَّم زمام السلطة وقيادة الجيش فيها من
غابينيوس، ونهض بجيشه إلى الفرات، وغزا الجزيرة، ثم عاد إلى سورية منتظرًا ربيع
السنة التالية.
وفي ربيع السنة ٥٣، عبر كراسوس الفرات عند «جرابلس
Zeugma» بحوالي ثمانية وعشرين ألف ماش وأربعة آلاف فارس، وسار في
ركابه كل من ابجر الثاني ملك الرها، و«ألخوذونيوس
العربي
Alchaudonius» بخيالتهما، وصمد سوريناس بعشرة آلاف فارس عند تقاطع الطرق
بين «حران
Carrhae» و«خنز
Ichnae»، وما كاد كراسوس يصل بقواته منطقة حران حتى أُطبق البرت
عليه، فذبحوا عشرة آلاف وأسروا عشرة أخرى، وفرَّ الباقون، وخرَّ كراسوس نفسه
صريعًا.
9
وكان سوريناس الرجل الثاني بعد الملك طويل القامة، جميل الطلعة، كثير الموارد،
غنيًّا ينفق على فرسانه من جيبه، وكان حاد الذهن، دقيق الفهم، ثَبْت الجنان، رابط
الجأش، فلما تقمَّص لباس العز في حرَّان قام إلى سلفكية التي على دجلة، ودخلها في
موكب تصاغرت عنده الهمم، فحُمَّ أورودوس له حسدًا، ونظر إليه بعين مريضة، وخشي سوء
العاقبة، فأُمر به فقُتل، وتسلَّم قيادة جيشه «بكوروس Pacorus» ابن أورودوس.
واستعاد أورودوس سلطته في الجزيرة حتى الفرات، بما في ذلك نصيبين ومنطقة
«غورديانة
Gordyane» بينها وبين أرمينية، ونوى
غزو سورية في السنة ٥٢، ولكن مقتل سوريناس أفكَّه عن ذلك، ولم يعبر ابنه بكوروس
الفرات قبل السنة ٥١، ولم يكن بكوروس من أكفاء سوريناس ولا من أشباهه، فجلَّ ما
فعله أنه أغار على سهول سورية الشمالية، واستنهض همم العناصر المعارضة، ولكن فرسانه
لم يقووا على حصون أنطاكية، ولما اقتحموا أنتيغونية الصغيرة في السنة ٥٠ فاجأهم
كاسيوس
10 وباغتهم من حيث لم يحتسبوا، فولوا مدبرين واستقروا بضعة أشهر في
«القوروشية
Cyrrhestice» في شمال حلب وشرقها،
ثم أفسد البروقنصل الجديد «بيبولس
Bibulus» بين
أورودوس وابنه بكوروس، فعبر هذا الفرات بجموعه في تموز السنة ٥٠.
وأدى مصرع كراسوس إلى زعزعة تحالف الثلاثة
من الناحية المالية، وإلى اختلال التوازن بينهم، ثم تولى بومبايوس أمور الشرق،
ولكنه لم يبرح رومة، فناب عنه في حكم ولايات الشرق ممثلون شخصيون، واهتم يوليوس
لشئون الغرب، ولا سيما لثورة غالية، ثم جاءت الحرب الأهلية (٤٩–٤٦) وانتهت بمصرع
بومبايوس، وتولى يوليوس أزمة الحكم وانفرد بالسلطة، ثم اغتيل اغتيالًا (٤٤)، فجاء
حكم الثلاثة والأخذ بالثأر، وعبر بروتوس وجماعته الأدرياتيك، وباتوا ينتظرون تطور
الموقف ووقوع معركة حاسمة، فرأى كاسيوس أن يستعين بالبرت، فأوفد أحد ضباطه
«لابيانوس Quintus Labienus» ابن «طيطس Titus» لابيانوس القائد في حروب قيصر، إلى بلاط
أورودوس ملك البرت يزف إليه حاجة أسياده، وانتحر كل من كاسيوس وبرتوس بعد معركة
فيليبي (٤٢)، فوجد لابيانوس نفسه لاجئًا مقطوعًا في بلاط البرت، وكان عدد من وجهاء
تدمر قد لجئُوا إلى البلاط نفسه فتعاون لابيانوس وهؤلاء على إقناع بكوروس بوجوب
استغلال الظرف العسكري وخلو آسية الصغرى وسورية من الجند لإدخالهما في حوزة برتية
(٤١)، وكان أنطونيوس قد عين «ديكيديوس
سكسة Decidius Saxa» واليًا على سورية، ولكنه لم يرفقه بجنود بررة، فاضطر سكسة
أن يستعين بما كان قد بقي في سورية من جنود أفسدت قلوبهم السياسة، فباتوا مضطربين
مشوشين، ولم يتجاوز مجموع عددهم الفرقتين.
وعبر لابيانوس وبكوروس الفرات، ودخلا سورية فتخلى قسم كبير من الجنود الرومانيين
عن سكسة، فانكسر في الميدان، وخسر «نسره»، واضطر أن يتراجع حتى امباية، وأن يمتنع
فيها، ثم استسلمت ابامية وأنطاكية ففرَّ سكسة إلى قيليقية، وقُتل وانتحر فيها أو في
قبرس، وانشطر الجيش البرتي شطرين في قيليقية، فتولى لابيانوس قيادة القوات في آسية
الصغرى، ونهض بكوروس إلى سورية والجنوب، وكان أنطونيوس قد تشاغل عن تدبير شئون آسية
الصغرى، فلم يلقَ لابيانوس مقاومة تُذكر، وتمكن من فرض سلطة البرت على معظم آسية
الصغرى، وكان أورودس قد عينه قائدًا، ففاخر هو بهذا اللقب — كما مرَّ بنا — وسك
نقودًا نقش عليها العبارة Particus Imperator،
وما فتئ متسلطًا حتى كسره «فنتيديوس Vendidius» في
السنة ٣٩ وقتله.
وأطل بكوروس على سورية، ودخل مدنها بدون مقاومة، وأيده أمراؤها وصادقه مالك ملك
الأنباك، أما صور، فإنها ظلت حرة لمناعة موقعها وقوة رجالها في البحر، ورحب بقدومه
متتياس Antigonus ابن أرسطوبولس، وقدَّم ألف وزنة
وخمسمائة امرأة من نساء أخصامه ومناظريه، فدخل بكوروس أورشليم، وجلس على العرش
فيها، وفرَّ هيرودس صديق رومة، ولجأ إلى كليوبترة في مصر، ثم ركب البحر إلى رومة،
واعترف اليهود بفضل البرتيين، واعتبروهم طوال قرن كامل أصدقاء بررة مخلصين.
واندلعت ثورة في السنة ٤٠ نفسها في اليرية، وانطلق «البرتينيون Parthini» باتجاه مقدونية مخرِّبين مهددين، وكادت إمبراطورية
رومة في الشرق تنهار انهيارًا، فاضطر أنطونيوس أن يتدبر الأمور بحكمته، وأن يتخذ
إجراءات سريعة لإنقاذ الموقف، ولم يكن لديه سوى أربع وعشرين فرقة وعشرة آلاف فارس
غالي وإسباني، فوكل القيادة في البلقان إلى «بوليو Pollio»، ووضع تحت تصرفه إحدى عشر فرقة، وأنفذ «فنتيديوس Ventidius» إلى آسية والشرق بإحدى عشرة فرقة
أخرى، وظل هو في إيطالية يعالج أمورها.
وجهز فنتيديوس رجاله بالمقاليع، واستبدل حجارتها بقطع من الرصاص، ورأى في هذا
السلاح ما يقيه شر النبال البرتية؛ لأن مدى المقلاع كان أطول من مدى السهم، ولم
يعلم أن سقوط سوريناس كان قد أعاد نبلاء البرت وخيولهم المدرسعة الثقيلة
cataphractes إلى الميدان بدلًا من خيول العامة
وأقواس فرسانها وسهامهم، وقد يكون الفضل في اعتماد المقاليع لأنطونيوس، وقد يكون
لفنتيديوس، ولا نعلم الشيء الكثير عن أعمال فنتيديوس في الشرق، ولا يجوز الاطمئنان
إلى أخبارها، فما دوَّنه سلوستوس جاء نقلًا عن فنتيديوس للرد على أنطونيوس، ونقلًا
عن أخصام أنطونيوس، الذين مجدوا فنتيديوس للحد من نفوذ أنطونيوس.
وباغت فنتيديوس خصمه، فنزل في ساحل ولاية آسية في أوائل السنة ٣٨، فاضطر لابيانوس
أن يتخلى عن كارية، وأن يفر إلى قيليقية، ويمتنع في منحدرات طوروس، ويطلب النجدة من
بكوروس من سورية، فاتخذ فنتيديوس مراكز مماثلة، وجمع بكوروس جميع قواته في سورية،
وخرج منها إلى قيليقية، وهاجم فنتيديوس منفردًا، فارتد على أعقابه، وتبين أن رصاص
المقاليع الرومانية كان يخرق سلاح البرت خرقًا، ثم هاجم فنتيديوس لابيانوس في
معسكره ففر وقُتل، وصمد بكوروس في ممرات الأمانوس، ولكنه لم يثبت في وجه الرومان،
ففر هو بدوره وعبر الفرات، واتجه فنتيديوس جنوبًا؛ ليقتص من متتياس اليهودي، وينزله
عن عرشه، ولكن متتياس رشاه، فعاد إلى شمال سورية متوقعًا هجومًا برتيًّا أو
أرمنيًّا، وعاد بكوروس إلى الهجوم في ربيع السنة ٣٨، وعبر الفرات في مجراه الأعلى
عند سميساط، واتجه شطر القوروشية، فوجد فنتيديوس صامدًا له في أحد المرتفعات بالقرب
من جبل «جندروس Gindarus»، فهجم بكوروس بخيالته
على معسكر فنتيديوس، ولكنه مني بالفشل وقُتل، فولى من نجا الأدبار، وعبروا
الفرات.
وناءَ مقتل بكوروس بوالده وأرهقه، ففَتَر وضعُف، فعين ابنه فرآتس الرابع خلفًا
له، ثم نفد صبر الوريث ففتك بوالده الشيخ واستأثر بالسلطة، فعُرف بالقاسي، وعزا
فرآتس الكارثة التي حلت بالجيش في الغرب إلى تدخل الأشراف في شئون الدفاع والحرب
وإبعاد المواطنين العاديين الحاذقين في رمي السهام عن متون الجياد وساحات الوغى،
فاضطهد النبلاء وأقام «موناسه Monases» حامي
الحدود الغربية قائدًا عامًّا، وكان موناسه من أكبر الكبراء وأغنى الأغنياء، فادعى
أنه من المغضوب عليهم وقصد أنطونيوس مستجيرًا لاجئًا، فخفَّ أنطونيوس ولبَّى، ومنحه
إمارة ألخوذونيوس ووعده بعرش برتية، ولكن موناسه تقوَّى فجأة في ربيع السنة ٣٦،
وشَجُعَ وعاد إلى برتية، وتسلَّم قيادة جيشها!
وكان أنطونيوس قائد خيالة قديرًا ومناورًا شجاعًا، ولكنه لم يكن كفوءًا للقيادة
العامة ولوضع الخطط، فإنه هدف إلى إخضاع برتية واحتلالها قبل أن يؤمن خط اتصاله
بقواعده في سورية باحتلال أرمينية، واكتفى — فيما يظهر — بوعود «أرتاوسده Artavasdes»، وخضوعه بعد موقعة صغيرة جرت بينه
وبين القائد الروماني «كنيديوس
كراسوس Canidius Crassus»، ونسي أن مصلحة أرمينية قضت بالتملق للطرفين، والتفريق
بينهما عند الاقتضاء، وأن الأرمن كانوا أقرب لتفهم البرتيين والتعاون معهم منهم إلى
رومة والرومانيين، ونسي أن الشرق أيضًا كله كان قد سئم أساليب رومة في الحكم،
وتفرُّق كلمتها وانقسامها بعضها على بعض وحروبها الأهلية.
وتبنى أنطونيوس خطة يوليوس في السير، فهاجم برتية من الشمال من أرمينية لا من
الغرب، وما كاد القتال يبدأ حتى انحرف ملك أرمينية الصديق الموالي إلى جانب برتية،
فاستولى البرت على كميات كبيرة من العتاد والمؤن، التي كانت تُنقل عبر أرمينية،
وكان أنطونيوس آنئذٍ يحاصر «أفراسبة
Phraaspa»
عاصمة مادي الصغرى، فوجد نفسه فجأةً مفتقرًا إلى معدات الحصارة، ثم أحاط البرت به
من كل جانب، وقطعوا عنه المدد، فاضطر إلى التراجع والانسحاب، وكادت الكارثة تقع،
ولكن أنطونيوس تداركها بانتفاضة شديدة، فشارك جنوده الشقاء والتعب، وعاد بهم إلى
سورية في السنة ٣٥ق.م.،
11 وكتب إلى كليوبترة يخبرها بما جرى ويطلب معونتها، واستقر في الساحل
اللبناني في الجية
Leuke Kome بين بيروت وصيدا
ينتظر المدد، وطال الانتظار، وبدت علائم القلق، وكاد أنطونيوس يسيئ فهم كليوبترة،
ويعتبر تأخرها مُحطًّا بكرامته، وضاق صدره فلجأ إلى الخمر يلتهي بها، فإذا ما
استفاق أطل على البحر يبحث في الأفق مرتقبًا طلائع المدد، وبعد انتظار دام طويلًا
أطلت فرعونة مصر، تحمل المال والملابس لجنود زوجها الجديد، وفي السنة ٣٤ جند
أنطونيوس حملة جديدة على أرمينية استعاد بها بعض ما كان قد فقده من نفوذ في الأوساط
العسكرية في الشرق.
12
وجاءت السنة ٣٠ وصفَّى أوغوسطوس حساب أنطونيوس وكليوبترة، وأدخل مصر في حوزة
رومة، وأنهى الحرب الأهلية وعاد إلى سورية، فانتظر الرومانيون زحفًا على برتية لمحو
العار الذي لحق برومة، ولكن أوغوسطوس قام إلى آسية الصغرى ودبر شئونها قدر المستطاع
وعاد إلى رومة، وكان يعلم حق العلم أن ظروف برتية الداخلية كانت موآتية لتجريد حملة
عليها، وأن جيشه كان كفوءًا لذلك، ولكنه رأى بثاقب نظره واتساع أفقه أن معالجة قضية
برتية وأرمينية بالطرق السلمية وبالسياسة أجدى وأنفع، فالحرب الأهلية كانت قد
انتهت، وكلمة رومة كانت قد توحدت، وكان «تيريداتس
Tiridates» مناوئ فرآتس الملك الجالس لاجئًا مقيمًا في سورية
مستعدًا للتدخل في شئون برتية عند أول إشارة تبدو من أوغوسطوس، وكان ارتفسده قد
أمسى ملكًا على أرمينية الصغرى، يهدد مناظره «أرتكسه
Artaxes» ملك أرمينية الكبرى، وكان أخوا أرتكسه رهينين في قبضة
أوغوسطوس، ومن هنا ترحيب أوغوسطوس في السنة (٣٠-٢٩) بوفد فرآتس، وتأكيده أنه لن
يسمح لتيريداتس بإزعاج خصمه الجالس على العرش،
13 واكتفى أوغوسطوس بهذا القدر من التفاهم، ولم يحرك ساكنًا قبل السنة ٢٠،
ولكنه أبقى في مكان ما في سورية أربع أو خمس فرق تساندها قوات مساعدة، ويجوز
الافتراض، بناءً على ما نعلمه عن الأمكنة التي أقام بها الجيش الروماني بعد هذا
التاريخ، إن هذه الفرق والقوات المساندة لم تستقر عند الفرات، بل أبعد من هذا إلى
الغرب.
وألحت الأوساط الرومانية المثقفة بوجوب إخضاع الشرق كله حتى الهند أو الصين،
وإدخال برتية في حوزة رومة،
14 ولكن أوغوسطوس كان أعقل وأبعد نظرًا من هذا، فإنه لمس تجانسًا بين سكان
حوض المتوسط ووحدة في طبيعة أرضه ومناخها، ورأى أن رومة كانت قد توصلت إلى حدود هذا
الحوض الطبيعية، وأن هذه البلدان جميعها كانت بحاجة إلى أمن وعدل واستقرار أكثر
منها إلى توسع وسيطرة، ولولا تطرف بعض الأوساط الرومانية إلحاحها لجعل من مجرى
الفرات حدًّا طبيعيًّا فاصلًا بين رومة وبين الشرق وراء الفرات.
15
وكان لوكلوس قد اعترف بالفرات حدًّا
فاصلًا، وكان بومبايوس قد وافق على ذلك بادئ ذي بدء، ولكن الرومانيون آنئذٍ آثروا
اعتماد أمراء وطنيين في حكم المناطق المتأخرة، أو ما كان منها صعب المنال، ورغبوا
في إنشاء دويلات فاصلة عند الحدود، تتحمل صدمات القبائل المجاورة،
16 ورأى بومبايوس أن يجعل من أرمينية دولة فاصلة موالية لرومة، فأورث
أوغوسطوس مشكلة لا بد من معالجتها وحلها، ومما زاد في الطين بلة أن الأرمن — كما
سبق وأشرنا — كانوا أقرب إلى البرتيين في العادات والأخلاق وطرق المعيشة والدين،
منهم إلى رومة،
17 وكان بإمكان أوغوسطوس أن يعتمد واحدًا من حلول ثلاثة: إما أن يتغاضى عن
أرمينية، ويطلق يد برتية فيها، ويجعل الفرات حدًّا فاصلًا، وإما أن يدوِّخ أرمينية،
ويضمها إلى الدولة الرومانية، وإما أن يضمن ولاءها وإخلاصها ويبقي على استقلالها،
فيعتبرها دولة فاصلة، وكان الحل الأول وَعْرَ المرتقى لما كان قد لحق برومة من ذل
وهوان في حروب أرمينية وبرتية السابقة، ولم يرَ أوغوسطوس في تدويخ أرمينية وضمها
أمرًا سهل المنال، ولم يفكر به جدِّيًّا على الرغم من ظاهر النص في خلاصة أعماله في
الجسته،
18 ومما يؤيد هذا القول أنه لم يكن لأوغوسطوس في أي وقت من الأوقات قوة
كافية لحماية الحدود الشرقية حماية مانعة، فلم يبقَ أمامه — والحالة هذه — سوى الحل
الثالث الذي اختطه بومبايوس، وتمشى فيه بموجب تقاليد رومة السياسية
والإدارية.
وعلى الرغم من الوعد الذي قطعه أوغوسطوس في
السنة ٣٠ إلى الوفد البرتي المفاوض؛ بأنه لن يغري تيريداتس — الخصم المناوئ اللاجئ
إلى سورية — على إثارة الفتن في برتية، فإن تيريداتس هذا عبر الفرات إلى الجزيرة في
السنة ٢٧، وحاول قلب الحكم في برتية، وأخفق في مهمته، فعاد إلى سورية لاجئًا في
السنة ٢٦-٢٥، مصطحبًا فرآتس ابن فرآتس الملك، مدعيًا أنه خطفه خطفًا،
19 فأنفذ الملك وفدًا إلى رومة نفسها في السنة ٢٣، يطالب بتسليم تيريداتس
وإعادة فرآتس إلى أبيه، فوافق أوغوسطوس على المطلب الثاني وسلَّم فرآتس، وطلب —
بالمقابل — إطلاق حرية الأسرى الرومان وإعادة «النسور الرومانية»، التي وقعت بيد
البرت في المعارك السابقة، وأكد أنه لن يعاون تيريداتس في أي عمل عدائي ضد
برتية،
20 ولكن فرآتس نام عن مطلب أوغوسطوس وتغابى سنة كاملة، فبدأ الشعراء
يطالبون باتخاذ موقف حازم من برتية وملكها محافظة على شرف رومة وعزتها، فنهض
أوغوسطوس في أواخر السنة ٢٢ق.م. يتفقد شئون صقلية واليونان، ثم قضى شتاء السنة
٢١-٢٠ في جزيرة ساموس، ومنها كتب إلى طيباريوس أن يجمع عددًا من الفرق من مقدونية
واليرية، وأن يجيء بها إلى أرمينية لمساندة أصدقاء رومة فيها، أي لتأييد
«دكران
Tigranes» ضد أخيه الأكبر «ارتكسه
Artaxes» الجالس على العرش، ولا سيما وأن دكران كان
قد قضى عشر سنوات في رومة، وفي ربيع السنة ٢٠ق.م. عبر أوغوسطوس البحر إلى ولاية
آسية، ونظر في شئونها وشئون بيثينية، ثم جاء سورية، واستطارت هذه الأخبار استطارة
البرق في السماء، واضطربت بها الألسنة، فوصلت إلى فرآتس مجسمة، فخشي الحرب على
جبهتين في آن واحد، وأسرع يطلق سراح الأسرى الرومانيين ويعيد النسور، ووصلت هذه إلى
أوغوسطوس في الثاني عشر من آيار سنة ٢٠، فنودي به إمبراطورًا للمرة
التاسعة،
21 وظهر خضوع البرت على درع أوغوسطوس
22 وعلى نقود سُكت خصيصًا لهذه المناسبة في السنة ١٨، فحملت العبارة
Caesar Augustus signis receptis،
23 واتخذ السناتوس قرارًا بالاحتفال بالنصر رسميًّا، ولكن أوغوسطوس أبى
فشيد قوسًا في الفوروم بالقرب من هيكل يوليوس قيصر ظهر بدوره على مسكوكات السنة
١٨-١٧، وأعيدت الأعلام النسور إلى رومة، وكرست لمارس إله الحرب، فعُرف هذا الإله
بعدئذٍ ﺑ «مارس المنتقم
Mars Ultor»، وما فتئ
الرومانيون يحتفلون بذكرى هذا الحدث حتى القرن الرابع بعد الميلاد، فكانوا في
الثاني عشر من آيار من كل عام، يقدمون الشكر ويقيمون الألعاب السباقية لهذه
الغاية.
24
وسهَّل هذا التفاهم بين رومة وبين برتية عمل طيباريوس في أرمينية، فإن أقرباء
أرتكسه الملك تألبوا عليه، وقتلوه قبل وصول طيباريوس، فلم يبق على القائد الروماني
— والحالة هذه — إلا أن يتوج بيده مرشح رومة وصديقها دكران، فأعلى أوغوسطوس خضوع
أرمينية، وأكد أنه يؤثر بقاءها مستقلة في يد ملك صديق، وظهرت النقود تحمل العبارة
Armenia capta، ورسم أرمني راكع مسلمًا
مستسلمًا، واكتفى أوغوسطوس بهذا القدر، وكتب إلى السناتوس مؤكدًا عدم رغبته في
التوسع عبر الحدود،
25 وفي السنة ١٠ أو ٩ق.م. سلَّم فرآتس ملك برتية إلى «تيتيوس
Titius» والي سورية أولاده الأربعة وعائلاتهم
ليقيموا في رومة،
26 ورأى يوسيفوس أن السبب في ذلك نشأ عن زواج فرآتس من جارية إيطالية
Thea Urania Musa قدمها أوغوسطوس له، وأنجبت
ابنًا خلفه فيما بعد، وعُرف ﺑ «فراتاكس
Phrataces»
وعن سعي هذه لإبعاد أولاد زوجها الأربعة الأولين؛ لتضمن الخلافة لابنها.
27
(٤) رومة والبوسفور
وهنالك بوسفوران في الأدب القديم: بوسفور تراقية، الذي وصل البحر الأسود ببحر
مرمرا، وبوسفور «كيميري Cimmerii»، الذي وصل بحر
أزوف بالبحر الأسود، والكيميري شعب أسطوري «لم تشرق عليهم الشمس» نزح من جنوب روسية
في العصور الخالية، واستقر في أنحاء آسية الصغرى، ومملكة البوسفور في عصر أوغوسطوس
دويلة شملت شبه جزيرة القرم وحوض أزوف، وتزعمتها أسرة إيرانية أو نصف إيرانية،
فتسلطت على جاليات يونانية وقبائل كالصرامتة كانوا قد تقبلوا شيئًا من المدنية
الهلينية.
وكانت هذه المملكة البوسفورية تمون مدن آسية الصغرى الشمالية وجزر إيجه بالحبوب،
فكان لا بد من تأمين الملاحة في البحر الأسود، وتنظيف مياهه من فساد القرصان
والقرصنة، وكان أشهر هؤلاء قبائل القوقاس المطلة على البحر وأفراد عشائر
«الطوري
Tauri» في ساحل القرم
الجنوبي.
28
وفاز «فرناكس الثاني
Pharnaces» ابن متراداتس
العظيم بالتسلط على مملكة البوسفور مقابل خدماته لبومبايوس واستقر فيها، ثم خلعه
«أسندر
Asander» بعد مقتل قيصر، وتزوج من بنته
«دينامس
Dynamis»، وكان أسندر من أنصاف
اليونانيين وأحد المواطنين في مدينة «بنتيكابايوم
Panticapeum»، وأسكت هذا المغتصب أنطونيوس بهدية مالية كبيرة،
وسك النقود باسمه في السنة ٤١، وسكت أوكتافيانوس عن شذوذ أسندر، واعتبره صديق الشعب
الروماني،
29 وتمكن أسندر من صيانة حدوده، فصد هجمات الصرامتة والسيكثيين في البر،
ودانت له رقاب القرصان في البحر، فأمَّن الملاحة فيه وطمأن سكان سواحله، وفي حوالي
السنة ١٨ق.م. نازعه «سكريبونيوس
Scribonius»
الملك، وادعى أنه حفيد متراداتس العظيم، فمال الجنود إليه، فامتنع أسندر عن الطعام،
ومات في السنة ١٧ عن ثلاثة وتسعين عامًا،
30 ويروى أن سكريبونيوس ادعى أيضًا أنه مرشح أوغوسطوس، وأن الملكة دينامس
مالت إليه لهذا السبب فتزوج منها.
31
وعلم أغريبة بحوادث البوسفور في أثناء وجوده في سورية (١٦–١٣ق.م)، فامتنع عن
الاعتراف بسكريبونيوس وأوعز إلى «بوليمو
Polemo»
ملك البونط أن يجرد حملة على سكريبونيوس، وأن يتزوج من دينامس، ويوحد في شخصه مملكة
البونط والمملكة البوسفورية، فلما علم البوسفوريون بذلك قتلوا سكريبونيوس، آملين أن
ترضى رومة عنهم وتعيد بوليمو إلى بلاده، ولكن بوليمو كان أبيَّ العنان شديد
الشكيمة، فاضطر أن يحارب البوسفوريين، وطالت الحرب فركب أغريبة نفسه البحر إلى
سينوب، وأبرق وأرعد، فأخلد البوسفوريون إلى السكينة فشرع أغريبة يدبر أمورهم، فأوجب
تقديم الرجال للخدمة في القوى الرومانية المساندة، وأدخل مدينة «خرسوننسوس
Chersonensus» في المملكة البوسفورية، محتفظًا
باستقلالها في تدبير شئونها موجبًا الدفاع عنها عند الحاجة،
32 واختلف الزوجان الملكيان في السنة الأولى من زواجهما، وفرت دينامس عبر
الحدود ولجأت إلى «أسبورجوس
Aspurgus» أحد أمراء
الصرامتة، وشنتها حربًا شعواء على بوليمو دامت طويلًا، وانتهت بمصرع بوليمو في
السنة ٨ق.م.،
33 وعرض لأوغوسطوس في جبال طوروس وأرمينية ما شغله عن المملكة البوسفورية،
فاعترف بالواقع وأقر دينامس في حكمها، وبعد وفاتها بسنتين (١٠ب.م.) تولى زوجها
أزمَّة الأمور، ثم اتخذ لقب الملك في السنة ١٤ب.م.، فمنحه طيباريوس «حقوق المواطن الروماني
واللقب
amicus Caesaris populique Romani»، وحمل هو وأحفاده اسم ولي نعمتهم
Tiberius
Iulius.
34
(٦) ثورة في أرمينية
ولم يطل حكم صديق رومة دكران الثاني، فإنه مات قبل السنة ٦ق.م.، فثارت أرمينية في
وجه رومة، وأجلس أخصام رومة دكران الثالث، فطلب أوغوسطوس إلى طيباريوس أن ينهض إلى
أرمينية فامتنع وآثر الانعزال في رودوس، فأجلس أوغوسطوس بقوة جنود ارتفسدة أخا
دكران الثاني على عرش أجداده، فغذت برتية الحزب المناوئ، فكان انقلابٌ أدى إلى خروج
مرشح رومة والجنود الرومانيين الذين حموه، وكان الكِبَر قد مسَّ أوغوسطوس فلم يستطع
تولي أمر أرمينية بنفسه، فانتدب غايوس قيصر ابن أغريبة، وجعله بروقنصلًا، ومنحه
صلاحيات واسعة على غرار ما تمتع به والد غايوس من قبل، وأحاطه بعدد من المستشارين
يتزعمهم «لوليوس
Lollius»، الذي كان قد نظم ولاية
غلاطية، وعرف الشرق وفهم أموره ومشاكله.
41
وتهيأ غايوس وتجهَّز، وجاء أثينة وقام منها إلى جزيرة ساموس فوفد عليه طيباريوس
مرحبًا مهنئًا، ولكن غايوس استقبله استقبالًا باردًا عملًا بمشورة لوليوس،
42 وانتقل غايوس من ساموس إلى مصر متفقدًا كما سبق وفعل في ولايات الغرب،
ولا صحة — على الأرجح — في القول إنه أراد أن يؤمن الاستعدادات الضرورية لحملة
جديدة على الجزيرة العربية،
43 ونهض من مصر إلى سورية، حيث بدأ يمارس صلاحياته القنصلية
(١ب.م.).
وما حرَّض فراتاكس الأرمن على الثورة، وما
حسَّن وما زيَّن إلا ليثبت عرشه في برتية ويقوى فيها على الأشراف، الذين لم يروا
فيه زكاء المغرِس وشرف المنبِت، ولم ينسوا أنه كان ابن الجارية الإيطالية، فلما ظهر
خبر الحملة التي أعدها أوغوسطوس وأسند قيادتها إلى غايوس خاب رجاء فراتاكس وأخفق،
ففاوض أوغوسطوس على أساس تسليم الأخوة الأربعة أبناء أبيه الذين كانوا لا يزالون
قائمين في رومة، فامتنع أوغوسطوس ووصم فراتاكس باغتصاب الملك، وطلب إليه أن يسحب
عملاءه من أرمينية، فرد فراتاكس هذا الإنذار بمثله، ثم مات أرتفسدة مرشح رومة فأوفد
دكران الثالث إلى رومة من حمل الهدايا ورجا الاعتراف به ملكًا على أرمينية، فقبل
أوغوسطوس الهدايا، واعتبر الطلب بالاعتراف اعترافًا بسيادة رومة، وكتب إلى دكران
الثالث أن يتوجه إلى سورية، ويقابل غايوس فيها.
وبعد وصول غايوس إلى سورية خفَّض فراتاكس من
غلوائه، وكفَّ عن المطالبة بالأخوة الأربعة، وأعلن استعداده لعدم التدخل في شئون
أرمينية، فاجتمع إلى غايوس على جزيرة في نهر الفرات، وتم الاتفاق بين الاثنين على
هذه الشروط، واعتبرا الفرات حدًّا فاصلًا بين الدولتين (٢ب.م.)، وشاهد «فيليوس باتركولوس
Velleius Paterculus» هذه المقابلة بأم
عينه، وكان آنئذٍ تريبونًا في إحدى الفرق الرومانية، فقال إن الجيشين اصطفا كل عند
الضفة الخاضعة لدولته، وإن ممثلي الشرق والغرب التقيا على جزيرة يحف بكل منهما حرس
يوازي حرس الآخر، وإنهما تبادلا عبارات المجاملة وتآدبا، فقبل فراتاكس الدعوة أولًا
ثم غايوس، وشكا فراتاكس لوليوس إلى سيده غايوس، واتهمه بقبول الرشوة، فانتحر لوليوس
وخلفه في مجلس المشورة «كويرينيوس
Sulpicius Quirinius».
44
ولم يرضَ الأرمن الموالون لبرتية عن خضوع
دكران الثالث لرومة، فكانت حرب مع البرابرة أثارها أصدقاء برتية، وتوفي دكران،
واعتزلت شقيقته وزوجته فانقطعت السلالة المالكة في أرمينية، فقدم غايوس التاج
الأرمني إلى «أريوبازه
Ariobazanes» ملك مادي،
وكان أريوبازه رجلًا وقورًا حكيمًا، ولكن الحزب الموالي لبرتية لم يقبل به ملكًا
على أرمينية، فاضطر غايوس أن يؤيد هذا الملك بالقوة، وفيما هو يحاصر «أرتجيرة
Artagira» طلب صاحبها مقابلته؛ ليفضي إليه ببعض
الأسرار، فاجتمعا فحاول الأرمني اغتيال غايوس فلم يفلح، ولكنه جرحه جرحًا ترامى إلى
الفساد، ثم سرى إلى نفسه فمات غايوس في إيطالية في السنة ٤ب.م.،
45 وتوفي أريوبازه بعد ذلك بقليل، فخلفه ابنه ارتفسده فقُتل، فأجلس
أوغوسطوس دكران الرابع على عرش أرمينية في حوالي السنة ٦ب.م.، فأُكره على التنازل،
فأجلس أوغوسطوس زوجة دكران الثالث الملكة «إراتو
Erato» فأُكرهت هي أيضًا على التنازل، فشغر عرش أرمينية مدة من
الزمن، ومات أوغوسطوس والعرش لا يزال شاغرًا.
وبعد وفاة غايوس ثار أشراف برتية، وخلعوا فراتاكس، وأقاموا «هيرودس
Hyrodes» ملكًا عليهم، ثم اغتالوا الملك الجديد
لقساوته وحدة طبعه، وأرسلوا وفدًا إلى رومة يرجون إرسال «فونونه
Vonones» أكبر أبناء فرآتس الرابع؛ ليحكم البلاد
ويدبر شئونها، فوافقت رومة، وتولى فونونه ما بين السنة ٦ والسنة ٨ب.م.،
46 ولكن النبلاء لم يرضوا عنه؛ لأنه كان قد تخلق بأخلاق الرومان، فلم يركب
متون الجياد، ولم يرغب في الصيد، فدعوا «أرتبانه
Artabanus» أحد أمراء قبائل الداهاي الضاربة في شمال هركانية موطن
«الأراسكة
Arsacid» لتولي مقاليد الحكم
والملك، فاستتب له الأمر بعد قتال قصير الأمد، وجلس على عرش برتية في السنة
١١-١٢ب.م.،
47 ولجأ فونونه إلى أرمينية طامعًا في عرشها.
(٨) ولاية سورية
ووسَّع بومبايوس ولاية سورية، وجعلها تشمل الساحل الفلسطيني من جبل الكرمل حتى
غزة، وجعل عاصمتها أنطاكية،
51 وعمل بمفهوم الدولة آنئذٍ، فشجَّع الانتظام المديني ولا سيما حيث كان
العنصر اليوناني قويًّا، أو حيث كان التهلُّن شديدًا، فاستقلت معظم المدن السورية
في كثير من شئونها الداخلية، وشجع التعاون بين بعض المدن النائية ليسهل عليها
الدفاع عن النفس في المشاكل المحلية، فنشأت «جامعة
المدن العشر
Decapolis» في شرق الأردن وحوران حتى الغوطة، وشملت هذه الجامعة
دمشق في أقصى الشمال، وعمان
Philadelphia في أقصى
الجنوب، وبيسان
Scythopolis على ضفة الأردن
الغربية، وفحل
Pella و«جرش
Gerasa» و«قنوات
Kanatha»
و«رفح
Rafana» و«الحصن
Dion» وأم قيس
Gadara وفيق
Hippos،
52 ومهد لنجاح هذا النظام المديني فطرد الطاغية اليهودي سيلاس من جسر
«شغور
Lysiade»،
53 وضرب العيطوريين في معاقلهم في تلال لبنان، ولا سيما في جرد جبيل
والبترون، وأمر بديونيسيوس أمير طرابلس و«كنراس
Kinras» أمير جبيل فقُتلا، وأكره بطليموس ابن «منايوس
Mennaeos» أمير عنجر
Chalcis على دفع ألف وزنة،
54 وأبقى بومبايوس الإمارات الوطنية المستقلة، إما لتفصل بين رومة وبين
مناظرتها برتية، فتتحمل الصدمات الأولى على أقل تقدير، وإما لتؤمن الأمن عند
الحاجة، فاستمرت إمارة الرها العربية في الشمال الشرقي بيد أباجرتها، وإمارة
العيطوريين العرب في البقاع وحتى وادي بردي، وإمارة شمسي غرام العربي في حمص
وضواحيها، ومملكة الأنباط العرب في جنوب الأردن وحتى الحجاز، وجعل من فلسطين دويلة
يهودية ثيوقراطية، كما سيُذكر في محله.
ورأى أوغوسطوس أن جبال طوروس العالية فصلت قيليقية عن سائر آسية الصغرى، وأن حاجز
الأمانوس الذي فصل سورية الشمالية عن قيليقية لم يكن صعب المرتقى، وأن الممر
الأرسلاني الذي ربط القوروشية ومدينة «الإصلاحية
Nicopolis» بسهول قيليقية كان عريضًا، لا يعلو في أعلى أعاليه
أكثر من ثلاثة آلاف قدم، وأن ممر بيلان لم يعلُ أكثر من ألفي قدم، فضم في السنة
٢٧ق.م. «قيليقية السهل
Cilicia campestris» إلى
ولاية سورية، ووكل أمور هذه الولاية إلى مفوض «قائد سابق
legatus pro
praetore»
من رتبة قنصل، فأمسى والي سورية أعلى رتبة من جميع ولاة الإمبراطورية.
55
وحكم الوالي الروماني سورية الشمالية حكمًا مباشرًا، وظلت سورية الجنوبية خارج
المدن الحرة خاضعة لأميري حمص وعنجر، يردان عنها غزوات البدو من الشرق ومطامع
العشائر اللبنانية المعتصمة في السلسلتين الغربية والشرقية، وظل «ابن زينون
Zenodorus» شيخ المشايخ
tetrachus والكاهن الأعلى مسيطرًا على
وادي البقاع وبعلبك ومنحدرات السلسلتين اللبنانيتين الغربية والشرقية والغوطة
وحوران حتى السنة ٢٤ق.م.،
56 فلما غفل عن واجبه وأهمل مراقبة الأمن في مناطقه سُلخت عن إمارته اللجا
Trachonitis و«البثنية
Batanaea» و«حوران
Auronitis»
وضُمت إلى منطقة هيرودس، ولدى وفاته في السنة ٢٠ق.م. أُلحقت بعهدة هيرودس أيضًا
المنطقة الواقعة بين الجليل واللجا، وفي السنة ١٤ق.م. قضت ظروف رومة الداخلية — كما
سبق وأشرنا — بإقطاع إبطال الحرب الأهلية أراضي يستغلونها، فجاء أغريبة بالفرقتين
المقدونية الخامسة
Legio Macedonica والأوغوسطية
الثامنة
Legio Augusta، وأنزلهما في بيروت وبعلبك،
وأوجب عليهما صد غزوات العشائر اللبنانية، وفرض هيبة رومة عليها،
57 وظلت هذه العشائر تركب هواها وتُصرُّ على غيها، فاضطر كويرينيوس في
السنة ٦-٧ب.م. أن يجرِّد عليها حملة منظمة، وأن يدخل بعض أفرادها في قوات رومة
المساندة،
58 ثم قسَّمت رومة الإمارة العيطورية العربية إلى ثلاثة إمارات: إلى إمارة
«عنجر
Chalcis»، وإمارة «وادي بردي
Abila»، وإمارة «عرقة
Arca»، واستمرت هذه الإمارات مستقلة استقلالًا إداريًّا داخليًّا
حتى نهاية القرن الأول.
59
(٩) ولاة سورية
وكان الولاة الذين تعاقبوا في الحكم في عهود بومبايوس وقيصر وأنطونيوس قادة جيوش،
دأبهم الدفاع عن الحدود وتحديدها وتوطيد السلطة في داخل الولاية، ولم يمثلوا رومة
في الشرق بقدر ما مثلوا بومبايوس أو قيصر أو أنطونيوس.
وتولى السلطة في عهد بومبايوس يمينه «سكوروس Marcus Aemilus
Scaurus» (٦٥–٦٢ق.م)، ثم
«مركيوس Lucius Philippius Marcius» (٦١-٦٠)،
و«مركلينوس Gnaeus Cornelius Lentulus Marcellinus» (٦٠–٥٧ق.م)، وتولى بعدهما «غابينيوس Aulus Gabinius» (٥٧–٥٥)، ثم «كراسوس Licinius Crassus» (٥٤-٥٣)، و«كاسيوس Gaius Cassius Longinus» (٥٣–٥١)، و«بيبولوس Marcus Bibulus» (٥١-٥٠)، و«فينتو Vejento» (٥٠-٤٩)، و«سكيبيو Metellus Scipio» (٤٩-٤٨).
وأسند يوليوس قيصر ولاية سورية إلى كل من «سكستوس Sextus Caesar» (٤٧-٤٦)، و«بسوس Caecelius Bassus» (٤٦)، و«فيتوس Antistius Vetus» (٤٥)، و«ستاتيوس L. Marcus Statius» (٤٤)، وعاد كاسيوس إلى سورية بعد مقتل قيصر وتولى
شئونها (٤٤–٤٢)، وسيطر أنطونيوس على شئون الشرق بعد فيليبي (٤١–٣٠)، فأسند ولاية
سورية إلى «سكسة Lucius Decidius Saxa» (٤١-٤٠)،
و«فنتيديوس Publius Ventidius» (٣٩-٣٨)،
و«سوسيوس Qaius Sosius»
(٣٨-٣٧)، و«بلانكوس Lucius Monatius Blancus»
(٣٥)، و«بيبيلوس L. Calpurnius
Bibulus» (٣٢-٣١).
أما الولاة في عهد أوغوسطوس، فإنهم «ديديوس Q. Didius» (٣٠)، و«مسلَّة M. Valerius Corvinus Messalla» (٢٩)، ثم شيشرون؟
Marcus Tullius Cicero (٢٨)، و«فارو Varro» (–٢٣)، «فماركوس أغريبة Marcus Agrippa» (٢٣–١٣)، و«تيتيوس Marcus Titius» (–١٠)، و«سترنينوس Gaius Sentius Saturninus» (٩–٦)، و«فاروس Publius Quinctilius Varus» (٦–٤)، وغايوس قيصر
(١–٤ب.م.)، و«سترنينوس L. Volsius Saturninus»
(٤-٥ب.م.)، و«كيرينيوس Publius Sulpicius Quirinius» (٦-٧)، و«سيلانوس Q. Caecilius Creticus Silanus» (١٢–١٧).
وجاء بعد هؤلاء في أيام طيباريوس قيصر (١٤–٣٧) «بيسو
Gnaeus
Calpurnius Piso» (١٧–١٩)،
و«سترنينوس
Gaius Sentius Saturninus»
(١٩–٢١)، و«لميا
Aelius Lamia» (–٣٢)،
و«فلاكوس
L. Pomponius Flaccus» (٣٢–٣٥)،
و«فيتاليوس
Lucius Vitellius» (٣٥–٣٩)، وتولى
في عهد «غاليغيولا
Galigula» (٣٧–٤١) «بترونيوس
Publius Petronius» (٣٩–٤٢)، وعين كلوديوس
(٤١–٥٤) كلًّا من «مرسوس
Gaius Vibius Marsus»
(٤٢–٤٤)، و«كاسيوس
Gaius Longinus Cassius»
(٤٥–٥٠)، وهو القاضي الشهير لا قاتل قيصر، وجاء بعده
«كوادراتوس
Gaius Ummidius» (٥٠–٦٠)، وجاء في عهد نيرون كوربولو (٦٠–٦٣)، ثم
«غالوس
Gaius Gestius Gallus» (٦٣–٦٦)، ثم
«موكيانوس
Gaius Lucinius Mucianus»
(٦٧–٦٩).
60