الفصل التاسع

خلفاء أوغوسطوس الأقربون

وقدر الرومانيون أوغوسطوس حق قدره، واعترفوا بفضله، فوالوا أقرباءه وانصاعوا إليهم، وكان الجيش أشد الأوساط الرومانية وفاءً وأصدقها عهدًا لأوغوسطوس، فشدَّ أزر خلفائه الأقربين، ومكنهم من الحكم نصف قرن من الزمن، وعُرف هؤلاء الخلفاء الأقربون بالأسرة اليوليوسية الكلودية؛ لأنهم انتسبوا إما لأوغوسطوس مباشرة، وإما لزوجته الثالثة لبية وولديها من زوجها السابق طيباريوس كلوديوس نيرون.

(١) مشكلة الخلافة

وأحب أوغوسطوس أن يضمن سلامة ما جنى لرومة واستمراره بعد وفاته، ورغب في أن يكون خليفته في المنصب من ذريته، ولم يرَ في هذه الرغبة ما لا يتفق وعُرْف الرومانيين والمحافظة على التقليد، ولم ينفر وجوه رومة وشعبها من هذه الرغبة، فالشيوخ كانوا قد سبقوه إلى ذلك فيما تعلق بوظائفهم، وتوأد أوغوسطوس وتأنى كعادته، ولم يعجل البت في ذلك، ولم يتسرع.

ولم يرَ قبل زواج وحيدته يولية، أي قبل السنة ٢٣ق.م. سوى حل واحد، هو تبني ابني زوجته الثالثة لبية من زوجها الأول طيباريوس كلوديوس نيرون، وهما طيباريوس ودروسوس، ورأى لهذه المناسبة أن لا بد من الاستعانة بحكمة يمينه أغريبة ودرايته، ولا سيما وأن الربيبين كانا لا يزالان صغيرين، وهكذا، فإنه عندما شقَّ عليه مرضه في السنة ٢٣ق.م.، وأعضل الأطباء وأعياهم سلَّم خاتمه إلى أغريبة، وبعد أن صحَّ جسمه وتعافى استصدر لأغريبة «سلطة بروقنصلية imperium proconsulare» على جميع الولايات الإمبراطورية، فأكد بذلك عزمه على أن يكون أغريبة خليفته بعد وفاته، ثم أزوج أوغوسطوس في السنة ٢٣ق.م. بنته يولية من ابن أخته غايوس كلوديوس مركلوس، فأدرك أغريبة مغزى ذلك، وقام إلى الشرق يشرف على إدارة ولاياته، ثم توفي ابن الأخت فجأة، فعاد أغريبة إلى رومة في السنة ٢١ق.م.، وتزوج من يولية الأرملة بنت أوغوسطوس، وفي السنة ١٨ق.م.، قُلِّد أغريبة «السلطة الكبرى maius imperium» على جميع الولايات السناتوسية في الشرق، ثم في الغرب، ومنح «سلطة التربنة trubinicia potestas» فأصبح معاون أوغوسطوس في الحكم، وفي السنة ١٧ق.م.، تبنى أوغوسطوس حفيديه ولدي أغريبة ويولية، غايوس ولوقيوس، فاستتب أمر الخلافة لجيلين متتاليين.

ثم مات أغريبة في السنة ١٢ق.م.، وكان الحفيدان لا يزالان صغيرين، فاتجهت أنظار أوغوسطوس مرة ثانية إلى ربيبيه طيباريوس ودروسوس، فأكره أوغوسطوس ربيبه طيباريوس في السنة ١١ق.م. على حل عقد زواجه من بنت أغريبة من امرأته الأولى، وعلى الزواج من يولية أم الحفيدين، وأزوج دروسوس أخاه من أنطونية بنت أنطونيوس من أوكتافية أخت أوغوسطوس، ثم توفي دروسوس في السنة ٩ق.م.، فانفرد طيباريوس بولاية العهد، فجاءته سلطة التربنة، ولكنه آثر العزلة بعيدًا عن رومة، فأقام في جزيرة سبع سنوات متتالية، ولعل السبب في ذلك أن أوغوسطوس مال إلى حفيديه أكثر فأكثر، وأن أمهما يولية زوجة طيباريوس وبنت أوغوسطوس شذت في سلوكها الشخصي وقلَّ حياؤها، فأمست مضغة في أفواه القارضين.

figure
دروسوس ربيب أوغوسطوس.
وتناسى أوغوسطوس ربيبه طيباريوس، فجعل حفيده غايوس قيصر في السنة ٥ق.م. الأول بين «الفرسان الشبان princeps juventutis»، ثم قنصلًا حين أكمل العشرين من عمره، وذلك في السنة ١ب.م.، ومنح أخاه لوقيوس بدوره مثل هذا أيضًا، ومع أنه سمح لطيباريوس بالعودة إلى رومة في السنة ٢ب.م.، فإنه أبقاه بعيدًا عن السياسة والحياة العمومية، ثم أنشبت المنية أظفارها، فاختلجت لوقيوس في السنة ٣ب.م.، وغايوس في السنة ٤ بعده، وكان «أخوهما أغريبة Agrippa Postumus» عنيدًا لا يكبح جماحه، فاضطر أوغوسطوس أن يعود إلى طيباريوس، ويعيد له سابق نعمه.

(٢) طيباريوس قيصر أوغوسطوس (١٤–٣٧)

figure
طيباريوس قيصر.
وحلَّ بأوغوسطوس أصدق المواعيد في «نولة Nola» في التاسع عشر من آب من السنة الرابعة عشرة بعد الميلاد، وامتنع طيباريوس عن البحث في السلطة والحكم ما دام جثمان أوغوسطوس مسجَّى على سريره، ووصل الجثمان إلى رومة بعد خمسة عشر يومًا، واحتُفل بحرقه، وأُفلت نسر ليؤذن بانطلاق نفسه إلى مواطن الآلهة، وفي السابع عشر من أيلول التأم السناتوس فألَّه أوغوسطوس،1 وأوجب تشييد هيكل على اسمه، وتخصيص كهنة لخدمته، وتليت وصية الراحل الكبير، فإذا بها تخص طيباريوس بثلثي أمواله المنقولة وغير المنقولة، وبالتمتع باللقب أوغوسطوس، وتهب لبية الثلث الباقي من أمواله، وإذا بها أيضًا توجب اعتبار لبية من الأسرة اليوليوسية بالاسم «يولية أوغوسطة Julia Augusta»، وأراد السناتوس أن يخصها برتبة عالية الذروة باذخة الشرف، ولكن طيباريوس لم يرضَ، ومع أنها ظلت يولية أوغوسطة في إيطالية، فإنها تمتعت في إسبانية بلقب «والدة الأرض وما عليها Genitrix Orbis»، وفي أزمير بلقب «الأم الأوغوسطية Augusti mater»،2 وأمست في بعض مدن الشرق إلهة تستحق العبادة، مقترنة بإلاهات محلية.3
وأقسم الشيوخ والفرسان والشعب يمين الولاء لطيباريوس، واقترح الشيوخ أن يستمر طيباريوس في ممارسة سلطتي التربنة والبروقنصلية اللتين كانتا بيده مدى الحياة، وأن يتمتع بجميع الصلاحيات الأخرى التي كان أوغوسطوس قد تمتع بها، فأبى طيباريوس مؤثرًا — على حد قول المؤرخ فيليوس — أن يظل «مواطنًا مساويًا لغيره aequalis civis» على أن يصير «مواطنًا ممتازًا eminens priceps»، ثم حمل نفسه على ما كره، وقبل راجيًا أن يعفى من تحمل أعباء الوظيفة عندما يبلغ الكبر، فأكبر أصدقاؤه ومؤيدوه هذا التواضع والتردد، أما أخصامه، فإنهم رأوا في جميع ذلك مداهنة وخداعًا لا إباءً وتواضعًا،4 ومهما يكن من أمر هذا التردد في قبول اقتراحات الشيوخ، فإنه يجب ألا يغيب عن البال أن طيباريوس كان قد بلغ الخامسة والخمسين، وأنه كان قد مارس السياسة والحرب، وعرف رجالهما حق المعرفة، فاستثقل العبء وأراد ألا يكون هو الراغب الطامع، بل أن يكون مدفوعًا إلى الأمر من السناتوس نفسه محمولًا عليه، وقد يكون أوغوسطوس قد دبَّر كل هذا مع أصدقائه وأخصائه من رجال السناتوس في الجلسة الأخيرة التي عقدها معهم قبل وفاته بيوم واحد، فيكون أصدقاء طيباريوس على حق فيما فاخروا به، ويكون أخصامه على حق أيضًا فيما ادعوا به،5 ويرى رجال الاختصاص أن عهد طيباريوس في الحكم كان عهد «إمبراطور عسكري دائم imperator perpetuus»، وأنه بدأ في السابع عشر من أيلول سنة ١٤ب.م.6

(٢-١) تعاونه الوثيق مع السناتوس

وجرى طيباريوس على منهاج أوغوسطوس، فأشرك السناتوس في الحكم وتعاون معه،7 وكان الشيوخ أعضاء هذا المجلس رجالًا مجربين، خبروا السياسة، ومارسوا الحكم في الولايات، وكان مجلسهم ذا سلطة تشريعية في الحقلين الاجتماعي والديني في إيطالية، وذا صلاحية قضائية في الدعاوى الكبيرة، وكان أوغوسطوس قد أوجب حصر الانتخابات الشعبية بالمجلس السناتوسي، ورسم الخطط لذلك، فنفذ طيباريوس رغبة سيده الراحل، فزاد السناتوس قوةً، وازدادت الحاجة إلى التعاون معه.
وواظب طيباريوس على حضور جلسات السناتوس في أوائل عهده، واستشاره في شئون الدولة، وأكثر الاستشارة، ولجأ إليها في أمور لم تقع ضمن صلاحيات المجلس المستشار، وتحاشى التأثير على الأعضاء، فلم يُبْدِ رأيه بسرعة وشجع حرية المناقشة، ودخل المجلس بدون مرافقة أو حماية، ونهض لاستقبال القناصل وأكرمهم — في بعض الأحيان — بإجلاسهم في محله، وكثرت القرارات التي اتخذها السناتوس إما لتفسير بعض القوانين، أو لاشتراع غيرها، كتلك التي حرمت زنى نساء البيوتات الكبيرة، وتلك التي منحت المجرم الذي حُكم بالإعدام مهلة أيام عشرة،8 وحرص طيباريوس على أن يشرك السناتوس إشراكًا علنيًّا في بعض القضايا الهامة، فأشرفت هيئة سناتوسية على كري نهر التيبر وتدعيم ضفافه، وتولت لجنة سناتوسية أخرى ضبط عقارات الدولة والنظر في المشاكل القضائية المتعلقة بها، وتألفت ثالثة للنظر في الكتابات العمومية وإعادة نقش الممحو أو الضائع منها، وتولت رابعة إسعاف المنكوبين بالزلازل في آسية الصغرى، وشاء طيباريوس في السنة ٢٢ب.م. أن يقلد ابنه دروسوس «سلطة التربنة tribunicia potestas»، فلجأ إلى السناتوس، وجعل ابنه يتولى السلطة من المجلس، مقتفيًا بذلك عمل أوغوسطوس، وظل السناتوس المرجع الأعلى في شئون الولايات السناتوسية، ينظر فيها ويبت في أمرها، كما جرى حين حاولت مدينة مسالية ومدينة تريبية أن تنتفعا من وصيتين معينتين،9 أما الخلاف الذي نشب بين صيدا ودمشق حول الحدود بينهما، فإنه رُفع إلى «الوالي legatus» ليحكم فيه؛ لأن سورية كانت ولاية إمبراطورية،10 وحافظ طيباريوس على كرامة العائلات السناتوسية، فأقرَّ مساعدتها ماديًّا بعد التثبت من حاجتها بواسطة السناتوس نفسه.11
واحترم طيباريوس الدين الروماني، وحافظ على تقاليده، وحارب تسرب العقائد الغريبة وطقوسها، فطلب إلى السناتوس أن يحله من الخطيئة التي اقترفها حينما لمس جثمان أوغوسطوس بعد الوفاة، واهتم في السنة ١٩ب.م. اهتمامًا بالغًا لأمر الفضيحة التي حلَّت بكهنة إيسيس المصرية، وبعد التثبت مما جرى أمر بصلب الكهنة المجرمين، وبطرح تمثال إيسيس في التيبر وبردم هيكلها، وأكره أتباع إيسيس وعبادها أن يحرقوا بأيديهم ما تبقى، واحتال بعض اليهود على سيدة رومانية فسلبوها أموالها، فأقنع طيباريوس السناتوس بوجوب طرد اليهود من إيطالية ومنع عباداتهم، ثم جند أربعة آلاف منهم، وأنفذهم إلى سردينية للمحافظة على الأمن فيها.12
ولم يرضَ طيباريوس عن المجالدات والألعاب والمهرجانات وما شاكلها، ورأى فيها إسرافًا لا مبرر له، وخلاعة لا تليق بالخلق الروماني، فشكا من سلوك الممثلين مرارًا أمام السناتوس، وطرد المسئولين أصحاب العلاقة من إيطالية، وحدد عدد المجالدين، وأظهر امتعاضه من بناء الملاعب وإنشاء المسارح، وشدد في ذلك، فاحتج المجالدون أنفسهم، مدعين أن طيباريوس لم يفسح لهم المجال لإظهار قوتهم وبسالتهم.13

(٢-٢) علو همته في الإدارة

واضطلع طيباريوس بأعباء مهماته الإدارية، وذلل العقاب وروَّض الصعاب، فانتقى للوظائف أصحاب اللياقة والكفاءة، وأيدهم في تنفيذ القوانين، وشملهم برعايته وعنايته، وأطال بقاءهم في وظائفهم، ورعى الرعايا في الولايات بعين ساهرة، ومنع المصادرات، وحرَّم الضرب والتعذيب، وخضع للقانون، وجعل القضاة يحكمون بالعدل في الدعاوى التي كانت تقام على عملائه الخصوصيين الذين كانوا يديرون أرزاقه الشخصية، ولم يخش في كل ذلك لوم لائم، ولم يبال بانتقادات أخصامه ومناظريه، وكان يقول: لا أبالي بغضهم ما داموا يخشونني oderint dum probent.14
ولكن طيباريوس كان قليل الثقة بنفسه، متأنيًا باردًا، وكان أوغوسطوس قد زاده ريبة في مواهبه بتقريبه تارة وإبعاده تارة أخرى، فلما قُدِّر لطيباريوس أن يخلف سيده قبل الحكم مضطرًّا مسيرًا، ثم لمس تصنعًا من الشيوخ وتملقًا، وتكشَّف بعضهم عن ود كاذب وتآمروا، فاشمأز من الحكم وعافه،15 ولكن الذي شغل قلبه وضيَّق صدره لم يأت إلا من الأقرباء والأخصاء من أفراد أسرته، ومن ماذق وده سيانوس.

(٢-٣) جرامانيكوس وأغريبينة

وأوجب أوغوسطوس وصول جرمانيكوس ابن دروسوس أخي طيباريوس إلى السدة بعد طيباريوس لا دروسوس ابن طيباريوس من زوجته الأولى «ڨبسانية Vipsania» بنت أغريبة، وكان جرمانيكوس صبيح الوجه مشرق الجبين، محبوبًا من الشعب والجيش،16 وكان لا يزال في الثامنة والعشرين من عمره، وقد تزوج من أغريبينة حفيدة أوغوسطوس من بنته يولية وزوجها أغريبة، ولم يرغب جرمانيكوس في تعجيل وصوله إلى الحكم؛ لأن عمه كان في الخامسة والخمسين من العمر، ولم يصغ لدس الدساسين، ولم يلجأ إلى العنف لتعجيل الوصول، ولم يخن طيباريوس عهده لأوغوسطوس، ولم ينكث ولم يسعَ لإيصال ابنه دروسوس إلى الحكم قبل ابن عمه جرمانيكوس.
وكان جرمانيكوس معجبًا بوالده دروسوس مفاخرًا به، فأراد أن يتشبه به ويجري على أسلوبه، وكان قد تولى ولاية الغاليات الثلاث وقيادة الجيش فيها، فلما تمرد الجنود عند الرين والدانوب، مطالبين بجماكية أكبر وخدمة أقصر وضباط ألين وألطف، رأى جرمانيكوس أن يشغل جنوده بحملة على القبائل الألمانية عبر الراين، وأن يصل بهم إلى نهر الألب، ويجعله حد رومة الشرقي في ألمانية، ونهض على رأس جنوده منفذًا، فحارب القبائل ثلاث مرات في السنوات ١٤ و١٥ و١٧ب.م.، ولكنه لم يتمكن من احتلال ما افتتح احتلالًا دائمًا، فرأى طيباريوس أن الجلاء عن ألمانية والوقوف عند الرين أجدى وأنفع، وأن الابتعاد عن القبائل الألمانية وعدم التدخل في شئونها يعيد البلبلة إلى صفوفها، فاستدعى جرمانيكوس ابن أخيه ووكل إليه مهمة الإشراف على شئون أرمينية في الشرق بعد أن تدخل ملك البرت في شئونها، وطرد ملكها صديق رومة منها، واحتفلت رومة احتفالًا رسميًّا بعودة جرمانيكوس واعتبرته منتصرًا، ثم انتخبه السناتوس قنصلًا للسنة الثامنة عشرة بعد الميلاد، وخوَّله «السلطة الكبرى maius imperium»، وفوَّضه النظر في أمور الشرق، وأحب طيباريوس أن يكرم ابن أخيه، فاقترح أن يكون هو نفسه القنصل الثاني للسنة نفسها، وخشي طيباريوس أن يدفع حماس الشباب ابن أخيه إلى الدخول في حرب مع البرت، فاحتاط للأمر واستبدل «كريتيكوس سيلانوس Creticus Silanus» والي سورية وصديق جرمانيكوس بكورنيليوس كلبورنيوس «بيسو Piso»؛ ليرقب جرمانيكوس ويحد من حماسه وطموحه العسكريين، ونهض جرمانيكوس إلى الشرق فحوَّل قبذوقية وقوموجينة الحليفتين الصديقتين إلى ولايتين رومانيتين، ونصَّب ملكًا جديدًا على أرمينية، ثم رغب في زيارة مصر لتفقد آثارها، ونهض إليها بدون موافقة طيباريوس، فخالف بذلك التقليد الأوغوسطي، الذي حرَّم دخول مصر على أعضاء السناتوس بدون إذن الإمبراطور، وأغاث الجياع في الإسكندرية، فوزع عليهم من الحبوب ما كان في بعض أهراء الدولة، ولقي فيها ترحيبًا حارًّا فأصدر بيانًا استنكر فيه هذا الترحيب، فزاد خبره انتشارًا،17 ولدى عودته إلى سورية لمس تدخل بيسو في شئونه وفي الترتيبات التي أجراها، فأمره بالخروج من سورية، وما كاد بيسو يغادر سورية حتى توفي جرمانيكوس في أنطاكية، واثقًا من أن بيسو سقاه سمًّا زعافًا (١٩ب.م.)، فحملت أغريبينة أرملته رماده وقامت إلى رومة، فما كان من بيسو إلا أن عاد إلى سورية، فأثار بعودته الظن والقيل والقال، واضطر وكيل الوالي فيها أن يكرهه على الخروج منها، وعاد بيسو إلى رومة فمثل أمام السناتوس بدعوى القتل والدخول إلى ولاية سورية بالقوة، ومع أنه نجح في دفع تهمة القتل عن شخصه، فإنه ظل مسئُولًا عن عودته إلى سورية غير المشروعة فانتحر، وتهامس الناس ولغطوا بأن لطيباريوس يدًا في مقتل ابن أخيه، وأنه أراد أن يضمن بذلك وصول ابنه دروسوس إلى سدة الحكم بعده بدلًا من ابن أخيه جرمانيكوس، ومما زاد في الطين بلة، أن لا طيباريوس ولا أمه لبية اشتركا في مأتم جرمانيكوس، وأن لبية حمت بلانكينة أرملة بيسو من ثورة أغريبينة أرملة جرمانيكوس، فاشتد سخط أغريبينة على طيباريوس، وزادت نقمتها، وأعلنتها حربًا شعواء عليه لا هوادة فيها.18

(٢-٤) دروسوس وسيانوس

وأفسح موت جرمانيكوس المجال لدروسوس بن طيباريوس، ليخلف والده في الحكم، وكان قد انتُخب قنصلًا في السنة ١٥، فلما مات جرمانيكوس انتُخب قنصلًا مرة ثانية مع والده في السنة ٢١، ثم مُنح في السنة التالية سلطة التربنة، وتزوج في السنة ١٩ من «لويلة Livilla» أخت جرمانيكوس، فرُزق منها توأمين ذكرين، وضمن بهما الخلافة بعده،19 ثم توفي دروسوس فجأة في السنة ٢٣، فتبنى طيباريوس نيرون ابن أغريبينة وأخاه دروسوس، راجيًا أن يرضي بذلك أمهما أغريبينة، ويبرِّد غيظها ويردَّ جماحها، ولكن طيباريوس كان قد استسلم إلى سيانوس بثقته وأنِسَ بناحيته، وكان هذا قد بدأ يطمع بالحكم، فأوغر الصدور واستوقد الغيظ، وآثار كمين الضغن بين أفراد الأسرة الحاكمة، وهو «لوكيوس آيليوس سيانوس Lucius Aelius Sejanus» ابن «لوكيوس سيوس سترابو Lucius Sejus Strabo» ناظر الحرس البرايتوري، أحبه طيباريوس منذ بدء عهده في الحكم لما توسم فيه من مقدرة في السياسة والإدارة، فأشركه في نظارة الحرس مع والده (١٤)، ثم جعله ينفرد بها لدى قيام والده إلى مصر ليتولى أمورها (١٣)، ثم خصه بمودته بين السنة ٢١ والسنة ٢٣، فسمح له بحشد الحرس في ثنكات قريبة من أحد «أبواب رومة Porta Viminalis» فعظم شأنه، واشتدت هيبته، وأمسى «الرفيق المجاهد socius laborum» الذي لا يُتَّهم وُده ولا يُخشى غدره، فمقته دروسوس بن طيباريوس، واضطر أن يصفعه صفعًا، وتوفي دروسوس فجأة، فقيل أن سيانوس أغوى زوجة دروسوس فدست له السم فمات، وفي السنة ٢٥ طلق سيانوس زوجته، وأحب أن يتزوج من لويلة أرملة دروسوس، فلم يسمح طيباريوس بذلك، وظل سيانوس يطمع في الحكم، وظل يستغل نفور أغريبينة وأولادها، ثم استغل ضجر طيباريوس من الحكم وخيبة رجائه بوفاة ابنه دروسوس وكثافة ظل والدته لبية في تدخلها في أموره، فحسَّن له تجنب رومة وجوهًا والابتعاد عنها، فانتبذ طيباريوس مكانًا قصيًّا، وأقام منذ السنة ٢٦ في جزيرة «كابري Caprae» القريبة من ساحل نابولي، فأمسى سيانوس صلة الوصل الرئيسة بين السناتوس وطيباريوس، وتعذر على الشيوخ مناقشة طيباريوس، وتعذر عليه سماع أصواتهم، واكتفى الطرفان بمبادلة الرسائل على ضوء ما رآه سيانوس حقًّا.
وماتت لبية أرملة أوغوسطوس ووالدة طيباريوس في السنة ٢٩، فانطقع إرشادها وردعها فأبهل طيباريوس يمينه سيانوس، فتمادى هذا في غروره، وأقنع طيباريوس أن أغريبينة ومن شد أزرها من الشيوخ يتآمرون على سلامة شخصه، فاستعان طيباريوس بنص قانون «الخيانة العظمى Lex Julia de maiestate»، الذي اشترعه أوغوسطوس في السنة ٢٣ق.م.، وأوجب إبعاد أغريبينة وابنها نيرون، فاتخذ السناتوس قرارًا بذلك ونفاهما، وفي السنة ٣٠ دخل دروسوس بن أغريبينة السجن في رومة، واستغل سيانوس بعض الظروف وخلق غيرها خلقًا فاستبدل بعض القادة العسكريين بغيرهم من أخصائه، وحظي بموافقة طيباريوس على الزواج من إحدى نساء الأسرة الحاكمة، وانتُخب في السنة ٣١ قنصلًا مع طيباريوس، فاتضح للملأ اتجاهه نحو السدة، فهرعت أنطونية بنت أنطونيوس وأرملة دروسوس ووالدة جرمانيكوس تصارح سلفها طيباريوس في أمور سيانوس وخداعه ونفاقه، ولا سيما فيما تعلق بأغريبينة وأولادها، فأفاق طيباريوس من سكرته بخمرة سيانوس ولوى عنانه فأبصر رشده، فاستدعى غايوس أصغر أولاد أخيه جرمانيكوس إلى كابري ليضمن سلامته، واستعفى في آيار السنة ٣١ من القنصلية؛ ليكره سيانوس على الاستعفاء أيضًا ففعل، ثم عين «سرتوريوس ماكرو Sertorius Macro» ناظرًا للحرس، وفي الثامن عشر من تشرين الأول، جاء سيانوس إلى مجلس الشيوخ؛ ليسمع تلاوة رسالة طيباريوس الطويلة العظيمة verbose et grandis epistula الرائعة، ويحظى بسلطة التربنة، فخاب رجاؤه وطاش سهمه، عندما اطلع قبيل نهايتها على ما حملته له، وأدرك أنه أمسى خائنًا في نظر طيباريوس، فحكم السناتوس على سيانوس بالإعدام، فخُنق في سجنه، ومُزِّق تمزيقًا.20

(٢-٥) سنوات طيباريوس الأخيرة

وعقد طيباريوس بسيَّانوس حبل أمانيه فأخلف الدهر ظنه، وشوَّه وجوه آماله، واعترفت زوجة سيانوس قبل انتحارها أن زوجها هو الذي أغوى لويلة لتدس السم لدروسوس، فخفف هذا الاعتراف حدَّة الخيبة، ولكن طيباريوس ظل كاسفًا كئيبًا، ولزم قصره في جزيرة كبري تسعة أشهر متتالية ولم يخرج — بعد ذلك — من الجزيرة إلا مرات معدودة، وقضى ساعات فراغه مع رجال الفقه والعلم والأدب، أو انزوى منجمًا، ولا صحة في القول أنه انغمس في الملذات الشهوانية وفي الفسق والفحش، ولم يهمل واجباته الإدارية، ولكنه لم يقم في رومة ولم يحضر جلسات مجلسها، وازداد شكه واشتد نَكَدَهُ، ولكنه لم يُمس ذاك الطاغية الذي أنهى أيامه بالشدة والإرهاب، وجل ما هنالك أنه لاحق جماعة سيانوس وضربهم بقساوة، ولكنه لم يأمر بإعدام أحد منهم بدون تحقيق ومحاكمة، فإنه في السنة ٣٢ أطلق راح سبعة ممن وقعت عليهم الشبهة، ولم يعدم سوى تسعة من مجموع ستة عشر، وكان دروسوس بن جرمانيكوس أحد الضحايا الذين لاقوا حتفهم على يد طيباريوس، ويجوز اعتبار أغريبينة إحدى هؤلاء الضحايا؛ لأنها امتنعت عن الطعام في منفاها، وماتت جوعًا.

ولم ينم طيباريوس عن أمور الدولة في سنواته الأخيرة، ولم يتركها رهن الطوارق، فإنه عندما حلت الضائقة في رومة في السنة ٣٣ وقلَّت النقود فيها فتح اعتمادًا للتسليف بدون فائدة قدره مائة مليون سيستركس، وفي السنة ٣٦ قدم مبلغًا كبيرًا لإغاثة المتضررين من حرائق مرتفع «الأفنتين Aventine»، ومكنه اقتصاده في نفقات البلاط وإحجامه عن إنشاء الأبنية العامة وتشجيع التمثيل والممثلين من تنزيل ضريبة البيع من واحد في المائة إلى نصف واحد في المائة، ومن إبقاء ألفين وسبعمائة مليون سيستركس في الخزينة حتى وفاته.
وارتفعت سن طيباريوس ومسَّه الكبر، وكان حفيده «غميلوس Gemellus» ابن دروسوس لا يزال صغيرًا، وكان ابن أخيه كلوديوس طائشًا أحمق في نظر عمه، فاتجهت أنظار طيباريوس نحو حفيد أخيه غايوس بن دروسوس بن جرمانيكوس، وجعله هو وعمليوس الصغير وريثيه معًا، ومن يدري فلعله ترجى أن يطول عمره إلى أن يبلغ عمليوس أشده، ولكنه توفي عند «رأس ميسينوم Misenum» في السادس عشر من آذار سنة ٣٧، وكان «ماكرو Macro» ناظر الحرس قد تودد إلى غايوس وتقرب منه، فقيل: إن الاثنين معًا عجَّلا موت طيباريوس تعجيلًا، وقيل أيضًا: إن الجماهير ارتاحوا لموته فصاحوا: «أعطوا طيباريوس للتيبر».21

(٣) غايوس قيصر أوغوسطوس (٣٧–٤١)

هو غايوس بن جرمانيكوس وأغريبينة ابن دروسوس وأنطونية، هو حفيد أخي طيباريوس، وهو حفيد أنطونية بنت أنطونيوس، وهو حفيد يولية بنت أوغوسطوس، وُلد في «أنتيوم Antium» أنتزيو الحديثة مرسى لاتيوم القديمة في الحادي والثلاثين من آب سنة ١٢ب.م.، قضى الثالثة والرابعة من عمره (١٤–١٦) في وادي الرين مع والديه، ولفت حذاؤه العسكري الصغير أنظار مغنجيه من الجند، فعُرف به caligula، وجاء إلى الشرق مع والديه في السنة ١٨-١٩، وبعد وفاة والده في السنة ١٩ أخذته أمه إلى رومة، وبقي في كنفها حتى نفيها في السنة ٢٩، ثم عاش مع جدته لبية وأنطونية الصغرى حتى استدعاه طيباريوس إلى جزيرة كبري في السنة ٣٢.
وكان غايوس ذكيًّا فطنًا معلمًا جذابًا لسنًا لطيف المعاشرة، ولكنه كان قليل الاتزان جسمًا وعقلًا، فإنه أصيب منذ حداثته بداء النقطة، فأمسى كسولًا متقلب الأهواء، كثير الوساوس غريب الأخلاق، فكنت تراه يتلذذ بمشاهد العذاب والأذى، وينغمس بملذات الجسد فيتردد على المحلات العمومية متنكرًا بقبع غريب من الشعر، مشتملًا بمعطف يغطي معظم جسده، ومن هنا قول طيباريوس: «إني أتغاضى عن بقاء غايوس؛ ليشقى ويتعس الجميع معه»، وقوله أيضًا: «إني أربي أفعى للشعب و«فايتونًا Phaeton» آخر للكون».22
وارتاح الرومانيون لوفاة طيباريوس، واستبشروا بوصول غايوس إلى الحكم بعده، ولم يتقيد السناتوس بوصية طيباريوس، واعتبره غير صحيح العقل، فمنع غمليوس عن مشاركة غايوس في الحكم، ووضع جميع أموال الموصي تحت تصرف غايوس،23 وشمل السرور سكان الولايات أيضًا، فشُيدت المذابح، وزُينت وذُبحت الذبائح، فبلغ عددها في ثلاثة أشهر مائة وستين ألف ذبيحة، وحيَّت المدن الشرقية الإله الشمس الجديد «غايوس قيصر أوغوسطوس جرمانيكوس»، وسكت نقود جديدة في الإسكندرية تحمل على وجهها رسم غايوس متوجًا بتاج «الإشعاع» وعلى ظهرها «نصف بدر»،24 وحيَّا السناتوس أغريبينة الكبرى وسك النقود باسمها.
وبدأ غايوس حكمه بتحرير رومة والولايات من قيود طيباريوس، فتبنى غميلوس وجعله الأول بين الشباب Princeps Juventutis، وأشرك عمه كلوديوس فجعله قنصلًا معه، ووضع حدًّا للتحريات في مسائل الخيانة العظمى وإعادة المنفيين، وسمح بنشر بعض الكتب المحرمة، وألغى ضريبة البيع، وأجزل العطاء للجند.25

(٣-١) حماقته وسوء سلوكه

ثم تألم غايوس، وتشكى في السابع والعشرين من تشرين الأول من السنة الأولى (٣٧) لحكمه، ولما تماثل وأشكل عاد إلى عمله مسرفًا متجاوز الحد، أحمق، طماعًا، شرهًا، قاسيًا ضاريًا، فأمر باستحضار تماثيل أشهر الآلهة من بلاد اليونان؛ ليستبدل رءُوسها برأسه،26 وابتلع اللالئ الثمينة محلولة بالخل، ونثر على الجماهير من شرفة باسيليقة يولية مقادير هائلة من النقد الصغير،27 فبذر قبل انتهاء السنة ٣٨ كل ما اختزنه طيباريوس في عهده، وقد بلغ — كما سبق وأشرنا — ألفين وسبعمائة مليون سيستركس!
ولما فرغت خزينته من المال، أعاد ما ألغى من الضرائب، وفرض الجديد منها، وابتزَّ الأموال ابتزازًا بما أوتي من سلطة وفن، وزاد طمعه فأمر بتغطية أرض قاعة من قاعات قصره بالقطع الذهبية ليطئها هو حافي القدمين، أو لينحدل عليها، ويتمرَّغ فيها.28
وقسى قلبه وخشن جانبه، فأمر بقتل ابن عمه غميلوس، وعمه سيلانوس، وأكره صديقه ماكرو وزوجته على الانتحار، وكان يأمر الجلادين بتحاشي الضربات السريعة القتل، فيقول لهم: «اضربوا بشكل يجعل فريستكم تشعر بالموت»،29 وكان يتلذذ بمشاهدة المساجين يتعذبون، ويحتفظ بجندي حاذق في فن التعذيب،30 ولما جاء يدشن جسر القوارب الكبير بين «بوزولس Pouzzoles» و«بولي Bauli»، طلب إلى جميع المشاهدين أن يأتوا إليه إلى الجسر، فلما اكتمل عددهم انقلبت بهم القوارب فغرقوا، ثم أمر غايوس بمن نجا،31 ودعا الوجوه والحكام إلى مأدبة فاخرة وأجلس القنصلين إلى جانبه، ثم فاجأ الحضور بقهقهة قوية جلق لها فمه، فسأله القنصلان عن السبب فقال: «لقد لاح لي أنه بإمكاني أن أذبحكما معًا بإشارة واحدة».32

(٣-٢) رأيه في الحكم

ولم تكن أقوال غايوس وأفعاله كلها من ظواهر الحمق وفساد العقل، فإنه قال بالملكية المطلقة، متأثرًا برأي يوليوس في الحكم وبما طبقه أنطونيوس في الشرق وما نقلته إليه جدته أنطونية وربَّته عليه،33 فيكون — والحالة هذه — أول من حاول الحكم المطلق في رومة، ولعله قال بحكم ثيوقراطي من النوع الذي شاع في الشرق في عهد خلفاء الإسكندر في مصر وسورية، فالحاكم في نظره كان سيد شعبه وإلههم في آن واحد، ومن هنا قوله للملوك والأمراء الذين أموا رومة ليؤكدوا ولاءهم لسيدها، وحينما اجتمعوا حول مائدة واحدة بدءُوا يفاخرون ويتفاخرون بحسبهم ونسبهم: «لم يبقَ سوى سيد واحد وملك واحد»،34 ومن هنا التشريفات الملكية في قصره ووجوب السجود له،35 ومن هنا أيضًا تفكيره الجدي في تتويج رأسه بالذياذمة وفي اتخاذ جميع شارات الملك لنفسه، ثم عدوله عن ذلك واتخاذه شارات الآلهة؛ لأنه أعلى وأسمى من جميع الملوك والأمراء، والواقع أنه تردى برداء باخوس ونبتون وأبولون أو يوبتر، وأخذ على اليهود، لدى مثول وفدهم أمامه في السنة ٣٩، أنهم لم يعبدوه إلهًا،36 ثم فرض عبادة شخصه فرضًا على الرومانيين وسكان الولايات منذ السنة ٤٠.37

(٣-٣) مقتله (٤١)

ودكَّ التهتك غايوس فأضعفه وهدَّه هدًّا، ولعله ابتلي بداء الزهري أيضًا، فوقف على ثنيَّة الوَداع، وهو لا يزال في التاسعة والعشرين من عمره، وكان سمين الضواحي صغير الرأس أصلعه، كالح الوجه، غائر العينين ينظر شزرًا وغدرًا، وعاب في مطلع السنة ٤١ «كاسيوس خيارية Cassius Chaerea» أحد كبار ضباط الحرس وعوَّج فمه عليه، وأساء إليه وأتبع السيئة السيئة، فاغتاله كاسيوس في أحد دهاليز القصر، ثم قتل زوجته وبنته أيضًا، فثبت لغايوس عندئذٍ أنه لم يكن إلهًا!38

(٤) كلوديوس قيصر (٤١–٥٤)

وخلا مكان غايوس وتقلَّص ظله، وتسدَّل ليل الرابع والعشرين من كانون الثاني من السنة الحادية والأربعين على عاصمة واجمة وسناتوس ذابل وخزينة فارغة، فلما أشرقت شمس الخامس والعشرين التأم السناتوس ليتدبَّر الأمور بحكمته، فقال بعض الشيوخ بالعودة إلى النظام الجمهوري بكامله، وقال آخرون بوجوب المحافظة على النظام الأوغوسطوسي السائد، واستعرض هؤلاء أسماء الأكفاء ليختاروا منهم خلفًا لغايوس، وفيما هم يبحثون ويتناقشون فاجأهم الحرس مناديًا بكلوديوس امبراطورًا خلفًا لغايوس، فانصاع الشيوخ لنداء الحرس، فتسلم كلوديوس أزمة الحكم وسياسة الدولة،39 وظل الشيخ «أنيوس فينيكيانوس Annius Vinicianus» طامعًا في الحكم فاتصل ﺑ «غوريوس سكريبونيانوس Furius Scribonianus» والي دلماتية وتآمرا معًا، فتمرد الجند في دلماتية على الإمبراطور الجديد، ولكن تمردهم لم يدم أكثر من أربعة أيام، فنالوا اللقب Claudia Pia Fidelis.
figure
كلوديوس قيصر.
هو ابن دروسوس أخي جرمانيكوس من زوجته أنطونية، وُلد في «ليون Lugdunum» من أعمال غالية في السنة العاشرة قبل الميلاد، وأصيب بشلل الأطفال أو غير ذلك من الأمراض، فنشأ ناحل الساقين ومشى متوركًا متمايلًا، وأحب الخمرة وأفرط الشهوة في الطعام فشكا من داء النقرس، وتعتع في الكلام وتصخَّب في الضحك، وأرغى إذا غضب وأزبد وسال أنفه وتقطر، ورقَّ ذووه لحاله، ولكنهم أهملوه واستخفوا به، فنشأ حسَّاسًا وَجلًا، وعاش منزويًا مبتعدًا عن معترك الحياة، لاهيًا بالقمار والكتب والخمر، وأتقن اللاتينية واليونانية وعني بفقه اللغتين، وصنَّف رسالة في الحروف الأبجدية اللاتينية، مقترحًا إضافة حروف ثلاثة منها: الحرف v بلفظه في اللغات الحديثة، واستقصى أخبار الرومان عاملًا بإشارة لبيوس، فصنف في تاريخ اترورية ورومة وقرطاجة وعصر أوغوسطوس، ودوَّن سيرته الشخصية أيضًا، وأحاط بالعلوم والفلسفة والدين، وقدره العلماء والأدباء واستشاروه في بعض الأمور وقدموا بعض مصنفاتهم له، ولعله كان على حق حين قال: إنه تظاهر بالبَلَه ليضمن سلامة رأسه.40

(٤-١) رأيه في الحكم وأسلوبه

وحاول كلوديوس يوم مقتل غايوس الاختباء في جملون القصر بين السقف والسطح، أو وراء حجاب عند إحدى الشرفات، أو في محل آخر، ولكن الجنود الذين كانوا يجدون في التفتيش للنهب والسلب، عثروا عليه وعرفوه فأخذوه إلى معسكر الحرس، وجرت مفاوضات بينه وبين كبار الضباط، فأثر هؤلاء حفيد دروسوس وابن جرمانيكوس العسكريين على غيره ممن لم يعرفوا، ووعد كلوديوس بهبة قدرها خمسة عشر ألف سستركس لكل واحد من الرجال، فنادوا به إمبراطورًا، واتخذ هو الاسم «طيباريوس كلوديوس قيصر أوغوسطوس جرمانيكوس»،41 فاعترف بعمله هذا بسيادة الجيش، وعبث بحق المجلس في انتخاب المواطن الأول، ولكنه لم يقل قول غايوس بالحكم المطلق، ولم يفرض تأليهه فرضًا، بل اعترف بحق السناتوس بالاشتراك في الحكم، ووعد وعدًا أكيدًا باحترام هذا الحق، وسك نقودًا تحمل العبارة Libertas Augusti، فأعلن رغبته الأكيدة في العودة إلى النظام الأوغوسطي.42
وأحاط كلوديوس بتاريخ رومة بجملته وتفاصيله، وعرف تقاليدها ظاهرها وباطنها، وفاخر برومة وشعبها، فأحب أن يُحسن السياسة، وحقق رغبته أكثر من مرة، ولكن أدب عصره يصوره سهل الانقياد مستسلمًا لرجال بطانته ونسائه، ولا سيما «مسالينة Messalina» زوجته الثالثة، التي صُرعت في السنة ٤٨، وخليفتها أغريبينة الصغرى،43 ولولا وفرة النصوص الباقية من أوامره، إما على الحجارة، وإما على الأوراق البردي لاضطررنا أن نجاري أدباء عصره فيما صوَّروه، والواقع أن أوامره الصادرة عنه الباقية حتى يومنا تظهره إداريًّا موهوبًا، فإنه نجح — فيما يظهر — في انتقاء معاونيه وقادة جيوشه وسيَّر الأمور بموجب خطة رشيدة اختطها لنفسه أو وافق عليها، ثم خارت قواه في أيامه الأخيرة فخضع لمن حوله، كما جاء في بعض النصوص المعاصرة.

وهكذا، فإننا نراه يستهل أعماله الإدارية القضائية بإنزال العقاب اللازم بخيارية قاتل غايوس، وببعض المتآمرين أيضًا، ولكنه لا يمس المتآمرين من أعضاء السناتوس بسوء، ونراه يلغي قرارات غايوس الشاذة أو المتطرفة، ويسمح بعودة المنفيين ويصدر عفوًا عامًّا، ومن هنا أيضًا، إشارته العلنية إلى سخف غايوس وضعف عقله، وإضافة الاسم قيصر إلى اسمه؛ ليثبت احترامه ليوليوس ومن تحدر منه، وليؤكد استمراره في سياسة أوغوسطوس الرشيدة.

(٤-٢) كلوديوس والسناتوس

وابتعد كلوديوس عن استئثار غايوس بالسلطة، وحاول مخلصًا أن يتعاون والسناتوس على طريقة أوغوسطوس، فأعاد للسناتوس صلاحياته الانتخابية، وأحال عليه القضايا ليبت فيها بقرار صادر عنه Senatus Consultum، ولم يرشح نفسه لمنصب القنصلية أكثر من أربع مرات، وحافظ على مكانة الشيوخ الاجتماعية، وأجلسهم في أفضل المقاعد في ميادين السباق، وأعاد إليهم في السنة ٤٤ ولايتي آخية ومقدونية، وبعد إخضاع بريطانية أشركهم في إدارة أمورها، وواظب على حضور جلسات السناتوس، وأظهر لأعضائه كل إكرام واحترام، ولكنه أحيى في السنة ٤٧-٤٨ وظيفة «المراقب censor»، ومارس بنفسه صلاحياتها، فرقى إلى عضوية السناتوس من رآه أهلًا لذلك، غير مكترث بالطريقة التقليدية المألوفة adlectio، فطرد بعض الأعضاء القدماء، وأدخل عددًا من سكان الولايات، ولا سيما الزعماء الغاليين.
وأصرَّ كلوديوس على العمل المجدي، فأوجب على الشيوخ حضور الجلسات والاشتراك في بحث القضايا والابتعاد عن الموافقة بدون ترو وقناعة، فهو يقول في كلمة وجهها إلى الأعضاء لمناسبة اقتراح قدمه لإصلاح أصول المرافعة أمام السناتوس: «إذا كنتم لا توافقون، فأوجدوا حلًّا آخر؛ لأنه لا يليق بجلال هذا المجلس ووقاره أن يقول المرشح للقنصلية قول القناصل كلمة كلمة متبنيًا اقتراحهما، وأن تقولوا جميعكم بعد ذلك «إني أوافق»، ثم تخرجوا زاعمين أنكم بحثتم القضية التي عُرضت أمامكم»،44 ولعل هذا الشعور بقعود الشيوخ عما تسمو إليه النفوس العزيزة، وعجزهم عن القيام بالواجب دفع كلوديوس إلى الإنقاص من حقوقهم وصلاحياتهم، وإلى توسيع صلاحيات غيرهم من موظفي الدولة، وهكذا، فإننا نراه يستعيض عن أميني المال لدى «الأسطول quaestores classici» في «مسينة Misenum» و«ربينة Ravenna»، اللذين كانا يعينان من قبل السناتوس بناظري هذين الأسطولين، ونراه أيضًا يعين محصلًا إمبراطوريًّا في «مرفأ أوستية procurates portus Ostiensis» محل أمين المال فيها، ونراه كذلك يعين في السنة ٤٤ أمينين لإدارة شئون الخزينة و«المحفوظات Aerarium» في رومة لمدة ثلاث سنوات، ويولي موظفين إمبراطوريين الإشراف على الطرقات فيها بدلًا من الأمناء، الذين شغلوا هذه الوظيفة باسم السناتوس، ولعله عالج توزيع الحبوب بالطريقة نفسها،45 ولا يختلف اثنان — فيما نعلم — في أن رائد كلوديوس كان إصلاح الإدارة وضبطها، ولكن إجراءاته لم تحسن علاقاته مع السناتوس، وأدى تدخله في شئون المجلس، ولا سيما في عضويته إلى الاصطدام بعدد من الشيوخ، وإلى إعدام خمسة وثلاثين منهم، ومع أن موقف كلوديوس من الشيوخ في إصلاحاته أفسح المجال لطبقة الفرسان، فإن هؤلاء استثقلوا ظله وشعروا أنهم يتحولون تدريجًا إلى عملاء للإمبراطور، فتآمر بعضهم، وأعدم كلوديوس منهم حوالي الثلاثمائة.46

(٤-٣) إدارته المركزية الجديدة

وكان كلوديوس ضعيف البنية سقيمًا كما سبق وأشرنا، فلما كثرت مشاغله وتعددت متاعبه وهمومه بَانَ عيبه، فكان عقله يشرد أو يكل في أثناء العمل، وكانت جلساته القضائية تمتد وتطول، فيثني النعاس رءُوس القضاة الجالسين، وينتهي كلوديوس في بعض الأحيان إلى حكم أعوج، وأدرك كلوديوس هذا النقص فتداركه بملقن يجلس معه ويرده إلى نقطة الانطلاق في البحث، وبمستشارين ينظرون معه في القضايا الماثلة.

ونهج كلوديوس نهجًا جديدًا في انتقاء هؤلاء المستشارين، فإنه آثر الاستعانة بالبارزين من طبقة العتقاء على طلب المعونة نفسها من طبقة الشيوخ أو طبقة الفرسان، ومع أن أوغوسطوس وطيباريوس كانا قد استعانا بخدمات العتقاء، فإنهما لم يجعلا منهم مستشاري ذوي حول وطول، بل حصرا عملهم في أمورهما الشخصية أو المسائل الكتابية العادية، كما كان يفعل سائر الرومانيين من ذوي اليسار والثراء، أما كلوديوس، فإنه استشار هؤلاء العتقاء في سياسة الدولة العليا، وفي التعينات الكبرى، فأمسى «كليستوس Callistus» العتيق الذي كان يتولى منصب «الناظر في الطلبات والعرائض praepositus a libellis» أنفذ النافذين في الدولة، وقل الأمر نفسه عن «نركيسوس Narcissus» (رئيس القلم praepositus ab epistulis)، وعن «بلاس Pallas» «المحاسب الأول praepositus a rationibus».47 ولم يكتف هؤلاء العتقاء بالنفوذ، بل جعلوا من القصر الإمبراطوري سوقًا مفتوحة، يساومون فيها بأكبر الوظائف وأهم الالتزامات، فجمعوا ما لم يفز به كراسوس في حياته.48
وعني كلوديوس وعتقاؤه بإدارة المال عناية خصوصية، فضبط «المحاسب الأول a rationibus» مال الولايات الإمبراطورية fiscus أكثر من ذي قبل، وأنشأ وظيفة «محصل الخاصة procurator a patrimonio»، ووظيفة «محصل ضريبة الإرث procurator vicesimarum hereditatum»، ووسع صلاحيات المحصلين في الولايات الإمبراطورية الخاضعين له، فشملت في بعض الأحيان بعض الولايات السناتوسي، وضبط «خزينة الدولة Aerarium» كما سبق وأشرنا، فعين هو أمناءها، وتمكن بذلك من سحب ما أراد من المال بدون قرار سابق من السناتوس؛ لأن صلاحيات الإمبراطور كانت قد أصبحت منذ عهد طيباريوس سارية المفعول طوال حياة الإمبراطور.
واهتم كلوديوس لسير العدل في الدولة، فخصص الساعات الطويلة من وقته لمراقبة المحاكم وحض القضاة على العمل بانتظام، ولكنه رغب في أن ينظر هو بنفسه في الجنايات بدلًا من إحالتها على السناتوس كما فعل سلفاؤه، فنظر فيها في قصره intra cubiculum principis، فاستغله واستغلَّها عتقاؤه ونساؤه، فأمست مفسدة من مفاسد حكمه، وظل هو يهدف إلى العدل ويرمي إلى الإصلاح بواسطة القضاء، فإنه منع — مثلًا — المرابين من تسليف الأموال إلى الأبناء بانتظار وفاة والديهم المثرين، ولم يرضَ أيضًا عن إهمال الأرقاء المرضى بطرحهم في أروقة هيكل «أسكولابيوس Aesculapius» إله الطب، فأوجب اعتبارهم أحرارًا عتقاء في حال الشفاء.
ومن مآثر هذا الإمبراطور العليل، أنه حرَّم ابتياع الأبنية في الريف لأجل هدمها؛ كي يحافظ على المزارع، ويمنع تحويل الأراضي الزراعية إلى مراع، وشجع الغرباء على بناء السفن، وضمن المراكب ومحمولها في حال الإعصار والغرق؛ ليؤمن استيراد الحبوب وسد حاجة المواطنين إليها، وكانت رواسب الطين التي يجرفها التيبر تعرقل الملاحة عند مصبه في «أوستية Ostia»، فأنشأ مرفأ جديدًا على بعد ثلاثة أميال في شمال المصب، وربط هذا المرفأ بالتيبر بترعة خصوصية، كما أنشأ منارة جديدة ومستودعات لخزن الحبوب،49 وأكمل قناتين لجر المياه إلى رومة، ولا تزال آثارهما ظاهرة للعيان حتى يومنا هذا،50 وأشغل ثلاثين ألف عامل زهاء إحدى عشرة سنة في حفر نفق لتخفيف بحيرة «فوكينة Fucine»، وجعل أراضيها صالحة للزراعة، وأنشأ الطرق في إيطالية، فأوصل طريق «فاليرية Via Valeria» حتى الأدرياتيك، وأسماها Via Valeria Claudia، وفعل مثل هذا في خارج إيطالية في مقاطعات الألب وفي بعض الولايات.51

(٤-٤) نساؤه

وتزوج كلوديوس أربع مرات، فماتت الأولى يوم الاقتران، وولدت له الثانية دروسوس وكلودية ثم طلَّقها، وتزوج من الثالثة فرُزق منها بنته أنطونية ثم طلَّقها، وبعد أن بلغ الثامنة والأربعين تزوج من «فاليرية ميسالينة Valeria Messalina»، وهي لا تزال في السادسة عشرة من عمرها، وولدت له ابنًا في السنة ٤١ أسماه طيباريوس كلوديوس جرمانيكوس، ثم بريتانيكوس بعد فتوحات بريطانية، ولم تكن ميسالينة جميلة، فإن رأسها كان مفلطحًا، ووجهها متوردًا، وصدرها سيئ التركيب مشوَّهًا، ولما تسلَّم زوجها أزمة الحكم تصرفت تصرف الملكة، فاشتركت في مواكب النصر، وأوجبت الاحتفال بمولدها في جميع أنحاء الإمبراطورية، ولكنها كانت شهوانية خليعة، فأحبت الرقاص «منستر Mnester» وراودته فامتنع، فطلبت إلى زوجها أن يأمره بالطاعة ففعل فامتثل! فقلَّ حياؤها وطمحت إلى غيره، آمرة بالطاعة متجنية على الرافضين، سالبة حقوقهم وأرواحهم في بعض الأحيان، واشتد جَلَعها وتعددت مداعباتها، فكثر إنفاقها، فساومت على الوظائف والالتزامات، ثم تعلقت بشاب جميل اسمه «غايوس سيليوس Silius»، فعقدت زواجًا معه في أثناء غياب كلوديوس عن رومة، فقُتلت في حضن أمها في السنة ٤٨ب.م.52
figure
وتردد كلوديوس فيما إذا كان يتزوج من «لولية بولينة Lollia Paulia» أو أغريبينة الصغرى، وكانت لولية زوجة فيما مضى ﻟ «كاليغيولا Caligula» غنية جدًّا، تتحلى بجواهر تقدر بأربعين مليون سيستركة،53 وكانت أغريبينة الصغرى بنت جرمانيكوس أخي كلوديوس من زوجته أغريبينة الكبرى، فلما أبعدت هذه في عهد طيباريوس تركت أولادها كاليغيولا وشقيقاته أغريبينة ودروسيلة ويولية في كنف جدتهم أنطونية الصغرى أرملة دروسوس، فعبث كاليغيولا بشقيقاته الثلاث، وعلم طيباريوس بالأمر فأقامه في قصره ودبر أزواجًا للبنات، فأزوج أغريبينة الصغرى من «كنايوس دوميتيوس اهينوبربوس Ahenobarbus» ذي اللحية البرونزية، وعلى الرغم من تحدر «كنايوس Cnaeus» من أسرة عريقة في الشرف أسرة دوميتية، فإنه كان خليعًا متهتكًا قاسيًا قليل الأمانة، ومما يروى عنه أنه قتل عتيقًا؛ لأنه امتنع عن تجرع المسكر بالكمية التي أرادها له، وكان يروى عنه أيضًا، أنه قلع عين أحد الفرسان في الفوروم؛ لأنه تفوه بما لم يرضَ عنه، وأنه تعمد دهس طفل في الشارع، وأنه اختلس أموال الدولة، هذا هو الرجل الذي انتقاه طيباريوس لحفيدة أخيه أغريبينة، وأكرهها على قبوله زوجًا لها، ولا نعلم شيئًا عن السنوات الأولى من زواجها، ولكن يجوز الافتراض أنها لم تكن سعيدة، وهنالك ما يبرر القول أنها لم تكن أمينة له، ولكنها عرفت كيف تستتر عند سقوطها في المعصية،54 ورُزقت ابنًا منه هو نيرون الشهير، ثم توفي زوجها فتزوجت من «غايوس كريسبوس Crispus» المثري الكبير، وتوفي هذا بعد مقتل ليسالينة، تاركًا لأغريبينة مالًا كثيرًا، فقيل: إن أغريبينة دست له السم دسًّا.55
وترددت أغريبينة على عمها الأكبر الأرمل وتوددت، وكانت لا تزال في الثانية والثلاثين، وقد ورثت جمال أمها ومقدرتها وعزمها، وعقدت قلبها على إيصال ابنها نيرون إلى سدة الحكم، فسُحر كلوديوس بفتور أجفانها، وافتُتن بسحر عينيها، فهب يعلم السناتوس بعزمه على الزواج لمصلحة الدولة، ويطلب موافقتهم على زواجه من حفيدة أخيه لما في ذلك من خروج على التقليد، فوافق الشيوخ، وتغامز الشبان من طبقة الحراس، وتم الزواج.56
وما كادت أغريبينة تصل إلى البلاط حتى بدأت تتملق زوجها؛ ليتبنى ابنها نيرون، ويزوجه من بنته أوكتافية، وكان كلوديوس قد خطَّب «أوكتافية يونيوس سيلانوس L. Junius Silanus»، الذي انتسب عن طريق أمه إلى أوغوسطوس، فاستعانت أغريبينية ﺑ «فيتليوس Vitellius» المراقب المحصي، فادعى هذا أمام السناتوس أن سيلانوس عبث بشقيقته، ففسخ الشيوخ الخطبة، فأزوج كلوديوس نيرون من بنته أوكتافية، ثم تبناه في الخامس والعشرين من شباط سنة ٥٠ب.م.،57 فأصبح يُدعى Tiberius Claudius Nero Drusus Germanicus.58
وكانت ميسالينة قد اتهمت «سنكة Seneca» الفيلسوف الرواقي بمضاجعة يولية أخت أغريبينة، فنجحت في إبعاده في السنة ٤٢ إلى جزيرة كورسيكة، وكان قد سئم هو العزلة، على الرغم من رواقيته، وتوسل إلى كلوديوس ليعفو عنه ويعيده إلى رومة، فلم يفلح، فلما وصلت أغريبينة إلى البلاط رأت أن لا بد من الاستعانة بهذا الفيلسوف؛ لبث الدعاية لابنها عند الحاجة، وللقول أن ابنها تهذب على يد أعلم علماء رومة، فألحت على كلوديوس بوجوب العفو عن سنكة، وإعادته إلى العاصمة ليتولى تربية ابنها بنفسه، فعاد سنكة في السنة ٤٩، وتزوج من بنت بولينوس أحد كبار رجال المال، والتحق بالبلاط معلمًا مهذبًا، ورأى أن يدرب نيرون في البيان والفلسفة، ولكن أغريبينة اعترضت، مدعية أن الأباطرة ليسوا بحاجة إلى الفلسفة، بل إلى العلوم العملية، وطلبت إلى سنكة أن يعلم ابنها كيف يتكلم.59
ثم احتاطت أغريبينة لأمر الحرس الإمبراطور فوحدت قيادتهم، وجعلت ناظرهم واحدًا بدلًا من اثنين، وانتقت لهذه الوظيفة الحساسة مدير الخاصة «افرانيوس بوروس L. Afranius Burrus».60

(٤-٥) بلوغ نيرون

figure
سنكة.
وفي أواخر السنة ٥٠، دخل نيرون في الرابعة عشرة سن البلوغ عند الرومان، فألحت أمه على كلوديوس أن يسمح له بلبس الطوغة؛ ليتدرب في ممارسة الأعمال العمومية، فوافق كلوديوس وقدَّم ابنه بالتبني نيرون إلى السناتوس في الثاني عشر من آذار سنة ٥١، فنادى الشيوخ به «الأول بين الأحداث princeps juventutis» والمرشح لمنصب القنصلية، واستعرض كلوديوس وأغريبينة الجنود بقيادة نيرون، فظهر المرشح الجديد بقميصه المزركشة بالذهب، وبترسه الذهبي هدية طبقة الفرسان، وما إن وصل أمام المنصة الإمبراطورية حتى انحنى تأدبًا واحترامًا، ثم استل سيفه وهز ترسه عاليًا، وظهر بعد ذلك في ميدان السباق مرتديًا الطوغة الأرجوانية المزينة بالنجوم الذهبية، طوغة البروقنصلية المقبلة، وظهر بريتانيكوس ولكن بيثاب الصبية، ليتراءى للرومانيين أن الأول هو السابق إلى المنصة بعد كلوديوس، وجاء بعد هذا كله قرار سناتوسي يوجب على الكهنة في كلياتهم الأربع أن يعتبروا نيرون «عضوًا فوق العادة supra numerum»، وهو شرف غير عادي، وذكره «الأخوة الأرفاليون Fraters Arvales» في صلواتهم، وسُكت النقود، وأُقيمت التماثيل على شرفه!61
واحترقت بونونية، وهي في بولونية الحديثة، وتقدم سكانها من مجلس السناتوس يلتمسون معونة مالية لبناء منازلهم، فرأت أغريبينة أن تستغل الظرف لصالح ابنها، واقترحت على سنكة أن يُعدَّ ابنها للدفاع عن حقوق البونونيين أمام السناتوس، فوافق سنكة وأعد الدفاع ودرب نيرون عليه، وجعله يستظهره استظهارًا، فأقر السناتوس معونة قدرها عشرة ملايين سيستركة، وشاع الخبر في رومة، فدخل نيرون في عداد الخطباء، وتهامس الراسخون في العلم، فأثنوا على مقدرة سنكة في التدريب، وعلى قابلية نيرون واستقراره، وتناسى الناس بريتانيكوس، ثم بدأوا يتناقلون أخبارًا مؤداها أن بريتانيكوس عليل يشكو من داء النقطة، ولا يصلح للحكم بعد والده.62
وشكا بعض المواطنين الرومانيين قساوة السلطات الرودوسية في معاملتها، عندما حاولوا الإقامة في الجزيرة، فخسر الرودوسيون حقهم في تدبير أمورهم، فشكوا أمرهم إلى السناتوس، فأعد سنكة دفاعًا مجيدًا باللغة اليونانية، وحث نيرون على استظهاره، فدافع نيرون عن رودوس باليونانية وربح الدعوى، وأعاد لسكان الجزيرة سابق حريتهم، فتغنَّى «انتيفيلوس Antiphilos» البزنطي بفضل نيرون، مؤكدًا أنه إذا كان الإله الشمس قد انتشل رودوس من المياه، فإن نيرون منع المياه من غمرها.63

(٤-٦) الأعياد اللاتينية

واقترب موعد «الأعياد اللاتينية Feriae Latinae»، واضطر كلوديوس أن يقيم على تلال «ألبانوس Albanus» طوال أيام الأعياد، فكان لا بد من نائب ينوب عنه في أثناء غيابه، فاقترحت أغريبينة أن يكون النائب ابنها نيرون؛ ليتسنى له اختبار الحكم، ويكتمل تهذيبه، فعينه كلوديوس قبيل خروجه من رومة نائبًا عنه باللقب Praefectus Urbi Feriarum Latinarum، ومنحه صلاحية النظر في الدعاوى الصغرى في الفوروم، ولكن المحامين استغلوا الظرف، فجابهوا نيرون ببعض دعاويهم المعقدة، فأسرع الجمهور إلى الفوروم؛ ليروا كيف يعالج هذا الشاب الحاكم القضايا الشائكة، وسانده معلمه — بطبيعة الحال — ولكن نيرون أظهر من المقدرة ما أدهش الحضور.64

(٤-٧) وفاء نيرون وزواجه

وكان كلوديوس شديد الشهوة للطعام، مسحوت الجوف لا يشبع، فأكثر منه يومًا فلم يستمرئه فأتخم، فدفعت أغريبينة ابنها إلى مجلس الشيوخ؛ ليؤكد لهم استعداده لإقامة الألعاب في ميدان السباق على نفقته، وعن صحة والده بالتبني، وأفاق كلوديوس وتعافى، وتمت الألعاب على نفقة نيرون، فقدر الجمهور وفاءه، وأخذوا على بريتانيكوس قعوده، وارتفع سعر الخبز في رومة، فوقع الشغب وضج الناس، فأعلم كلوديوس الشيوخ والشعب معًا أن نيرون قادر على القيام بأعباء الحكم في حال وقوعه في الخطر،65 وتهالكت أغريبينة في أمرها فاستعجلت زواج ابنها من أوكتافية، ففاتحت كلوديوس الكلام في ذلك، حالما أكمل نيرون الخامسة عشرة، أي في منتصف كانون الأول من السنة ٥٢، وتم الزواج في السنة التالية، وباتت أغريبينة تنتصر النصر النهائي.

(٤-٨) أغريبينة ونركيسوس

وأمسى مطلب أغريبينة بعد هذه المرحلة شديدًا كئُودًا، فإن تعاونها مع «بلاس Pallas» دفع «نركيسوس Narcissus» إلى الحذر والمعارضة، وجمعت هذه المعارضة بينه وبين «دوميتية Domitia» والدة ميسالينة، فقالا بحق بريتانيكوس في الحكم بعد والده، وراحا يحاربان أغريبينة وأنصارها.
وحسبت أغريبينة لمعارضة نركيسوس ألف حساب، لما جمعه في شخصه من مقدرة ودهاء ومكر، فبدأت هجومها عليه باتهامه بالتبذير والاختلاس، ولا سيما بعد أن أخفق في تجفيف بحيرة فوكينة،66 وأمر كلوديوس بالتحقيق فخرج نركيسوس بريئًا، فاتهم أغريبينة «بالمطامع العالية» وأظهر التفاتًا خصوصيًّا نحو بريتانيكوس، ونُقل عنه أنه قال لهذا الفتى: نرجو لك النمو السريع؛ لتتمكن من طرد أعداء والدك والاقتصاص ممن قتل أمك ميسالينة،67 ونقل عن كلوديوس أنه قال: لقد قُدِّر علي أن أتحمل خلاعة زوجاتي وفجورهن، وأن أعاقبهن بعد ذلك،68 فخشيت أغريبينة سوء العاقبة، واتهمت دوميتية بالدس عليها، ثم انطلقت تحاربها، فادعت أن دوميتية تمارس السحر لتوقع الأذى بزوجة الإمبراطور، وأنها تجمع الأرقاء في مزارعها الكبيرة؛ لتبدأ حربًا سباركتوسية ثانية، فحُكم على دوميتية، وطُلب إليها أن تنتحر، ففعلت،69 وألم بنركيسوس داء النقرس، فأشار الأطباء بوجوب الإقامة بسنوسة والاستحمام بمائها، ففعل وابتعد.70

(٤-٩) اغتيال كلوديوس

وخلا الجو لأغريبينة، فلجأت إلى «لوكوستة Locusta» الغالية الحاذقة في إعداد السم ودسه، فأعدت هذه لأغريبينة جرعة قاتلة، وكان كلوديوس يحب الفطر، فطهته أغريبينة ودست سمها فيه، فأعياه وغاب رشده، ثم استفرغ وبدأ يتماثل، فأنذرت أغريبينة الطبيب المعالج بوجوب تعجيل الوفاة، وكان الطبيب قد استعان بريشة وزة؛ ليعجل الاستفراغ، فبدأ يدهن حلق كلوديوس بما تبقى من السم بالريشة نفسها، فلفظ الإمبراطور أنفاسه قبيل الضحى في الثالث عشر من تشرين الأول سنة ٥٤ب.م.71

(٥) وصول نيرون إلى الحكم

وطوت أغريبينة خبر الوفاة؛ لتمهد السبيل لوصول ابنها إلى السدة، فأذاعت بين الناس أن كلوديوس في حالة مرضية، واستدعت إلى البلاط رجال المجَن؛ ليروحوا عن نفس الإمبراطور، فقاموا بأدوارهم في غرفته وأمام جثمانه، واهمين أنه حي يسمع ما يقولون ويغنون، وجلست أغريبينة مع بلَّاس وسنكة وبوروس تعد الخطط، فاستدعى بوروس فرقة من الحرس؛ لتحمي مداخل القصر، وفاوض كبار الضباط في أمر نيرون، فألح الجند على «عطاء donativim» مماثل لما قدمه كلوديوس عند وصوله إلى الحكم، أي بخمسة عشر ألف سيستركة لكل نفر، فوافق الكبار الأربعة على ذلك، ووكلوا إلى بلاس أمر العطاء، ومنع الشيوخ الأعضاء عن تقاضي الأجور للدفاع عن الدعاوى الماثلة أمام المجلس، اغتاظت أغريبينة، وقامت تدافع عن اشتراع زوجها كلوديوس، وأعلنت رغبتها في الاشتراك في مناقشات المجلس، فرفض الشيوخ ذلك، مؤكدين أن العرف قضى بعدم السماح لأية امرأة بحضور جلسات المجلس،72 ثم وصل إلى رومة وفد أرمني مفاوض، يطلب المساعدة ضد البرت، وتوجب على نيرون أن يستقبل هذا الوفد استقبالًا رسميًّا، وكانت أغريبينة تصر على الجلوس إلى جانب ابنها في مثل هذا الظرف، ورأى سنكة أن وقار رومة قضى بأن يكون ممثلها الرسمي ذكرًا لا أنثى، فضرب موعدًا للمقابلة الرسمية، ولم يُعلم به أحدًا، وجاء الوفد الأرمني في الموعد المعين، واستقبله نيرون وحده، فعلمت أغريبينة بوجود الوفد في البلاط، فأسرعت في إعداد نفسها للمقابلة، وذهبت إلى القاعة التي جلس فيها نيرون وضيوفه، وما إن أطلت من مدخل القاعة حتى ارتج على نيرون، فنصح إليه سنكة همسًا أن يسرع للقائها وتقبيلها، ثم ضرب سنكة موعدًا آخر لإتمام المقابلة، فخرج الأرمن مكبرين محبة نيرون لوالدته واحترامه لها، وخسرت أغريبينة هذه الجولة في التسابق للنفوذ والأبهة.73
وظل نيرون يظهر الإكرام والاحترام لوالدته، فكان يواكبها في المواكب الرسمية، ماشيًا إلى جانب هودجها، وكان يجلس في المآدب عند مواطئ قدميها، ولكنه كان قد بدأ يستثقل ظلها، ولا سيما والناس تظهر له كل احترام وتقدير، وكبارهم يسجدون أمامه سجودًا،74 والتقى في يوم من الأيام في ممرات البلاد ببنت ذات حسن بارع وجمال رائع، فافتُتن بها، وأحب أن يعرف من هي، فقيل له: إنها إحدى عتيقات زوجته أوكتافية، يونانية سورية تُدعى Acte (أختي؟) كلودية، وكان لا يزال في السابعة عشر، فسُحر بفتور أجفان هذه السورية، وملك حبها عنانه، فواصلها سرًّا وأجزل العطاء، ورغب في التزوج منها زواجًا شرعيًّا، وعلمت أغريبينة بذلك فأنكرت عليه فعله، وشددت عليه النكير وجعلت لسانها مبردًا، فاستقل نيرون برأيه لأول مرة، وافترز أمره، وهدد بالتنازل عن مركزه، والابتعاد عن رومة والإقامة في رودوس مع حبيبته، فانقادت أغريبينة وأذعنت، وأكدت أن كل ما لديها هو لابنها، ثم سمحت للحبيبين باللقاء في مخادعها، وسكت سنكة الفيلسوف الرواق المهذب المستشار عن هذه الخلاعة، ولكن بعض خلان نيرون حذروه من تطرف والدته في الرضى.75
ولم يرغب سنكة وبوروس في حكم «التنانير»، ولم يرضَ نيرون نفسه أن يكون آلة بيد غيره، وكان بلاسُ حبيبُ أغريبينة ويمينُها لا يزال مدير المال، فلما بدأ يتردد في إجابة طلبات نيرون وتقديم المال للإنفاق على الأخت كلودية ثار غضب نيرون، فصرف بلاس عن وجهه، وعزله وأخرجه من البلاط، واستبدله بعتيق آخر هو في الأرجح «فاون Phaon»،76 وثار ثائر أغريبينة، وكان عتاب شديد بينها وبين ابنها، أدى بها إلى القول أن بريتانيكوس لم يعد طفلًا، وأنه أحق بملك أبيه، فصمت نيرون وعاد إلى نفسه، فذكر أن لبريتانيكوس أنصارًا، وأن أمه لا ترعى ذمامًا، فدس السم لبريتانيكوس في مساء السابع عشر من كانون الأول سنة ٥٥.77
وجاء بعد ذلك دور أغريبينة نفسها، فاتُّهمت بالتآمر على نيرون مرتين بعد خروجها من القصر وإقامتها في فيلَّة أنطونية، ولكنها دافعت عن نفسها ونجحت في دفع التهمة عنها، أما نيرون، فإنه ظل يخشى مكرها، وجاءت «بوبية سبينة Poppaea Sabina» زوجة «أوتو Otho» الصديق الرفيق وخليلة نيرون الجديدة توغر صدر نيرون وتستوقد غيظه، فأضمر لوالدته العداوة، وبات يتربص بها الغوائل، وكان شتاء السنة ٥٨-٥٩ قاتمًا ممطرًا باعثًا على الكآبة، فلما جاء الخامس بعد منتصف آذار Quinquatria عيد مولد مينرفة إلهة الصناع والعمال، أحب نيرون الخروج إلى «باية Baiae» إلى أفضل فيلاته، وخرج معه عدد كبير من العائلات الشريفة للاستضحاء والتمتع بمقدم الربيع، ولدى وصول الإمبراطور إلى باية استقبله فيها استقبالًا رسميًّا ناظر أسطول مسينوم، معلمه القديم «أنيكيتوس Anicetus»، وكان بين الألعاب المختلفة التي تلهى بها الرومان في أيام العيد الأربعة ١٩–٢٣ آذار لعبة بحرية naumachia جديدة، لفتت الأنظار في تلك السنة، كان يُعد قارب لنقل بعض الحيوانات المفترسة، فيحملها ويمخر البحر بها، ثم ينقصف فتفلت الحيوانات في مياهه محاولة النجاة، فلا تلبث أن تغرق أمام الجمهور، وتراءى لاوتو ولنيرون أن يتخلصا من أغريبينة بهذه الطريقة نفسها، فاستدعيا أنيكيتوس، وأفضيا إليه بما استقر رأيهما عليه، وطلبا إعداد قارب من هذا النوع للنمرة المفترسة أغريبينة،78 وراح نيرون يتودد لوالدته ليطمئنها، استعدادًا لما سيكون، فتكلم أمام الشرفاء كلامًا جميلًا،79 وكتب إليها إلى «أنتيوم Antium» كتابًا رقيقًا يستدعيها فيه إلى باية للاشتراك في الحفلات القائمة،80 واستقبلها نيرون نفسه لدى وصولها، وواكبها حتى فيلتها في باية، وقبل الانصراف دعاها إلى حضور مأدبة على شرفها في فيلة أوتو، فقبلت الدعوة وراحت تستعد للسهرة، ثم جاءها من يقول: إن الإمبراطور وضع تحت تصرفها بارجة مزينة لنقلها إلى المأدبة، فشكرت، ولكنها آثرت الذهاب بالهودج، ووصلت الوالدة فاحتلت مقعد الشرف في المأدبة، وتظاهر نيرون بالمحبة والود والوفاء، وشرب المجتمعون كثيرًا، ولا سيما نيرون وأتو، وتجرعت أغريبينة من الخمرة أكثر من عادتها في ذلك، وعند انتهاء المأدبة في آخر الليل واكب نيرون والدته حتى القارب المعد لنقلها، ورجاها عند الوداع أن تعنى بصحتها، وأكد استعداده للتعاون معها، وبعد أن ابتعد القارب عن الشاطئ سقط سقف دكة القارب بما كان يحمله من الرصاص الثقيل على أغريبينة ومن حولها، فقُتل بعضهم، ولكن أغريبينة نجت بنفسها مجروحة الكتف، ولم ينقصف المركب، فسبحت أغريبينة ووصلت سالمة إلى بيتها بعد عناء كبير، ثم تجاهلت ما جرى، وأرسلت عتيقها «اغرموس Agermus» إلى ابنها؛ ليطمئنه بسلامة والدته، وما كاد يمثل هذا الرسول بين يدي الإمبراطور حتى رمى هذا خنجرًا على الأرض، وادعى أن اغرموس جاء ليغتاله، وقام انيكيتوس واثنان آخران من رجاله إلى فيلة اغريبينة، وقتلوها قتلًا، ثم أحرقوا جثتها.81

(٥-١) السنوات الخمس

ويروى أن الإمبراطور تريانوس قال فيما بعد: إن حكم «نيرون في السنوات الخمس quinquennium Neronis» فاق بجودته حكم جميع الأباطرة الآخرين،82 ومع أن هذا القول — إذا صح عزوه إلى تريانوس — كان القصد منه الإشادة بسياسة نيرون العمرانية في سنواته الأخيرة، فإن السنوات الخمس التي جاءت بين السنة ٥٦ والسنة ٦١ تميزت بما أراد سنكة أن يدعوه الرأفة والرحمة clementia، وهو اسم الكتاب الذي أهداه لنيرون.
وكان نيرون — كما سبق وأشرنا — قد أعلن في خطابه أمام السناتوس في بدء عهده أنه سيتبع الخطة التي رسمها أوغوسطوس نفسه، وأنه سيبتعد عن النظر في الدعاوى «في قصره intra cubiculum»، وسيقضي على الفساد الذي دب إلى القصر على أيدي الرفاق والعتقاء، وأنه سيحترم حقوق السناتوس وامتيازات أعضائه، والواقع أنه رفض اللقب «أبا الوطن pater patriae»، الذي منحه إياه السناتوس، وقاوم بشدة أولى الدعاوى بالخيانة «العظمى maiestas»، وأعفى معاونه في القنصلية في السنة ٥٥ عن «القسم العادي inacta principis»، وتجنب البدء في الإشارة إلى نفسه باللفظ إمبراطور، واتخذ لنفسه إكليل العفص الذي رمز إلى الحرية، وأعاد إلى السناتوس صلاحية سك النقود الفضية والذهبية EX S.C.، فاستحق بذلك مدح الشاعر «كلبورنيوس سيكيلوس Calpurnius Siculus» في أن83  Bucolics، وإشادة «لوكان Lucan» في الكتاب الأول من «الفرسالية Pharsalia».
وعني سنكة بمالية الدولة، فزاد دخلها وسهَّل مقاضاة الولاة المتهمين بالبلص، وأعد مشروعًا لتحرير التجارة، وأمن الحبوب الواردة إلى العاصمة وإيطالية بتعيين ناظر قدير، وبإكمال إنشاءات كلوديوس في مرفأ أوستية الجديد، وحارب النزوح من الريف إلى المدن، ولا سيما إلى العاصمة بإنشاء مستعمرات عسكرية في «كابوة Capua»، و«نوكيرية Nuceria»، و«ترنتوم Tarentum»، و«أنتيوم Antium»، و«بومباي Pompeii» بعد الزلزلة في السنة ٦٣.

(٥-٢) تغلينوس العيَّار

وتوفي بوروس في السنة ٦٢، فعيَّن نيرون ناظري حرس محله «فاينيوس روفوس Facnius Fufus» و«أوفونيوس تغلينوس Ofonius Tigellinus»، وكان هذا صقليًّا شريرًا عيَّارًا، فتملق نيرون وغمسه في المعاصي واكتسب ثقته، فتقاعد سنكة وابتعد عن القصر؛ فخلا الجو لتغلينوس، واسترسل في الجهالة، وألحت بوبية الخليلة المشار إليها سابقًا بالزواج، فتم طلاق أوكتافية وإبعادها، ثم سرت إشاعة بأنها ستعود إلى البلاط، فاتهمها نيرون بالزنى مع أنيكيتوس فماتت، وأبعد الزاني شريكه في مصرع أغريبينة.84

(٥-٣) حريق رومة

وفي ليل الثامن عشر من تموز سنة ٦٤ شبت النيران في رومة، واستمرت أسبوعًا كاملًا، فدمرت عشر مناطق من مناطق أوغوسطوس الأربع عشرة، وكان نيرون عند شبوبها في أنتيوم، فأسرع إلى العاصمة، وأشرف بنفسه على أعمال الإخماد والإنقاذ والموأساة، ثم أحب أن يستغل ظرف الخراب لصالح رومة وصالح نفسه، فخطط الشوارع المستقيمة، وحضَّ على البناء الحديث؛ لينشئ في قلب العاصمة مجموعة جميلة من الأبنية العالية، «ناطحات السحاب insulae»، واحتفظ بالمرتفع «الإسكويلي Esquilia»، فشيد فيه «قصره الذهبي Domus Aurea» بحدائقه وبركه وأروقته، وأقام تمثاله الجبار، الذي بلغ علوه حوالي أربعين مترًا، وأحاطه بما سلب عملاؤه من آثار اليونانيين القدماء، وجمعوه له، ونقلوه إلى رومة.85
وشاهد الخاسرون البائسون من سكان رومة هذا الإنفاق والبذخ، فامتعضوا واضطرمت صدورهم، فقالوا: إن الحريق كان مفتعلًا، وأن نيرون دبره؛ ليصادر ما صادر، ويهدم ما هدم، تمهيدًا للإنشاء والبنيان، وأضافوا أنه شاهد النيران تلتهم بيوت الشعب من برج «ماكيناس Maecenas»، ففرح وتهلل وأنشد ما كان قد صنَّف في خراب طروادة، فاضطر نيرون البريء من هذه التهمة أن يوجد من يتحمل الذنب، وكان بإمكانه أن يتهم اليهود بذلك؛ لأنهم لم يكونوا محبوبين عند الجماهير، ولكن زوجته بوبية كانت تهتم لأمرهم، فأطال على المسيحيين ألسنة الجماهير، فتناولوهم بالقبيح وقالوا: إنهم من «أكلة البشر humani generius odium»، وأن اجتماعاتهم السرية كانت لهذه الغاية، والإشارة هنا إلى سر الافخارستية وأقفال الأبواب! وقسا قلب نيرون، فأنزل بالمؤمنين أفظع ألوان العذاب، فرمى بعضهم إلى الوحوش الضارية، وطلى آخرين بالزفت والقار، وأحرقهم جاعلًا منهم مشاعيل تضيء لياليه اللاهية في الحدائق وميدان الفاتيكان،86 ويفيد التقليد أن بطرس وبولس كانا بني هؤلاء الشهداء،87 ولكن هذه المحاولة لدفع التهمة — وما تبعها — عن شخصه عادت عليه بسوء العاقبة، ذلك أن أساليبه الوحشية أثارت العطف والشفقة في قلوب الجماهير على المسيحيين، بدلًا من الشعور بأن العقاب الذي أنزله جاء في صالح الأمة جمعاء!88
وإعادة بناء المتهدم في رومة بموجب تصاميم نيرون تطلبت نفقات باهظة، وكذلك مشروعه لربط أوستية ببحيرة «أورنوس Avernus»، وبذخه الشخصي وإسرافه، فلجأ إلى البلص في إيطالية والولايات، وأنزل عقاب الموت بستة مزارعين في ولاية أفريقية كانوا يملكون نصف أراضيها الزراعية، ثم أعد مزيجًا معدنيًّا جديدًا، غشَّ به قطعًا جديدة من المسكوكات الفضية والذهبية، فتأفف الناس من هذا كله.

(٥-٤) دسيسة في السناتوس

وتزايد كره الشيوخ لنيرون، وتفاقم مع ازدياد نفوذ العتقاء في البلاط، ولا سيما بوصول «بلبلوس Balbillus» ناظر مصر إلى الذروة، و«فيليكس Felix» محصل اليهودية، وتفجر في السنة ٦٥، عندما تم تآمر خمسة من الشيوخ وخمسة من الفرسان بزعامة «فاينيوس روفوس Faenius Rufus» أحد نظار الحرس، على حياة نيرون نفسه، ولا نعلم بالضبط ما إذا كانوا يهدفون إلى إعادة النظام الجمهوري، أو إلى إيصال «كلبورنيوس بيسو Calpurnius Piso» أو سنكة إلى الحكم، وأفرخت بيضتهم وانكشف أمرهم، فامتلأ نيرون غيظًا، وقامت شَعَرات أنفه، فأعاد حق النظر في هذه الأمور «إلى القصر intra cubiculum»، وحكم على بيسو وسنكة و«لوكان Lucan» ابن أخيه بالانتحار، ففعلوا.89

(٥-٥) طغيان نيرون

وارتاع نيرون واستهول الأمر، فبث العيون والأرصاد، وأحصى على كبار المواطنين أنفاسهم، فأحلَّ نقمته بكل ظنين، وجعلهم عبرة للمتبصرين، ودخل في عداد هؤلاء «أوستوريوس سكابولا Ostorius Scapula» والي بريطانية السابق، و«غايوس بترونيوس G. Petronius» والي بيثينية الأسبق، الشاعر الناثر الحكمي الهجاء، الذي شارك نيرون خلاعته ومعاصيه، واشتهر بذوقه وأناقته، فجعله نيرون المحكم في «الذوق والأناقة arbiter elegentiae»، الذي أثار حسد تغلينزوس فأبعد، فانتحر، ولكنه قبل الانتحار حطم آنية جميلة مصنوعة من «المرة murra»؛ كي لا تقع في يد نيرون، ثم دون رسالة في معاصي نيرون، ذاكرًا فيها خليلات نيرون وغلمانه، مبينًا فيها خصائص كل منهم.90
ولم يرضَ بعض الرواقيين عن سياسة نيرون وسلوكه، وأظهروا عدم الرضى، ولكنهم لم يتآمروا عليه، وكان في طليعة هؤلاء «تراسية بايتوس Thrasea Paetus» القنصل السابق، الذي بدأ منذ السنة ٦٣ يتغيب عن جلسات السناتوس، احتجاجًا على التظلم والتملق، وعلى تأليه بوبية، والذي لم يصفق لصوت نيرون الإلهي، فأُمر به نيرون فانتحر في السنة ٦٦، وأُمر بإبعاد صهره «هلويديوس بريسكوس Helvidius Priscus» فابتعد، ومن الرواقيين الذين لاقوا حتفهم على يد «نيرون بارية سورانوس Barea Soranus» والي آسية السابق.
وفي السنة ٦٦ أيضًا، بدت علامات السخط في الأوساط العسكرية، فاكتشفت مؤامرة حاكها صهر القائد «كوربولو Corbulu»، فخشي نيرون سوء العاقبة، ولا سيما وأنه لم يشارك الجيش أتعابه أو أفراحه، فلما زار بلاد اليونان في السنة ٦٦-٦٧ استدعى إليه كوربولو وقائد الجيش في ألمانية الشمالية والجنوبية «سكريبونيوس روفوس Scribonius Rufus» و«سكريبونيوس بروكلوس Proclus»، ولدى وصولهم أمرهم بالانتحار، ففعلوا.91
وتزايد سمو نيرون وطموحه، فتقمص لباس الآلهة، فاتحد مع هرقيل وأبولون والإله الشمس، وسك النقود؛ ليظهر رسمه عليها محاطًا بالهالة الإلهية، واستبدل اسم نيسان بنيرون، وأمست رومة «نيروبوليس Neropolis»، وقيصرية فيليبي في فلسطين Neronias، وجاء تيريداتس ملك الأرمن إلى رومة ليتوج فيها، فسجد لنيرون سجوده ﻟ «ميثرة Mithras».

(٥-٦) نيرون واليونان

وقال نيرون بتفوق اليونانيين في مضمار الفن، وأكد أنهم وحدهم يقدرون فنه، فنهض إلى بلاد اليونان وأقام فيها حوالي سنة كاملة، واشترك في ألعابهم، وفاخر بالجوائز التي نالها وكانت كثيرة جدًّا، وتبنى مشروع غايوس، فضرب بمعوله الذهبي الضربة الأولى لفتح ترعة كورنثوس، ثم دعا إلى ألعاب البرزخ، فأعاد في أثناء المباراة فيها حرية اليونان التي كان قد منحها «فلامينيوس Falminius» في السنة ١٩٦ق.م. في ظرف مماثل.92

(٥-٧) العاصفة

وكان «هيليوس Helius» العتيق، الذي أقامه نيرون وكيلًا عنه في غيابه يستعجل سيده، ويحثه على العودة إلى رومة لتدبير أمورها، ولا سيما والثورة مندلعة في فلسطين، والغرب نفسه قلق مضطرب، فتلكأ نيرون وتثاقل، ثم نهض إلى رومة فوصلها في أوائل السنة ٦٨، ووجد الجماهير صاخبة لقلة الحبوب، والجيوش غاضبة لمصرع قادتها، وما كاد يصل إلى العاصمة حتى غادرها إلى نابولي إلى جوها اليوناني؛ ليلاقي فيها من يقدر انتصاراته في بلاد اليونان حق قدرها.
وسمع نيرون، وهو في نابولي، بثورة «يوليوس وندكس Vindex» والي ولاية «غالية اللوغدونية Gallia Lugdunensis»، أي غالية ليون «ذي التلة البراقة»، وطالب وندكس بإمبراطور جديد لائق بالمنصب، ولا نعلم ما إذا كان يهدف إلى إعادة الحكم الجمهوري، أو إلى استقلال غالية استقلالًا إداريًّا واسعًا، والتف حول وندكس بعض الغاليين، وعارضه آخرون، فاتصل بقيادة الجيوش، فلقي تأييدًا ملموسًا من «سروبوس سوبيكيوس غلبة Servius Sulpisius Galba» والي «إسبانية التركونية Hispania Tarraconensis»، الذي أعلن نفسه ممثلًا ﻟ «سناتوس الجمهورية الرومانية legatus Senatus Populique Romani»، وانضم إلى هذين القائدين الواليين «سلويوس أوتو Salvius Otho» حاكم «لولسيتانية Lusitania» و«كلوديوس ماكر Macer» والي أفريقية، ورأى جنود الرين وما وراءه في ثورة الغاليين خروجًا على رومة نفسها، فقاتلوا المتمردين، وكانت معركة حاسمة انتصر فيها جنود الرين، وقُتل فيها وندكس نفسه، فنادى الجند بقائدهم روفوس مواطنًا أول، فلم يرضَ، فنودي بغلبة إمبراطورًا في إسبانية، وكان الحرس لا يزال مواليًا لنيرون، وكذلك جنود آخرون، ولكن نيرون تردد وتثاقل، ففر تغلينوس ورشا «نيمفيديوس سبينوس Nymphidius Sabinus» ناظر الحرس الآخر الحرس بثلاثين سيستركة لكل منهم، فنادو بغلبة إمبراطورًا، وكان نيرون قد اختبأ في فيلة عتيقه فاون، بالقرب من رومة، فلما علم بأن السناتوس اعتبره عدو الدولة أسف أن العالم «سيخسر فنانًا مكملًا qualis artifex pereo»، واستعان بعتيقه «ابفروذيتوس Epaphroditus» على الانتحار بالسيف، فمات آخر الخلفاء الأقربين في التاسع من حزيران سنة ٦٨، وله من العمر ثلاثون سنة.93

هوامش

(1) Divo Augusto honores, CIL, I, 244.
(2) Inscriptiones Graecae ad res Romanas pertinentes, IV, 1392.
(3) Ibid., I, 1150.
(4) TACITUS, 1:11–13; VELLEIUS, II, 124.
(5) SUETONIUS, Tib., 22–24; DIO CASS., 57:2-3; CHARLESWORTH, M., Tiberius, Cam. Anc. Hist., X, 611-612.
(6) DESSAU, Gozo Insc., 121; HOHL, E., Hermes, 1933, 106; LANG, A., Beitrage zur Gesch. des Kaisers Tiberius, 5.
(7) TACITUS, Ann. 1:72, 77, 2:87, 4:37.
(8) TACITUS, Ann. 2:85, 3:51; SUETONIUS, Tib. 35, 75; MOMMSEN, Th., Strafrecht, 671.
(9) TACITUS, Ann. 4:43.
(10) JOSEPHUS, Ant., 18:6.
(11) TACITUS, Ann., 1:75, 2:38.
(12) CHARLESWORTH, M., Tiberius, Cam. Anc. Hist., X, 615.
(13) SENECA, dial. 1:4; TACITUS, Ann. 4:62, 63.
(14) SUETONIUS, 59.
(15) JEROME, T.S., Aspects of the Study of Roman History, 280; MARSH, F.B., Reign of Tiberius, ch. VII; MARSH, Class. Philol., 1926, 289 ff.; ROGERS, R.S., Transactions of Amer. Phil. Ass., 1931, 141 ff.
(16) EHRENBERO, V. and JOWES, A.H.M., Documents illustrating the Reigns of Augustus and Tibetrius, 154 ff.
(17) EHRENBERG and JONES, op. cit., n. 320 a-b; LEWES and REINHOLD, Roman Civ., II, 562; KOESTERMANN, E., Historic, 1958, 331 ff.
(18) KESSLER, G., Die Tradition uber Germanicus, (1905); FUCRS, H., Rom. Mitt., 1936, 212; GELZER, M., Real-Encyc., X, 435.
(19) ROGERS, R.S., op. cit., 89 ff.
(20) TACITUS, Ann., 4–6, “Partner of my Labours and Reign of Terror”; SUETONIUS, 59–67; WILLENBUCHER, H., Tiberius und die Verschworung des Sejan, (1896); ROGERS, R.S., The Conspiracy of Agrippina, Trans. Am. Philol. Ass., 1931; CHARLESWORTH, M., op. cit., X, 626–642; HOMO, L., Haut-Empire, 222–228.
(21) TACITUS, Ann. 6:50; DIO CASS., 58:28; SUETONIUS, Tib., 73; JOSEPHUS, Bell. Jud., 18:205 ff.; CHARLESWORTH, M., op. cit., X, 635–643; HOMO, L., Haut-Emp., 233–235.
(22) SUETONIUS, Calig. 11.
(23) DIO CASS., 59:1; SUET., Calig. 14.
(24) VOGT, J., Die Alexandrinischen Munzen, 22 f.; DIO CASS. 59:26; I.G.R.R. IV, 145; DESSAU, I.L.S. 190; DITTENBERGER, 797.
(25) DIO CASS., 59:6, 9; SUET., Calig., 15, 16.
(26) SUET., Calig., 22.
(27) SUET., Calig., 37.
(28) DIO CASS., 59:28; SUET., Calig., 42.
(29) SUET., Calig., 30.
(30) SUET., Calig., 32.
(31) DIO CASS., 59:19; SUET., Calig., 32.
(32) SUET., Calig., 32.
(33) DIO CASS., 59:20.
(34) SUET., Calig., 32.
(35) DIO CASS., 59:26; SUET., Vit., 2.
(36) PHILO, Legatio ad Gaium, 253, 367.
(37) MATTINGLY-SYDENHAM, Roman Imperial Coinage, 4, 112, Journ. Rom. Studies, 1917, 59 f.
(38) DIO CASS., 59:29; SUET., Calig. 16; JOSEPHUS, Ant. 19:96.
(39) SUET., Claud. 10; DIO CASS., 60:1.
(40) CASS., 60:28; SUET., Claud. 30; TACITUS, Ann. 12: 61.
(41) SUETONIUS, Claud., 10; DIO CASS., 60:1.
(42) MATTINGLY-SYDENHAM, Rom. Imp. Coin., I, 123.
(43) SUET., Claud. 29.
(44) CHARELESWORTH, M.P., Documents Illustrating the Reigns of Claudius and Nero, (1939), Judicial Popynes, 6.
(45) CHILVER, G.E.F., Amer. Journ. Phil., 1949, 7 ff.; BERCHAM, D. VAN, Les Distributions de blé et d’argent à la plèbe romaine sous l’Empire, (1939), 301.
(46) CHARLESWORTH, M.P., Claudius as Re-Organizer, Cam. Anc. Hist., X, 685–696.
(47) DIO CASS., 31; SUET., Claud., 28; TACITUS, Ann. 11, 12.
(48) HOMO, L., Haut-Empire, 254-255; CHARLESWORTH, M.P., op. cit., X, 687–689.
(49) BRADFORD, J., Ancient Landscapes, (1957), 248 ff.; SCRAMUZZA, V.M., The Emperor Claudius, (1940); DIO CASS., 60:11; SUET., Claud. 20.
(50) PLIN., Hist. Nat., 36:122; FRONT., De Aq., 4, 13, 15, 18, 20, 73, 86, 90–93, 104-105; CIl, XIV 4079-4080.
(51) HOMO, L., Haut-Empire, 276–279.
(52) SUET., Claud., 26; DIO CASS., 60:14–18.
(53) PLIN., Nat. Hist., 9:117.
(54) WALTER, G., Nero, (1957), 10–13; HOMO, L., Haut-Empier, 251-252; DIO CASS., 60:32.
(55) TACITUS, Ann., 13:2.
(56) TACIT., 12:5–7; SUET., Claud. 26.
(57) HENZEN, Eine neue Arvaltafel, (Hermes, I, 55).
(58) WALTER, G., Nero, 32–36.
(59) SUET., Nero, 52.
(60) WALTER, G., Nero, 39-40.
(61) TACIT., Ann., 12:41; SUET., Nero, 7; Bardt, Die Priester der vier grossen Collegien, (1871).
(62) SCHILLER, H., Nero, 79, n. 1.
(63) SUET., Cloud., 25, Nero, 7; TACIT., Ann., 12:58; Anthol. palat., IX, 178.
(64) JULIAN Camille, Dict. des Antiquités, (Darewberg-Saglio), II, 1066–1073; LINKER, Uber die Wahl des praef. urb. feriarum.
(65) ZONARAS, Chron., 11:11.
(66) SUET., Claud. 20; TACIT. 12:56-57; DIO CASS. 60:33.
(67) TACIT. Ann. 12:65.
(68) TACIT. Ann. 12:64.
(69) TACIT. Ann. 12:65; SUET., Cloud. 7.
(70) PLIN. Hist. Nat., 3:5, 21:2; TACIT. Ann. 12:66.
(71) TACIT. Ann. 12:66; DIO CASS. 60:34; PLIN., Hist. Nat. 22:92; WALTER, G., op. cit., 49-50.
(72) TACITUS, Ann., 13:5, 10-11.
(73) TACIT., Ann. 13:3.
(74) DIO CASS. 61:3.
(75) SUET., Nero, 28, 34, 35.
(76) TACIT. Ann. 13:13–24.
(77) TACIT. Ann. 13:14–17; SUET., Nero, 33.
(78) SUET., Otho, 3: Tacit. Ann. 14:3; DIO CASS., 61:12.
(79) SUET., Nero, 34.
(80) TACIT. Ann. 14:4.
(81) TACIT. Ann. 14:4–8; WALTER, G., Nero, 72–97.
(82) ANDERSON, J.G.C., Journ. of Rom. Stud. 1911, 173 ff.; LEPPER, F.A., Journ. Rom. Stud., 1957, 95 ff.
(83) DUFF, J.W. and A.M., Minor Latin Poets, (Loeb, 1935).
(84) STEIN, Ofonius Tigellinus Real-Encyc.
(85) PERKINS, J.W., The Domus Aurea, Antiquity, 1956, 209 ff.
(86) TACITUS, Ann. 15:44; SHERWIN-WHITE, A.N., Journ. Theol. Stud., 1952, 199 ff.
(87) EUSEBIUS, Hist, Ecc., 2:25; LOWE, J., St. Peter, (1956); TOYNBEE and WARD PERKINS, The Shrine of St. Peter, (1956).
(88) WALTER, G., op. cit., 144–174.
(89) TACIT. Ann. 15:39–65; WILLEMS, J., Le Sinat romain en l’an 65, Mus. B., 1900, 236, 1901, 89, 1902, 100; MOMIGILIANO, A., The Pisonian Conspiracy, Cam. Anc. Hist., X, 726–734.
(90) GASELEE, S., Petronius Arbiter, Ox. Class. Dict.
(91) PLIN., Epist. 5:5.
(92) CHARLESWORTH, Documents, 32 f.; LEWIS and REINHOLD, Rom. Civ., II, 394; MOMIGLIANO, A., Journ, Rom. Stud., 1944, 115, Cam. Anc. Hist., X, 735–737.
(93) MOMIGLIANO, A., op. cit., 737–742; HOMO, L., Haut-Empire, 319–321; WALTER, G., op. cit., 232–252.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤