نظام الاجتماع في العصر العباسي
كل ما قدمناه من الكلام على طبقات الناس في العصور السالفة إنما هو تمهيد للكلام عن العصر العباسي، عندما نضج التمدن الإسلامي وتكيفت طبقاته على شكل خاص بهذا التمدن، وكان على أتم أشكاله في مدينة بغداد قصبة العالم الإسلامي، فهي أوضح أنموذج يمثل به نظام الاجتماع في ذلك العصر.
كان الناس في العصر العباسي طبقتين: الخاصة والعامة، تحت كل منهما طبقات وأتباع وفروع سيأتي تفصيلها:
(١) طبقات الخاصة
- (١)
الخليفة.
- (٢)
أهله.
- (٣)
رجال دولته.
- (٤)
أرباب البيوتات.
- (٥)
توابع الخاصة.
وأما رجال الدولة فنريد بهم الوزراء والكتاب والقواد ومن جرى مجراهم من أرباب المناصب العالية، وكان أكثرهم في إبان الدولة العباسية من الموالي وخصوصًا الفرس، كالبرامكة وآل سهل وآل وهب وآل الفرات وآل الخصيب وآل طاهر وغيرهم، وكانوا يختلفون نفوذًا وسطوة باختلاف الخلفاء وتفاوت أدوار التمدن، ولكن الوزارة كانت على الإجمال من أوسع أبواب الكسب على ما بيناه في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
أما أهل البيوتات فهم الأشراف من غير الهاشميين، ومرجع شرفهم إلى اتصال حبل قرباهم بالنسب النبوي أو بقريش، وكان الخلفاء يراعون جانبهم ويفرضون لهم الأعطية والرواتب ويقدمونهم في مجالسهم، على أن هذه الأنساب كانت أكثر نفعًا لأصحابها في عهد بني أمية منها في أيام بني العباس، ولا سيما بعد ضعف العنصر العربي بقتل الأمين، فلما أفضى الأمر إلى المعتصم قطع رواتب الأشراف في جملة ما قطعه من أعطيات سائر العرب، وربما أعيد بعضها بعد ذلك على غير قياس.
(٢) أتباع الخاصة
- (١)
الجند
- (٢)
الأعوان
- (٣)
الموالي
- (٤)
الخدم
(٢-١) الجند
فالجند فرق كثيرة تختلف أصلًا ونظامًا على ما فصلناه في الجزء الأول من هذا الكتاب، وقد يتبادر إلى الذهن قياسًا على المألوف عندنا أن الجند رجال الخليفة يأتمرون بأمره، وقد يكون بعضهم كذلك، لكنهم كانوا يختلفون في ذلك العصر عما هم عليه الآن؛ لأن بعض الخاصة من الوزراء والعمال كانوا يجندون رجالًا ينفقون عليهم من أموالهم، وقد يبتاعون غلمانًا ويربونهم للاستعانة بهم على أعدائهم وقت الحاجة ويسمونهم بأسمائهم، وقد يذهب الوزير أو العامل وينتقل جنده إلى غيره ويبقى معروفًا باسمه، فاجتمع في بغداد من الأجناد طوائف كثيرة تنتسب إلى أصحابها، كالساجية والنازوركية والبيلغية والهارونية، وفيهم الأتراك والفرس والبرابرة والأحباش والأكراد. ومن هذا القبيل الفرق العزيزية والأخشيدية والكافورية في مصر مما لا يُحصى، ومن تلك الفرق ما هو من قبيل الضابطة أو نحوها كالشاكرية، أو لمجرد حماية القصور أو غير ذلك.
(٢-٢) الأعوان
أما الأعوان فهم خاصة الرجل ورفاقه، ولا يراد بهم ما يراد بالرفاق أو الأصدقاء اليوم، فقد كان للخلفاء وسائر الخاصة من رجال الدولة والأشراف رفاق يصطحبونهم ويجالسونهم ويعيشون في منازلهم ويكون لهم رواتب يقتضونها، ومنهم طائفة الجلساء الذين يجالسون الخليفة أو الأمير، وهم غير الندماء أو الشعراء، وإنما هم رجال من أهل التعقل والثقة يختصهم الخليفة أو الأمير أو الشريف بمجالسته، فيفاوضهم في شئونه ويركن إليهم في مهامه وتكون لهم الدالة عليه، وربما كان بعضهم من مشايخ أهله أو بعض ذوي قرابته.
(٢-٣) الموالي
وأما الموالي فقد فصلنا الكلام عنهم في الجزء الرابع من هذا الكتاب، وبينا أحوالهم وشروطهم وتاريخهم ولا حاجة إلى المزيد.
(٢-٤) الخدم
أما الخدم فأكثرهم في ذلك العهد الأرقاء السود والبيض من الذكور والإناث، وقد اصطلحوا أن يسموا الأرقاء البيض مماليك والسود عبيدًا، ويقسم الكلام في الخدم إلى ثلاثة أقسام: الأرقاء والخصيان والجواري.
(أ) الأرقاء
في الجزء الرابع من هذا الكتاب فصل عن الرق في الإسلام ومصادره وأحكامه، وفصل آخر عن الخدم وطبقاتهم ونفوذهم في الدولة حتى نبغ منهم القواد والوزراء، فنأتي في هذا المقام بما يختص من هذا الموضوع بنظام الاجتماع.
قلنا فيما تقدم عن طبقات الناس قبل الإسلام: إن العامة من أهل البلاد الأصليين بالشام والعراق ومصر وفارس كانوا يئنون تحت نير الاستعباد، وبعضهم أرقاء فعلًا ولا سيما الأقنان خَدَمة المزارع الذين كانوا ينتقلون مع العقار من مالك إلى مالك، فهؤلاء العامة جاءهم الإسلام رحمة؛ لأنهم تحولوا من الرق إلى الحرية أو إلى العهد، فمن أسلم صار حرًّا له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ومن ظل على دينه دخل في ذمة المسلمين يدافعون عنه ما أدى الجزية، إلا من حاربهم وأسروه فهو ملك لهم يتصرفون به كيف شاءوا، ولكن أكثر الذين حاربوا المسلمين في صدر الإسلام من حامية البلاد وهم الجنود من الروم أو الفرس لم يكونوا من عامة أهل البلاد المظلومين، فمن دخل من الحامية في أسر المسلمين صار مِلكًا لهم، وكان للمسلمين بعد ذلك أن يطلقوا سراحهم أو يعتقوهم، ولكن الغالب أنهم كانوا يدخلون الإسلام ويصبحون في جملة الموالي، وقد زعم بعض أمراء بني أمية استعباد أهل البلاد المفتوحة عنوة أو اعتبار المسلمين غير العرب من الموالي، ولكن الشريعة الإسلامية لم تجز لهم ذلك، فأنكره العلماء وذوو الرأي فلم يلبث أن رجع عنه من أراده من القواد ورجال الدولة، وقد كانت تصرفات أولئك القواد والأمراء من بين الأسباب التي دفعت إلى الثورة على بني أمية، فلما قامت الدولة العباسية تلاشت هذه النزعات نهائيًّا.
كثرة الأسرى والأرقاء
معاملة الأسرى
أما الروم فقلما كانوا يفتدون أسراهم بالمال، ولعل السبب في ذلك أن أولئك الأسرى يكونون في الغالب لفيفًا من رعاياهم أو أجنادًا من الغرباء المأجورين وليس من الروم أنفسهم، أما المسلمون فهم غالبًا المهاجمون، فإذا ظفروا كانت غنائمهم من ذلك اللفيف، وإذا غلبوا فمن وقع في الأسر منهم كان من المحاربين الذين يستحقون الفداء، والرابطة القومية بين المسلمين يومئذ أشد وثوقًا منها بين الروم ورعاياهم وأجنادهم، على أن المسلمين كثيرًا ما كانوا يأبون المال بدل الأسرى ولا سيما في الدولة الفاطمية، ولا يُعرف عن هذه الدولة أنها فادت أسيرًا من الإفرنج بمال ولا بأسير مثله، فكان ذلك من جملة البواعث على زيادة الأرقاء عند المسلمين.
أصناف الأرقاء
وكانوا إذا تكاثر الأرقاء عند أحدهم وأراد استخدامهم في منزله جعل عليهم نقيبًا يتولى النظر في شئونهم يسمونه الأستاذ، على أن الغالب في الغلمان إذا كثروا عند أمير أن يتخذهم جندًا يحرسونه فيعلمهم الحرب والقتال، فقد كان عند الأخشيد صاحب مصر ٨٠٠٠ مملوك يحرسه في كل ليلة ألفان، وأكثر فرق الجند عند الأمراء من غلمانهم، وأصلهم من السبي والأسرى أو يبتاعونهم بالمال لهذه الغاية كما تقدم في كلامنا عن فرق الجند، وربما بلغ ثمن المملوك ألف دينار.
(ب) الخصيان
الخصاء عادة شرقية كانت شائعة قديمًا بين الآشوريين والبابليين والمصريين القدماء، وأخذها عنهم اليونانيون ثم انتقلت إلى الرومان فالإفرنج، ويقال: إن أول من استنبطها سميراميس ملكة آشور نحو سنة ٢٠٠٠ قبل الميلاد، وكان المظنون أن الخصاء يذهب بقوة الرجولية، وفي التاريخ جماعة من الخصيان اشتهروا بالشجاعة والسياسة، وتولوا مناصب مهمة في أزمنة مختلفة، منهم نارسس القائد الروماني الشهير في عهد جوستنيان في القرن السادس للميلاد، وهرمياس حاكم أتارنية في ميسيا الشهير الذي قدم الفيلسوف أرسطو ذبيحة عن روحه غير ما ذكره فيه من القصائد، وممن اشتهر من الخصيان في الإسلام كافور الإخشيدي صاحب مصر، واشتهر منهم في الهند وفارس والصين جماعات كبيرة، واستبد الخصيان في أواخر الدولة الرومانية استبدادًا كبيرًا.
وللخصاء أغراض أشهرها استخدام الخصيان في دور النساء غيرةً عليهن، فلما ظهر الإسلام وغلب الحجاب على أهله استخدموا الخصيان في دورهم، وأول من فعل ذلك يزيد بن معاوية، فاتخذ منهم حاجبًا لديوانه اسمه فتح، واقتدى به غيره فشاع استخدامهم عند المسلمين، مع أن الشريعة الإسلامية أميل إلى تحريمه، على ما يُؤخذ من حديث رواه ابن مظعون.
وكانت تجارة الرقيق شائعة في أوربا قبل الإسلام، ومن أسباب رواجها أن قبائل الصقالبة (الروسيين) نزلوا في أوائل أدوارهم شمالي البحر الأسود ونهر الطونة، ثم أخذوا ينزحون غربًا جنوبيًّا نحو أواسط أوربا وهم قبائل عديدة عُرفت بعدئذ بقبائل السلاف (الصقالية أو السكلاف) والصرب والبوهيم والدلماشيين وغيرهم، فاضطروا وهم نازحون أن يحاربوا الشعوب الذين في طريقهم كالسكسون والهون وغيرهم، وكان من عادات أهل تلك العصور أن يبيعوا أسراهم بيع الرقيق كما تقدم، فتألف لذلك جماعات كبيرة من التجار يحملون الأسرى عن طريق فرنسا فإسبانيا، وقد يحملونهم إلى إفريقية والشام ومصر، فلما وقعت هذه البلاد في أيدي المسلمين راجت تلك التجارة.
ولما شاع الحجاب بين المسلمين إبان سلطانهم واستخدموا الخصيان في دورهم، عمد تجار الرقيق — وأكثرهم من اليهود — إلى خصاء بعض الأرقاء وبيعهم بأثمان غالية، فراجت تلك البضاعة وكثر المشتغلون بها وأنشأوا «لاصطناع» الخصيان معامل عديدة أشهرها «معمل» الخصيان في فردان بمقاطعة اللورين في فرنسا، وكان اليهود يخصون أولئك المساكين وهم أطفال فيموت كثيرون منهم على أثر العملية، فمن بقي حيًّا أرسلوه إلى إسبانيا فيشتريه الكبراء بثمن كبير، وأصبحوا بتوالي الأزمان يتهادون الخصيان كما يتهادون الخيل أو الإناث أو الآنية، فكان ملوك الإفرنج إذا أرادوا التقرب من خليفة المسلمين في الأندلس أو غيرها أهدوه التحف ومن جملتها الخصيان، كما فعل أمير برشلونة وطركونة لما طلبا تجديد الصلح من المستنصر خليفة الأندلس فإنهما أهدياه ٢٠ خصيًّا من الصبيان الصقالبة و٢٠ قنطارًا من صوف السمور … إلخ، فتكاثر الخصيان في بلاط الخلفاء حتى تألفت منهم فرق الحراسة الخاصة، كما تألفت الفرق من سائر المماليك والعبيد، فإذا احتفل الخليفة ببيعة أو نحوها كان المماليك والخصيان زينة ذلك الاحتفال.
(ﺟ) الجواري
تكاثرهن
أصناف الجواري
تعليم الجواري
نفوذ الجواري
(٣) طبقات العامة
فرغنا من طبقات الخاصة وأتباعهم، ونحن متكلمون عن العامة وهم أكثر عددًا وأبعد عن الحصر؛ لأنهم لفيف من أمم شتى ولا سيما في بغداد في إبان عمارتها، وقد تقاطر إليها المرتزقون والمحترفون والمستجدون من أطراف المملكة الإسلامية، بين صانع وبائع وفيهم العربي والنبطي والفارسي والخراساني والتركي والسندي والرومي والكرجي والأرمني والكردي والقبطي والبربري والنوبي والزنجي والأندلسي وغيرهم، وفيهم أهل الحرف الراقية، وتجار السلع والأقمشة والجواهر والرقيق وباعة الطعام والشراب، فضلًا عن الأدباء والشعراء والحكماء والمغنين والندماء مما يطول شرحه ويعسر حصره، على أننا تسهيلًا للبحث نقسم العامة على الإجمال إلى طبقتين كبيرتين: الأولى طبقة المقربين من الخاصة، والثانية طبقة الباعة وأهل الحرف والرعاع وغيرهم.
(٣-١) الطبقة الأولى: المقربون من الخاصة
نريد بهذه الطبقة نخبة العامة الذين تسمو بهم نفوسهم أو عقولهم إلى التقرب من الخاصة بما يعجبهم أو يطربهم، فيستظلون بهم ويعيشون من عطاياهم أو رواتبهم أو يرتزقون من بيع سلعهم لهم، وهم أربع فئات: أهل الفنون الجميلة والأدباء والتجار والصناع.
(أ) أهل الفنون الجميلة
المصورون
الشعر والموسيقى
أما الشعر والموسيقى فقد راجا وتقرب أصحابهما من الخلفاء وسائر طبقات الخاصة واكتسبوا بهما الأموال الطائلة، وقد بينا في الجزء الثالث من هذا الكتاب ما هو الشعر العربي وما أصله، وما كان شأنه في الجاهلية وما آل إليه بعد الإسلام، من عصر الراشدين فالأمويين فالعباسيين وسائر دول الإسلام، وتحدثنا عن جمع الشعر ورواته وطبقات الشعراء في الإسلام وأشعارهم، والشعر وتأثيره في الدولة والشعر والخلفاء والأمراء وغير ذلك — وسيأتي الكلام عما كان الشعراء يصيبونه من الأموال — بقي علينا النظر في الموسيقى وأهلها وهم المغنون.
(ب) المغنون
الغناء قبل الإسلام
الغناء طبيعي في الأمم؛ لأنه لغة النفوس وترجمان العواطف، وكل أمة غناؤها يناسب طبائعها وعاداتها، فالعرب في الجاهلية كانوا أهل ماشية وأنعام وخيام، فلم ينتبهوا إلى شيء من الفنون الجميلة غير الشعر، وكانوا يلهجون به ويطربون بتلاوته بلا ترنيم ولا غناء، وتلك أول خطوة نحو الموسيقى؛ لأنها بنت الشعر أو أخته.
ثم ظهر فيهم «الحداء» وهو غناء يتغناه الحداة في سوق إبلهم والفتيان في قضاء خلواتهم، ثم عمدوا إلى «الترنيم»، وكان ترنيمهم على نوعين: «الغناء» وهو ترنيم الشعر، و«التغبير» (بالغين والباء) وهو ترنيم القراءة لغير الشعر.
أما آلات الموسيقى عندهم فأشهرها الدف، وهو أشكال منها المستدير والمربع والكبير والصغير، والمزمار على أبسط أنواعه، ولا يظهر أنهم كانوا يعرفون غير الدف والمزمار وما يتفرع عنهما من آلات النفخ والقرع، وأما آلات الأوتار كالعيدان والطنابير والمعازف ونحوها فهي من صناعة الفرس والروم، لم يعرفها العرب إلا بعد الإسلام.
الغناء في الإسلام
فلما جاء الإسلام واستولى العرب على ممالك الدنيا وحازوا سلطان العجم والروم، كانوا في عصر الراشدين لا يزالون على بداوتهم مع غضارة الدين وشدته، مما يدعو إلى ترك أحوال الفراغ وما ليس نافعًا في دين ولا معاش، حتى تركوا ما كان عندهم من أنغام الجاهلية، ولم يكن الملذوذ عندهم إلا ترجيع القراءة والترنم بالشعر، فلما جاءهم الترف في أيام بني أمية ومن بعدهم وغلب عليهم الرفه بما حصل لهم من غنائم الأمم صاروا إلى نضارة العيش ورقة الحاشية واستحلاء الفراغ، وكان المغنون من الروم والفرس قد دخلوا في سلطان العرب، وحُمل بعضهم إلى الحجاز في جملة الأسرى أو السبايا فأصبحوا من موالي العرب، وقد حملوا معهم العيدان والطنابير والمعازف والمزامير، فغنوا بها فأعجبوا بألحانهم فاشتغل المغنون وأكثرهم من الموالي في تلحين أشعار العرب على الألحان الفارسية أو الرومية، فنبغ في المدينة في أيام بني أمية طائفة من المغنين، والمشهور أن أول من أدخل غناء الفرس إلى العربية سعيد بن مسحج، وهو مكي أسود كان في مكة لما حاصرها الأمويون، وفيها ابن الزبير في أواخر القرن الأول للهجرة، فاستقدم ابن الزبير بعض البنائين من الفرس لترميم الكعبة، فسمعهم سعيد بن مسحج يغنون بالفارسية فالتقط النغم وغناه بالعربية، فأعجب الناس كثيرًا فسافر إلى الشام وفارس فأتقن فن الغناء، وعنه أخذ من جاء بعده من مغني المدينة وغيرها، وشاع الغناء في المملكة الإسلامية وراجت بضاعته باتساع أسباب الحضارة والرخاء، وتكاثر المغنون لما شاهدوه من رغبة الخاصة في الغناء، فنبغ جماعة من مهرة الموسيقيين أتقنوا هذه الصناعة وآلاتها إتقانًا حسنًا، على ما بيناه في الجزء الثالث من هذا الكتاب، وإنما يهمنا الآن النظر في تاريخ انتشار المغنين في الإسلام وما كان من منزلته ومنزلتهم.
الغناء والدين
مقاومة الخلفاء للغناء
فكيف بالعقلاء وأهل الحزم ومؤسسي الدول أو معيديها مثل معاوية وهشام والمنصور وأبي مسلم، أو أهل التقوى مثل عمر بن عبد العزيز الأموي والمهتدي العباسي؟ فقد تقدم ما عابه معاوية على عبد الله بن جعفر، أما هشام فسمع عن أشعب المضحك في المدينة فأمر كاتبه أن يكتب باستقدامه، فلما ختم الكتاب أطرق هشام طويلًا ثم قال: «هشام يكتب إلى بلد رسول الله ليحمل إليه مضحك؟!» وتمثل:
اشتغال الخلفاء بالغناء
(ﺟ) العلماء والفقهاء والأدباء
هم طائفة من العامة تقربوا إلى الخلفاء بما يلذ لهم من سماع الأخبار والنوادر، أو النظر في علوم تلك الأيام الدينية أو اللسانية أو الأدبية أو التاريخية، ويدخل في ذلك الفقهاء والمحدثون والنحاة والأدباء من أصحاب الأخبار، كالأصمعي وأبي عبيدة والكسائي والفراء وغيرهم، وكان للخلفاء رغبة في مجالستهم وسماع أبحاثهم، فكانوا يقربونهم ويعظمون شأنهم ويجيزونهم ويفرضون لهم الأعطية والرواتب، على ما سنبينه في باب أبهة الدولة، وقد تكلمنا عن الفقهاء ومنزلتهم في أماكن كثيرة من هذا الكتاب.
واقتدى بالخلفاء وزراؤهم وأمراؤهم، كالبرامكة وآل الفرات فإنهم أغدقوا الأموال على هؤلاء فنشطوا العلم وأهله حتى صار العلم صناعة يرتزق بها أصحابها من الناس، ويدخل فيما تقدم المترجمون من غير المسلمين، وفيهم السريان والروم والفرس وغيرهم ممن نقل العلوم القديمة إلى اللغة العربية في العصر العباسي، فإنهم فئة من أهل الذمة قربهم الخلفاء وأكرموهم من أجل علمهم على ما فصلناه في الجزء الثالث من هذا الكتاب.
(د) التجار
نريد بالتجار باعة السلع الثمينة التي تقتضيها الحضارة، كالمجوهرات والمصوغات والرياش الثمين والثياب الفاخرة والآنية والرقيق، وأكثر ارتزاقهم من الخليفة وأهله وأهل دولته وسائر الخاصة من جلسائه وأعوانه، وكانوا يقيمون في بغداد والبصرة وغيرهما من المدن الإسلامية، وأكثرهم من جالية الفرس والروم وغيرهم من الأمم التي اشتهر أهلها بالعناية بهذه الطرف، كانوا يحملون إلى دار السلام أصناف التجارة للارتزاق مما يتدفق من خزائن الدولة في عصر الثروة.
فكانوا يحملون الياقوت والماس من بلاد الهند، واللؤلؤ من البحرين، والعقيق والعاج من الحبشة، والأدهان والزيوت العطرية من نيسابور، ونسيج الكتان من شيراز، وطراز الوشي والأقمشة المنسوجة من الشعر التي تصنع منها ثياب مثقالية يلبسها الخليفة ورجال الدولة، والكلل المرتفعة والستور المعلمة من القز، هذه كلها من فسا، والبسط والنخناخ والمصليات والزلالي من جهرم، والستور والمقاعد من دشت، وأحسن أصناف البسط والتكك الرفيعة والوسائد والأنماط والمقاعد من أرمينية، وكان لهم صبغ من القرمز يصبغون به الصوف لا مثيل له، والعتابي والوشي وسائر ثياب الحرير من أصفهان، والثياب المنيرة من الري، والأبريسم ومطارف القز، وطبقات الخشب من طبرستان ونيسابور، والسمور الأسود وجلود الخز وجلود الثعالب السود من بلاد الروس، والبز من بلخ، والكاغد والنوشادر والأوبار والسمور والسنجاب والثعالب من وراء النهر وكذلك المسك، ولكن أصله من بلاد التبت، والبسط والمصليات وثياب الصوف من بخارا، والديبقي من تنيس ودمياط، والستور والبسط المصرية من البهنسا، والطيالسة المقورة الرفيعة من كرمان، والحصر والقباطي والقراطيس من مصر، والمناديل الديلمية البيضاء المعلمة من قومس؛ ربما بلغ ثمن المنديل منها ٢٠٠٠ درهم، والمقانع القزيات من جرجان والسوس، والبرود المنيرة والصاع والأمشاط من الري، والأكسية والجوارب من قزوين، والخفآف والسمور من همدان، والزجاج والخزف من البصرة، والحصر من عبادان، والديباج والأنماط من تستر، والجلود المدبوغة من الحبشة بطريق اليمن، والمسك والكافور والعود من الصين.
أما الرقيق فأبيضه كان يحمل مما وراء النهر، وأصله من الصقالبة أو من الخزر الأتراك من بادية تركستان، وأحسنهم يُربى في سمرقند وخوارزم ثم يُحمل إلى بلاد الإسلام، ويحمل الرقيق الأبيض أيضًا من الأندلس وفيه الجواري والغلمان، وأصلهم من سبي الإفرنج وجليقية أو من الصقالبة كما تقدم، ومن الرقيق الأبيض صنف كان يرد من خراسان غالٍ جدًّا، ربما بيع الغلام منه بخمسة آلاف دينار، أما الرقيق الأسود فكل ما يحمل منه إلى بلاد الإسلام من السودان بطريق مصر أو بلاد المغرب.
فكان التجار يفدون على دار السلام بهذه التجارات فيبيعونها بالأثمان الفاحشة، ويدخل في هذه الطبقة من الناس الصيارفة وأكثرهم من اليهود، وكانوا يقرضون رجال الدولة المال بالربا الفاحش، اشتهر منهم في بغداد صيارف كانت مكاسبهم موقوفة على الدولة ورجالها كآل فنخاس وآل عمران وغيرهم.
تجار المسلمين
فلما نضج التمدن الإسلامي واشتغل المسلمون أنفسهم بالتجارة لم يقصروا في شيء من شروطها، وأتقنوها علمًا وعملًا حتى ألفوا الكتب فيها وفي الاقتصاد السياسي، وبين يدينا نسخة من كتاب «الإشارة إلى محاسن التجارة» للشيخ أبي الفضل جعفر بن علي الدمشقي من أهل القرن الخامس للهجرة، فيه فوائد اقتصادية لم يسبقه أحد إليها وأبحاث في معنى النقود والسلع والمال الصامت والأعراض وتحقيق أثمان الأشياء، ما لا تقل قيمته عمَّا بلغ إليه علماء الاقتصاد في هذا العصر؛ يدل ذلك على ما بلغ إليه المسلمون من الرقي في علم التجارة، ناهيك بأهل الرحلة منهم إلى أطراف المعمورة في ذلك العصر، فقد طافوا العالم برًّا وبحرًا من القرن الرابع للهجرة، ودونوا رحلاتهم تسهيلًا لأسباب التجارة، واكتشفوا طرقًا تجارية في البحر المحيط والبحر الهندي والأحمر، وفي أواسط إفريقيا وآسيا لم يسبقهم إليها أحد.
أما الأسفار التجارية فقد كانوا فيها سلاطين البحار، فمخرت سفنهم البحر الأبيض على كل شواطئه، والبحر الأحمر إلى آخره، والبحر المحيط إلى سومطرا فزنجبار إلى بلاد الكفرة، وشرقًا إلى كلكتة وجزائر الهند والصين، وجنوبًا إلى مدغشقر وسائر شواطئ إفريقيا الشرقية، واجتازوا بحر قزوين إلى بلاد الخزر والروس، أما برًّا فاخترقوا بلاد الهند وتركستان والتبت حتى نزلوا بلاد الصين، وأوغلوا في إفريقيا إلى خط الاستواء، فقربوا الأبعاد بين تلك الأصقاع المتباعدة.
ثروة التجار
وكان لابن الجصاص بيت كبير في بغداد لبيع المجوهرات، فلما كانت النكبات والمصادرات على عهد المقتدر بالله العباسي في أوائل القرن الرابع للهجرة، كان ابن الجصاص في جملة الذين صودروا، وسبب ذلك أن عبد الله بن المعتز لما بويع بالخلافة ثم انحل أمره وتفرق رجاله وطلبه المقتدر اختفى عند ابن الجصاص المذكور، فوشى به خادم فصادره المقتدر بالله على ١٦٠٠٠٠٠٠ دينار، وبقي له بعد مصادرته شيء كثير من الدور والقماش والأموال والضياع وغيرها، ويقال مع ذلك إنه كان أحمق أبله، فاعتبر مقدار ما كان يصل إليه التجار أهل النباهة والدهاء.
(ﻫ) الصناع
واشتغل المسلمون في هذه الفنون وألفوا فيها الكتب من عند أنفسهم، وقد وقفنا على مؤلف خطي في الآلات الروحانية أطلعنا عليه صديقنا الشيخ شبلي النعماني العالم الهندي الشهير، وهو تأليف «رئيس الأعمال بديع الزمان أبو العز بن إسماعيل بن الرزاز الجزري» في أسباب الحيل والحركات الروحانية والآلات المتخذة للساعات المستوية والزمانية ونقل الأجسام بالأجسام من المقدمات الطبيعية — ألفه لأبي الفتح محمود بن محمد بن قزل أرسلان من آل ارتق في أواخر القرن السادس للهجرة، فيه رسوم ملونة تمثل الآلات الضاغطة والرافعة والناقلة والمتحركة حركات خفية، وبينها رسم يشبه ما وصفه ابن جبير عن ساعة دمشق — فيدل هذا وغيره على ما بلغ إليه المسلمون من إتقان فن الميكانيكيات مما يحتاج في وصفه إلى كتاب بأسره.
(٣-٢) الطبقة الثانية من العامة
نريد بهذه الطبقة سائر من بقي من الأمة وهم السواد الأعظم، وفيهم الزارع والصانع والعيار والشاطر واللص والمخنث والصعلوك وغيرهم مما لا يُحصى، ولسهولة الإحاطة بهم نقسمهم إلى قسمين: أهل القرى وهم المزارعون، وأهل المدن وهم الصناع والباعة والرعاع.
(أ) المزارعون أهل القرى
فالمزارعون أو الأكرة يتألف منهم معظم سكان المملكة وهم أصل ثروتها، وأكثرهم من أهل الذمة يقيمون في القرى، إلا من أسلم منهم فينزل في المدن، وكانوا يتكلمون لغات البلاد الأصلية: السريانية والآرامية واليونانية في العراق والشام، والقبطية بمصر، والفارسية في بلاد فارس، والتركية في تركستان بما وراء النهر، وأخذ العنصر العربي يتغلب على عناصرهم، واللغة العربية تتغلب على ألسنتهم، والإسلام يتغلب على أديانهم، حتى ساد الإسلام عليهم جميعًا، وعمت العربية البلاد الواقعة غربي دجلة وهي العراق والشام ومصر وإفريقية والسودان، وصارت تعد بلادًا عربية وأكثر أهلها مسلمون، وانقرضت اللغات التي كانت منتشرة فيها إلا بقايا قليلة من السريانية في بعض القرى المتباعدة من الشام والعراق، أما شرقي دجلة بفارس وتركستان والهند فقد ساد الإسلام أيضًا، وانتشرت اللغة العربية بين أهل العلم، ولكن ألسنة أهل البلاد ظلت حية يتفاهمون بها إلى الآن.
(ب) العامة سكان المدن
هم نفر ممن يؤمون المدن من أهل المطامع وطلاب المكاسب، بالتجارة أو الجندية أو الأدب أو الشعر، وتقعد بهم نفوسهم عن اللحاق بأهل الهمم وأصحاب القرائح فيضطرون إلى احتراف ما يعيشون به مما لا يحتاج لهمة أو رأي، ولو أردنا الرجوع إلى أصول عامة بغداد مثلًا لرأيناهم أخلاطًا من مولدي العرب والفرس والترك والديلم والروم والنبط والأرمن والجركس والأكراد والكرج والبربر وغيرهم، ولكنهم يعدون عربًا لتغلب اللغة العربية على ألسنتهم.
- (١)
الصناع أصحاب الصناعات اليدوية كالحدادين والحياكين والخياطين والحلاقين والنجارين والصيادين والخبازين والطحانين ومن جرى مجراهم.
- (٢)
الباعة الذين يبيعون البقل واللحم وغيرهما من أصناف المأكولات على أنواعها وبعض المنسوجات والسلع الصغيرة، وهم طوائف كثيرة كالزياتين والبقالين والجزارين وباعة الأقمشة والطحين والخضر ونحوها.
والطبقة الثانية رعاع يرتزقون من النهب واللصوصية، وهم أصناف كثيرة نشأت في بلاد الإسلام على أثر الفتن والانشقاق بين أهل الدولة لا يستطيع أهل هذا الجيل تصور أمثالهم لبعد ذلك عن مألوفهم، إلا الذين أدركوا متشردي بيروت المعروفين بالزعران، وهم طائفة من أهل البطالة كانوا يحترفون السرقة والتحرش بأبناء السبيل، والزعران مثال صغير لرعاع ذلك العصر، فقد كان في بغداد وغيرها من مدن الإسلام طوائف كثيرة تُعرف بالعيارين والشطار والصعاليك والزواقيل ونحوهم، كثيرًا ما استفحل أمر بعضهم حتى تعجز الحكومة عنهم وقد تستنجدهم في بعض حروبها.
والسبب في ظهورهم اضطراب الدولة العباسية بعد عصرها الأول، بمن دخل فيها من المفسدين منذ حجر على الخلفاء واستولى الأجناد على مصالح الدولة وجعلوا همهم جمع المال لأنفسهم والتنازع على السلطة كما بيناه في الأجزاء الماضية، ولا سيما الجزء الرابع، ولا يخفى ما تجر إليه الفتن من وقوف الأعمال وغلاء الأسعار، غير ما كان يرتكبه الحكام أنفسهم من خزن الأقوات، فتقل أرزاق العامة فيعمدون إلى التعدي ويؤلفون عصابات لمناوأة أصحاب الأموال من التجار وغيرهم في المدن، ولا سيما بغداد أم المدائن الإسلامية في ذلك العهد، فكان الرعاع يتكاثرون ويزدادون تعديًا، والحكام في شغل عنهم والخسارة معظمها على الأهالي، وتوالى ذلك أعوامًا حتى خربت مدينة السلام وأم حضارة الإسلام، ولا يمكن الإلمام بكل طوائف الرعاع فنذكر أشهرها:
العيارون
الشطار
طوائف أخرى من الرعاع
ومن طبقات العامة «المخنثون»، وكانوا في الحجاز قبل الإسلام، وهم جماعة من أهل الخلاعة انتشروا بالمدينة بعد الإسلام على إثر ظهور اللهو والقصف وكثرة الأموال، وكثيرًا ما كانوا يفسدون النساء يتوسطون بينهن وبين الرجال، وكان أحسن المغنين منهم، وقد تقدم خبر سليمان بن عبد الملك وما فعله بهم، وربما أشبهوا ما كان في القاهرة من «الخول» من عهد غير بعيد، ولما انتشر الغناء في المملكة الإسلامية انتشر المخنثون معه، وتكاثروا في بغداد والشام ومصر والأندلس وسائر المغرب، والأندلسيون إذا قالوا المخانيث قد يريدون المماليك الصقالبة.
(ﺟ) أخلاق العامة
فالعامة في المدن أخلاط من غوغاء ولفيف من أمم شتى وصناعات شتى، وهم جهال أتباع من سبق إليهم من غير تمييز بين الفاضل والمفضول، وسئل الإمام علي عن العامة فقال: «همج رعاع أتباع كل ناعق.» وقال الفضل بن يحيي: «الناس أربع طبقات: ملوك قدمهم الاستحقاق، ووزراء فضلتهم الفطنة والرأي، وعلية أنهضهم اليسار، وأوساط ألحقهم بهم التأدب، والناس بعدهم زبد جفاء وسيل غثاء، لكع لكاع وربيطة اتضاع، هَمّ أحدهم طعامه ونومه.» وقال معاوية للأحنف: صف لي الناس، فقال: «رءوس رفعهم الحظ، وأكتاف عظمهم التدبير، وأعجاز أشهرهم المال، وأدباء ألحقهم بهم التأدب، والناس بعدهم أشباه البهائم؛ إن جاعوا ساموا وإن شبعوا ناموا.» هذه هي آراء خاصة تلك الأيام في عامتهم.
ومع ذلك فطلاب السلطة كانوا يراعون جانبهم ويقربونهم بما يرضيهم ولا سيما الدين وهو جامعتهم الكبرى، ولا غرو فإنه أكبر أسباب سعادتهم، ولهذا السبب رأيتهم شديدي التعلق بالخليفة إذا أظهر التقوى، لما في منصبه من الصبغة الدينية، وهو رئيسهم وإمامهم، فكانوا له عضدًا قويًّا، ولولاهم لذهبت الخلافة العباسية من بغداد قبل الزمن الذي ذهبت فيه؛ لأنهم كانوا كثيرًا ما ينهضون لنصرته على القواد والوزراء إذا أرادوا خلعه، وأكثرهم مع ذلك لا يعرفون من الدين غير اسمه، ولو سئل أحدهم عن اعتقاده لما أحسن الجواب، فضلًا عن بساطتهم وسذاجة أفكارهم وجهلهم سائر الأمور.
ذكروا من دهاء معاوية في مداراة الناس واجتذاب قلوب العامة أن رجلًا من أهل الكوفة دخل على بعير له إلى دمشق في حال منصرفهم عن واقعة صفين، فتعلق به رجل من أهل دمشق فقال: هذه ناقتي أُخذت مني في صفين! فارتفع أمرهم إلى معاوية، وأقام الدمشقي خمسين رجلًا بينة يشهدون أنها ناقته فقضى معاوية على الكوفي وأمره بتسليم البعير إليه، فقال الكوفي: «أصلحك الله، إنه جمل وليس بناقة.» فقال معاوية: «هذا حكم قد مضى.» ودس إلى الكوفي بعد تفرقهم فأحضره وسأله عن ثمن بعيره ودفع إليه ضعفيه وبره وأحسن إليه وقال له: «أبلغ عليًّا أني أقابله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل.»
وبلغ من أمرهم في طاعته أنه صلى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة في يوم الأربعاء، وأعاروه رءوسهم عند القتال وحملوه بها، وركنوا إلى قول عمرو بن العاص أن عليًّا هو الذي قتل عمار بن ياسر حين أخرجه لنصرته، ثم ارتقى بهم الأمر في طاعته إلى أن جعلوا لعن علي سنة ينشأ عليها الصغير ويهلك عليها الكبير.
وذكروا عن عامة بغداد في إبان التمدن الإسلامي أن رجلًا منهم رفع إلى بعض الولاة وشاية برجل من علماء الكلام زعم أنه يتزندق، فسأله الوالي عن مذهب الرجل فقال: «إنه مرجئ قدري إباضي رافضي، يبغض معاوية بن الخطاب الذي قاتل علي بن العاص!» فقال له الوالي: «ما أدري على أي شيء أحسدك، على علمك بالمقالات أو على بصرك بالأنساب …»
وكان جماعة من علماء ذلك العصر يجتمعون في بغداد للمناظرة في أبي بكر وعمر وعلي ومعاوية، وكان بعض العامة يأتون فيستمعون، فتصدى أكبرهم لحية ذات يوم لبعض الباحثين وقال له: «كم تطنبون في علي ومعاوية وفلان وفلان!»
فقال له الرجل: «فما تقول أنت في علي؟»
قال: «أليس هو أبا فاطمة؟»
قال: «ومن هي فاطمة؟»
قال: «امرأة النبي عليه السلام … بنت عائشة أخت معاوية!»
قال: «فما كانت قصة علي؟»
أولئك هم العامة في كل زمان ومكان، وطلاب السلطة المطلقة لا يستغنون عنهم؛ لأنهم معظم الرعية وبهم تُجبى الأموال ومنهم تتألف الجنود، فمن استطاع كسب ثقتهم واجتذاب قلوبهم ملكوه، ولا يجتذب قلوب العامة مثل الدين، فإذا اجتمعت السياسة والدين تمت وسائط السلطة المطلقة وتولى أمور الناس أكثرهم دهاء وأقدرهم على استرضاء العامة بالتقوى.