آداب العرب في صدر الإسلام
ينقضي هذا العصر بانقضاء دولة الأمويين في الشام سنة ١٣٢ﻫ، وقد علمت مما ذكرناه عن سياسة هذا العصر في الجزء الرابع أنها كانت عربية النزعة وقوادها عرب وعمالها عرب والسيادة فيها للعنصر العربي، وكذلك الآداب الاجتماعية، فقد كانت لا تزال عربية بدوية، أو هو دور الانتقال من البداوة إلى الحضارة، حاول العرب فيه البقاء على ما ألفوه في جاهليتهم من المناقب التي تقدم ذكرها، كالوفاء والجوار والكرم والنجدة والشجاعة والعفة، وكانت الحضارة وما تقتضيه من الترف والرخاء تغالب تلك المناقب، حتى غلبت على معظمها في أواسط العصر العباسي.
ويقسم العصر الإسلامي العربي إلى: أيام الراشدين، وأيام الأمويين، فنذكر الآداب الاجتماعية في كل منهما على حدة.
(١) الآداب الاجتماعية في عصر الراشدين
قلما أصاب المناقب البدوية تغيير في عصر الراشدين، إلا ما اقتضاه الدين من جمع كلمة العرب تحت لوائه، فضعفت بذلك العصبية بين القبائل والبطون، واجتمع العرب من قحطان وعدنان في ظل الإسلام، وأصاب الكرم في ذلك العصر تغيير اقتضاه عدل الراشدين ولا سيما عمر بن الخطاب، فإنه كان من الصرامة وحب العدل حتى يطالب العامل بالدرهم والدانق، وإذا علم أنه كسب مالًا من غير راتبه شاطره إياه، وكذلك كان علي بتدقيقه في محاسبة عماله وسائر رجاله، فكانوا لا يبذلون المال إلا لمن استحقه من أهل العطاء، فلم يكن لأصحاب الاستجداء عيش في أيامهم، وكان الصحابة يومئذ يقلدون الخلفاء في هذا التدقيق، وهو مخالف للسخاء والبذل، حتى اتهموهم بالبخل وما هو بخل، ولكنهم كانوا يرون إعطاء كل ذي حق حقه.
(١-١) المرأة في عصر الراشدين
أما المرأة فاتجهت قواها في صدر الإسلام إلى سداد الرأي ومزاولة الأدب والشعر مع بقاء العفة والأنفة، فاشتهر منهن غير واحدة جرت بذكرهن الأمثال منهن عائشة أم المؤمنين، فقد كان لها عقل راجح وفيها دهاء وقوة، حتى رأست حزبًا كبيرًا من الصحابة وروت أحاديث كثيرة هامة.
ولما نضج التمدن الإسلامي اشتهر عدة نساء بالسياسة والصلاح والدهاء وغير ذلك مما ذكرناه في الأجزاء الماضية.
(٢) الآداب الاجتماعية في عصر الأمويين
أصاب المناقب العربية في الدولة الأموية تغيير يختلف عما أصابها في عصر الراشدين باختلاف أحوال الدولتين، فالأمويون لما جعلوا همهم الرجوع إلى ما كان لهم من السيادة في الجاهلية أغفلوا كل ما يخافون حيلولته بينهم وبين ذلك المرمى، واستبقوا ما يتوسمون منه نفعًا لغرضهم؛ فالكرم رأوا فيه وسيلة لجمع الأحزاب فنشطوه وتسابقوا إليه، فزادوا الأعطية وفرضوا الجوائز وأقاموا بيوت الضيافة، وأكثروا من السخاء على رؤساء الأحزاب والشعراء ومن يخافون سطوتهم ولا يقوون على قتلهم على ما بيناه في باب السخاء.
والشجاعة لم يكن لهم بد منها فقربوا أصحابها، والعصبية كانت ملجأهم الأكبر في مناوأة أعدائهم من شيعة علي وغيرهم، فبعد أن ضعفت في عصر الراشدين وقامت جامعة الدين مكانها أعادها الأمويون إلى نحو ما كانت عليه قبل الإسلام.
(٢-١) تقييد الأفكار في أيام بني أمية
واقتدى بمعاوية من عاصره من الأمراء أو جاء بعده من الخلفاء، فنشأ جيل من العرب يهون عليهم السكوت عن الحق، وكثر أهل الزلفى والرياء وذهبت حرية القول بتوالي الأعوام.
(٢-٢) النجدة والأريحية في أيام بني أمية
أما النجدة والأريحية فظلتا في العصر الإسلامي العربي متأصلتين في العرب، وإن اضطر الأمويون إلى الإغضاء عنهما في بعض الأحيان، أما على العموم فقد كانتا مرعيتين حتى عند أشد بني أمية استبدادًا وظلمًا، وفي أخبارهم كثير من أمثلة ذلك، منها أنه جيء إلى معاوية في يوم صفين بأسير من أهل العراق فقال معاوية: «الحمد لله الذي أمكنني منك.»
فقال الرجل: «لا تقل ذلك يا معاوية.»
قال: «وأي نعمة أعظم من أن يمكنني الله من رجل قتل جماعة من أصحابي في ساعة واحدة؟ اضرب عنقه يا غلام.»
فقال الأسير: «اللهم اشهد أن معاوية لم يقتلني فيك وأنك لا ترضى بقتلي، وإنما يقتلني في الغلبة على حطام الدنيا، فإن فعل فافعل به ما هو أهله وإن لم يفعل فافعل به ما أنت أهله.»
فقال له: «ويحك! لقد سببت فأبلغت ودعوت فأحسنت … خليا عنه.»
وكان معن بن زائدة قد أمر بقتل جماعة من الأسرى، فقام أصغر القوم فقال له: «يا معن، أتقتل الأسرى عطاشًا؟» فأمر لهم بالماء، فلما سقوا قال: «يا معن، أتقتل ضيفانك؟» فأمر معن بإطلاقهم.
فلما ضعف العنصر العربي في الدولة العباسية بعد تسلط الأجناد الأتراك، وتحولت الأغراض في أهل الدولة إلى كسب الأموال بأية وسيلة كانت، ذهبت الأريحية والنجدة، على أن ذهابهما بدأ من أيام أبي مسلم الخراساني … فكم استنجدوه واستحثوه ولم يفعل إلا ما يوصله إلى غرضه.
والشيخوخة ظلت مرعية ومحترمة إلى عصر العباسيين وما بعده، ولا تزال حتى الآن.
(٢-٣) المرأة في عصر الأمويين
بدأت المرأة بتبديل طباعها من أيام الأمويين؛ لأن العفة والغيرة أصابهما في ذلك العصر صدمة قوية بتكاثر الجواري والغلمان، وانغماس بعض الخلفاء في الترف والقصف وانتشار الغناء والمسكر، فتجرأ الشعراء على التشبيب والتغزل وتكاثر المخنثون في المدن، وتوسطوا بين الرجال والنساء بالباطل، فأخذ الفساد يفشو بين الناس وضعفت غيرة الرجال وقلت عفة الناس.
وكانوا يتفاخرون بالعفة وإمساك هوى النفس، وقد يجتمع الحبيبان بعد طول البعد واحتدام الشوق فيجلسان ويتعاتبان ويتحادثان ثم ينصرفان، وأشهر الناس في ذلك بنو عذرة، وأكثر عشاق العرب منهم.
(٢-٤) التشبيب
فالعرب على فطرتهم وطبيعة إقليمهم وطرق معايشهم أهل عفة، والنساء يجتمعن بالرجال في المجالس والأندية على غير ريبة، حتى في الكعبة، فكانوا يطوفون معًا لا يرون بذلك بأسًا؛ لأن العفة كانت غالبة على طباعهم، فلما جاءهم الترف وأخذوا بأطراف الحضارة وعمدوا إلى التسري والاستكثار من الجواري تغيرت تلك الطباع، فلما كانت إمارة خالد القسري على مكة في خلافة سليمان بن عبد الملك الأموي بلغه قول بعض الشعراء:
ولم يكن الخلفاء في أول الأمر راضين عن ذلك لتغلب البداوة على أخلاقهم، فأخذوا يقاومون تيار الترف بكل قواهم، ولكنهم كانوا يدارون الشعراء رغبة في اكتساب الأحزاب على أيديهم، فلا يمنعونهم من التشبيب إلا إذا مس عرضهم، ومع ذلك فالدهاة منهم كانوا يتلطفون في دفعهم، ومن لطيف ما يُحكى من هذا القبيل أن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت شبب بابنة معاوية وهو خليفة في إبان مجده، وبلغ ذلك ابنه يزيد فغضب ودخل على أبيه وقال: «يا أمير المؤمنين اقتل عبد الرحمن بن حسان.»
قال: «ولم؟»
قال: «شبب بأختي.»
قال: «وما قال؟»
قال: «قال:
قال معاوية: «يا بني، وما علينا من طول ليله وحزنه؟ أبعده الله!»
قال: «صدق يا أبي.»
قال: «يا بني، وما علينا من أهله؟»
قال: «إنه يقول:
قال: «صدق يا بني.»
قال: «إنه يقول:
قال: «صدق يا بني، هي هكذا!»
قال: «إنه يقول:
قال: «ولا كل هذا يا بني!»
فقس على ذلك سائر خلفاء بني أمية وأمرائهم، مما يدل على غلبة طبائع البدو في الأمويين، مع أخذهم بأطراف المدنية واختلاطهم بالأمم الأخرى وقربهم من أسباب القصف، وكأن تلك الأسباب أخذت بعقول الشعراء فلم يكونوا يقعدون عن التشبيب مع تعرضهم للخطر، وقلما كان يجسر على ذلك غير القرشيين، وأكثرهم جسارة عمر بن أبي ربيعة المتقدم ذكره، فإنه كان يصطحب ابن سريج المغني فيركبان على نجيبين ويلقيان الحاج فيعرضان للنساء وينشدان الأشعار لا يبالون أن تكون فيهن بنت الخليفة أو امرأته.
(٣) الآداب الاجتماعية في العصر العباسي
قد رأيت ما أصاب المناقب العربية الفطرية من التغير بعد الإسلام، بما طرأ عليها من عوامل الحضارة والانغماس في الرخاء والقصف والاختلاط بأهل المدن، فغلبت عليهم الضعة وركنوا إلى بسطة العيش والتنعم بمطالب الحياة المادية، وزادهم العلم والفلسفة والطب تباعدًا عن البداوة وخشونتها وسذاجتها، وقضت سياسة العباسيين بمراعاة الفرس وغيرهم ممن نصروهم في قيام دولتهم وتشتيت شمل العرب، فذهبت العصبية العربية، واستلزمت رغبتهم في بقاء دولتهم العدول إلى الفتك والغدر على ما فصلناه في الجزء الرابع، فذهبت مناقب العرب ولم يبق من الوفاء والشجاعة والاستقلال والأنفة والعصبية والنجدة إلا آثار ضعيفة.
(٣-١) المرأة في العصر العباسي
فأفضى ذلك إلى انحطاط المرأة وذهاب عزة نفسها واستقلال فكرها، فاحتقرها الرجل وأساء الظن بها وصار يعدها عدوة له، ويوصي بعدم الإركان إليها، فيعاشرها على غل وسوء رأي، يقفل عليها الأبواب والنوافذ، ويسد في وجهها الطرق والمسالك، ويمنعها من الخروج أو الكلام، وهو صاحب الذنب في انحطاطها، فأصبح الطعن في طباع المرأة وسوء سريرتها شائعًا على ألسنة الناس، حتى ألفوا فيه الروايات والأقاصيص ونظموا الشعر، وتفننوا في وضع الجمل الحكمية والعبارات البليغة في تحذير الناس من المرأة وعدم الوثوق بها، وهذه هي قصة ألف ليلة وليلة تمثل حال المرأة في الأعصر الإسلامية الوسطى، بعد شيوع التسري وانغماس المسلمين في الترف، وأما الأشعار فإليك ما قاله أبو العلاء المعري:
ولولا ما ذكرته من سترها ووقفت عليه من غرائب أمرها، لكنت إلى التهنئة أقرب من التعزية، فإن ستر العورات من الحسنات، ودفن البنات من المكرمات، ونحن في زمان إذا قدم أحدنا فيه الحرمة فقد استكمل النعمة، وإذا زف كريمة إلى القبر، فقد بلغ أمنيته من الصهر، قال الشاعر:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال آخر:
هذا مثال من آراء أدباء المسلمين وشعرائهم في المرأة بين القرنين الرابع والخامس للهجرة.
فلم يبق من المناقب العربية في العصر العباسي إلا السخاء؛ لأنه كان لازمًا لقوام الدولة وسلامتها وتأييدها، بل هو كان من أهم قواعد الارتزاق في ذلك العصر.
(٣-٢) الارتزاق بالسخاء
إن الارتزاق في التمدن الحديث مبني على قواعد اقتصادية عمرانية تحفظ توازن القوى ونتائجها، فينال الإنسان من رزقه على مقدار كده وجده مع اعتبار درجة عقله وذكائه، سواء كان ذلك بالتجارة أو الزراعة أو الصناعة أو غيرها، وقد وضعوا لكل من أبواب الرزق قواعد في تقدير الأرباح لا تتعداها إلا في أحوال خاصة ترتفع فيها الأسعار فجأة كما حدث بمصر لهذا العهد (حوالي ١٩١٠)، وعلى أي حال فالصانع تقدر أجرته بمقدار عمله، والتاجر يقدر ربحه بنسبة رأس ماله.
سنة العرب في الارتزاق
والسبب في بقاء هذه السنة مع ذهاب غيرها من المناقب، أنها لازمة لبقاء الدول في تلك العصور، وخصوصًا في الإسلام منذ طمع بنو أمية في الخلافة واستخدموا الأموال في ابتياع الأحزاب واسترضاء كبار الرجال، فعودوا الناس العطاء، فلما قام العباسيون لم يستطيعوا الرجوع عنه، بل تجاوزوه من بعض الوجوه، فصار السخاء ضروريًّا لقيام الدولة وإلا فسد عليها حماتها وتمرد أهلها.
استرضاء العامة بالطعام
الهبات والدين
على أن الفقهاء وأهل التقوى كانوا في صدر الإسلام وأوائل دولة بني أمية يعدون صلات الخلفاء رشوة ويترددون في قبولها، فما لبثوا أن ذاقوا حلاوتها حتى صاروا يتفاخرون بنيلها، قال ذو الرمة:
ارتزاق الكبير من الصغير
فالسخاء كان سنة عامة في عهد ذلك التمدن، لا يستثنى عنه عصر أو طائفة، وإن تفاوتت مقاديره واختلفت صوره وأشكاله باختلاف العصور، فكانت العطايا في أول عهد الأمويين الإبل والخيل والماشية، فيأمر الخليفة أو الأمير لمن يستجديه بلقحة وفحلها وراعيها، أو جارية وفرس، غير ما فرضوه من الأعطيات فإنها كانت تعطى عينًا أو ورقًا، ثم صارت في أواسط الدولة تخوت الثياب من الوشي ونحوه والوصائف فضلًا عن النقود، وصارت في بني العباس البدر من الدنانير وعقود الجوهر وتخوت الديبقي والقصور والضياع وغيرها.
(٣-٣) المجاملة في المعاملة
المجاملة من الطباع الراسخة في نفوس العرب، وذهب بعض الباحثين إلى أنها فطرية في أصل أرومتهم، وما هي كذلك وإنما تولدت فيهم بتوالي الأجيال وتقلب الأحوال؛ لأن العرب كانوا مفطورين على استقلال الفكر وحرية الرأي كما رأيت، وظلوا على ذلك إلى انقضاء عصر الراشدين، ثم أخذت أفكارهم في الانحباس وعقولهم في التقيد من عصر الأمويين، لما اقتضاه طمع بني أمية في الملك من الشدة والحيلة، فاضطر الناس للمداجاة والتمويه، وكان الخلفاء من الجهة الأخرى يداجون الناس ويجاملونهم، رغبة في نصرتهم أو قطع ألسنتهم ويعدون ذلك «حلمًا».
وأشهر الحلماء وأقدمهم معاوية بن أبي سفيان، فقد ذكرنا في الجزء الرابع أنه كان يسمع طعن أهل البيت وغيرهم من رؤساء الأحزاب فيه وفي دولته ويغضي، وربما أحسن إلى الطاعنين أو تظاهر بالاستخفاف، كما فعل بشعبة بن غريض، وكان في الكعبة ومعاوية هناك، فبعث يدعوه فأتاه رسوله فقال: «أجب أمير المؤمنين.»
قال: «أوليس قد مات أمير المؤمنين؟» (يعني عليًّا) فقال له: «أجب معاوية.» فأتاه ولم يسلم عليه بالخلافة، فقال له معاوية: «ما فعلت أرضك التي بتيماء؟» قال: «يكسى منها العاري ويرد فضلها على الجار.» قال: «أتبيعها؟» قال: «نعم.» قال: «بكم؟» قال: «بستين ألف دينار، ولولا خلة أصابت الحي لم أبعها.» قال: «لقد أغليت.» قال: «أما لو كانت لبعض أصحابك لأخذتها بستمائة ألف دينار ثم لم تبال.» قال: «أجل وإذ بخلت بأرضك فأنشدني شعر أبيك يرثي نفسه.»
فأنشده تلك الأبيات فأعجب بها معاوية وقال: «أنا كنت بهذا الشعر أولى من أبيك.» قال: «كذبت ولؤمت!» قال: «أما كذبت فنعم، وأما لؤمت فلِمَ؟» قال: «لأنك كنت ميت الحق في الجاهلية وميته في الإسلام، أما في الجاهلية فقاتلت النبي ﷺ والوحي حتى جعل الله كيدك المردود، وأما في الإسلام فمنعت ولد رسول الله الخلافة، وما أنت وهي أنت طليق ابن طليق؟» فقال معاوية: «قد خرف الشيخ فأقيموه.» فأُخذ بيده فأقيم.
وكان معاوية إذا أعجزه اصطناع الأحزاب بالعطاء أو بالحلم أو بالسيف جهارًا عمد إلى قتلهم غيلة، وكان أنصاره يعرفون ذلك فيه وأنه يصانعهم ليغلب بهم، فكانوا يصانعونه طمعًا في مال أو منصب، فكانت المصانعة والمداجاة أساس سياسة معاوية، وقد قواهما واستثمرهما بدهائه وحزمه ففاز، وتحدث المسلمون بحلمه وسعة صدره وجعلوه قدوتهم، والناس على دين ملوكهم، فكثر الميل إلى المصانعة في ذلك العصر، وهي على الغالب بين الدولة ورجالها، على أن الأريحية كانت تحول دون تمكنها.
فلما قام الفرس لمناهضة الأمويين ونصرة العباسيين أغضى أبو مسلم عن الوفاء والأريحية وقتل على التهمة، فأصبح الناس يخافون على حياتهم وإن لم يقترفوا ذنبًا، فزادت حاجتهم إلى المصانعة، ولما فاز أبو مسلم بحزبه وسلم مقاليد الدولة إلى العباسيين، كانت فوضى بينهم وبين العلويين، فلما تقلدها المنصور وطمع في استخلاصها للعباسيين فتك بأبي مسلم ثم قتل من قتله من العلويين، وهم لا يستغنون عن الفرس لنظام حكومتهم وحماية دولتهم، فاستخدموهم على غل ولجئوا في الاحتراس منهم واتقاء أذاهم إلى الجاسوسية، فبثوا الأرصاد على وزرائهم وعمالهم، يستطلعون أخبارهم ويبعثون بها إليهم سرًّا، والأرصاد نوعان؛ الأول: أصحاب البريد في الأطراف والعمال يعلمون أنهم رقباء على أعمالهم، والثاني: العيون الخفية يتخذونهم من الجواري والغلمان مما يقدمه الخليفة هدية إلى وزيره أو عامله، فيوليهم الوزير بعض شئون منزله فيدخلون في جملة الندماء أو المغنين أو القيان أو أصحاب الشراب، ويكونون رقباء عليه ينقلون أخباره سرًّا إلى الخليفة، وكان الوزراء يفعلون نحو ذلك بالخلفاء.
فشيوع الجاسوسية على هذه الصورة مع المضاغنة والتحاسد بعث على المصانعة والمجاملة، وازداد ذلك على الخصوص بعد ذهاب الأريحية وزوال الأنفة وعزة النفس من العرب، على أثر تضعضع العنصر العربي وتغلب العناصر الأعجمية مع تنافس أصحاب المطامع من هؤلاء في أواسط الدولة العباسية بابتزاز الأموال، واعتبر ما عقب ذلك من الاستبداد والظلم بعد أن فسدت الأحكام في الدولة الإسلامية واستبد السلاطين والأمراء غير العرب بمن أقام في ممالكهم من أهل اللسان العربي، ويسمونهم عربًا وهم أخلاط من مولدي الأمم الأخرى، فلجأ هؤلاء بطبيعة العمران إلى المجاملة والمصانعة على نحو ما هو حالهم اليوم، إلا الذين أوتوا السيادة وتوفرت لهم السطوة ونفوذ الكلمة أجيالًا متوالية.
(٣-٤) العائلة في التمدن الإسلامي
كانت العائلة في أواسط التمدن الإسلامي نحو ما هي عليه اليوم، وقوامها المرأة وقد تقدم الكلام عليها، فلا نطيل القول في ذلك الآن، وإنما نقول كلمة في بعض خصائص العائلة الإسلامية، كالحجاب وتعدد الزوجات والطلاق.
الحجاب
إذا كان المراد بالحجاب ستر العورة كالخمار ونحوه، فهو ليس من محدثات الإسلام، بل هو قديم كان شائعًا قبل النصرانية، ولم تغير النصرانية شيئًا منه، وظل معروفًا في أوربا إلى العصور الوسطى وما بعدها، ولا تزال آثاره باقية في أوربا إلى الآن.
وإذا أريد به حبس المرأة في بيتها ومنعها من مخالطة الناس، فهو من ثمار التمدن الإسلامي؛ لأنه لم يكن شائعًا قبله، على أنه لم يبلغ الحد الذي بلغ إليه من الشدة والدقة، إلا بعد نضج المدنية وتمكن الحضارة من نفوس المسلمين وإركانهم إلى الترف والرخاء، وقد رأيت في كلامنا عن المرأة البدوية أنها كانت مساوية للرجل حتى نبغ من مضارب البادية نساء اشتهرن بالشجاعة والإقدام والحزم والرأي والتجارة والأدب والشعر وغيرها، فلما انتشر الإسلام وكثرت الجواري وشاع التسري في المسلمين اختلفت الظنون بين الرجل والمرأة، فقلت غيرته عليها وأساء كل منهما الظن في صاحبه، والرجل صاحب العصمة ورب العائلة، فضيق على المرأة الدروب وأقام عليها الأرصاد والعيون من أوائل الدولة الأموية، إذ اتخذوا الخصيان من العبيد ثم استقدموا الصقالبة البيض.
فالحجاب الضيق على نحو ما شاع بين العائلات الإسلامية في الشرق سببه سوء ظن الرجل واستبداده بأهل بيته واستئثاره بالملذات لنفسه، وليس هو من مقتضيات الإسلام كما يتبادر إلى الأذهان، ولو راجعت ما جاء في القرآن الكريم من هذا القبيل لرأيت تفسير أقرب إلى ما يراد من رفع الحجاب، ولكن الناس تعودوا أن يفسروا الآيات القرآنية بما يوافق عاداتهم أو أغراضهم أو أميالهم، اعتبر ذلك في كل دين تمدن أهله وعمدوا إلى تفسير كتبه، فكتب النصارى مثلًا ليس فيها نص صريح يمنع عامتهم من التزوج بامرأتين فأكثر، ولكن الكنيسة رأت أن الاقتصار على امرأة أقرب إلى سعادة العائلة ونظام الاجتماع، فاستخرج رؤساء الدين ذلك من بعض القرائن بالتفسير والتأويل، والمسلمون لما استكثروا من الجواري وساءت الظنون بينهم وبين نسائهم أرادوا الحجر عليهن، ولم يعدموا تفسيرًا يساعدهم على ما أرادوا فحبسوهن وضيقوا عليهن، واعتقدت المرأة بتوالي الأجيال أنه يحل للرجل ما لا يحل لها، فصبرت عليه وخافته ولكنها لم تحبه، فخافها وحبسها وجعل بينه وبينها حاجزًا، وغادرها تجالس الخدم والعبيد، وأصبح لا يؤاكلها ولا يجالسها ولا يحادثها إلا نادرًا، وأعلن ارتيابه في أمانتها وأصبح يفتخر بأنها لا تخرج من منزلها إلا إلى القبر.
على أن ظلم المرأة على هذه الصورة واحتقارها مخالف لتعاليم القرآن؛ لأنه يأمر بالمودة والرحمة بين الزوجين، وهذا نص الآية وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً، وقوله: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وقوله: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، ولكن الرجل أبى إلا الاستبداد والاستئثار ولا سيما بعد انقضاء عصر العلم، إذ اقتصر الفقهاء على النظر في الأبحاث الدينية الجديدة، وخيم الجهل على العقول كما أصاب النصرانية في الأجيال المظلمة، فأخذوا يفسرون الآيات والأحاديث على ما يوافق ميولهم وأهواءهم، وكانت الأحكام قد فسدت واستبد الحكام في الناس فعادت عاقبة ذلك على المرأة المسكينة.
لأن الرجل في طور الظلم يتحمل بطش الحاكم وعسفه ويكظم ما في نفسه، حتى إذا جاء منزله عامل أهله مثل معاملة الحاكم له انتقامًا لنفسه … تلك سنة من سنن العمران على اختلاف أطوار التمدن، فالبلاد التي يتولاها حاكم ظالم يقتدي به أرباب العائلات بظلم نسائهم وأولادهم، وأما في الحكم العادل فالمرأة تنال حقوقها والرجل يعدل في حكومته، فالبيت دولة صغيرة تمثل دولة الأمة.
وما زالت المرأة المسلمة في نحو ما تقدم إلى أوائل هذه النهضة والمسلمون سكوت، حتى تصدى بعض أرباب الأقلام من المسلمين في أواسط القرن الماضي ونددوا بالحجاب وعواقبه وحرضوا إخوانهم على تركه، وأقدم من فعل ذلك على ما نعلم المرحوم الشيخ أحمد فارس الشدياق فكتب الفصول الضافية في «الجوائب» بالأستانة، ثم كتب غيره فصولًا لا تشفي غليلًا، حتى ظهر كتاب تحرير المرأة في آخر القرن المذكور لصاحبه قاسم بك أمين فوفى الموضوع حقه، ولم يترك مجالًا لسائل.
تعدد الزوجات
ومن آفات العائلة الإسلامية تعدد الزوجات، وهي أن يتخذ الرجل زوجتين إلى أربع، والشرع الإسلامي يجيز له ذلك بشرط إذا روعي حق مراعاته لم يتخذ الرجل إلا زوجة واحدة؛ لأن الآية التي تجيز تعدد الزوجات تشترط أن يعدل الرجل بينهن، فإذا خاف ألا يعدل فيقتصر على واحدة، وهذا نص الآية: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً، وفي محل آخر: وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ، فإذا جمعت بين الآيتين رأيت فحواهما أقرب إلى النهي عن تعدد الزوجات منه إلى الأمر به، ولذلك رأيت الغالب في العقلاء وأهل المروءة أن يكتفوا بزوجة واحدة، وكان ذلك سهلًا في عصر التسري، إذ قد يأتي النسل من بعض الجواري فلا يجد الرجل ضرورة إلى الزواج ثانية أو ثالثة اكتفاء بجواريه، ومن يأتينه بما يشتهيه من النسل، على أن تعدد الزوجات ظل متبعًا حتى في أهل الفضيلة والعقل إلى اليوم، ولكن على قلة، وإذا أُحصي المتزوجون بأكثر من امرأة لا نظنهم يزيدون على خمسة في المائة أو عشرة من مجموع المتزوجين، وهم في الغالب من العامة، وإذا كانوا من الخاصة فإنما فعلوا ذلك لأسباب قهرية.
ومن أجاز تعدد الزوجات ذهب إلى تفسير «العدل» بالعدل في النفقة لا في المحبة، على أن كثيرين من أهل الوجاهة والشرف في العصور الإسلامية الوسطى كانوا يجمعون بين التسري وتعدد الأزواج، والغالب أن تكون السيادة للمرأة الأولى وإن اختلف ذلك باختلاف الأحوال، ولكن المرأة العاقلة التقية كانت تعد إهداء زوجها ما يرضاه من الجواري الحسان فضيلة، كما فعلت أم جعفر بالرشيد لتشغله عن الجارية دنانير.
الطلاق
(٣-٥) المعيشة العائلية
الطعام:
كان طعام العرب قبل الإسلام قاصرًا على الألبان، وما يستخرج منها كالسمن والزبد والجبن، ومن التمر والحبوب واللحوم يأكلونها على أبسط ما يكون من أحوالها، كما يفعل أهل البادية اليوم، وأكثر ألبانهم ولحومهم من الإبل، وقد يصنعون منها أطعمة تتركب على نسب معينة، كالثريد فإنه يصنع من اللحم واللبن والخبز، ومنها ما يصنع من اللبن والدقيق فقط، كالرغيدة والرهيدة والعصيدة، أو يصنع من السمن والدقيق كالبكالة أو من الدقيق والعسل والسمن كالوضيعة، ولهم من أمثال هذه الأطعمة نحو أربعين لونًا.
اللباس:
لباس العرب الجاهلية
اللباس في عصر الحضارة
أما عامة الناس فتختلف أشكال ألبستهم باختلاف صناعاتهم وأحوالهم وطبقاتهم، وباختلاف الأصقاع والأطوار مما لا يمكن حصره، وإنما يقال بالإجمال أن لباس الرجال العمامة والدراعة والسراويل والقميص والقباء والجبة والجوارب والنعال، على نحو لباس المصريين والسوريين في أوائل القرن الماضي وهو ما يلبسه جماعة المشايخ الآن.
ثياب المنادمة والتطيب والخضاب
على أن رجال الدولة ومن جرى مجراهم من الخاصة كانت لهم ألبسة لمجالس الأنس والشراب يسمونها «ثياب المنادمة»، وهي أثواب مصبغة بالألوان الزاهية: الأحمر أو الأصفر أو الأخضر، يصقلونها حتى تلمع وتشرق، ويتضمخون بالخلوق ويتطيبون، ولهم ألبسة يتخففون بها في منازلهم وأخرى يلبسونها في الأسفار وغير ذلك.
أما التطيب فقد كان من دلائل الغنى والنبل عندهم، ومن أمثالهم: «ثلاثة يحكم لهم بالنبل حتى يُدرى من هم: رجل رأيته راكبًا، أو سمعته يعرب كلامه، أو شممت منه طيبًا.»
المأوى:
مساكن العرب
على أن ناموس العمران غلب على ما أراده عمر من بقاء المسلمين يقيمون في المعسكرات، فما لبثوا أن تحضروا وتحولت تلك المعسكرات إلى مدن عامرة، ونزلوا المدن القديمة التي فتحوها، وبنوا المنازل والقصور يقلدون بها أبنية الدول السالفة.
أساليب البناء في الإسلام
- أولًا: العصر العربي الرومي: هو أقدم أعصر البناء في الإسلام، وأساسه النمط البيزنطي،
وتنوع في أثناء التمدن الإسلامي وتفرع إلى خمسة أشكال:
- (١) النمط السوري ومثاله الجامع الأقصى في القدس، والجامع الأموي في الشام.
- (٢) النمط المصري ومثاله جامع عمرو بالفسطاط.
- (٣) النمط الإفريقي ومنه جامع القيروان.
- (٤) النمط الصقلي في صقلية بإيطاليا ومن أمثلته قلاع سرقوسة وغيرها.
- (٥) النمط الأندلسي ومنه جامع قرطبة وبعض الآثار العربية في طليطلة مما بني قبل انقضاء القرن العاشر للميلاد.
- ثانيًا: العصر العربي البحت: وهو يشمل الأشكال التي تكيفت بين يدي العرب حتى بعدت عن
الأصول التي نقلت عنها وهي قسمان:
- (١) النمط المصري ومنه الأبنية التي أقيمت في مصر بين القرن العاشر والخامس عشر وفي جملتها الجوامع التي بناها السلاطين المماليك، كجامع الظاهر وجامع السلطان حسن.
- (٢) النمط الأندلسي وهو ما بني في الأندلس بعد القرن العاشر ومن أمثلته أبنية إشبيلية وغرناطة ولا تزال آثارها باقية إلى الآن.
- ثالثًا: العصر المختلط: ويدخل فيها:
- (١) النمط الإسباني العربي ويراد به ما بناه المسيحيون بعد استيلائهم على الأندلس وخروج المسلمين منها.
- (٢) النمط الإسرائيلي العربي ومن أمثلته الآثار الباقية لليهود في طليطلة من أنقاض الكنائس.
- (٣) النمط الفارسي العربي كالجوامع التي بناها الفرس بعد الإسلام ولا سيما في أصبهان.
- (٤) النمط الهندي العربي وهو خليط من النمطين الهندي والعربي كبرج كتاب وهيكل بندرابند وباب علاء الدين.
- (٥) النمط المغولي العربي كالأبنية التي أقيمت في الهند أثناء سلطة المغول وأشهرها تاج محل وقصر الشاه وكثير من المساجد ونحوها.٩٠
فمساكن الناس في عهد التمدن الإسلامي كانت تختلف شكلًا باختلاف البلاد والعصور، وتتفاوت سعة وقدرًا بتفاوت طبقات الناس: من الأكواخ الحقيرة إلى القصور الفخيمة، وسنأتي بأمثلة من القصور وسائر الأبنية الإسلامية عند الكلام على الحضارة.