عمارة المدن والقصور
إن المدن التي سكنها المسلمون وحواها التمدن الإسلامي تعد بالمئات، وهي منتشرة في
آسيا وإفريقيا وأوربا، ومنها ما كان عامرًا قبل الإسلام، ومنها ما بناه المسلمون
لأنفسهم، وقد نشرنا في الجزء الثاني من هذا الكتاب فصلًا في المدن الإسلامية، وما بلغت
إليه من الحضارة والثروة في عهد التمدن الإسلامي واقتصرنا على أعظم تلك المدن: البصرة،
والكوفة، والفسطاط، وبغداد، وأجلنا الكلام فيما بقي إلى هذا الجزء فنقول:
(١) القطر المصري
(١-١) مساحة الأرض الزراعية فيه
القطر المصري اليوم (حوالي سنة ١٩١٠) في نهضة مالية تضاعفت فيها الثروة إلى
حد استغربه الناس وخافوا رد الفعل؛
١ لأنهم رأوا غلاء في الأسعار، مفاجئًا لم يعهدوا مثله، وزادت مساحة
الأرض الزراعية ستة أضعافها في قرن واحد، فبعد أن كانت مساحتها في أيام
المماليك نحو مليون فدان وبعض المليون صارت ثمانية ملايين فدان، وبعد أن كان
الفدان يباع ببضعة عشر جنيهًا بيع بمائة جنيه، أو مائة وخمسين جنيهًا أو أكثر،
فكيف لو علموا أن مساحة الأرض الزراعية في إبان التمدن الإسلامي زادت على
٢٥٠٠٠٠٠٠ فدان؟ وقد ذكرنا ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب نقلًا عن ثقات
مؤرخي العرب، فاستغربه بعض الفضلاء وعدوه من قبيل الخرافة أو الأكذوبة على
عادتهم في الاستخفاف بأقوال مؤرخي المسلمين، ولا نرى باعثًا على هذا الاستخلاف،
والمسلمون أو العرب من أكثر الأمم تحقيقًا في حوادث التاريخ، لما تعودوه من
التحقيق في المسائل الدينية بالإسناد ونحوه.
على أننا لا نلومهم إذا استغربوا تلك الرواية؛ لأن الناس يقيسون الأشياء بما
علموه من أشباهها، فثروة القطر المصري إذا قيست بما ألفناه من أحوال عمرانه في
القرنين الماضيين لا نرى ما يسهل علينا تصديق قول العرب بمساحته الزراعية إلى
ثلاثة أضعاف ما بلغت إليه اليوم، ولكن لو قيل لأهل هذا الجيل إن مساحة الأرض
الزراعية بمصر ستبلغ بعد عشر سنين عشرة ملايين أو ١٢ مليون فدان لهان عليهم
التصديق؛ لأنهم شاهدوا تزايد هذه المساحة من مليون فدان إلى ثمانية ملايين، أما
لو قيل ذلك لأهل أواسط القرن الماضي لعدوه مستحيلًا؛ لأن مساحة أرض مصر التي
تقبل الزراعة لم تكن تقدر يومئذ بأكثر من ٧٠٠٠٠٠٠ فدان، وهاك تقدير الدكتور
كلوت بك لسنة ١٨٤٠
٢ باعتبار الفدان:
|
أرض مزروعة |
غير مزروعة |
الجملة |
|
٣٨٥٦٢٢٦ |
٣١٥٧٧٧٤ |
٧٠١٤٠٠٠ |
مصر السفلي |
٢٢٤٩٠٠٠ |
١٥٥١٠٠٠ |
٣٨٠٠٠٠٠ |
مصر الوسطى |
٨٥٦٨٢٦ |
٧٦٣١٧٤ |
١٦٢٠٠٠٠ |
مصر العليا |
٧٥٠٤٠٠ |
٨٤٣٦٠٠ |
١٥٩٤٠٠٠ |
فتكون مساحة الأرض التي يمكن زرعها بمصر ٧٠١٤٠٠٠ فدان، فمن كان هذا اعتقاده
في أطيان مصر لا يصدق إذا قيل له: إن مساحة هذه الأطيان ستزيد على عشرة ملايين
فدان، أو ١٢ مليونًا بعد بضع عشرة سنة.
(١-٢) عدد السكان
ويقال نحو ذلك في عدد السكان، فلو قيل في
أواسط القرن الماضي: إن القطر المصري سيبلغ عدد سكانه إلى عشرة ملايين أو ١٢
مليونًا لعدوا قولنا من الخرافات، أو كما قال الدكتور كلوت بك: «من عادات
الشرقيين في المبالغة.» لأن عددهم في أيامه لم يكن يزيد على ٣٠٠٠٠٠٠ نفس، فكيف
يصدق زيادته إلى أربعة أضعافه؟ لا نقول ذلك تحكمًا أو افتراضًا، ولكننا ننقل
للقارئ قول الدكتور كلوت بك مؤرخ ذلك العصر في هذا الشأن؛ فقد بحث في كتابه عن
سكان القطر المصري سنة ١٨٤٠ فبلغ عددهم ثلاثة ملايين نفس، فصدر بحثه بمقدمة عن
إحصائهم في الزمن القديم قال فيها ما معناه: «يؤخذ من إحصاء مؤرخي اليونان أن
سكان هذا القطر بلغ عددهم في زمن سيزوستريس والبطالسة نحو سبعة ملايين نفس إلى
ثمانية، وأما مؤرخو العرب فزعموا أن عددهم في زمن عمرو بن العاص بلغ عشرين
مليونًا، وهو قول يدل على عادة الشرقيين في المبالغة في كتاباتهم … لأننا لو
قسنا مصر بما نعلمه في سواها من نسبة عدد الناس إلى مساحة ما يتوطنونه من الأرض
لوصلنا إلى نتيجة تنفي كل شك، فمصر مساحتها سدس مساحة فرنسا، ومهما قلنا في خصب
وادي النيل وما يمكن الوصول إليه من امتداد الزراعة وزيادة العمارة، ولو سلمنا
بإمكان استثمار البقاع الرملية، فمع كل هذه الوسائل لا يرجى زيادة عدد السكان
على ثلث الإحصاء الذي ذكره العرب.» (أي: نحو ٦٣٣٣٠٠٠ نفس) هذا هو رأيه، وأنت
ترى أن سكان مصر زاد عددهم اليوم على عشرة ملايين.
ولن تمضي بضع سنين حتى يناهز ١٥ مليونًا، أو ضعفي ما ظنه الدكتور كلوت بك
غاية ما يمكن الوصول إليه.
وقياسًا على ما تقدم لا نرى مانعًا من بلوغ سكان القطر المصري إلى ٢٠٠٠٠٠٠٠
نفس، فلا غرابة إذا بلغوا هذا العدد في إبان التمدن الإسلامي، وإنما أنكر أبناء
هذا الجيل ذلك استخفافًا برواية العرب، مع أنها مبنية على إحصاءات رسمية واقعية
في أزمنة معينة لأجل تعديل الجزية أو الخراج، وليست من قبيل الحدس أو الرجم
بالغيب، الإحصاء الأول وقع في زمن الفتح على أيام عمر، ذكر المقريزي أنهم أحصوا
الرجال الذين تؤخذ عليهم الجزية فبلغ عددهم ٨٠٠٠٠٠٠ نفس، فإذا اعتبرناهم ثلث
الأمة كان مجموعها ٢٤٠٠٠٠٠٠ نفس، والإحصاء الثاني في ولاية الوليد بن رفاعة سنة
١١٠ﻫ، ذكروا أنه خرج ليحصي أهلها وينظر في تعديل الخراج، فأقام في ذلك ستة أشهر
بالصعيد حتى بلغ أسوان، ومعه جماعة من الكتاب والأعوان يكفونه ذلك بجد وتشمير،
وثلاثة أشهر في الوجه البحري، فأحصوا من القرى عشرة آلاف قرية، في أصغر قرية
منها ٥٠٠ جمجمة من الرجال الذين تفرض عليهم الجزية، فتكون جملة ذلك على الأقل
٥٠٠٠٠٠٠ رجل، وعلى متوسط ما يلحق ذلك من النساء والأطفال والشيوخ يكون المجموع
نحو ٢٠٠٠٠٠٠٠ نفس.
(١-٣) مساحة الأرض الزراعية
ويقال نحو ذلك في الأرض الزراعية، فإنهم استخرجوا مساحتها بالإحصاءات الرسمية
لأجل تعديل الخراج، منها إحصاء لعبيد الله بن الحبحاب سنة ١٠٧ﻫ فبلغت مساحة
الأرض الزراعية مما يركبه النيل ٣٠٠٠٠٠٠٠ فدان، أي نحو أربعة أضعاف ما بلغت
إليه مساحتها اليوم، مع اجتهاد حكومتنا في تعميم وسائل الري ببناء الجسور
والخزانات، وما لدينا من آلات الحرث والزرع، فإذا سبق إلى أذهاننا الاستخفاف
برواية العرب حكمنا لأول وهلة وبلا تردد أنها مكذوبة، أما إذا نظرنا فيها نظر
الناقد المحقق فلا نعدم الوصول إلى الحقيقة.
فالمقريزي وغيره من رواة الإحصاء لم يقولوه عرضًا ولا تركوا في قولهم
التباسًا، وذكروا في أمكنة أخرى أن الأرض الزراعية نقصت في أيام ابن المدبر، أي
بعد قرن ونصف قرن، إلى ٢٤٠٠٠٠٠٠ فدان، ولم يكتفوا بذكر المساحة ولكنهم ذكروا
عدد العمال الذين كانوا يشتغلون بالحرث والزرع، واشترطوا عددًا معلومًا منهم،
فإذا نقص نقصت غلة الأرض.
٣
ولا يتجلى لنا وجه الصواب إلا بعد معرفة البقاع التي كانت عامرة في ذلك
العصر، فلو كانت حدود مصر الزراعية يومئذ مثل حدودها الآن، أي يحدها من الشرق
والغرب الجبلان والصحراء الشرقية والغربية، لحكمنا باستحالة زعمهم؛ لأن مساحة
مصر الجغرافية اليوم، وفيها الواحات والبادية الواقعة بين النيل والبحر الأحمر
والعريش، نحو ٤٠٠٠٠٠ ميل مربع، معظمها صحراء قاحلة، أما الأرض الزراعية
فمساحتها ١٧٨٢٦ ميلًا مربعًا، يخرج منها ٤٨٥٠ ميلًا مسطحات النيل والترع
والمستنقعات والبحيرات ونحوها، فالباقي ١٢٩٧٦ ميلًا مربعًا، أي نحو ٨٠٠٠٠٠٠
فدان، وهي الأرض المزروعة الآن فلا سبيل إلى المزيد.
ولكن يؤخذ مما نقله العرب عن أحوال مصر في إبان تمدنهم، ومما جاء من أخبارها
القديمة، أن حدودها الزراعية كانت أوسع من ذلك كثيرًا، ذكروا أنها كانت تمتد من
الغرب وراء صحراء الإسكندرية إلى برقة،
٤ وتتصل من الشرق بحدود السويس إلى العريش، ومعظم المسافة هناك اليوم
رمال قاحلة ولكنها كانت تزرع قديمًا الزعفران والعصفر وقصب السكر وكان ماؤها
غزيرًا، ولا تزال آثار العمارة باقية في تلك البقاع، فإن تحت الرمال تربة سوداء
زراعية يعرفها من اختبر الأرض
بالمسبار.
وكان الصعيد عامرًا ويمتد من جهته الشرقية إلى البحر الأحمر وأراضي
البجة،
٥ وكانت أطيان الفيوم ممتدة إلى ما وراء العمارة المعروفة مسافة
بعيدة، فإذا اعتبرنا ما ذكروه من هذا القبيل، وأن النيل كان أكثر فروعًا وأغزر
ماء وأوسع فيضانًا مما هو عليه اليوم، هان علينا قبول أقوالهم وإن كنا لا نزال
نستغربها لبعدها عن مألوفنا، ولعلنا متى رأينا الشركات تعمل على إحياء الصحاري
المحيطة بوادي النيل شرقًا وغربًا، بنزع ما يغطيها من الرمال وأروائها بالترع
المتصلة إليها من النيل أو الآبار الأرتوازية، نرى أقوالهم معقولة، ولا نظن ذلك
بعيدًا، ورجال الأعمال يدرسون أمثال هذه المشروعات.
(١-٤) مدينة القاهرة
وأشهر مدن القطر المصري في الإسلام الفسطاط والقاهرة، وقد ذكرنا عمارة
الفسطاط في الجزء الثاني، وأما القاهرة فقد بناها القائد جوهر في أواسط القرن
الرابع للهجرة معقلًا لمولاه المعز لدين الله الفاطمي وجنده، فظلت في أثناء
دولة الفاطميين لم تتسع عمارتها وإنما كانت العمارة للفسطاط والقطائع، وذكر
المقريزي أنه كان في هاتين المدينتين — غير القاهرة — ١٠٠٠٠٠ بيت، في بعضها
مائة إنسان ومئتان، إذ يكون البيت مؤلفًا من خمس طبقات أو ست أو سبع،
٦ ومع ذلك فهي في تقديره لا تزيد على ثلث بغداد، فكم تكون عمارة هذه؟
ولما أفضت الدولة إلى السلطان صلاح الدين أذن للناس بسكنى القاهرة، فاتصلت
بمدينة الفسطاط، وكانت الفسطاط تسمى «مصر»، فلما صارتا مدينة واحدة أطلقوا
عليها اسم «مصر والقاهرة»، ثم قالوا «مصر القاهرة»، ولما خربت الفسطاط ظل الاسم
للقاهرة وحدها كما هو مشهور.
(٢) الأندلس
لما فتح المسلمون الأندلس كانت عامرة آهلة، فأقاموا في مدنها وزادوها عمرانًا،
وأشهر تلك المدن قرطبة وقد زادها المسلمون عظمة بما بنوه في ضواحيها من القصور
الكبيرة أشباه المدن الضخمة مما سنذكره.
(٢-١) قرطبة
هي من أعمال الأندلس، واقعة على الوادي الكبير تستقي ماءها منه، وكانت عامرة
قبل الإسلام ويظن أنها من بناء القرطجنيين ودخلت في حوزة الرومانيين سنة ١٥٢
قبل الميلاد، وتوالت عليها أحوال شتى حتى فتح المسلمون الأندلس واستولوا على
طليطلة، ثم جعلوا مقر الإمارة في قرطبة، وزاد الأمويون عمارتها بما أنشأوا من
القصور والمساجد والجسور وغيرها، فاتسعت مساحتها، وكان محيط المدينة الأصلية
٣٣٠٠٠ ذراع عليها سبعة أبواب، فنشأ حولها ٢١ ربضًا في كل ربض من المساجد
والأسواق والحمامات ما يقوم بأهله، فصار طولها ٢٤ ميلًا وعرضها ستة أميال أو
١٤٤ ميلًا مربعًا (ومساحة لندن ١١٧ ميلًا)، وكل ذلك ديار وقصور ومساجد وبساتين
على طول ضفة الوادي المذكور.
وقد أحصوا مباني هذه المدينة وأرباضها في إبان عمرانها إحصاءات مختلفة
خلاصتها أن عدد الأبنية فيها كما يأتي:
عدد |
|
١٢٤٥٠٣ |
|
١١٣٠٠٠ |
دور الرعايا |
٤٣٠ |
دور القصر الكبير |
٦٣٠٠ |
دور أهل الدولة |
٣٨٧٣ |
المساجد |
٩٠٠ |
الحمامات |
وذكروا أن عدد الأبنية بلغ في أيام ابن أبي عامر ٢٠٠٠٠٠ دار للرعية، و٦٠٣٠٠
دار لأهل الدولة، و٨٠٤٥٥ حانوتًا غير الحمامات والخانات،
٧ ولا يخلو هذا التقدير من مبالغة، والأول أقرب إلى الصواب، وإذا
اعتبرنا ما يلحقه من الحوانيت والخانات زاد المجموع على ضعفي عدد أبنية القاهرة
اليوم.
على أنك ترى في هذا التقسيم تمييزًا بين الخاصة والعامة في المساكن، وأن دور
الخاصة نحو ٦ في المائة من دور العامة، على حين أن دور الأشراف في رومية لم يزد
عددها في إبان عمرانها على ٢٠٠٠ دار،
٨ فعمارة قرطبة بهذا الاعتبار فائقة الحد، وأما سكانها فكانوا
يناهزون المليونين، وسيأتي الكلام على قصورها.
(٢-٢) غرناطة
وأما غرناطة فكانوا يسمونها دمشق الأندلس، لكثرة أثمارها وأعنابها وفاكهتها،
وتمتاز عن سائر مدائن الأندلس بنهر يتوزع على دورها وأسواقها وحماماتها
وأرجائها الداخلة والخارجة وبساتينها، كما يتوزع نهر بردى في دمشق، وبلغت
غرناطة قمة مجدها في الدولة النصرية، وأشهر ملوكها ابن الأحمر، في أواسط القرن
الثامن للهجرة، وهو الذي بنى قصر الحمراء فيها كما بنى عبد الرحمن الناصر قصر
الزهراء في قرطبة، ونتقدم إلى ذكر القصور والمباني.
(٣) القصور والمباني
قال ابن خلدون: «إن المباني والمصانع في الملة الإسلامية قليلة، بالنسبة إلى
قدرتها وبالقياس على من كان من الدول قبلها.» ولكننا إذا اعتبرنا ما انتاب المدائن
الإسلامية من أسباب الخراب بما توالى عليها من الإحن والفتن، ونظرنا إلى ما بقي من
أبنيتها في مصر والشام والعراق وفارس والهند والأندلس، رأيناها أكثر مما خيل
لمؤرخنا الفيلسوف، ولعل الذي بعثه على هذا القول أن كثيرًا من هذه المباني شيد بعد
عصره على عهد السلاطين المماليك في مصر، وبعضها لم يتصل علمه به مما في بلاد فارس
والهند وغيرها، فقد كان للخلفاء والأمراء، على اختلاف الدول والممالك، عناية في
بناء المساجد والمصانع والقصور يتأنقون في هندامها وإتقانها، فضلًا عن المتنزهات
والحدائق مما ينفقون فيه الأموال الطائلة، فيجلبون إليه الأغراس من أطراف المعمور،
ويتفننون في تزيين مجالسهم بالأشعار والتصاوير المموهة بالذهب، وبينها رسوم
الحيوانات والآدميين والأزهار وغيرها مما ستراه.
(٣-١) مباني الأمويين في الشام
لم يصلنا من أخبار مباني الأمويين في الشام ما يستحق الذكر إلا «الجامع
الأموي»، الذي جدد بناءه الوليد بن عبد الملك بدمشق، وكان قبل الإسلام كنيسة
على اسم القديس يوحنا، فلما فتح المسلمون دمشق صالحوا أهلها على أن تقسم
الكنيسة مناصفة: المسيحيون يصلون في نصفها الغربي، والمسلمون في النصف الشرقي،
فلما أفضت الخلافة إلى الوليد بن عبد الملك أخذ النصفين جميعًا وجدد بناء
الجامع، فاستقدم نحو ١٢٠٠٠ صانع من بلاد الروم، تأنقوا في بنائه فغطوا جدرانه
كلها بفصوص من الفسيفساء صبغت بأنواع الأصبغة الغريبة فمثلت أشجارًا، وفرعت
أغصانًا منظومة بالفصوص ببدائع الصنعة الأنيقة، فأنفق في ذلك نحو ١١٢٠٠٠٠٠
دينار، وكان طول الجامع من الشرق إلى الغرب ٣٠٠ ذراع، وعرضه ٢٠٠ ذراع، قائم على
٦٨ عمودًا، وأعظم ما فيه قبة مصنوعة من الرصاص متصلة بالمحراب عظيمة الاستدارة
والارتفاع، وقد زاره ابن جبير الرحالة الأندلسي في القرن السادس للهجرة، ووصفه
وصفًا مطولًا وذكر تاريخه إلى أيامه مما يضيق عنه المقام،
٩ ولا يزال هذا الجامع قائمًا إلى الآن، ويعد من أفخر أبنية
المسلمين.
وبنى الحجاج بن يوسف قبة الإسلام في واسط، وكانت من أفخم الأبنية وفيها يقول
الشاعر:
بنى قبة الإسلام حتى كأنما
أتى الناس من بعد الضلال رسول
١٠
(٣-٢) مباني العباسيين بالعراق
أول من شاد الأبنية منهم المنصور، فبنى القبة الخضراء ليحول أذهان الناس عن
الكعبة إليها، وبنى الجامع والحصون والقصور في بغداد، كقصر الخلد وقصر باب
الذهب وغيرهما، وأخذ الخلفاء بعده في تشييد المصانع، واقتدى بهم وزراؤهم
وأمراؤهم، فأقاموا قصورًا فخيمة تعرف غالبًا بأسماء بانيها، كقصور البرامكة في
الشماسية، وقصر ابن الخصيب، وقصر أم حبيب بالجانب الشرقي من بغداد، وقصر بني
خلف بالبصرة، وقصر عيسي بن علي وهو أول قصر بناه الهاشميون في أيام المنصور،
وقصر وضاح بناه رجل اسمه وضاح للمهدي العباسي، وقصر الرشيد، وقصر الأمين، وقصر
ابن الفرات، وقصر ابن مقلة، غير ما أطلقوا عليه لفظ الدار كدار الشجرة الآتي
ذكرها، ودار القرار وهي قصر زبيدة زوج الرشيد وغير ذلك، وأخذت رغبتهم في بناء
القصور تتزايد كلما تقدموا في المدنية وأغرقوا في الترف والرخاء، على أن بعض
خلفائهم كانوا يحبون العمارة وينشطونها وأولهم المعتصم بالله، فقد كان كلفًا
بالبناء فبنى سامرا لأتراكه وأقطعهم فيها القطائع، والمتوكل على الله كان
مغرمًا بالعمارة، فبذل فيها الأموال الطائلة، فأحدث أساليب من الأبنية لم تكن
معروفة قبله، منها النمط الحيري والكمين ذات الأروقة، وبنى ثلاثة أبنية تُعرف
بالهاروني والجوسق والجعفري، بذل في بنائها جميعًا أكثر من ١٠٠٠٠٠٠٠٠
درهم،
١١ أنفق منها على القصر الجعفري أكثر من ٢٠٠٠٠٠٠ دينار،
١٢ أو نحو ٤٠٠٠٠٠٠٠ درهم، ثم صار تشييد المباني عادة جرى عليها
الخلفاء والأغنياء، فضلًا عن المتنزهات، فبنى إسماعيل بن علي متنزهًا أنفق فيه
٥٠٠٠٠٠٠٠ درهم.
١٣
قصر التاج وقصر الثريا
وكان المعتضد بالله محبًّا للعمارة أيضًا، فبنى قصرًا في الجانب الشرقي
من بغداد سماه «قصر التاج» لم يتم في أيامه فأتمه ابنه المكتفي، وكان في
مكانه قصر بناه جعفر البرمكي ثم سكنه الحسن بن سهل فسمي القصر الحسني، فلما
تولى المعتضد سنة ٢٨٩ﻫ أضاف إليه ما جاوره، فوسعه وكبره وأدار عليه سورًا
واتخذ حوله منازل كثيرة ودورًا، واقتطع من البرية قطعة عملها ميدانًا، وأخذ
في بناء قصر التاج، فاتفق خروجه إلى آمد، فلما عاد رأى الدخان يرتفع إلى
الدار، فكرهه وابتنى على ميلين منه قصرًا سماه «قصر الثريا»، طوله ثلاثة
فراسخ أنفق فيه ٤٠٠٠٠٠٠ دينار،
١٤ وصله بالقصر الحسني وابتنى بين القصرين على مسافة ميلين
سردابًا تمشي فيه جواريه وحرمه وسراريه، وما زال باقيًا إلى الغرق الأول
الذي صار ببغداد، وفي قصر الثريا يقول ابن المعتز:
سلمت أمير المؤمنين على الدهر
فلا زلت فينا باقيًا واسع العمر
حللت الثريا خير دار ومنزل
فلا زال معمورًا وبورك من قصر
جنان وأشجار تلاقت غصونها
وأورقن بالأثمار والورق الخضر
ترى الطير في أغصانهن هواتفا
تنقل من وكر لهن إلى وكر
وبنيان قصر قد علت شرفاته
كمثل نساء قد تربعن في أزر
وأنهار ماء كالسلاسل فجرت
لترضع أولاد الرياحين والزهر
عطايا إله منعم كان عالمًا
بأنك أوفى الناس فيهن بالشكر
ولما توفي المعتضد قام ابنه المكتفي سنة ٢٨٩ﻫ، فأتم بناء قصر التاج، وكان
وجهه مبنيًّا على خمسة عقود كل عقد على عشرة أساطين في خمسة أذرع.
١٥
دار الشجرة
وبنى المقتدر بالله في أول القرن الرابع دارًا فسيحة ذات بساتين مونقة
عرفت بدار الشجرة، لشجرة كانت فيها مصنوعة من الذهب والفضة في وسط بركة
كبيرة أمام إيوانها وبين شجر بساتينها، لها ثمانية عشر غصنًا من الذهب
والفضة لكل غصن منها فروع كثيرة مكللة بأنواع الجوهر على شكل الثمار، وعلى
أغصانها أنواع الطيور من الذهب والفضة، إذا مر الهواء عليها أبانت عن عجائب
من ضروب الصفير والهدير، وفي جانب الدار من يمين البركة قد ألبسوا أنواع
الحرير المدبج، مقلدين بالسيوف وفي أيديهم المطارد، يتحركون على خط واحد
فيظن الناظر إليهم أن كل واحد منهم يقصد صاحبه.
١٦
وفي دولة آل بويه بنى معز الدولة قصره المعروف بالدار المعزية، أنفق في
بنائه ١٠٠٠٠٠٠ دينار وموه سقفه بالذهب، ذكروا أنهم لما أرادوا هدمه بذلوا
في حك الذهب من سقفه ٨٠٠٠ دينار ولم يبق لهذه القصور أو الدور أثر
الآن.
(٣-٣) مباني الأمويين بالأندلس
أما الأندلس فقد بنى بها آل مروان قصورًا سارت بذكرها الركبان، ولا يزال بعض
آثارها باقيًا إلى اليوم، وأكثرها في قرطبة وغرناطة؛ فمنها في قرطبة:
القصر الكبير
وهو آية من آيات الزمان، شرع في بنائه عبد الرحمن الداخل في أواسط القرن
الثاني للهجرة، وأتمه من جاء بعده وبنوا القصور في داخله، وقد رأيت عند ذكر
أبنية قرطبة أن القصر المذكور مؤلف من ٤٣٠ دارًا، بينها قصور فخيمة لكل
منها اسم خاص، كالكامل والمجدد والحائر والروضة والمعشوق والمبارك والرشيق
وقصر السرور والبديع، وقد غالوا في زخرفها وإتقانها، وأنشأوا فيها البرك
والبحيرات والصهاريج والأحواض، جلبوا إليها الماء في قنوات الرصاص على
المسافات البعيدة من الجبال، حتى أوصلوه إليها ووزعوه فيها، وفي ساحاتها
ونواحيها بواسطة تلك القنوات التي تؤديها إلى المصانع (أي: المنشآت)، هذا
إلى صور مختلفة الأشكال من الذهب الإبريز والفضة الخالصة والنحاس المموه،
إلى البحيرات الهائلة والبرك البديعة والصهاريج الغريبة في أحواض الرخام
الرومية المنقوشة، ينصب فيها الماء من أنابيب من الذهب أو الفضة بصور
الحيوانات الكاسرة أو الصور الجميلة على أشكال بديعة.
١٧
مسجد قرطبة
ومن عجائب قرطبة مسجدها الشهير، ذكروا أنه لم يكن في بلاد الإسلام أعظم
منه ولا أعجب بناء، وكان في مكانه كنيسة للنصارى شاطرهم عليها المسلمون عند
الفتح كما فعلوا بالجامع الأموي في دمشق، ثم أخذوا في توسيعه والزيادة فيه
بأنقاض الكنائس على توالي الأجيال، وأعجب ما فيه صومعته أو المئذنة، قالوا:
لم يكن في مساجد المسلمين صومعة تعدلها، بنيت بضخام الحجارة فبلغ طولها إلى
مكان موقف المؤذن ٥٤ ذراعًا، وإلى أعلى الرمانة الأخيرة ٧٣ ذراعًا، وعرضها
في كل تربيع ١٨ ذراعًا.
وتدرج الجامع في الاتساع بتوالي التجديد فيه، حتى بلغت مساحته في أيام
الخليفة الناصر ٢٢٥ ذراعًا في ٢٠٥ أذرع، وزاد الحكم في طوله مائة ذراع
وخمسة أذرع فصار طوله ٣٣٠ ذراعًا، وزاد ابن أبي عامر في عرضه ثمانين ذراعًا
فصار ٢٨٥، وأرضه مرصفة بإحدى عشرة بلاطة، الوسطى عرضها ١٦ ذراعًا، وعرض كل
واحدة من الست الباقية ١١ ذراعًا، وزاد ابن أبي عامر ثماني بلاطات عرض كل
واحدة عشرة أذرع، وكان سقفه قائمًا على ١٢٩٣ سارية من الرخام، وعدد ثرياته
٢٨٠ ثريا، منها ثريات المقصورة من الفضة الخالصة، وكان في وسط الجامع تنور
نحاس يحمل ألف مصباح.
وكان للجامع تسعة أبواب مصفحة بالنحاس الأصفر، إلا باب المقصورة فإنه من
الذهب، وكذلك جدار المحراب وما يليه وقد أجرى فيه الذهب على الفسيفساء، وفي
رأس الصومعة ثلاثة تفافيح، دور كل تفاحة ثلاثة أشبار ونصف، اثنتان من الذهب
الإبريز وواحدة من الفضة، وتحت كل تفاحة وفوقها سوسنة قد هندست بأبدع صنعة،
ورمانة ذهب صغيرة على رأس الزج، وكان في بيت المنبر مصحف الخليفة عثمان،
وعليه حلية الذهب مكللة بالدر والياقوت، وفوقه أغشية الديباج، وهو موضوع
على كرسي من العود الرطب بمسامير الذهب، وقد أفاض صاحب نفح الطيب في وصف
هذا الجامع وما كان ينفق فيه من الزيت والشمع فليراجع هناك،
١٨ وتحول الجامع المذكور بعد دخول قرطبة في حوزة الإفرنج إلى
كنيسة، ولا يزال على بنائه الإسلامي وعليه النقوش الشرقية والكتابة
العربية.
قصر الزهراء
ومن قصورهم في قرطبة «الزهراء»، بدأ بإنشائها الخليفة الناصر سنة ٣٢٥ﻫ
على أربعة أميال من المدينة، وأتمها ابنه الحكم فاستغرق البناء أربعين سنة،
وهي عبارة عن بلد كبير طوله من الشرق إلى الغرب ٢٧٠٠ ذراع وعرضه ١٥٠٠، وعدد
أعمدته أو سوارية ٤٣٠٠ سارية، بعضها حمل إلى قرطبة من روما وإفريقية وتونس،
وبعضها أهداه صاحب القسطنطينية، وفيها الرخام الأبيض والأخضر والوردي
والمجزع، وكان في الزهراء مسجد فخيم وعدة قصور وحدائق، على نحو ما تقدم في
وصف القصر الكبير، وفيها البحيرات تسبح فيها الأسماك بألوانها وأنواعها،
وأحواض الرخام المنقوش على أشكال شتى بين مذهب وغير مذهب، في جملتها حوض
منقوش بتماثيل الإنسان، جيء به من القسطنطينية ونصبه الناصر في بيت المنام
بالمجلس الشرقي المعروف بالمؤنس، وجعل عليه ١٢ تمثالًا من الذهب الأحمر،
مرصعة بالدر النفيس الغالي مما صنع بدار الصناعة في قرطبة، بصورة أسد
بجانبه غزال إلى جانبه تمساح يقابله ثعبان وعقاب وفيل، وفي المجنبتين حمامة
وشاهين وطاووس ودجاجة وديك وحداة ونسر، وكلها من ذهب مرصع بالجوهر يجري
الماء من أفواهها.
١٩
ووكل الناصر النظر في بناء هذه القصور إلى ابنه الحكم بعده، وذكروا أن
الناصر كان ينفق عليها ثلث جباية الدولة، وكانت ٦٠٠٠٠٠٠ دينار فينفق منها
٢٠٠٠٠٠٠ دينار كل سنة على ذلك البناء، وقد تقدم أنهم واصلوا العمل فيه ٤٠
سنة، فلو فرضنا أنهم كانوا ينفقون هذا القدر في نصف هذه المدة فقط لبلغ
مجموع ما أنفق على الزهراء أكثر من ٥٠٠٠٠٠٠٠ دينار، ولكن يظهر أن الإنفاق
السنوي لم يكن يبلغ ثلث جباية المملكة إلا في بضع سنين، وأما في سائر مدة
البناء فكانت النفقة أقل من ذلك كثيرًا.
وقد ورد في مكان آخر أن الناصر كان ينفق على بنائها في أيامه ٣٠٠٠٠٠
دينار في السنة، فإذا حسبنا ما أنفقه ابنه الحكم فيما بقي من الأربعين سنة
على هذه النسبة مع ما أنفقه هو بالإضافة إلى المقدار السنوي المذكور؛ كان
مجموع ما دخل في بناء هذه المدينة نحو ٢٠٠٠٠٠٠٠ دينار على الأقل، ولا غرابة
في ذلك؛ لأننا إذا أعدنا النظر في تفاصيلها رأينا فيها ما يفوق الحصر من
المرصعات والمذهبات، وقد أدخلوا فيها شيئًا كثيرًا من الذهب حتى جعلوا بعض
قرميدها منه، وقد كان يتصرف في بنائها من الخدم والفعلة عشرة آلاف رجل
و١٥٠٠ دابة، وأغرب من كل ذلك أن الناصر إنما عمد إلى بناء الزهراء مرضاة
لمحظية له كان اسمها «زهراء» طلبت إليه أن يبني مدينة باسمها وتكون خاصة
بها.
٢٠
الزاهرة
واقتدى بالخليفة الناصر المنصور بن أبي عامر، فابتنى سنة ٣٦٨ﻫ قصرًا،
لإقامته سماه «الزاهرة» ليكون معقلًا له يحميه من أعدائه، فأقامه في طرف
البلد على نهر قرطبة الأعظم، وحشد له الصناع والفعلة وبالغ في رفع أسواره
وجعل فيه أبنية كثيرة من جملتها أهراء ودواوين، وأقطع ما حولها لوزرائه
وكتابه وقواده، فابتنوا الدور والقصور وغرسوا الحدائق، فقامت الأسواق
وتنافس الناس في النزول في أكنافها تقربًا من صاحب الدولة، حتى اتصلت
أرباضها بأرباض قرطبة، واتصلت بهما الزهراء من الجهة الأخرى، فأصبح الناس
يمشون بين هذه المدن عشرة أميال على ضوء السرج.
قنطرة قرطبة
ويجدر بنا في هذا المقام الإشارة إلى القنطرة الفخيمة التي أقامها
المسلمون على نهر قرطبة، وكانت مبنية قبل الإسلام ثم سقطت فأعاد المسلمون
بناءها على يد عبد الرحمن الغافقي، وطولها ٨٠٠ ذراع، وعرضها عشرون ذراعًا،
وارتفاعها ٦٠ ذراعًا، وعدد حناياها ١٨ حنية، وأبراجها ١٩ برجًا.
٢١
قصر الحمراء وأمثاله
الحمراء قصر شهير في غرناطة لا يزال شكله محفوظًا إلى الآن يقصده السياح
من كل مكان، بناه ابن الأحمر في أواسط القرن الثامن للهجرة كما تقدم في أرض
مساحتها ٣٥ فدانًا على مرتفع فسيح، ويقال إنها سميت «الحمراء» نسبة إلى لون
قرميدها، وفي هذا القصر كانت بركة السباع، وفي وسطها تماثيل أسود تقذف
المياه من أفواهها على شكل جميل.
وبنى المنصور بن الأعلى قصرًا فخيمًا في بجاية، أنشأ فيه بركة على
حافاتها أسود يجري الماء من أفواهها، وعلى البركة أشجار من ذهب وفضة ترمي
فروعها في الماء، وعلى أغصانها أطيار من أشكال شتى بألوان بديعة وصنع عجيب،
على مثال الشجرة التي ذكرنا أنها نصبت في قصر المقتدر العباسي عند كلامنا
عن أبنية العباسيين، وقد نظم محمد بن حمديس الشاعر الأندلسي قصيدة يصف بها
بركة هذا القصر وخروج الماء من أفواه الأسود قال منها:
وضراغم سكنت عرين رياسة
تركت خرير الماء فيه زئيرًا
فكأنما غشي النضار جسومها
وأذاب في أفواهها البلورا
أسد كأن سكونها متحرك
في النفس لو وجدت هناك مثيرا
وتذكرت فتكاتها فكأنما
أقعت على أدبارها لتثورا
وتخالها والشمس تجلو لونها
نارًا وألسنها اللواحس نورا
فكأنما سلت سيوف جداول
ذابت بلا نار فعدن غديرا
وكأنما نسج النسيم لمائه
درعًا فقدر سردها تقديرا
٢٢
وقس على ذلك قصر المأمون بن ذي النون الأندلسي، فإنه أنفق في بنائه بيوت
الأموال، وكان من عجائبه أنه صنع فيه بركة ماء كأنها بحيرة، وبنى في وسطها
قبة من زجاج وساق الماء من تحت الأرض حتى علا فوق رأس القبة بتدبير أحكمه
المهندسون، فكان الماء ينزل من أعلى القبة وحواليها محيطًا بها متصلًا بعضه
ببعض، فكانت القبة في غلالة من ماء سكبًا لا يفتر والمأمون قاعد
فيها.
٢٣
(٣-٤) مباني مصر
مباني آل طولون
أنشأ بنو طولون في مصر أبنية أشهرها الجامع الذي بناه أحمد بن طولون، لا
تزال آثاره إلى الآن بالقاهرة، والقصر الذي بناه في القطائع وجعل له
ميدانًا كبيرًا، ولما توفي أحمد زاد فيه ابنه خمارويه وجعل الميدان كله
بستانًا زرع فيه أنواع الرياحين وأصناف الشجر، ونقل إليه الشجر اللطيف الذي
ينال ثمره القائم (أي الرجل الواقف) ومنه ما يتناوله الجالس من أصناف خيار
النخل، وحمل إليه كل صنف من الشجر المطعم العجيب وأنواع الورد، وزرع فيه
الزعفران وكسا أجسام النخل نحاسًا مذهبًا حسن الصنعة، وجعل بين النحاس
وأجساد النخل مزاريب الرصاص وأجرى فيها الماء المدبر، فكان يخرج من تضاعيف
قائم النخل عيون الماء فتنحدر إلى فساق معمولة، ويفيض منها الماء إلى مجار
تسقي سائر البستان، وغرس فيه من الريحان المزروع على نقوش معمولة وكتابات
مكتوبة يتعهدها البستاني بالمقراض حتى لا تزيد ورقة على ورقة، وزرع فيه
النيلوفر الأحمر والأزرق والأصفر الجنوي العجيب، وأهدى إليه من خراسان
وغيرها كل أصل عجيب، وطعموا له شجر المشمش باللوز وأشباه ذلك من كل ما
يستظرف ويستحسن، وبنى فيه برجًا من خشب الساج المنقوش بالنقر النافذ ليقوم
مقام الأقفاص، وزوقه بأصناف الإصباغ وبلط أرضه وجعل في تضاعيفه أنهارًا
لطافًا جدًّا ولها يجري الماء مدبرًا من السواقي التي تدور على الآبار
العذبة ويسقي منها الأشجار وغيرها، وسرح في هذا البرج من أصناف القماري
والدباسي والنونيات وكل طائر جميل الشكل حسن الصوت، فكانت الطير تشرب
وتغتسل من تلك الأنهار الجارية في البرج، وجعل فيه أوكارًا في قواديس لطيفة
ممكنة في جوف الحيطان لتفرخ الطيور فيها، وعارض لها فيه عيدانًا ممكنة في
جوانبه لتقف عليها إذا تطايرت حتى يجاوب بعضها بعضًا بالصياح، وسرح في
البستان من الطير العجيب كالطواويس ودجاج الحبش ونحوها شيئًا
كثيرًا.
وعمل في داره مجلسًا برواقه سماه بيت الذهب، طلى حيطانه كلها بالذهب
المحلى باللازورد المعمول في أحسن نقش وأظرف تفصيل، وجعل فيه على مقدار
قامة ونصف صورًا في حيطانه بارزة من خشب معمول على صورته وصور حظاياه
والمغنيات اللاتي تغنينه بأحسن تصوير وأبهج تزويق، وجعل على رءوسهن
الأكاليل من الذهب الخالص الإبريز الرزين، والكوادن المرصعة بأصناف الجواهر
وفي آذانها الأجراس الثقال الوزن المحكمة الصنعة، وهي مسمرة في الحيطان
ولونت أجسامها أشباه الثياب من الأصباغ العجيبة، فكان هذا البيت من أعجب
مباني الدنيا.
وجعل بين يدي هذا البناء فسقية ملأها زئبقًا، وذلك أنه شكا طبيبه كثرة
السهر فأشار عليه بالتدليك فأنف من ذلك وقال: «لا أقدر على وضع يد أحد
عليَّ.» فقال له: «تأمر بعمل بركة من زئبق.» فعمل بركة يقال إنها خمسون
ذراعًا طولًا في خمسين ذراعًا عرضًا وملأها من الزئبق فأنفق في ذلك أموالًا
عظيمة، وجعل في أركان البركة سككًا من الفضة الخالصة، وجعل في السكك زنانير
من حرير محكمة الصنعة في حلق من الفضة، وعمل فرشًا من أدم (أي: جلد) يحشى
بالريح حتى ينتفخ فيحكم حينئذ شده ويُلقى على تلك البركة وتشد زنانير
الحرير التي في حلقة الفضة بسكك الفضة، وينام على هذا الفرش فلا يزال الفرش
يرتج ويتحرك بحركة الزئبق ما دام عليه، وكانت هذه البركة من أعظم ما سمع به
من الهمم الملوكية يُرى لها في الليالي المقمرة منظر بهيج إذا تألف نور
القمر بنور الزئبق.
٢٤
مباني الفاطميين
ولما أفضى الأمر إلى الفاطميين بنوا في القاهرة الجامع الأزهر، وهو عامر
إلى اليوم، وقصورًا أشهرها القصران الشرقي والغربي، وأنفقوا على الأخير
منهما ٢٠٠٠٠٠٠ دينار،
٢٥ فقس على ذلك ما أنفقوه في سائر القصور والدور، كدار الفطرة
ودار الديباج وغيرهما، ولما استبحر عمرانهم تفننوا في بناء المقاصير
والمناظر على ضفة الخليج وشاطئ النيل، كمنظرة الجامع الأزهر، ومنظرة
اللؤلؤة على الخليج، ومنظرة الغزالة بجانبها، ومنظرة السكرة، ومنظرة الدكة،
ومنظرة المقس، ومنظرة التاج، ومنظرة باب الفتوح، ومنظرة البعل، ومنظرة دار
الملك، غير المتنزهات العظيمة والقصور الفخيمة في الجزيرة والروضة، كالقصر
الذي بناه الآمر بأحكام الله لمحبوبته البدوية وسماه الهودج.
وكانوا يتأنقون في زخرفة تلك المناظر والقصور تأنقًا عظيمًا يدل على مبلغ
حضارتهم وتفننهم، فمنظرة بركة الحبش كانت مصنوعة من خشب مدهون صور فيها
الشعراء، كل شاعر وبلده وعند رأس الشاعر أبيات نظمها في ذكر المنظرة،
وبجانب كل صورة رف لطيف مذهب، فإذا دخل الخليفة وقرأ الأشعار أمر أن يحط
على كل رف صرة مختومة فيها خمسون دينارًا، فيدخل الشاعر ويأخذ
صرته.
٢٦
مباني الأيوبيين والمماليك
ولما انتقلت الدولة إلى الأكراد كان أعظم آثارهم البنائية قلعة القاهرة،
بناها السلطان صلاح الدين ليعتصم بها من الشيعة، ولا تزال قائمة إلى
اليوم.
ومعظم ما في مصر الآن من الآثار البنائية إنما هو من أعمال السلاطين
المماليك ولا سيما المساجد، كجامع السلطان حسن وجامع المؤيد وقايتباي
وقلاوون وغيرها، ومن آثارهم قبور الخلفاء خارج القاهرة فإنها لهم، وإن نسبت
إلى الخلفاء بالاسم، غير ما اندثر من قصورهم، وكانوا يقلدون الفاطميين في
زخرفها كالرفرف الذي بناه الأشرف خليل بن قلاوون عاليًا يشرف على الجيزة
كلها، وصور فيه أمراء الدولة وخواصها وعقد عليه قبة على عمد وزخرفها وكان
السلطان يجلس فيه، وقصر يلبغا، بناه الملك الناصر محمد بن قلاوون سنة ٧٣٨ﻫ،
لسكنى الأمير يلبغا حيث مدرسة السلطان حسن تجاه القلعة، وغيرها.
هوامش