الثروة والرخاء ونتائجهما
واشتغال الخلفاء والأمراء بإنشاء المدن وبناء القصور والمتنزهات إنما هو من ثمار الثروة وتكاثر النقود في بيوت الأموال، فتنتقل إلى رجال الدولة وغيرهم على ما بيناه في نظام الاجتماع، ولذلك كان الخليفة أكثر الناس مالًا؛ لأنه قابض على بيت المال، يليه الوزراء والكتاب والعمال فبنو هاشم فالأتباع والتجار وغيرهم، وإليك أمثلة من ذلك.
(١) ثروة الخلفاء وأهليهم
دينار | |
---|---|
٢٠٠٠٠٠٠٠ | من العين والورق (أي: الفضة) والأواني المعمولة. |
٢٠٠٠٠٠٠٠ | من الفرش. |
٢٠٠٠٠٠٠٠ | من الكراع والسلاح والغلمان. |
٢٠٠٠٠٠٠٠ | من الضياع والعقار والأملاك. |
٢٠٠٠٠٠٠٠ | من الجوهر والطيب وما يجري مجراهما. |
(٢) ثروة رجال الدولة وغيرهم
وذكرنا في الجزء الثاني أيضًا سبب ثروة الوزراء ومقادير الأموال التي حصلها الحسن بن الفرات والمادرائي وابن كلس والأفضل وابن شهيد الأندلسي وإليك أمثلة أخرى:
(٣) نتائج الثروة
من قواعد العمران إذا تكاثرت الأموال في أيدي الناس أن يتوسعوا في الإنفاق ويتنعموا بمعيشتهم، فيتأنقوا في الطعام والشراب والسماع وغيرها من الملذات الجسدية، ويتنعموا بالألبسة الثمينة والرياش الفاخر، ثم يطلبوا الملذات المعنوية من التفاخر باقتناء المجوهرات والعقارات، ويلتمسوا سعة الشهرة فيقربوا من يضمن لهم ذلك كالشعراء ورواة الأخبار في ذلك العهد، كما يفعل بعض أغنياء زماننا بالتقرب من أرباب الصحافة، ونقسم الكلام في هذا الباب إلى فصول:
(٣-١) التأنق في الطعام
(٣-٢) البذخ في الألبسة
عدد | |
---|---|
٤٠٠٠٠٠٠ | من الثياب المقصورة سوى الخامات. |
٦٣٠٠٠ | من الأثواب الخراسانية المروية. |
٨٠٠٠ | من الملاءات. |
١٣٠٠٠ | من العمائم المروية. |
١٨٠٠ | من الحلل الموشاة اليمانية وغيرها منسوجة بالذهب. |
١٨٠٠٠ | من البطائن التي تحمل من كرمان في أنابيب القصب. |
١٨٠٠٠ | من الأبسطة الأرمنية. |
وتوفى ذو اليمينين وفي خزانته ١٣٠٠ سروال لم يستعملها، ووجدوا في كسوة بختيشوع الطبيب ٤٠٠ سروال ديبقي، ولما قتل برجوان خادم الوزير بمصر وجدوا في تركته ألف سروال ديبقي بألف تكة حرير.
(٣-٣) الأثاث والرياش والمجوهرات
الأثاث والرياش عند الفرس
الأثاث والرياش عند العباسيين
المجوهرات عند العباسيين
غالى الخلفاء العباسيون في اقتناء المجوهرات، ولا سيما الدر، وهو اللؤلؤ الكبير والياقوت الأحمر القاني ويسمى البهرماني، ويتلوه الأحمر المشرقي الرماني ثم الأزرق الغميق وتشوبه زرقته حمرة ويسمى الاسمانجوني، وبعده الأصفر وهو الفاقع اللون وبعده الذهبي، ولكل من هذه الأشكال قيمة تختلف باختلاف الصفاء والحجم، ومنها الزمرد وأحسنه يعرف بالذبابي لقرب لونه من لون الذباب الكبير المائل إلى الخضرة، والماس كانوا يفضلون منه ما يشوب لونه حمرة يسيرة؛ هذا أهم ما كانوا يتفاخرون باقتنائه من الحجارة الكريمة، وأما الفيروز والمرجان والعقيق والجزع فقلما كان الملوك يقتنونه لكثرته.
وكثيرًا ما كانوا يستخدمون الجواهر بدلًا من المبالغ الكبيرة، فإذا عزم أحدهم على سفر طويل يستغرق نفقة عشرة آلاف دينار مثلًا، فبدلًا من أن يحمل ذلك المال ذهبًا أو فضة استبدله بجوهرة أو عدة جواهر يسهل حملها في الجيب، فإذا وصل إلى البلد المقصود باع الجواهر وأنفق من ثمنها كما يفعل الناس اليوم بتحاويل المصارف المالية أو البنكنوت (العملة الورقية).
فكان الخلفاء العباسيون يقتنون من الآنية والفرش والمجوهرات والثياب ما لا يعلم مقداره إلا الله، يدلك على ذلك ما قدمناه مما خلفه المكتفي وغيره وما أخرجوه من خزائنهم في فتنة البساسيري في أواسط القرن الخامس من جملته ٧٥٠٠٠ قطعة ديباج و١١٠٠٠ كزاغند و٣٠٠٠٠ سيف، وهو بعض ما كان في دار الخليفة، ومع ذلك فهو لا يقاس بما كان عند الفاطميين كما سترى.
بذخ الفاطميين
الحلي والجواهر عند الفاطميين
فمما أخرجوه من خزانة الجوهر في أيام الشدة على عهد المستنصر بالله (توفي سنة ٤٨٧ﻫ) صندوق فيه سبعة أمداد زمرد سألوا الصياغ عن قيمتها فقالوا: إنما نعرف قيمة الشيء إذا كان مثله موجودًا، واستخرجوا خريطة فيها ويبة جوهر قال الصياغ: إن قيمته لا تقدر وأصل ثمنه ٧٠٠٠٠٠ دينار بيع يومئذ بعشرين ألف دينار، ووجدوا ما لا يُحصى من أقداح البلور المنقوش والمجرود وصحونًا من الميناء منها ما يساوي مئات من الدنانير، وفي مكان آخر ١٨٠٠٠ قطعة من بلور تتراوح أثمانها بين عشرة دنانير وألف دينار كل قطعة، وصوان من الذهب المجراة بالميناء وغير المجراة المنقوشة بأنواع النقوش، و١٧٠٠٠ غلاف خيار مبطن بالحرير محلاة بالذهب، ونحو مائة كأس بادزهر وأشباهها على أكثر اسم هارون الرشيد.
غير ما وجدوه هناك من الصناديق المملوءة بالسكاكين المذهبة والمفضضة وأنصابها من الجواهر المختلفة، وصناديق مملوءة دوي (جمع دواة) على اختلاف الأشكال من الذهب والفضة والصندل والعود والأبنوس والعاج، محلاة بالجواهر مما يساوي ألف دينار إلى بضعة آلاف كل دواة، وعدة أزيار مملوءة كافورًا وعدة جماجم عنبر ونوافج المسك التيبتي وشجرة العود وغيره.
ومما خلفته رشيدة بنت المعز وحفظ هناك ما قيمته ١٧٠٠٠٠٠ دينار من جملتها ١٢٠٠٠ من الثياب المصمت ألوانًا و١٠٠ قاطرميز مملوءة كافورًا قيصوريًا ومعممات بجواهر من أيام المعز، وبيت هارون الرشيد الخز الأسود الذي مات فيه بطوس، ومثل ذلك مما تركته عبدة بنت المعز أيضًا ويطول شرحه، وخزائن مملوءة بأنواع الصيني تساوي القطعة منها ألف دينار، وحصير من الذهب وزنه عشرة أرطال يظن أنه الحصير الذي حملت عليه بوران بنت الحسن بن سهل لما زُفت إلى المأمون كما تقدم، وصوان من الذهب كان ملك الروم أهداها إلى العزيز بالله.
ووجدوا أنواعًا من الشطرنج والنرد مصنوعة من الجوهر والذهب والفضة أو العاج أو الأبنوس، وعددًا كبيرًا من الزهريات ونحوها، ومن تماثيل العنبر ٢٢٠٠٠ قطعة أقل تمثال منها وزنه ١٢ مَنًّا، ومن تماثيل الخليفة ما لا يحد، والكلوتة (أي: الطاقية للرأس) المرصعة بالجوهر قيمتها ١٣٠٠٠٠ دينار فيها من الجوهر ١٧ رطلًا، وطاووس من ذهب مرصع بنفيس الجوهر عيناه من ياقوت أحمر وريشه من الزجاج المينا المجرى بالذهب على ألوان ريش الطاووس، وغزال مرصع بنفيس الدر والجوهر بطنه أبيض قد نظم من در رائق، ومائدة من الجزع يقعد عليها جماعة قوائمها مخروطة، ونخلة ذهب مكللة بالجوهر وبديع الدر في أجانة من ذهب تجمع الطلع والبلح والرطب بشكله ولونه وعلى صفته وهيئته من الجواهر قيمتها لا تقدر، وكوز زير بلور مرصع يحمل عشرة أرطال ومزيرة مكللة بحب لؤلؤ نفيس وقس على ذلك عشرات من أمثاله.
الفرش والأثاث عند الفاطميين
ووجدوا في خزائن الفرش من أصناف الأثاث والرياش ما يعد بالألوف، من ذلك ١٠٠٠٠٠ قطعة خسرواني أكثرها مذهب، ومراتب خسرواني وقلموني ثمن الواحدة ٣٥٠٠ دينار، وأجلة معمولة للفيلة من الخسرواني الأحمر المذهب، و٣٠٠٠ قطعة خسرواني أحمر مطرز بأبيض من هدبها لم يفصل من كساء البيوت كاملة بجميع آلاتها ومقاطعها، وكل بيت يشتمل على مسانده ومخاده ومساوره ومراتبه وبسطه ومقاطعه وستوره وكل ما يحتاج إليه، ومثل ذلك من المخمل والديباج وسائر أنواع الحرير وعليها أشكال الصور من كل شيء، ونحو ألف من الستور الحرير المنسوجة بالذهب على اختلاف ألوانها وأطوالها، فيها صور الدول وملوكها ومشاهيرها وعلى صورة كل واحد اسمه ومدة أيامه وشرح حاله، و٤٠٠٠ رزمة خسرواني مذهب في كل رزمة فرش مجلس ببسطه وتعاليقه وسائر آلاته منسوجة في خيط واحد، ومن جملتها مقطع من الحرير الأزرق التستري غريب الصنعة منسوج بالذهب وسائر ألوان الحرير كان المعز لدين الله أمر بعمله، وفيه صورة أقاليم الأرض وجبالها وبحارها ومدنها وأنهارها ومساكنها شبه الخارطة الجغرافية، وفيه صورة مكة والمدينة ومكتوب على كل مدينة وجبل وبلد ونهر وبحر وطريق اسمه بالذهب والفضة أو الحرير، وقد كتب في آخره «مما أمر بعمله المعز لدين الله شوقًا إلى حرم الله وإشهارًا لمعالم رسول الله في سنة ٣٥٣ﻫ.»
فاعتبر ما تدل عليه هذه الآثار من رقي المدنية والحضارة، وكم تكون قيمتها لو وجدت الآن وكم يدفع المتمولون من المبالغ في الحصول عليها.
وقس عليه ما كان في سائر الخزائن من التحف، ففي خزانة السلاح سيف الحسين بن علي، ودرقة حمزة بن عبد المطلب، وسيف جعفر الصادق، ومئات الألوف من الدروع والسيوف والقسي والرماح وغيرها، وفي خزانة السروج ألوف من السروج الثمينة ومنها ما يساوي ألف دينار، وفي خزانة الخيم أنواع الفساطيط والمضارب والمسطحات والحصون والقصور، والشراعات والمشارع العمومية من الديبقي والمخمل والخسرواني والديباج المكي والأرمني والبهنساوي والكردواني، وغير ذلك على اختلاف الألوان والنقوش من المفيل والمسبع والمخيل والمطوس والمطير غيرها من أشكال السباع والطيور والآدميين مما ينصب على أعمدة ملبسة بالفضة، ومن هذه الفساطيط ما يبلغ طوله ٦٥ ذراعًا كبيرًا يحمله مع ملحقاته مائة جمل، وفي خزانة البنود كثير من الرايات والأعلام الساذجة والمطرزة وغيرها.
ومن أدلة الترف والإسراف في هذه الدولة أن السيدة الشريفة ست الملك أخت الحاكم بأمر الله أهدت أخاها هذا هدايا من جملتها ثلاثون فرسًا بمراكبها ذهبًا، منها مركب واحد مرصع ومركب من حجر البلور وتاج مرصع بنفيس الجوهر وبستان من الفضة مزروع من أنواع الشجر.
بذخ الأندلسيين
(٣-٤) التسري
أثمان الجواري
وأما ما خلا ذلك فقد اشترى يزيد بن عبد الملك الأموي «سلامة» المغنية بعشرين ألف دينار، وبيعت الجارية «ضياء» بخمسين ألف دينار، واشترى جعفر البرمكي جارية بأربعين ألف دينار، وابتاع الواثق بالله جارية مولدة للغناء اسمها «الصالحية» بعشرة آلاف دينار، وقس عليه ما دون ذلك وما فوقه، واعتبر مقدار ما كانوا ينفقونه من الأموال في اقتنائهن.
(٣-٥) السخاء
علمت مما تقدم انطباع العرب على السخاء من أيام جاهليتهم، وأنهم اضطروا للمحافظة عليه بعد الإسلام حتى أصبح من قواعد الارتزاق فيمن يحومون حول الخليفة وأهل الدولة، فلما توفرت الأموال في أيدي هؤلاء وتمتعوا بالحاجات والكماليات من الملاذِّ الجسدية تطلبوا الملاذَّ المعنوية بحسن الأحدوثة، وهم أهل أريحية يستفزهم الإطراء والاستنجاد، فوجدوا في السخاء بابًا واسعًا لتلك الملاذِّ، فبذلوا الأموال على الشعراء والندماء والمغنين والمستجدين من سائر الطبقات، لما في ذلك من لذة الفخر أو توقع الأجر.
مبلغ السخاء على العموم
فلما افتقر الخلفاء العباسيون في أواسط الدولة صاروا يهبون الرتب الاسمية وألقاب الشرف يسترضون الناس بها، وهذه أبيات يقولون: إن أبا بكر الخوارزمي نظمها بهذا المعنى:
سخاء البرامكة
على أن العصر العباسي الأول إنما زها بالبرامكة، وهم الذين رغبوا الخلفاء في السخاء، وأولهم خالد بن برمك وزير المنصور، والثروة لم تنضج في أيامه، ومع ذلك فالوافدون على الخلفاء للاستجداء كانوا يسمونهم السؤال، فقال خالد: «هذا والله اسم أستقله لطلاب الخير، وأرفع قدر الكريم عن أن يُسمي به أمثال هؤلاء المؤملين؛ لأن فيهم الأشراف والأحرار وأبناء النعيم، ومن لعله خير ممن يقصد وأفضل أدبًا، ولكننا نسميهم الزوار.» وكان ممن شهد مجلسه وسمع قوله بشار بن برد فقال:
واشتهر من وزراء الدولة العباسية بالسخاء بعد البرامكة آل الفرات في أيام المقتدر، فكانوا يفرضون الرواتب للعلماء والأدباء والفقهاء وأهل الفاقة، وقد نكبوا كما نكب البرامكة، ولكن شهرة البرامكة غلبت على سواهم، فأصبحوا مضرب الأمثال في الكرم، ولا يزال الناس يتداولون أخبارهم ويتمثلون بسخائهم ويستحثون أريحية العظماء على السخاء بما يروون من أحاديثهم، حتى ظنها بعضهم موضوعة لهذه الغاية، ولا يبعد أن تكون رغبة الناس في الاستحثاث بعثت على المبالغة في بعضها، ولكنها صحيحة على إجمالها؛ قال السلطان العادل الأيوبي مرة وقد جرى ذكر البرامكة وأمثالهم من الكرماء: «هذا كذب مختلق من الوراقين ومن المؤرخين، يقصدون بذلك أن يحركوا همم الملوك والأكابر للسخاء وتبذير الأموال.»
السخاء على الشعراء والمغنين
واعتبر ذلك في سخائهم على الشعراء، فقد كانت إجازة الشعراء قاعدة عامة من أوائل الإسلام لأسباب تقدم ذكرها، ويشبه ذلك ما تنفقه بعض الدول اليوم على الصحافة لتنصرها أو تأخذ بيدها في نشر مبدأ أو رأي.
وتعودوا أن يسموا ما يُعطى للشاعر جائزة أو صلة، كما يسمون ما يُعطى للصحف إعانة أو راتبًا، على أن بعض الخلفاء كانوا يفرضون للشعراء رواتب يتناولونها مشاهرة أو مسانهة، وربما عدوا الجائزة راتبًا يناله الشاعر إذا وفد على الخليفة أو الأمير في يوم معين من السنة، وقد تكلمنا عن الشعر وسائر أحواله فيما تقدم، ونحن ذاكرون سخاء الخلفاء على الشعراء في إبان الحضارة.
ومدحه سلم الخاسر بقصيدة مطلعها:
أما في الدولة العباسية فالبرامكة لم يدخروا وسعًا في إجازة الشعراء، خصوصًا الفضل بن يحيى، وقد قال فيه بعضهم:
واقتدى بسخاء العباسيين ورجال دولتهم سائر رجال الدولة الإسلامية، وإن لم يبلغوا شأوهم.
(٣-٦) المسكر
والنبيذ يصنع من أكثر أنواع الفاكهة ولا سيما العنب والتمر والتفاح والمشمش ومن الذرة، ويختلف باختلاف البلاد وباختلاف طرق عمله وهو عصير بعض هذه الأثمار أو منقوعها كما يُنقع الزبيب اليوم (الخشاف).
أما العامة فانغمس الكثيرون منهم في المسكر وشربوه على أنواعه، شأنهم في كل زمان وإن لم يشربه حكامهم، فكيف إذا كانوا يشربون؟ والغالب في شاربي النبيذ أن ينبذوه في بيوتهم، وبعضهم يشربه عند إخوانه، وآخرون يتناولونه في الحانات وكانت كثيرة، وأكثر أصحابها من اليهود، وقد يشربون الخمر في الأديار وخمرها مشهورة بجودتها.