ابنة ملك وأخت ملك وزوجة ملك عظيمة
(١) الجوانب السياسية والأيديولوجية للحكم الملكي
يجب النظر إلى كليوباترا السابعة على أنها أحد القادة الفطنين سياسيًّا والمدركين للعالم من حولهم. ومن أجل فهم دورها داخل سياق أوسع لا بد أن نأخذ في اعتبارنا إطارًا سياسيًّا أكثر اتساعًا. لا يهدف الجزء التمهيدي من هذا الكتاب إلى تقديم عرض تاريخي كامل لفترة حكم البطالمة حتى عهد كليوباترا السابعة؛ حيث يقدِّم كتاب جونتر هولبل «تاريخ إمبراطورية البطالمة» عرضًا حديثًا للأفكار الرئيسية الأساسية (٢٠٠١). إنما سيعمل هذا الجزء على تعريف القارئ ببعض الجوانب الأساسية المتعلقة بثقافة البطالمة، وسيعمل إلى حد ما على شرح خلفية السياسات المحلية التي طبقتها كليوباترا السابعة. نجد أن إشارات الكُتَّاب والمؤرخين الرومان إلى الأسرة الملكية البطلمية ذات طبيعة سلبية لا تختلف عن إشاراتهم إلى كليوباترا السابعة. هذا وتساعد الأدلة الوثائقية — المتمثِّلة في المراسيم والخطابات والشَّقَفات (قطع من الخزف أو الحجارة مُعادٌ استخدامها) المأخوذة من مصر — بقدر أكبر في تحديد التوجهات داخل أسرة البطالمة الحاكمة وما مرت به من تقلبات في سلطة وأحوال غير مستقرة. تكشف هذه المصادر عادةً، مثل برامج البناء والتشييد، عن عدم استعداد الحكام للاعتراف بالهزيمة.
غالبًا ما تُفسَّر أيدولوجية الحكم الملكي البطلمي من منظور إغريقي، لا عبر ربط الإدارة الجديدة بالحكومة السابقة عليها والتي كانت موجودة في مصر مع تسلُّم المقدونيين مقاليد الحكم. اعتمد المصريون على فكرة وجود ملكٍ مُقلَّد يحكم البلاد، وتلك الفكرة هي أساس نسقهم الأيديولوجي. لم يكن وجود الملك داخل مصر فعليًّا على عرشها أمرًا مهمًّا من أجل بقاء كيان الدولة المصرية، كما يتضح لنا من غياب حُكام الفرس ومن بعدهم الإسكندر ثم خلفاؤه المباشرون، الذين كانوا جميعًا يَنتدبون ممثلين لهم في فترة غيابهم. طبَّق الرومان أسلوبًا مشابهًا بعد وفاة كليوباترا السابعة. لكن مصر كانت بحاجة إلى حاكم مقيم فيها لردع أي عدو خارجي عن غزوها، وفي حالة البطالمة كان هذا العدو هو أي حاكم مقدوني آخر أو الرومان فيما بعد. تقبَّل المصريون، في حالات قليلة لكن ذات أهمية كبرى، تعيين حكام من النساء عليهم، وكانت نساء الأسرة الحاكمة يلعبن دورًا حاسمًا دومًا في كلٍّ من الدين والسياسة. ظهرت من مقدونيا، موطن الإسكندر الأكبر وبطليموس الأول، حاكمات من النساء يتمتعن بقوة كبيرة، على عكس اليونان القديمة (بوميروي ١٩٩٠: ٣–١١، وأشتون ٢٠٠٣أ: ١٣–١٥).
كان ثمة محوران لمنصب الملك المصري المحلي؛ أولهما: إدارة/حكم الدولة، والثاني: دوره الديني ومكانه في الكون. يكمن وراء هذين الهدفين التقليديين المعضلة التي وجد الحكام الأجانب لمصر أنفسهم أمامها؛ وهي التوفيق بين ثقافتهم التقليدية وثقافة دولتهم الجديدة. لطالما كان الدور المركزي الذي لعبه البطالمة في نظام الإدارة في مصر جزءًا محوريًّا من التفسيرات التاريخية الحديثة لعصرهم (ديليا ١٩٩٣: ١٩٢–١٩٥). وفي عام ١٩٩٣، زعم صامويل أنه على الرغم من ارتباط فكر الحكم الملكي البطلمي ارتباطًا وثيقًا بإدارة مصر، فلم يكن تنظيم الإدارة محكمًا كما جرى الاعتقاد في بعض الأحيان. تبدو لي فكرة أن البطالمة كانوا يغيرون أسلوب إدارتهم لمصر عند الحاجة فقط (صامويل ١٩٩٣: ١٧٥)، بحسب ما تقتضي الظروف، فكرة منطقية؛ إذ تُظهر البرديات كيف شجع الحكام المستوطنين الإغريق، خاصةً الجنود، في مناطق مثل الفيوم عن طريق مكافأتهم بقطع من الأراضي (هولبل ٢٠٠١: ٦١-٦٢). في حين كانت تحصل فئات أخرى، مثل الموظفين الذين كانوا مقربين من الحكام الأوائل، على ضيعات كمكافأة لهم. كان هذا توسيعًا لنطاق نظام «الأصدقاء» الإغريقي في الحكم، والأصدقاء كانوا مستشارين مقربين من الملك، وكان هذا النظام مأخوذًا من البلاط المقدوني. هذا وقد مارس خلفاء الإسكندر أنفسهم دورًا مشابهًا. ظهر أولئك المستشارون بأعداد كبيرة خلال حكم أول ملكين من ملوك البطالمة، إلا أن دورهم تلاشى في أثناء حكم بطليموس الثالث (صامويل ١٩٩٣: ١٨٥-١٨٦). وفي أثناء الحكم المضطرب للملكين الصبيَّين، بطليموس الخامس وبطليموس السادس، أصبح السياسيون في البلاط يشكلون تهديدًا على الأسرة الحاكمة من خلال محاولتهم التلاعب بالحُكام الصغار (صامويل ١٩٩٣: ١٨٧-١٨٨).
تُظهر المراسيم الملكية بوضوح أحداث حياة أسرة البطالمة الحاكمة. وقد أصبح إجراء مقارنة بين مرسوم كانوبوس ثلاثي اللغة الذي صدر في عهد بطليموس الثالث ومرسوم حجر رشيد الشهير سؤالًا نموذجيًّا يواجه الطلاب الدارسين لعصر البطالمة في مصر؛ فيمجِّد مرسوم كانوبوس الصادر عام ٢٣٨ قبل الميلاد الأسرة الحاكمة ويوضح أهمية الدين والعبادة والسلطة السياسية (هولبل ٢٠٠١: ١٠٥–١١١). أما الجزء الثاني من المرسوم فيركز على مراسم دفن ابنة بطليموس الثالث، التي تُوفيت مؤخرًا وهي ما تزال طفلة. يوضح جزآ المرسوم كيف كان الكهنة يقدِّمون النصح بشأن الصور والأيدولوجيات الملكية ويطورونها؛ فقد سُجلت تفاصيل الملابس التي خُصصت للإلهة الجديدة برنيكي بدقة. هذا وقد وُضعت نسخ من هذا المرسوم في كل المعابد الكبرى في جميع أنحاء مصر.
تُعتبر فترة حكم بطليموس الرابع فيلوباتور بوجه عام نقطة تحول كبرى في تاريخ الأسرة الحاكمة؛ فقد كُتب مرسوم رفح عقب انتصار فيلوباتور على الملك السوري في ٢٢ من شهر يونيو عام ٢١٧ قبل الميلاد (هولبل ٢٠٠١: ١٦٢–١٦٤). هذا وقد كان مرسوم رفح ثلاثي اللغة تمامًا مثل مرسوم كانوبوس ومرسوم حجر رشيد، ويظهر الملك فيه بالشكل الإغريقي يمتطي جوادًا وفي يده رمح ويرتدي التاجين المصريين لمصر العليا والسفلى، خلفه أخته وزوجته أرسينوي الثالثة، مرتدية غطاء الرأس الملكي المعتاد. كانت تلك الصور للملك في الحرب شائعة إلى حدٍّ كبير في الرسومات البارزة في معبد رمسيس الثاني (في معبدَي الكرنك والأقصر)، ومعبد رمسيس الثالث (في معبده الجنائزي في مدينة هابو على الضفة الغربية في طيبة). توجد على مسلة رفح نسخة مختصرة من هذا المرسوم، ومع ذلك فإن الرسالة تظل واحدة؛ ففي هذا المرسوم يمارس بطليموس الرابع دوره كمدافع عن مصر. وهكذا يمثِّل أسلوب التصوير وحده رسالة أيدولوجية وسياسية قوية (هولبل ٢٠٠١: ١٦٥).
يرجع مرسوم حجر رشيد إلى عام ١٩٦ قبل الميلاد وتظهر عليه صورة مختلفة جدًّا عن صور نظرائه الأقدم (هولبل ٢٠٠١: ١٦٥-١٦٦). ظل المرسوم يُظهر نفس الاهتمام الدقيق بالتفاصيل عند وصف التماثيل الدينية لبطليموس الخامس التي ستوضع في كل المعابد المصرية. ومنح الكهنة، الذين كانوا سيؤدون الطقوس الدينية الملكية الجديدة لملكهم المراهق، أنفسهم ألقابًا شرفية (هولبل ٢٠٠١: ١٦٥). لكن ربما كان أكثر ما يعبِّر عن اضطراب تلك الفترة هو منح عامة الشعب المصري تخفيضًا للضرائب وعفوًا عامًّا في جرائم معينة. كانت حالات العفو العام هذه تُمنح بسبب الثورات والانتفاضات التي كانت تحدث في ذلك الوقت في مصر. ويختم هولبل حديثه عن هذا المرسوم بقوله إنه يُظهر ملكًا يمارس دوره الديني لكنه مُجبر على الخضوع لرغبات الكهنة (٢٠٠١: ١٦٦).
طوال عصر البطالمة يمكن رؤيةُ توجهاتٍ تَظْهَر؛ فقد كان العصر الذهبي لحكم البطالمة عصر حكم أول ثلاثة ملوك. ويُعتبر دومًا عصر حكم بطليموس الرابع نقطة تغيُّر وتحوُّل فقدَ خلالها الملك سيطرته على مصر وعلى البلاط، غالبًا — إذا كنا سنصدِّق كلام الكاتب القديم أثينوس — بسبب سلوكه الفاسق («مأدبة الحكماء» ١٢. ٥٤٩إي). وبالمثل، فإن فترات الحكم المضطربة لبطليموس الخامس والسادس، اللذين كانا صغيري السن عند توليهما السلطة، كان لها دور فعال في انهيار هذه الأسرة الحاكمة.
عقب وفاة بطليموس الخامس، حكمت زوجته، كليوباترا الأولى، مع ابنهما بطليموس السادس؛ بينما ظلت ابنتها، التي ستصبح كليوباترا الثانية، في بلاط البطالمة. كان الوضع الذي وجدت كليوباترا الثانية نفسها فيه عقب وفاة والدتها كليوباترا الأولى في عام ١٧٦ قبل الميلاد مشابهًا في كثير من النواحي لوضع كليوباترا السابعة؛ فقد كان لها أخوان تزوجت أكبرهما وهو بطليموس السادس عام ١٧٦ قبل الميلاد على الأرجح في محاولة لتوطيد العلاقات الأسرية (وايتهورن ١٩٩٤: ٨٩). بعد ست سنوات انضم الأخ الأصغر بطليموس الثامن لأخويه على عرش مصر (وايتهورن ١٩٩٤: ٩٣ للمناقشة). عُزل بطليموس السادس بعد ذلك من السلطة ونُصِّب بطليموس الثامن وكليوباترا الثانية حكامًا (هولبل ٢٠٠١: ١٨٣–١٨٦). يقول ليفيوس (٤٥. ١١. ٦) إن كليوباترا هي التي سوَّت الخلاف بينهما وحاول الثلاثة الحكم معًا مرة أخرى. استمرت المشكلات، ومع ذلك، كانت ثمة فوائد لكونها امرأة وكانت كليوباترا الثانية عضوًا دائمًا في أي تحالف، ومنحها دورها الذي لا تُحسد عليه المزيد من المرونة والسلطة أكثر من أخويها.
عقب وفاة بطليموس السادس عام ١٤٥ قبل الميلاد، تزوج بطليموس الثامن أخته وقتل ابن أخيه بطليموس السابع، في يوم زفافهما على حد قول جاستن، وبذلك يكون قد تخلَّص من الوريث الشرعي للعرش. يوصف عادةً الحكم الفردي المضطرب لبطليموس الثامن، الذي نتج جزئيًّا عن قوة كليوباترا الثانية والثالثة، اللتين حكم معهما، بأنه يمثِّل النقطة التي لم يعد بالإمكان بعدها استعادة مجد الأسرة الحاكمة. في ذلك الوقت طُلب من روما التدخل دفاعًا عن مصلحة بطليموس الثامن. وفي المقابل، وكنوع من التأمين تعهَّد هو بضم مملكته إلى روما في حال موته دون وريث (هولبل ٢٠٠١: ١٨٧).
في عام ١٣٢ / ١٣١ قبل الميلاد نظَّمت كليوباترا الثانية ثورة ضد زوجها وأخيها بطليموس الثامن، الذي نُفي إلى قبرص مع زوجته الثانية وابنة أخته كليوباترا الثالثة. سجَّل كلٌّ من ديودورس (٣٤-٣٥. ١٤) وجاستن (٣٨. ١٢-١٣) رد فعله؛ فقد قتل ابنهما ممفيتس وأرسل جثمانه لأخته. استمرت كليوباترا الثانية في الحكم مع بطليموس الثامن. وعلى الرغم من جريمته البشعة الثالثة — أولى جرائمه هي قتل بطليموس السابع وثانيتهما اغتصاب كليوباترا الثالثة — فقد تلاها حكم ثلاثي آخر عام ١٣٠ قبل الميلاد بين بطليموس الثامن وكليوباترا الثانية (الأخت) وكليوباترا الثالثة (الزوجة)، وكان مشحونًا بالاضطراب مثل التحالف السابق لكنه استمر حتى عام ١١٦ قبل الميلاد.
في وقت لاحق من حكم بطليموس الثامن وكليوباترا الثانية والثالثة صدر عفو عام عن جميع الجرائم ما عدا القتل وتدنيس المقدسات (بي. تيبت. ٥). في الوقت نفسه كان بطليموس الثامن يموِّل أحد أكبر مشاريع بناء المعابد في أسرته الحاكمة في جميع أنحاء مصر في مدن تمثِّل مراكز دينية مصرية تقليدية (أشتون ٢٠٠٣ب: ٢١٧–٢١٩). تحت حكم بطليموس الثامن كان يُنظر إلى كلٍّ من الطبقة الأرستقراطية المصرية وعامة الشعب بعين الاعتبار في محاولة لتهدئة الوضع السياسي بعد الحروب الأهلية، فأُنشئت مدن جديدة في صعيد مصر خلال حكم بطليموس السادس أو الثامن. واستقرت قوات الجيش فيها مثلما استقر المستوطنون الإغريق الأوائل في الفيوم خلال حكم بطليموس الأول والثاني، فكانت هذه السياسات امتدادًا موهنًا للسياسات التي طُبقت تحت حكم حكام الأسرة الأوائل، عندما كان الإغريق يحصلون على الأرض كمكافآت (طومسون ٢٠٠٦: ٩٨–١٠٤، ورولاندسون ٢٠٠٣: ٢٥٤–٢٥٩).
في عام ١١٦ قبل الميلاد تُوفي بطليموس الثامن وترك مصر إلى زوجته المفضلة كليوباترا الثالثة (جاستن ٣٩. ٣. ١)، رغم أن والدتها كان ما تزال على قيد الحياة وحكمت مع ابنتها في السنة الأولى التي تلت وفاة زوجهما. وضع هذا الملكة الشابَّة في موقف قوي ومعرَّض للخطر في الوقت نفسه. وفقًا لما جاء في وصية بطليموس الثامن كان مسموحًا لها أن تختار أيًّا من أبنائها لتشاركه الحكم. وفي الواقع أُجبرت على تغيير ولائها بين ابنيها الاثنين، بناءً على اختيار والدتها في البداية ثم على أساس أكثرهما شعبية لدى أهالي الإسكندرية (هولبل ٢٠٠١: ٢٠٥). تُصوَّر كليوباترا الثالثة بوجه عام على نحو مثير للشفقة بوصفها ضحية لشهوة خالها بطليموس الثامن في السنوات الأولى من حياتها، ما نتج عنه كما أشرنا، الحكم المشترك غير الموفَّق بين هذا الحاكم وكليوباترا الثانية وابنتها كليوباترا الثالثة (جاستن ٣٨. ٨). لكن خلف هذه الانطباعات الأدبية الأخيرة كانت تكمن امرأة تهدف بوضوح لزيادة سلطتها ورفع مكانتها. وقد رأى ابنها بطليموس العاشر أنها تمثِّل تهديدًا واضحًا، وقُتلت عام ١٠١ قبل الميلاد.
(٢) تصوير الحكم الملكي البطلمي
لا تتضح الحدود الفاصلة بين الحكم الملكي الإغريقي الهلنستي والحكم الملكي المصري على الفور دومًا وتتأثر بطريقة التعامل العلمية الحديثة مع الموضوع، فيجد علماء المصريات بسهولة أوجه تشابه من العصور القديمة، بينما يقارن دارسو العصر الكلاسيكي سريعًا التطورات الموجودة في ممالك هلنستية أخرى، وهم لا يدركون أحيانًا أن أوجه التشابه تلك متأصلة بشدة في تقاليد أصلية أخرى.
يمكن تتبع أيدولوجية الحكم الملكي عبر المراسيم المذكورة آنفًا. ويمكن للسجل الأثري أن يوضح أيضًا ما إن كان الحكام يرون أنفسهم ملوكًا إغريقًا أم مصريين ويوضح تحولًا مثيرًا للاهتمام في تصوير البيت الملكي في بداية القرن الثاني قبل الميلاد. قلَّد الحكام الأوائل، من بطليموس الأول وحتى بطليموس الرابع، سمات التماثيل ذات الطابع المصري لحكام الأسرة الثلاثين. واستمر هذا الأسلوب التقليدي حتى نهاية عصر البطالمة (أشتون ٢٠٠٣ب: ٢١٨–٢٢٠، ٢٠٠٤ب: ٥٤٥). لكن في عهد بطليموس الخامس ظهرت ظاهرة جديدة (أشتون ٢٠٠١أ: ٢٥–٣٦، ستانويك ٢٠٠٢: ٥٦-٥٧ و٨٥–٨٨)؛ فقد بدأ الفنانون المصريون في صنع تماثيل تعرض الصورة الإغريقية للحاكم الذكر ويظهر في بعضها الشعر تحت غطاء للرأس. أما صور النساء من الأسرة الحاكمة فتحاكي صور أزواجهن. وفي الوقت نفسه كان الحكام الأوائل يأمرون برسم «صور» لهم على الطراز الإغريقي أو تُرسم بالنيابة عنهم. يمكن التعرف على هذه الصور إلى حد كبير من خلال مقارنة الأعمال النحتية بصور الحكام والملكات زوجاتهم الموجودة على العملات. يُظهر بعضها صورًا لا تحمل طابعًا مثاليًّا لحكام مثل بطليموس الثامن وابنيه بطليموس التاسع والعاشر؛ ففي تلك الفترة حدث انخفاض في أعداد التماثيل على الطراز الإغريقي. كذلك توقفت العملات التي صدرت في عهد بطليموس التاسع والعاشر عن استخدام الصور الملكية على وجهيها. أُعيد إدخال هذه السمة مرة أخرى خلال عهد بطليموس الثاني عشر والد كليوباترا.
في المقابل تعرض صور زوجات الحكام على جدران المعابد المصرية دليلًا مصورًا يوضح تزايد السلطة الدينية والسياسية لملكات البطالمة. تقدِّم كذلك بيانًا بالولاءات، لكنها تُظهر الحكام كما كانوا يريدون أن يراهم الآخرون وليس على حقيقتهم. ينطبق هذا على الوجه الخصوص على بطليموس الثامن، الذي يظهر دومًا مع زوجتيه رغم قضائه هو وزوجته كليوباترا الثالثة بعض الوقت في المنفى. إن هذا الثلاثي المتحد الذي يظهر على عدد كبير من الجدران لم يكن يعبِّر عن الواقع بقدر كبير. تظل نقوش المعابد البارزة مصدرًا غير مستغل، ومع ذلك فإن لها أهمية كبرى فيما يتعلق بعرض سلطة نساء أسرة البطالمة الحاكمة.
(٣) كليوباترا: ابنة الملك
ما تزال هوية جَدة كليوباترا لأبيها مجهولة؛ فقد تزوج جدها بطليموس التاسع اثنتين من أخواته؛ كليوباترا السادسة وكليوباترا سيليني، لكن والدة بطليموس الثاني عشر كانت إحدى المحظيات.
تُظهر شجرة العائلة التقليدية ثلاثة أطفال من هذا الفرع: بطليموس الثاني عشر وبطليموس القبرصي وكليوباترا الخامسة (ترايفينا). وفقًا لشجرة عائلة البطالمة التقليدية تزوج بطليموس الثاني عشر أخته وأنجبا كليوباترا برنيكي الرابعة وكليوباترا السادسة (ترايفينا) وكليوباترا السابعة وأرسينوي وبطليموس الثالث عشر وبطليموس الرابع عشر (واكر وهيجز ٢٠٠١ ووايتهورن ١٩٩٤: ١٧٤–١٨٧).
ومع ذلك، استنبط هولبل عام ٢٠٠١ شجرة بديلة تشير إلى حصول كليوباترا سيليني، زوجة بطليموس التاسع، على لقب كليوباترا الخامسة، وأن كليوباترا ترايفينا أخت بطليموس الثاني عشر قد أصبحت كليوباترا السادسة ترايفينا. وفقًا لهذه الشجرة كان الطفل الوحيد الذي نتج عن زواج بطليموس الثاني عشر وكليوباترا السادسة ترايفينا هو كليوباترا برنيكي الرابعة (٢٠٠١: ٢٢٣). أما الأطفال الآخرون، الذين كانت من بينهم كليوباترا السابعة، فإن والدتهم غير معروفة، وهذا لا يجعل بطليموس الثاني عشر فقط ابنًا غير شرعي، وإنما أربعة أيضًا من أطفاله. يُقال إن والدة كليوباترا السابعة وأرسينوي وأخويها الآخرين كانت مصرية، وربما كانت تنتمي إلى أسرة من الكهنة في ممفيس (هس ١٩٩٠). خرجت كليوباترا ترايفينا من التأريخ عام ٦٩ قبل الميلاد؛ مما يدعم فكرة أنها ليست أم أطفال بطليموس الثاني عشر (هولبل ٢٠٠١: ٢٢٣).
اعتلى بطليموس الثاني عشر العرش بعد مقتل بطليموس الحادي عشر، بناء على اختيار أهالي الإسكندرية (هولبل ٢٠٠١: ٢٢٢)، وأصبح أخوه الآخر بطليموس ملك قبرص. اتباعًا للتقليد البطلمي المعتاد تزوج بطليموس الثاني عشر أخته كليوباترا ترايفينا وأطلقا على طفلتهما الأولى كليوباترا برنيكي الرابعة. أطلق بطليموس الثاني عشر على نفسه ألقاب الإله المحب لأبيه (ثيوس فيلوباتور) والمحب لأخته (فيلاديلفوس)، فكان اللقب الأول تأكيدًا على حقه في الحكم بصفته ابنًا شرعيًّا لبطليموس التاسع، والثاني ربما كان وسيلة لاسترجاع العصر الذهبي للأسرة (هولبل ٢٠٠١: ٢٢٣)، وهي استراتيجية ستقلِّدها كليوباترا السابعة (أشتون ٢٠٠٣أ: ٩٣–٩٥). حصل بطليموس الثاني عشر أيضًا على اللقب الديني ديونيسوس الجديد (نيوس ديونيسوس)، ومُنح كُنية أوليتس بسبب اتقانه العزف على المزمار (سترابو ١٧. ١. ١١، أثينودوروس ٥. ٢٠٦د). يُظهر تمثال من الرخام على الطراز الإغريقي بطليموس الثاني عشر (واكر وهيجز ٢٠٠١: ١٥٧، رقم ١٥٥) وهو يرتدي ميترا (عصابة للرأس تمتد على طول الجبهة) خاصة بديونيسوس؛ مما يشير إلى العلاقة بين المنحوتات والألقاب التي يُلقب بها الملك. يبدو أن هذا التمثال قد أُعيد نحته بعدما كان يصوِّر حاكمًا سابقًا يتمتع بوجه أكثر امتلاءً، على الأرجح أحد الفسكونيين؛ بطليموس الثامن أو بطليموس التاسع ابنه ووالد بطليموس الثاني عشر.
كان بطليموس الثاني عشر شديد الاعتماد على الرومان، ومع تزايد العبء الذي وضعته «صداقتهم» على الاقتصاد المصري، أصبح حكمه يخضع لمراقبة متزايدة من النخبة المصرية. في عام ٥٨ قبل الميلاد تقريبًا، وبعد ١٨ عامًا من تولِّيه الحكم، نُفي بطليموس الثاني عشر وأصبحت كليوباترا ترايفينا الحاكم الرسمي لمصر. يعتقد بعض الباحثين أن كليوباترا هذه كانت في الواقع امرأة أخرى غير أخت بطليموس الثاني عشر وزوجته، وأن اسمها أُزيل من صيغ التأريخ قبل عشر سنوات بسبب وفاتها، وليس بسبب استبعادها (وايتهورن ١٩٩٤: ١٧٨، ١٨٢-١٨٣). يبدو معقولًا أن تصير إحدى الزوجات غير ذات حظوة ثم تعود وتسيطر على مصر بعد بضع سنوات؛ ففي النهاية يوجد عدد من الحوادث المشابهة في السنوات التي سبقت حكم بطليموس الثاني عشر مباشرةً، ربما أشهرها ما فعلته جدته كليوباترا الثالثة. تشير الوثائق بوضوح أكبر إلى أن كليوباترا ترايفينا حكمت مع ابنتها كليوباترا برنيكي الرابعة، لكنها تُوفيت قرب نهاية عام ٥٧ قبل الميلاد، بعد عام من توليها الحكم (هولبل ٢٠٠١: ٢٢٧). في عام ٥٥ قبل الميلاد، بدعم من الرومان عاد بطليموس الثاني عشر إلى العرش وبدأ فترة حكمه الثانية، وحُكم بالإعدام على كليوباترا برنيكي — التي نذكر أنها كانت أول طفلة له — وكل مؤيديها. وفي عام ٥٢ قبل الميلاد، جعل بطليموس الثاني عشر ابنته البالغة من العمر ١٧ عامًا كليوباترا السابعة شريكته في الحكم. مُنح كل الأطفال اللقب الديني: الآلهة الجدد المحبون لأختهم (ثيوي نيوي). عندما قبلت كليوباترا السابعة الحكم مع والدها، بدلًا من التآمر ضده، أظهرت دهاءها السياسي.
بالإضافة إلى إقامة حفل تتويج بطليموس الثاني عشر في ممفيس، فإنه قد زارها في مناسبة أخرى واحدة على الأقل (طومسون ١٩٨٨: ١٣٩). وتظهر العلاقة الوطيدة بين بطليموس الثاني عشر والكهنة في ممفيس في أحد الألواح التذكارية (عبر نقش بارز إهدائي) يوجد حاليًّا في المتحف البريطاني (أندروز في واكر وهيجز ٢٠٠١: ١٨٤–١٨٦، رقم ١٩٢). يظهر الكاهن الأعظم المتوفى باشيرين بتاح الثالث في الجزء العلوي من اللوحة أمام طاولة للقرابين وأمام الآلهة المصريين أوزوريس وبتاح وإيزيس ونفتيس وحورس وأنوبيس وإمحوتب وراية حورس. يعرض النص المكتوب على اللوح سيرة حياة هذا الكاهن ويقول إنه أجرى طقوس تتويج بطليموس الثاني عشر عام ٧٦ قبل الميلاد. وفي المقابل، عندما زار الكاهن الإسكندرية في عربة حربية كُرِّم بحصوله على لقب كاهن الطقوس الملكية ومُنح مسبحة من الذهب. تُوفي هذا الكاهن في أثناء حكم كليوباترا السابعة في ١٤ من شهر يوليو عام ٤١ قبل الميلاد.
في أقصى جنوب مصر، وسَّع بطليموس الثاني عشر معبد إيزيس في منطقة فيلة، وزخرف البوابة الأولى. عُثر أيضًا على ضريح (ناوس) لبطليموس الثاني عشر في دابود، التي تقع جنوب أسوان مباشرةً (أرنولد ١٩٩٩: ٢٢١). ومع ذلك، من الواضح أن المنطقة الرئيسية للتطوير في عهده كانت مصر العليا والمعابد التي تشكل حتى الآن المقصد الرئيسي للرحلات النيلية السياحية الحديثة.
أَثَّرَت الأسماء المصرية التي اتخذها بطليموس الثاني عشر على أسماء خلفائه الذكور، حتى أصبح التمييز بين أسماء بطليموس الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر (تراونيكر ١٩٩٢: ٢٧٢-٢٧٣) يُحدث قدرًا كبيرًا من الارتباك. ومن الألقاب الإغريقية أطلقت كليوباترا على نفسها لقب المحبة لأبيها، وكان لقب المحب لأخته (فيلاديلفوس) هو الاسم الذي اختارته لطفلها الرابع بطليموس. وتمامًا كما أصبح بطليموس الثاني عشر ديونيسوس الجديد، أصبحت الملكة إيزيس الجديدة؛ ومن ثم لم تتأثر كليوباترا فقط بسياسات والدها، وإنما يبدو أنها واصلت اعتناق انتماءاته الدينية. تُظهر الأدلة الوثائقية أن بطليموس الثاني عشر بدأ بإطلاق لقب ثيوس فيلوباتور على نفسه، ثم تسلل لقب نيوس ديونيسوس إلى صيغة الاسم بحيث أصبح اسمه يظهر في الوثائق النموذجية كالتالي: «الملك بطليموس، الإله، ديونيسوس الجديد، المحب لأبيه، المحب لأخته» (جوتييه ١٩١٦: ٣٩٧). استخدم لوح ظهر في وقت لاحق الصيغة التالية: «بالنيابة عن الملك بطليموس، الإله ديونيسوس الجديد وأطفاله الآلهة المحبين الجدد لأختهم» (جوتييه ١٩١٦: ٤٠٠). حقق اتخاذ كليوباترا السابعة لقب المحبة لأبيها هدفين؛ الأول: أنه أدى إلى استمرار اللقب الذي استخدمه والدها. وثانيًا: أنه ربطها به بصفتها وريثته الشرعية.
اعتمد بطليموس الثاني عشر على روما في الحصول على السلطة والمكانة بصفته حاكمًا لمصر. وورثت كليوباترا هذا الدَّين وسرعان ما وجدت نفسها تعتمد على روما في قمع ثورة هائلة شنها أهالي الإسكندرية. على العكس من أسلافها، حولت كليوباترا موقف الضعف المحتمل هذا لصالحها. وفعلت هذا عن طريق إنجاب أطفال من اثنين من القادة الرومان ذوي السلطة. وإذا صدقنا المصادر التاريخية؛ فقد تسببت كليوباترا في دمار الرومان التي كانت على علاقة مباشرة بهم.
(٤) المصادر الأدبية: سياسات الأسرة
يناقش كثير من المصادر الرومانية المكتوبة العلاقة بين أبناء بطليموس الثاني عشر، وتوجد إشارات إلى الحكم المشترك بين الملكة وإخوتها في الأدلة الأثرية والمأخوذة من ورق البردي. يشير لوكان إلى زواج كليوباترا من إخوتها في السطور ١١٠–١١٣ و٤٣٠–٤٥٥ من قصيدته الملحمية «فرساليا»؛ ففي الموضع الأول تحدَّث عن انتقال السلطة من الملك (بطليموس الثالث عشر) إلى أخته بسبب علاقتها بقيصر، وفي الموضع الثاني ذكرها كوسيلة لعقد مقارنة غير صحيحة حول مقتل بومبي.
ذكر سترابو أسرة كليوباترا في المجلد ١٧ (١. ١١)؛ إذ حكى عن نفي أوليتس (والد كليوباترا)، وبناته الثلاث وولديه، وحكم ابنته الكبرى مع زوج غير مناسب، ويُقال إن أخت كليوباترا قد خنقته بسبب وقاحته. في كتاب سويتونيوس «يوليوس قيصر المؤلَّه» يُقال للقارئ إن القيصر سلَّم مصر إلى كليوباترا وأخيها الأصغر خوفًا من أنها إذا تحولت إلى ولاية، فإن حاكمها قد يشن ثورة فيها (٣٥).
استغل يوسيفوس إحدى الفرص، عند مناقشة إهداء أنطونيو منطقة سوريا الجوفاء للملكة، لازدراء شخصية كليوباترا من خلال الحديث عن شئونها العائلية («آثار اليهود القديمة» ١٥، ٤. ١. ٨٨–٩٥): «نظرًا لأنها كانت عرضة للجشع بطبيعتها، فإنها لم تترك عملًا غير قانوني إلا فعلته؛ فقد ارتكبت أعمال قتل عندما قتلت أخاها بالسم ولم يتعدَّ ١٥ عامًا من عمره لعلمها بأنه سيصير ملكًا، كذلك جعلت أنطونيو يقتل أختها أرسينوي في أثناء تعبُّدها في معبد أرتميس في إفسوس» (انظر أيضًا كاسيوس ديو ٤٨. ٢٤. ٢). يشير يوسيفوس مرة أخرى إلى مقتل أخي كليوباترا وأختها في كتابه «ردًّا على أبيون» (المجلد ٢. ٥).
(٥) كليوباترا وإخوتها
في عام ٥١ قبل الميلاد تُوفي بطليموس الثاني عشر، تاركًا مصر لكليوباترا السابعة وابنه الأكبر بطليموس الثالث عشر. قيل مؤخرًا إن كليوباترا ربما حكمت وحدها لأول سنة عقب وفاة والدها (بينجن ٢٠٠٧: ٦٨). يوجد اعتقاد بأنه لم تُعقد مراسم حفل زواج رسمي بين بطليموس الثالث عشر وأخته، وأن الاثنين حكما معًا فحسب (هولبل ٢٠٠١: ٢٣١). كان الحكم المشترك بين الأخ البالغ من العمر عشر سنوات وأخته مليئًا بالمشكلات منذ البداية. لقد سيطر مؤيدو الملك على العرش عام ٥٠ قبل الميلاد (هولبل ٢٠٠١: ٢٣١–٢٣٩)، وظهر اسم كليوباترا بعد اسم أخيها؛ مما يشير إلى أنه كان الحاكم المسيطر. وفي عام ٤٩ قبل الميلاد طُبقت صيغتان للتأريخ؛ السنة الأولى من حكم بطليموس الثالث عشر، التي كانت السنة الثالثة من الحكم المشترك. يشير ترتيب سرد التواريخ إلى أن السنة الأولى من الحكم الجديد كانت الأكثر أهمية؛ في ذلك الوقت كان بطليموس الثالث عشر قد حصل على ثلاثة أوصياء جدد؛ بوثينوس وأخيلاس وأحد معلميه، ثيودوتوس من خيوس. خططت هذه المجموعة لإقصاء كليوباترا عن الحكم، وفي عام ٤٩ قبل الميلاد حققت هذا الهدف (هولبل ٢٠٠١: ٢٣٢). في خريف عام ٤٩ قبل الميلاد أعلن الرومان بطليموس الثالث عشر الحاكم الوحيد لمصر. وصف يوليوس قيصر هذه الفترة بنفسه كجزء من مذكراته التاريخية؛ ففي كتاب «حرب الإسكندرية» (٣٣) يذكر القيصر أنه عيَّن الأخوين بطليموس وكليوباترا حاكمين، كما ورد في وصية بطليموس الثاني عشر. نُفيت أرسينوي، أخت كليوباترا، وتُركت حشود من الجنود من أجل «تدعيم سلطة الملكين بسبب ولائهما إلى قيصر». وفي كتاب قيصر «الحروب الأهلية» يوجد تعليق على الموقف في مصر تحت حكم البطالمة مباشرةً قبل وصول الرومان إلى الإسكندرية؛ ففي سياق وفاة بومبي كتب قيصر يقول: «وقد تصادف أن ملك بطليموس كان هناك، وقد كان مجرد صبي، يشن حربًا بقوات ضخمة على أخته كليوباترا. وخلال بضعة أشهر، بمساعدة المقربين إليه والمفضلين لديه طردها من مملكته. ولم يكن معسكر كليوباترا بعيدًا عن معسكره» (٣. ١٠٣).
بمجرد وصول قيصر إلى الإسكندرية كتب يقول: «نظرًا لاعتقاده بأن خلافات الأسرة الحاكمة تهم الشعب الروماني وتهمه هو بصفته القنصل، وأنه من واجبه التصرف لأن التحالف الذي حدث مع بطليموس، والد الملك الحالي، كان في أوائل فترة توليه القنصلية، بقانون ومرسوم من مجلس الشيوخ، أعلن أنه قرر ضرورة تسريح كلٍّ من الملك بطليموس وأخته كليوباترا جيوشهما وتسوية خلافاتهما من خلال عرضها عليه ليُصدر حكمًا فيها بدلًا من تسويتها باستخدام القوة …» (٣. ١٠٧).
تشبه الإشارات إلى كليوباترا في المجلد (٣. ١٠٨) من كتاب «الحروب الأهلية» تلك الموجودة في كتاب «حرب الإسكندرية»؛ إذ يتحدث عن وصية بطليموس الثاني عشر التي ذُكر فيها أن مَن سيرثه سيكون الابن الأكبر والبنت الكُبرى، وأن تُشرف روما على هذا؛ إذ طُلب منها التأكد من تطبيق هذه الوصية. ومعنى هذا أن القيصر تدخَّل في الأمر بدافع الواجب.
(٦) الآلهة الإخوة
لقيت أخت كليوباترا الكبرى، غير الشقيقة على الأرجح، مصرعها عقب عودة بطليموس الثاني عشر من المنفى. تعلمت كليوباترا من هذا بوضوح درسًا مهمًّا، وكما رأينا تحالفت مع والدها بدلًا من التآمر ضده. من الواضح أن أرسينوي، التي لا يُعرف تاريخ مولدها، لم يكن لديها ما يكفي من الدهاء لتتمكن من إرساء حدود السلطة؛ ففي أثناء الحرب الأهلية هربت أرسينوي من القصور مع معلِّمها الخاص جانيميد وانضما إلى القوات التي كان يقودها مستشار بطليموس الثالث عشر، أخيلاس، وأُعلن توليها الملك (ديو كاسيوس ٤٢. ٣٩. ١). نشأت الخلافات واستولى جانيميد على السلطة من أخيلاس والمستشار الآخر بوثينوس؛ أعدم يوليوس قيصر هذين المستشارين؛ مما جعل جانيميد البطل الرئيسي. وفي نهاية هذا الفصل على وجه التحديد مات بطليموس الثالث عشر وعادت كليوباترا إلى السيطرة على العرش لكن مع أخيها الأصغر بطليموس الرابع عشر (بينجن ٢٠٠٧: ٧١). نُفيت أرسينوي إلى أفسُس في تركيا. يقول يوسيفوس (آثار اليهود القديمة ١٥، ٤. ١. ٨٩) إن أرسينوي، التي حكمت مصر لفترة وجيزة تحت اسم أرسينوي الرابعة، ستُعدَم فيما بعد بأمر من أختها على يد مارك أنطونيو (هولبل ٢٠٠١: ٢٣٦-٢٣٧، ٢٤١).
(٧) عوامل التأثير على أوائل فترة حكم كليوباترا
(٨) إهداءات كليوباترا في أوائل حكمها
(٨-١) قفط
يوجد بعض الخلاف حول هوية زوجها، الذي كما أشرنا، يقف وحده أيضًا أمام الآلهة في أجزاء من الزخارف البارزة على الضريح في قفط (تراونيكر ١٩٩٢: ٣٢٢–٣٢٤، أشتون ٢٠٠٣د: ٢٦ رقم ٩)؛ فقد قيل إن الحاكم الذكر هو بطليموس الخامس عشر قيصر، رغم أن لقب قيصر لم يكن موجودًا (انظر تراونيكر ١٩٩٢: ٣٢٢ للاطلاع على مناقشة لأفكار وايل). تشبه الخراطيش تلك الموجودة في معبد كوم إمبو وكُتبت عليها الأسماء التي كان يستخدمها بطليموس الثاني عشر (تراونيكر ١٩٩٢: ٢٧٢-٢٧٣، تيير وفولوخين ٢٠٠٥: ١٠)؛ ونتيجة لهذا اقترح بعض العلماء أن هذا النصب التذكاري قد أهداه بطليموس الثاني عشر. لكن استخدام لقب «زوجة الملك» إشارة لكليوباترا ربما يشير إلى عدم صحة هذا الأمر، إلا إذا كان هذا اللقب يستخدم ببساطة بمعناه الرمزي والتقليدي للإشارة إلى المرأة المرافقة للملك بصرف النظر عن حالتهم الاجتماعية (بيانشي ٢٠٠٣: ١٨). توجد أمثلة سابقة على ملوك تزوجوا بناتهم؛ مثلما فعل رمسيس الثاني الذي تزوج بناته نبتاوي وبنت عنتا ومريت أمون وهنوت مير؛ فكل السيدات لُقِّبن بلقب «زوجة الملك العظيم» و«ابنة الملك» (جريتسكي ٢٠٠٥: ٦٩-٧٠). يفضل البعض (بيانشي ٢٠٠٣: ١٨) النظر إلى ألقاب مثل أخت الملك وابنة الملك والزوجة الملكية العظيمة ولا سيما لقب «المرأة التي تُسعد قلب حورس» على أنها ألقاب دينية أكثر من كونها حرفية. يستنتج بيانشي أن الألقاب التي عُثر عليها في ضريح الإله جب هي لبطليموس الثاني عشر. ويُقال أيضًا إن الخراطيش التي تحمل أسماء ذكورية قد تنتمي إلى أحد إخوة كليوباترا، على أساس الألقاب المشتركة (تراونيكر ١٩٩٢: ٣٢٠، أشتون ٢٠٠٣د). ومن غير المحتمل أن تُحل هذه المشكلة؛ فإن الاستنتاج الوحيد الأكيد لدينا هو أن ضريح الإله جب كان إهداءً مبكرًا من كليوباترا السابعة وأحد الحكام الذكور، ربما كان بطليموس الثاني عشر أو أحد أبنائه.
إذا كانت مكانة كليوباترا قد ارتفعت لدرجة ظهورها وحدها وهي تقدِّم قرابين إلى الآلهة خلال فترة حكمها المشترك مع والدها، فإن هذا الوضع لم يظهر في وصيته؛ فكما أشرنا كانت مصر مهداة بالفعل إلى ابنته كليوباترا وابنه الأكبر بطليموس الثالث عشر. ومع ذلك، بشأن خلافة بطليموس الثاني عشر يجدر بنا التفكير في درجة تأثير الرومان، الذين أصروا على ضرورة زواج ملكة سابقة؛ مما أدى إلى الحكم الكارثي قصير الأمد لبطليموس الحادي عشر. بالإضافة إلى ذلك، لا يوجد ما يشير إلى زواج بطليموس الثاني عشر من ابنته؛ فقد مارسا ببساطة حكمًا مشتركًا.
إن وضع لقب «زوجة الملك» يشير إلى أن هذا الإهداء في المعبد الموجود في قفط حدث في أثناء زواج كليوباترا إما من بطليموس الثالث عشر أو بطليموس الرابع عشر (أشتون في عمل من تحرير ووكر وأشتون ٢٠٠٣: ٢٥-٢٦)؛ مما يجعل هذه القطعة الصغيرة دليلًا مهمًّا على المرحلة المبكرة من حكمها المشترك واستقلالها كملكة. وفي عمل مفصل نُشر عن هذا النصب التذكاري عام ١٩٩٢ أُشير إلى أن الزوج هو بطليموس الرابع عشر (تراونيكر ١٩٩٢: ٣١٦-٣١٧، ٣٢٢–٣٢٤).
لقد أدت إعادة فحص التاج مرة أخرى على يد عدد من الباحثين إلى تكرار مشكلات العمل على أدلة مجزَّأة ترجع إلى عصر البطالمة. لا تكمن المشكلة في عدد الأشياء المتبقية حتى الآن، وإنما في غياب العبارات المنقوشة على التماثيل على وجه الخصوص، التي تمثِّل نوعًا من الأدلة. كما أشرنا، فإن تمثال بتري الذي على شكل تاج كان منسوبًا في الأصل إلى أرسينوي الثانية على أساس موقع العثور عليه، والألقاب ورءوس الأفعى المتعددة. لكن هذه الفكرة فُنِّدت واقتُرحت كليوباترا بدلًا منها. وردًّا على هذا الاقتراح أُشير إلى أن الألقاب الموجودة على العمود الثاني مع لقب حور تأكد انتماؤها إلى بطليموس الثاني (ومن ثم إلى أرسينوي الثانية بالتبعية)، لكن ليس إلى كليوباترا السابعة (بيانشي ٢٠٠٣: ١٨-١٩). هذا اللقب يجعلنا نستبعد، كما أشرنا، أن يكون الزوج هو بطليموس الخامس عشر لأنه لم يلقب بالكامل بلقب حور (بصفته الحاكم الوحيد). تظل مشكلة عدم معرفتنا بخراطيش بطليموس الثالث عشر والرابع عشر. يستنتج بيانشي أن التاج الذي به ثلاثة رءوس أفعى هو لأرسينوي الثانية، على الرغم من عدم وجود أدلة على ارتباط هذا الشكل من التيجان بهذه الملكة على وجه الخصوص. ومن الممكن، في ظل الارتباك بشأن الألقاب، أن تكون مرتبطة بأبناء بطليموس الثاني عشر. إن وجهة نظر بيانشي بشأن القيمة الدينية للألقاب في مقابل قيمتها الحقيقية صحيحة؛ ففي تلك الفترة كان يُطلق على الملكات اللاتي لسن أخوات الملك هذا اللقب. وتحتاج مسألة رءوس الأفعى الثلاثة إلى مزيد من الاهتمام.
بالإضافة إلى إهداءات المعابد توجد أدلة أخرى على حكم كليوباترا في صورة نقش إهدائي بارز يخلِّد ذكرى وفاة ثور بوخيس في أثناء حكم أغسطس. على الرغم من أن هذه الوثيقة نُقشت في أثناء حكم خليفة كليوباترا، فإنها تقدِّم دليلًا مهمًّا على الفترة الأولى من حكم الملكة الذاتي. أُمر بصنع هذا اللوح عام ٥١ قبل الميلاد، عندما كانت كليوباترا تحكم مع بطليموس الثالث عشر. كُتب على السطر العاشر: «… لقد وضعه [ثور بوخيس] الملك بنفسه في السنة الأولى، ١٩ برمهات. الملكة، سيدة الدولتين، (خرطوشة فارغة)، الإلهة المحبة لأبيها، (١١) نقلته في مركب آمون مع مراكب الملك، ومعه كل أهالي طيبة وأرمنت والكهنة …» (ترجمة فيرمان في كتاب موند ومايرز ١٩٣٤: ١١–١٣، وفي كتاب جونز ٢٠٠٦: ٣٥–٣٨). على الرغم من بقاء خرطوشة كليوباترا فارغة فإن لقب «الإلهة المحبة لأبيها» يشير إلى أن هذه الملكة كانت هي كليوباترا. وجدير بالذكر أن اللوحة تسجل وجود دور ديني فعال لها في إدخال الثور الجديد وربما يعكس هذا سلطتها بالإضافة إلى اهتمامها بالتقاليد الدينية المصرية.
(٩) مشكلات في الفترة الأولى من حكم كليوباترا
كان للفيضان السنوي لنهر النيل أهمية كبرى لمحاصيل مصر واقتصادها. وكانت الزيادة الشديدة في الفيضان أو انخفاضه الشديد لعدد من السنوات المتعاقبة يمثِّلان كارثة على دولة تعتمد بالكامل على النهر في زراعة أراضيها. وكان سلوك ملك مصر يرتبط ارتباطًا وثيقًا بنجاح الفيضان. وكان للفيضان السنوي احترام كبير حتى إنه كان محظورًا على الحُكام الإبحار في أثناء موسم الفيضان السنوي، وهو مبدأ استمر تطبيقه بحزم في القرن الثاني الميلادي تحت حكم هادريان، الذي كان الإمبراطور الروماني؛ ومن ثم كان ملكًا على مصر.
كانت كليوباترا سيئة الحظ في السنة الأولى من حكمها المشترك عندما عانت البلاد من تكرار ضعف إنتاج المحاصيل. وكان لنقص الغذاء الذي نتج عن انخفاض الفيضان تأثير كبير على المدن أكثر من الريف بمراحل؛ إذ يمكن في الريف زراعة الطعام محليًّا. في عام ٥٠ قبل الميلاد أصدر بطليموس الثالث عشر وكليوباترا السابعة مرسومًا في محاولة للتصدي لهذه المشكلة. صدر هذا المرسوم بتاريخ ٢٧ أكتوبر عام ٥٠ قبل الميلاد، وهو أقدم شكل من هذه الوثائق الصادرة في فترة حكم كليوباترا. عند ذكر الحُكام يُذكر الملك أولًا (الذي كان هو بطليموس الثالث عشر) ثم كليوباترا. قضى هذا المرسوم بالسماح بنقل الحبوب إلى الإسكندرية فقط. وكانت عقوبة تجاهل هذا القرار الموت. بالإضافة إلى ذلك، ينص المرسوم على أنه في حالة ثبات التهمة، يُكافأ الذين أخبروا عن المجرم بالحصول على ممتلكاته. تشير إضافة هذه الوسيلة لتشجيع الناس على الإبلاغ عن الذين ينتهكون هذا المرسوم الملكي إلى مدى جدِّيَّة أهدافه. في وقت لاحق من هذا العام تحققت مخاوف كليوباترا، عندما حدث فيضان آخر منخفض. يذكر بليني أنه كان أكثر فيضان منخفض مسجَّل (التاريخ الطبيعي ٥. ٥٨). وتزامن في الخلفية مع هذه المشكلات الطبيعية الاضطراب السياسي الناتج عن الحروب في الإسكندرية (طومسون ٢٠٠٣: ٣٢-٣٣).
استمر عدد من المشكلات الإضافية في إعاقة حكم كليوباترا؛ ففي عام ٤٢ قبل الميلاد، حدثت فيضانات أخرى منخفضة (سينيكا ٤أ، ٢. ١٦)، ووفقًا لما قاله أبيان («الحروب الأهلية» ٤. ٦١ و٤. ٦٣) تلاها حدوث مجاعة ووباء. في ١٢ أبريل عام ٤١ قبل الميلاد صدر مرسوم ملكي آخر. كانت المشكلة هذه المرة في الضرائب المرتفعة التي فُرضت على مُلاك الأراضي. وكانت استجابة الأسرة الحاكمة إعفاء الضيعات في الريف من ضريبة «التاج» الإضافية. كان هذا الحكم نتيجة لضغط مُلاك الأراضي في إقليم بوبستيت وبروسوبيت (مراكز إدارية) كانت تقع بالقرب من الإسكندرية وكانت تتصل مباشرةً بالأسرة الحاكمة (طومسون ٢٠٠٣: ٣٣).
توقف ضرب العملات البطلمية الذهبية لبضع سنوات قبل اعتلاء كليوباترا الحكم، ولم تستأنفه كليوباترا. بدأت الملكة تطبيق تغيير مهم بتخفيض قيمة العملة الفضية في أوائل فترة حكمها. ويُقال إن هذا التعديل جعل العملة المصرية الفضية مساوية للدينار الروماني القديم. ومع ذلك، أعيد صنع العملات البرونزية في دار سك العملات الملكية في الإسكندرية (ووكر وهيجز ٢٠٠١: ١٧٧). تُظهر صورُ العملاتِ كليوباترا على أنها حاكمة إغريقية، وعادةً ما تظهر وحدها على العملات التي تُضرب في مصر. تتفاوت أنواع الصور طوال فترة حكمها وتضم صورة أكثر نضجًا لها ترتبط بتمثيلها على العملات في الخارج في الجزء الأخير من حكمها (ووكر ٢٠٠٣د). يشير هذا إلى ضعف الوضع الاقتصادي في مصر؛ ولم يكن ذلك خطأ كليوباترا وحدها. فقد اقترض والدها مبالغ كبيرة من الرومان من أجل تأكيد سلطته والحفاظ على مكانته كملك لمصر.
(١٠) يوليوس قيصر
كما أشرنا سابقًا، كتب يوليوس قيصر يحكي عن لقائه بكليوباترا في السياق العام لقصته عن حملته. لا توجد في أي موضع من رواياته أية إشارة إلى الملكة بصفة شخصية أو لعلاقته معها. اشتهر القيصر بعلاقاته النسائية، وفي حالة كليوباترا فقد وجد امرأة تتمتع بسلطة تفوق تصور النساء في روما في ذلك الوقت. نحن نعتمد بالكامل على المصادر التاريخية التي ظهرت في وقت لاحق من أجل الاطلاع على وصف لعلاقة قيصر بكليوباترا، والمراجع التي تشير إلى هذه العلاقة أقل بكثير من المراجع الموجودة عن علاقتها بمارك أنطونيو. يرجع السبب في هذا إلى حد كبير إلى حملة أوكتافيان ضد الثنائي الأخير. فقد كان من غير المحتمل أن يحظى نقد يوليوس قيصر، «والد» أوكتافيان بالتبني، بدعم من الإمبراطورية.
في كتاب بلوتارخ «حياة يوليوس قيصر» تظهر كليوباترا في الفصل رقم ٤٨، حيث يقول بلوتارخ إن بعض الناس كانوا يعتقدون أن اشتراك القيصر في الحرب في مصر كان نتيجة لهيامه بكليوباترا. يذكر لنا بلوتارخ أن كليوباترا قد طُردت من مصر، وفي الفصل ٤٩ (حياة القيصر) يصف عودة كليوباترا الشهيرة بمساعدة أبولودوروس الصقلي، الذي أخذ الملكة في قارب صغير ورسا به عند القصر وخبأها في جوال، وليس في سجادة كما صار سائدًا فيما بعد (ووكر وأشتون ٢٠٠٦: ٤١-٤٢). ومن الواضح أن هذا اللقاء كان ناجحًا فقد أصبح يُطلق على كليوباترا مرة أخرى حاكمة مشتركة لمصر. كانت في الثانية والعشرين من عمرها، وكان أخوها، الذي وُلد عام ٦١ قبل الميلاد (هولبل ٢٠٠١) في العاشرة من عمره، وكان حبيبها يوليوس قيصر أكبر منها بثلاثين عامًا.
تناول بعض الكُتَّاب الرومان مشاعر قيصر تجاه كليوباترا؛ فقد كان قيصر يحب كثيرًا من النساء، لكن يخبرنا أحد المؤلفين أنه «كان يحب كليوباترا على وجه الخصوص، التي كان يطيل معها ما يقيمه من حفلات حتى بزوغ الفجر، وقد سافر معها في القارب الملكي إلى داخل مصر، وكان سيصل إلى إثيوبيا لكن جيشه رفض أن يتبعه. وبالإضافة إلى ذلك، رحب بها في روما ولم يسمح لها بالعودة إلى وطنها إلا بعدما أغدق عليها بالألقاب الشرفية والهدايا» (سويتونيوس، «يوليوس قيصر المؤلَّه» ٥٢).
أشار كُتاب رومان آخرون إلى هذين الحدثين؛ فيُقال (أبيان، «الحروب الأهلية» ٢. ٩٨) إن موكب كليوباترا وقيصر كان يتكون من ٤٠٠ سفينة في رحلتهما عبر نهر النيل. بهذه الطريقة استطاع قيصر التأكيد على سلطته وتمكنت كليوباترا من إظهار بلدها وثراءها وسلطتها للرومان. ويمكن تفسير حقيقة إقامة يوليوس قيصر احتفالًا بالنصر عند عودته إلى روما (أبيان ٢. ١٠٢) على أنها دليل على سياسة التدخل التدريجي في مصر التي ستسيطر بها روما على البلاد فيما بعد.
(١١) في روما
كان الموقف الذي وجدت الملكة نفسها فيه عام ٤٦ قبل الميلاد فريدًا من نوعه حتى بالمعايير الحديثة. فقد كانت الملكة مع ابنها غير الشرعي من يوليوس قيصر و«زوجها» وأخيها بطليموس الرابع عشر ضيوفًا عند قيصر، ويعتقد البعض أن هذا كان في فيلته في هضبة إسكولاين (ديو، التاريخ الروماني ٤٣. ٢٧. ٣). هذا ويُقال إن كليوباترا قامت بعدد من الرحلات إلى روما بين عام ٤٦ قبل الميلاد ومقتل يوليوس قيصر في شهر مارس من عام ٤٤ قبل الميلاد، بدلًا من الإقامة هناك باستمرار (جروين ٢٠٠٣: ٢٥٧–٢٧٤). ويبدو هذا الترتيب بوجه عام أكثر حكمة في ظل قابلية حدوث شغب في الإسكندرية في أثناء غياب الحاكم.
بالتأكيد لم تكن كليوباترا محبوبة من الغالبية العظمى من الرومان. وربما كان أكثر النقاد المعاصرين لها ثباتًا على موقفه منها هو شيشرون («أتيكاس»). تظهر الملكة في ستة من خطابات هذا الكاتب الخاصة. وعادةً ما تكون الظروف التي تُذكر في سياقها غير مفهومة بالكامل. كُتبت هذه الخطابات بين شهري أبريل ويونيو من عام ٤٤ قبل الميلاد؛ ومن ثم كانت بعد وفاة يوليوس قيصر. على عكس كثير من المصادر، تُظهر هذه الخطابات رأيًا شخصيًّا وخاصًّا عن الملكة، لكنه رأي عبَّر شيشرون عنه صراحةً أمام مجلس الشيوخ. كان كثير من إشارات شيشرون غامضًا، وهو ما يرجع ببساطة إلى أن الردود على مراسلاته لم تُكتب لها النجاة.
جاءت إشارة إلى مغادرة كليوباترا لروما («أتيكاس» ١٤. ٨. ١) في خطاب كُتب في ١٦ أبريل عام ٤٤ قبل الميلاد. كتب شيشرون: «إن هروب الملكة لا يضايقني» (لاسي ١٩٨٦: رقم ٣٦٢). في أحد الخطابات (١٤. ٢٠. ٢)، كُتب في مدينة بُوتِسْوُولِي في ١١ مايو عام ٤٤ قبل الميلاد، يعلق شيشرون على شائعة لا بد أن أتيكاس أشار إليها عندما كتب إليه: «أتمنى أن تكون صحيحة عن الملكة وقيصرها هذا أيضًا.» إن طبيعة هذه الشائعة ليست معروفة (لاسي ١٩٨٦: رقم ٣٧٤، ٢٣٩ رقم ٨). بعد مرور أسبوع أخبرنا في خطاب كُتب في مدينة بُوتِسْوُولِي في ١٧ من مايو عام ٤٤ قبل الميلاد (١٥. ١. ١٥): «بدأت الشائعة حول الملكة تتلاشى.» في ٢٤ مايو كتب شيشرون: «تمنيت لو كان الأمر صحيحًا بشأن مينيديموس، وتمنيت أن يكون هذا الأمر صحيحًا عن الملكة» (لاسي ١٩٨٦: رقم ٣٨١)، مشيرًا إلى أن الأمر كان مجرد شائعة. يرجع أشهر مراسلات شيشرون التي يشتكي فيها من الملكة ومستشاريها إلى منتصف شهر يونيو عام ٤٤ قبل الميلاد (١٤. ١٥. ٢): «إنَّ تذكُّر غطرسة الملكة نفسها عندما كانت تعيش في ضيعة على الجانب الآخر من نهر التيبر يجعل الدماء تغلي في عروقي؛ لذلك أنا لا أريد التعامل معهم … فأنا أكره الملكة. يعرف أمونيوس، الذي ضمن وعودها، أن لدي الحق في ذلك. [أما فيما يتعلق بالكتب] فقد كانت من النوع الأدبي وتليق بمكانتي، ولا مانع لدي من الإعلان عنها في اجتماع عام. أما بشأن سارا، فبالإضافة إلى وقاحته العامة، أنا شخصيًّا أعتقد أنه متغطرس أيضًا. فأنا لم أره إلا مرة واحدة فقط في منزلي …» (لاسي ١٩٨٦: ٣٩٣). ويُقال (لاسي ١٩٨٦: ٢٦٣) إن سارا ربما يكون اختصارًا لسارابيو الذي كان مستشارًا لوالد كليوباترا بطليموس الثاني عشر، والذي ساعد يوليوس قيصر عام ٤٨ قبل الميلاد ضد أعدائه (قيصر، «الحروب الأهلية» ٣. ١٠٩. ٤)، وأصبح نائب كليوباترا في قبرص عام ٤٣ قبل الميلاد. من الواضح أن كليوباترا لم تكن تعيش في روما في ذلك الوقت. وجاءت إشارة إلى خروجها من المجتمع الروماني؛ ومن ثم بُعدها عن الموضوع الرئيسي للخطابات في آخر موضع ذُكرت فيه كليوباترا؛ ففي ١٤ يونيو عام ٤٤ قبل الميلاد (١٤. ١٧. ٢) كتب شيشرون: «أنا سعيد أنك لست قلقًا على الملكة وأنك توافق على كلامي» (لاسي ١٩٨٦: رقم ٣٩٤).
(١١-١) الأدلة الأثرية على وجود كليوباترا في روما
سنتحدث في الفصل الأخير من هذا الكتاب عن تراث كليوباترا الذي تركته للرومان. ومع ذلك، توجد آثار تدل على زيارة الملكة روما في حياة يوليوس قيصر؛ فيُظهر تمثالٌ لكليوباترا وضعه قيصر بجوار صورة فينوس في معبد فينوس جينتريكس (أبيان، «الحروب الأهلية» ٢. ١٠٢) لفتة مميزة. عندما كان أبيان يمارس مهنة الكتابة في القرن الثاني الميلادي كان التمثال ما يزال في مكانه. نحن لا نعلم شيئًا عن شكله، لكن يُقال إنه كان يُظهر كليوباترا في شكل فينوس/أفروديت وأن نُسخًا مقلدة منه لا تزال موجودة. يُقال دومًا إن التماثيل التي تكون مصحوبة بثعابين هي نُسخ لتمثال كليوباترا الروماني. ومع ذلك، فإن إضافة المرمِّمين ثعبانًا إلى تماثيل السيدات العراة القديمة لا يسهِّل على الإطلاق مهمة التعرف على هوية التمثال (هيجز ٢٠٠١: ٢٠٢). وسنتحدث عن وجود ثعبان على تمثال كليوباترا الذي نُقل في موكب الاحتفال بنصر أوكتافيان في الفصل الثامن. لا يوجد سبب آخر يدفعنا إلى الاعتقاد أن تمثال كليوباترا الذي كان موجودًا في معبد فينوس جينتريكس كان به ثعبان؛ ففي تلك الفترة كان يتبقى ١٥ عامًا على وفاة كليوباترا، كما كانت في موقف سياسي قوي.
تتمثَّل المشكلة، كما هو الحال دومًا مع كليوباترا، في أننا لا نعرف إلا القليل جدًّا عن أحوالها في أثناء زيارتها روما، فلا يمكننا أن نقول يقينًا إن القيصر بطليموس الخامس عشر كان قد وُلد بالفعل، ولكننا نعلم أن كليوباترا لا بد أنها كانت حاملًا في شهر مارس عام ٤٤ قبل الميلاد عندما قُتل القيصر. فربما كان هذا الجانب المتعلق بأمومتها هو ما أرادت التأكيد عليه في أثناء الوقت الذي أمضته في إيطاليا.
أخيرًا، يوجد لدينا تمثال يربط المجتمع المصري بالروماني، صُنع بلا شك في أثناء فترة إقامتها في روما. فقد حُفظت صورتها في شكل رأس من الرخام عليه غطاء رأس وشعر مستعار على الطراز المصري، ويعبِّر هذا التمثال عن الإلهة إيزيس، وحُفظ بلا شك في أحد المعابد المصرية. سنتحدث عن علاقة هذا التمثال بكليوباترا في الفصل السادس من هذا الكتاب. ومع ذلك، فإن وجود معبد مصري في روما في أواخر عهد الجمهورية الرومانية لأمر جدير بالذكر فيما يتعلق بإقامة كليوباترا في المدينة.
عقب وفاة يوليوس قيصر عادت كليوباترا إلى مصر مع أخيها والحاكم المشترك معها بطليموس الرابع عشر. وعقب وصولهما مباشرةً يُقال إن كليوباترا أعدمت أخاها (فرفوريوس ٢٦٠ف، ٢. ١٦-١٧، يوسيفوس، «آثار اليهود القديمة»، ١٥. ٨٩، يوسيفوس، «ردًّا على أبيون» ٢. ٥٨). وسرعان ما أُعلن بطليموس الخامس عشر حاكمًا مشتركًا معها.