وفاة ملكة وميلاد إلهة
(١) المصادر المكتوبة
عقب وفاة كليوباترا مباشرة أحاطت التكهنات بمصرعها. تركز الروايات القديمة على طريقة انتحارها، خصوصًا هل تناولت السم بنفسها أو لدغتها حيَّة. يقول بلوتارخ («حياة أنطونيو» ٨٦): إنه في ظل غياب الملكة عن موكب النصر في روما، أحضر أوكتافيان تمثالًا للملكة ومعها حيَّة. يُترجم عادةً الحال المُستخدم في وصف الحيَّة إلى اللغة الإغريقية في هذا السياق بتعبير «التشبث بقوة». إلى أي مدى أصبح هذا التمثال جزءًا من الأسطورة هي إحدى القضايا التي تستحق أن نأخذها بعين الاعتبار، خاصةً أن الإشارة إليه لم ترد إلا بعد مرور عدة سنوات على الحدث. يبدو محتملًا أن يكون هذا الثعبان، نظرًا لمحدودية فهم الرومان للصور المصرية في القرن الأول قبل الميلاد، مجرد رأس الأفعى الذي يميز التماثيل المصنوعة على الطراز المصري، وأن هذه الحيَّة هي رأس الأفعى الذي يظهر على جبهة التمثال، ولا تعبِّر بالضرورة عن كليوباترا وإنما عن أية ملكة مصرية ترتدي الكوبرا الملكية. وبالطبع يستحيل تحديد المصدر الفعلي لقصة التمثال مع الكوبرا بدقة. يشكك المؤرخون في العصر الحديث في إمكانية تهريب كوبرا يبلغ طولها مترين إلى داخل الضريح. كذلك قيل إن التمثال نفسه هو مصدر فرضية انتحار كليوباترا عبر لدغة ثعبان. كذلك أشار جميع الكُتَّاب الأوائل، مثل سترابو وفيرجيل وبروبيرتيوس وهوراس إلى أن كليوباترا انتحرت عن طريق لدغة أفعى سامة (وايتهورن ١٩٩٤: ١٩١-١٩٢). وهكذا يدور الجدل في حلقة مفرغة. بالطبع من المحتمل أن تكون الشائعة التي تحيط بوسيلة الانتحار لا تمت بصلة إلى الحديث عن التمثال. وتُعتبر المشكلات المتعلقة بتحديد مدى دقة هذه الروايات جزءًا من أسطورة كليوباترا. وأحيانًا يكون من المفيد أن نشكك في الإشارات التي تدعم على نحو مناسب الخط السردي الشائع للرواية التاريخية، بدلًا من مجرد تقبُّلها أو تبريرها.
يقدِّم هوراس في بعض المواضع رواية موجزة لوفاة كليوباترا. تعتمد هذه الرواية على معلومات معاصرة لا بد أنها انتشرت في قطاعات معينة من المجتمع الروماني، ومن الواضح أنها كانت تهدف إلى تكريم أوكتافيان، الذي أصبح يُسمى الآن أغسطس، وتعزيز مكانته، فهو راعي هذه المجموعة من الشعراء والرجل الذي أنقذ الوضع، وهو من يقول عنه هوراس إنه «أخرجها [كليوباترا] من حالة الجنون إلى حالة من الرعب الحقيقي»؛ أي أجبرها كما نقول اليوم على «التحكم في نفسها». تظهر كليوباترا في كتابات هوراس على أنها امرأة مضطربة لم تُكَفِّر عن ذنوبها بالانتحار إلا كي تنقذ نفسها من التعرض لمزيد من الإحراج. لم يكن من السهل أبدًا أن تكون امرأة في عالم يحكمه الرجال، ويبدو من المنطقي استنتاج أن سمعة كليوباترا ساءت نتيجة لعلاقتها بأنطونيو، الذي يبدو أن تصرفاته تعرضت لنقد الكُتاب المعاصرين، بصرف النظر عن علاقته بالملكة. وعليه نجد كليوباترا قد تورطت في فساد مارك أنطونيو، ونجد كذلك أن نقطة ضعفه المتمثِّلة في اتباعه للملكة فكرة رئيسية شائعة في المصادر المكتوبة. وفي نهاية قصيدة هوراس الغنائية نجد تفسيرًا لانتحار كليوباترا لطالما استشهد به كثير من كُتاب سيرتها، فيقول: إن كليوباترا لم تكن تريد الوقوع في الأسر ولا أن تُعرض في روما على أنها إحدى غنائم الحرب.
في قصائد الرثاء لبروبيرتيوس ٣. ١١ تغلبت الضرورة الشعرية بحيث وصف الشاعر كيف أن كليوباترا قُيدت وعُرضت في الموكب في روما وعلامات لدغة الأفعى واضحة على ذراعيها (سلافيت ٢٠٠٢: ٦٧–٧٠). في الواقع تشير مصادر أخرى إلى تمثال للملكة. كتب سترابو بعد وفاتها بوقت قصير، في المجلد ١٧. ١. ١٠، وأشار إلى نظريتين تحيطان بالحدث؛ فكتب أن الملكة خضعت لسلطة أوكتافيان وهي على قيد الحياة لكنها سرعان ما أنهت حياتها بعد ذلك إما عن طريق «لدغة من أفعى أو عن طريق وضع دهان سام» (ترجمة ثاير، طبعة لوب). تشيع فكرة دهاء كليوباترا في الروايات التاريخية لوفاتها؛ فعلى سبيل المثال كتب فيليوس باتركولوس (٢: ٨٧) يقول: إن «كليوباترا تمكنت من مراوغة حراسها اليقظين وهربت أفعى إليها، وأنهت حياتها عن طريق لدغتها السامة دون أن يسيطر عليها خوفها كأنثى» (ترجمة ثاير، طبعة لوب).
لم يرد فعليًّا الحديث بالتفصيل عن وفاة كليوباترا إلا في كتابات بلوتارخ وكاسيوس ديو اللاحقة، فلم يُكتب هذان الكاتبان إلا بعد وقت طويل من وقوع هذا الحادث وتحتوي الروايتان كلتاهما على أجزاء ظنية إلى حدِّ كبير. كذلك فإن رواية بلوتارخ هي مجرد جزء في سيرة مارك أنطونيو.
(١-١) وفاة أنطونيو
كانت هذه المهمة تكاد تفوق قوة أية امرأة، ولم تستطع كليوباترا إلا بصعوبة بالغة، وهي تمسك بالحبل بكلتا يديها وتظهر على وجهها المشوَّه علامات الإنهاك، أن ترفعه إليها، بينما كان الموجودون على الأرض يشجعونها بصيحاتهم ويشاركونها في حزنها.
يخبر بلوتارخ القارئ أيضًا عن رغبات أنطونيو (٥٨)، فيقول إنه ذكر في وصيته أن يُرسل جثمانه إلى كليوباترا في مصر، لافتراضه على الأرجح أنه سيموت في معركة خارج البلاد. انتقد الرومان المآدب التي كان أنطونيو يقيمها، وقراءته لخطابات الحب على الملأ، وهداياه إلى كليوباترا. حتى إن ديليوس (الشاب المفضل لدى أنطونيو) يُقال إنه كان يخشى على حياته (٥٩).
(١-٢) كليوباترا وأوكتافيان
قال أوكتافيان إنه سيمنح كليوباترا أي شيء ضمن حدود المعقول شريطة أن تقتل أنطونيو أو تطرده من مصر. ويمثِّل وصول أوكتافيان إلى مدينة الفرما وما تلا ذلك من استسلامها بداية الاحتلال الروماني (بلوتارخ، «حياة أنطونيو»، ٧٤). يعرف القارئ أيضًا أن كليوباترا بَنَت «عددًا من النصب التذكارية والمقابر المرتفعة الرائعة الجمال بالقرب من معبد إيزيس»، وأنها جمعت ثروتها كلها في مكان واحد. بعد هذا الفصل يركز بلوتارخ على وفاة الملكة (انظر الجزء القادم).
انتقالًا من الحديث عن وفاة أنطونيو، يستمر بلوتارخ في كتابه «حياة أنطونيو» بالحديث عن العلاقة التي تلت ذلك بين كليوباترا وأوكتافيان (٧٨). يقول بلوتارخ إن هذا القائد الروماني كان يخاف من احتمال إضرام كليوباترا النيران في ثروتها وإنه أراد القبض عليها حتى تشارك في موكب النصر الذي سيقيمه في روما. لا شك أن كليوباترا أدركت هذا المصير، فيقول المؤلف إن طلبها الوحيد من أوكتافيان كان تكرارًا لجزء من التماسها الأصلي بالسماح لأطفالها بخلافتها وتولي الحكم في مملكتها. يتفق هذا مع تقديمها لبطليموس قيصر على أنه شريكها في الحكم ووريثها. وفي الفصل ٨٣ تلتقي كليوباترا بأوكتافيان وجهًا لوجه. شمل وصف بلوتارخ لمظهرها الخارجي ملحوظة يقول فيها إن جاذبيتها وجمالها لا تزالان ظاهرة رغم حالة الأسى التي تمر بها. توجد رواية إضافية تحكي عن شخصية كليوباترا الحادة الطبع؛ فعند اكتشافها أن أحد خدمها أخبر أوكتافيان بأنها تخفي جزءًا كبيرًا من ثروتها قفزت الملكة على قدميها وأمسكت به من شعره ولكمته في وجهه.
تظهر قدرة كليوباترا على خداع أوكتافيان؛ ومن ثم إيقاعه في سحرها كما قد يفترض المرء، في هذه الفقرة أيضًا. ادعت كليوباترا أن الكنوز التي وضعتها جانبًا كانت هدايا لأوكتافيا وليفيا (الأولى أخت أوكتافيان والثانية زوجته)، ويخبرنا المؤلف أن القائد الروماني اعتبر هذا علامة إيجابية على رغبة كليوباترا في الحياة.
(١-٣) انتحار كليوباترا
يصور بلوتارخ في الفصل ٦٠ سيدة تقبَّلت قدرها لكن يبدو أنها ما زالت تنكر المصير المحتمل الذي ينتظر حبيبها وكذلك وريث عرشها، فيُقال إن كليوباترا طلبت أن يظل أطفالها على العرش في مصر وأن يعود أنطونيو إلى أثينا، إن لم يُسمح له بالبقاء في مصر (بلوتارخ «حياة أنطونيو» ٧٢). إلا أن طلبها هذا قد رُفض (٧٣).
يذكر بلوتارخ (٧٩) بعد هذا أولى محاولات كليوباترا للانتحار، عندما حاول اثنان من رجال أوكتافيان إلهاءها وتسلق المبنى. حاولت الملكة طعن نفسها لكن منعها بروكوليوس، أحد رجال أوكتافيان، الذي بحث عندها عن سم. جاءت محاولة الانتحار الثانية، بالإضراب عن الطعام، عقب دفن جثمان مارك أنطونيو (٨٢). وفي الفصلين ٨٤ و٨٥ يُذكر حرق جثمان أنطونيو وإشراف كليوباترا على مراسم جنازته، بينما تخطط لموتها.
إذن حزنت كليوباترا على أنطونيو وتوجت الجرة التي تحفظ رماده بطوق من الزهور وقبَّلتها. ثم أمرت بإعداد الحمام لها، وعندما انتهت من حمامها استلقت وأحضر لها الخدم وجبة رائعة. في ذلك الوقت، وصل فلاح مصري يحمل سلة، وعندما سأله الحرس عما بداخلها، أزال أوراق الشجر الموجودة فوقها وأراهم أنها مليئة بالتين. اندهش الحراس من حجم التين وجماله، بينما ابتسم الرجل ودعاهم إلى أخذ البعض منه، وهكذا هدأت شكوكهم وسمحوا له بإدخال فاكهته هذه إلى الملكة. وعندما تناولت كليوباترا عشاءها، أخذت لوحًا كانت قد كتبت عليه شيئًا من قبلُ ووضعت عليه ختمها وأرسلته إلى أوكتافيان قيصر. لم يمضِ وقت حتى صرفت جميع خدمها عدا خادمتين مخلصتين وأغلقت أبواب الضريح.
حاول أوكتافيان إنقاذ الملكة عندما تسلَّم رسالتها، لكنه فشل. ويخبرنا المؤلف أنه عندما فتح حرسه القبر وجدوا كليوباترا في زيها الملكي ومعها خادمتاها إيراس وتشارميون تحتضران. يحتوي الفصل ٨٦ على تحليل بلوتارخ للقصص المحيطة بوفاة كليوباترا. توجد قصتان محتملتان؛ الأولى: أنه كان هناك ثعبان مخبأ تحت أوراق الشجر في سلة التين وعندما أزالت كليوباترا التين لدغها في ذراعها. أما الرواية الثانية فتقول إن الثعبان أُحضر في وعاء وإن الملكة استفزته بوخزه بإبرة ذهبية حتى هاجم ذراعها. أما النسخة الثالثة من هذه القصة فتبدو الأكثر احتمالًا وهي: أن كليوباترا كانت تحمل مشطًا مجوفًا في شعرها تُخزن فيه السم. تبدو حيرة بلوتارخ واضحة؛ فهو يقول إنه لم يُعثر على أية أفعى ولم يبدُ على الملكة العلامات المعتادة لرد الفعل تجاه السم. ويُعلق على هذا قائلًا إنه ورد عن بعض الناس رؤية ثقوب في ذراعها. ويبدو أن أوكتافيان كان يدعم نظرية الثعبان؛ لأنه عرض في موكب انتصاره بدلًا من الملكة نفسها تمثالًا لها مع أفعى. دُفنت كليوباترا بجوار أنطونيو ويُقال إن جثمانها وُضع بجوار جثمانه. أنقذ أرشيبيوس، أحد أصدقائها، تماثيلها ودفع إلى أوكتافيان ألفَي تالانت من أجل إنقاذها. ويُقال إن هذه التماثيل كانت مصرية وما زالت موجودة (ووكر وهيجز ٢٠٠١).
يتحدث سويتونيوس أيضًا عن وفاة كليوباترا، وإن كان بإيجاز، في كتابه «أغسطس المؤلَّه» (١٧). فيقول للقارئ: إن أغسطس «أراد بشدة أن يسوق كليوباترا وهي أسيرة في موكب انتصاره، حتى إنه أحضر أفارقة معروفين بقدرتهم على التعامل مع الثعابين من أجل مص السائل المسموم من لدغة الثعبان في ذراعها.» ويقول أيضًا إن أغسطس كرَّم الملكة ومارك أنطونيو بالسماح بإتمام العمل في القبر الذي بنت جزءًا منه وبالسماح للاثنين بأن يُدفنا معًا.
كتب ديو، مثل بلوتارخ، عرضًا مطولًا لوفاة كليوباترا (بدءًا من الفصل ١٠ فصاعدًا)، وتشبه الرواية إلى حد كبير رواية بلوتارخ في كتابه «حياة أنطونيو». تبدأ القصة بهروب كليوباترا إلى قبرها ومعها رجل مخصي وخادمتان. وكما في رواية بلوتارخ ترسل رسالة إلى مارك أنطونيو تقول له فيها إنها قد ماتت. وفي رواية ديو طلب أنطونيو من الواقفين قتله، لكن رفيقه قتل نفسه. أراد أنطونيو أن يحاكي شجاعته وطعن نفسه بسيفه، وسقط على الأرض. اعتقد الباقون أنه مات. وهنا يرد وصف مفصل للقبر الذي حبست كليوباترا نفسها فيه، فيذكر المؤلف أن الأبواب كانت مغلقة بإحكام، لكن الجزء العلوي بالقرب من السقف لم يكن قد اكتمل بعد في ذلك الوقت. «حُمل أنطونيو إلى الضريح ورُفع إلى أعلى المبنى بالحبال التي كانت تتدلى من أجل رفع كتل الحجارة. وتُوفي أنطونيو هناك بين ذراعي كليوباترا» (ترجمة ثاير، طبعة لوب).
في الفصل ١١، بعد وفاة أنطونيو، استطاعت كليوباترا تحويل اهتمامها وعاطفتها تجاه أوكتافيان، إذا كان لنا أن نصدِّق كلام ديو. فيقول: إن كليوباترا وثقت في أوكتافيان، لكن ليس بالكامل. ويقول ديو: إن الملكة ظلت في ضريحها ومعها «نار من أجل إحراق ثروتها» ومجموعة من «الأفاعي والزواحف الأخرى من أجل قتل نفسها، وجربت هذه الحيوانات على أشخاص، حتى ترى كيف تقتل في كل مرة». كان هدفها شراء عفو والحفاظ على مصر. ويتفق هذا مع رواية بلوتارخ عن الأحداث.
يقول ديو، مثل بلوتارخ، إن أوكتافيان كان حريصًا على الإمساك بكليوباترا وهي على قيد الحياة حتى يقدِّمها في موكب انتصاره. يوجد اتفاق بوجه عام بين المؤرخين القدماء والمعاصرين على أن خوف كليوباترا من حدوث هذا هو ما دفعها إلى الانتحار. وعقب المحاولة الأولى الفاشلة، أرسل أوكتافيان رجلًا مُحررًا آخر إلى كليوباترا وهو جايوس بروكوليوس، الذي قبض على الملكة قبل نهاية اجتماعه بها، وأبعد عنها الأشياء سابقة الذكر التي قد تؤذي بها نفسها وتدمر بها أيضًا ثرواتها. هكذا لم يبقَ أمام كليوباترا إلا أن تحنط جثمان أنطونيو ثم أُخذت فيما بعد من الضريح إلى القصور الملكية. بعدها طلبت الملكة لقاء أوكتافيان.
بعدما قالت هذا، أكملت قراءة الكثير من التعبيرات العاطفية التي كتبها القيصر. وعندها كانت تنتحب وتُقبِّل الخطابات، ومن جديد ركعت أمام صوره وأخذت تظهر لها الاحترام والتبجيل. ظلت تحوِّل عينيها تجاه أوكتافيان قيصر وترثي مصيرها بنبرات حزينة. وتحدثت بصوت مؤثر متسائلة مرة: «فما جدوى خطاباتك هذه لي يا قيصر؟» ثم أضافت: «لكنني أراك حيًّا في هذا الرجل الموجود هنا» ومن جديد هتفت «يا ليتني مت قبلك» مضيفةً «لكن ما دام هو معي، فكأنك أنت معي». كان تلك هي أساليب الدهاء التي استخدمتها في حوارها وتصرفاتها، فكانت ترمقه بنظرات عذبة وتهمس إليه بكلمات رقيقة. (ترجمة ثاير، طبعة لوب)
أولًا أعطت أبافروديتس رسالة مغلقة كي يوصلها بنفسه إلى أوكتافيان قيصر، ترجوه فيها أن يُصدر أمرًا بدفنها بجوار أنطونيو، وتظاهرت بأن الرسالة تتحدث عن أمر آخر، ثم بعد أن تخلصت بهذه الحُجة من وجوده معها، بدأت في تنفيذ مهمتها، فارتدت أجمل ثوب لديها، وجلست في أنسب وضع ممكن، وأمسكت بيديها جميع شعارات الملكية، وهكذا ماتت. (ترجمة ثاير، طبعة لوب)
من الواضح أن لا أحد يعلم الطريقة التي ماتت بها؛ إذ إن العلامات الوحيدة الموجودة على جسدها كانت مجرد ثقوب خفيفة على ذراعها. يقول البعض إنها وضعت أفعى على جسدها كانت قد أُحضرت إليها في إناء للماء، أو ربما كانت مخبأة في بعض الزهور. يقول آخرون إنها دهنت دبوسًا اعتادت ربط شعرها به ببعض السم الذي كان يملك خاصية أنه لا يؤذي الجسم في الظروف العادية على الإطلاق، لكنه إذا وصل ولو حتى إلى قطرة واحدة من الدم فإنه يدمر الجسم بهدوء ودون ألم. وإنها كانت تضع هذا الدبوس من قبلُ كالمعتاد في شعرها، لكن وقت وفاتها صنعت جرحًا سطحيًّا في ذراعها وغرست الدبوس في دمها. حدثت وفاتها إما بهذه الطريقة أو بطريقة أخرى مشابهة، ومعها اثنتان من خادماتها. أما بالنسبة للمخصي؛ فقد ذهب بإرادته إلى الأفاعي عندما قُبض على كليوباترا، وبعدما تعرض للدغ قفز داخل كفن كان مُعدًّا له. (ترجمة ثاير، طبعة لوب)
يقول المؤلف إن أوكتافيان صدمه خبر انتحار كليوباترا. يشير ديو أيضًا إلى الأفارقة الذين ذكرهم سويتونيوس، الذين حاولوا إنقاذ الملكة. وعلى الرغم من ذكر ديو أن كليوباترا كانت تحتفظ بزواحف وتضع فكرة الانتحار في ذهنها، فإنه لا يذكر إلا أن المخصي قتل نفسه بلدغة ثعبان (بالدوين ١٩٦٤: ١٨٢). ومع ذلك، فإن حقيقة ذكر كلٍّ من بلوتارخ وديو أن أغسطس حاول إنقاذ كليوباترا باستخدام قدرات الأفارقة تشير إلى أنه كان يعتقد أنها استخدمت سم الثعبان في الانتحار (بالدوين ١٩٦٤: ١٨٢)، ورغم ذلك من غير المعروف إذا كان هذا الجزء من القصة قد استُخدم لمجرد توضيح محاولاته لإبقاء الملكة على قيد الحياة. كذلك لا يعني تطابق روايتي مؤلفَين بالضرورة دقة عملهما، وإنما أنهما استخدما المصادر المكتوبة نفسها في عملهما.
عندما فشل أوكتافيان في إنقاذ كليوباترا «أُعجب بها وأشفق عليها على حد سواء، وحزن بشدة، كما لو كان قد حُرم من كل مجد انتصاره.» يواصل ديو في الفصل ١٥ تحليل شخصية هذين الزوجين اللذين «سبَّبا كثيرًا من المآسي للمصريين وللعديد من الرومان؛ فشنَّا حربًا ولقيا حتفهما بالطريقة التي وصفتها». يقول المؤلف إن الزوجين حُنِّطا ودُفنا في القبر نفسه.
يشكك عدد قليل من المؤلفين في صحة الظروف المحيطة بوفاة كليوباترا، ويفضلون تكرار الرواية المألوفة عن الأيام الأخيرة في حياة الملكة. في عام ١٩٢٥ لم يكتفِ شبيجلبيرج بقوله إن كليوباترا السابعة ماتت بلدغة الثعبان فحسب بل زعم كذلك أن الدلالة الرمزية المرتبطة بالثعبان كانت مقصودة وطريقة الوفاة منتقاة بعناية. تتمثَّل الدلالة الرمزية التي أشار إليها شبيجلبيرج في الكوبرا الملكية التي تحمي الحُكام وبعض الآلهة. ناقش جريفيث (١٩٦١: ١١٣–١١٨) هذه الفرضية وكان محقًّا إلى حد ما في شكه في فكرة تحول رمزٍ الغرض منه حماية الحاكم إلى عكس الغرض منه. كان جريفيث مُحقًّا أيضًا في شكه في نظرية أخرى قدمها شبيجلبيرج تقول إن الثعبان كان مرتبطًا بالإلهة إيزيس؛ فإن هذه العلاقة، وفقًا لاستنتاج جريفيثس، اختراع روماني ظهر في وقت لاحق ولا يوجد أي دليل من العصر البطلمي يشير إلى ظهور كوبرا مع إيزيس، باستثناء تلك التي كانت تزين تاجها أو تظهر على جبهتها (أشتون ٢٠٠٤ج: ٥٦–٦٠). هذا وقد ترسخت الدلالة الرمزية الكلاسيكية للثعبان على أنه كائن يرتبط بالهلاك قبل وفاة كليوباترا بوقت طويل، ونظرًا لأن المؤلفين الذين ذكروا هذا الأمر كانوا أنفسهم جزءًا من الثقافة الكلاسيكية فمن غير المنطقي استنتاج أن تكون نظرية الأفعى مرتبطة بالأدب الإغريقي (بالدوين ١٩٦٤: ١٨١).
(٢) المواقف القديمة تجاه الانتحار
لعبت روما دورًا مهمًّا في قصة انتحار كليوباترا، رغم أنه من المهم التأكيد على أن إزهاق الملكة لروحها أراحها إلى حد ما من نقادها؛ ففي الثقافة الإغريقية القديمة كان الانتحار بالسم وسيلة لإعدام السجناء، وربما كان سقراط أحد أشهر الشخصيات التاريخية التي أُجبرت على شرب سم الشوكران. نُشرت دراسة عن الانتحار في العالم القديم عام ١٩٩٠ (فان هوف) وتضم أمثلة أسطورية وتاريخية، فيستعرض فان هوف أسباب الانتحار المختلفة ويستنتج أن كليوباترا يُفضل إدراجها تحت فئة الانتحار الناتج عن الخزي أو لكونها «لم تعد ما كانت عليه» (فان هوف ١٩٩٠: ١٠٧–١٢٠، خاصة ١١٥)، وفي هذا الإطار تبدو دوافع الخزي (١١٠) والرغبة في الهروب من الأسر (١١١) أسبابًا محتملة. ومع ذلك، توجد أسباب أخرى يحتمل توافقها مع موقف كليوباترا، مثل اليأس (٨٥–٩٤) والحزن (٩٩–١٠٥)، وهي أسباب معقولة أيضًا لانتحار الملكة.
استعرضت الدراسة أيضًا وفاة خدم كليوباترا بجانب وفاة الملكة، فيقول فان هوف إنه لم تكن هناك أمثلة سابقة قبل «الحقبة الهيلينية» على قتل الخدم لأنفسهم بسبب وفاة مالكهم (فان هوف ١٩٩٠: ١٨). وهو استنتاج تعوزه الدقة؛ ففكرة دفن الخدم مع الموتى كانت موجودة بالفعل في الأسرة الأولى في مصر؛ فالمقابر الملكية في مدينة أبيدوس تشير إلى أن الحُكام كانوا يُدفنون مع خدمهم. كذلك يوجد بعض الروايات في مصر عن اختيار أشخاص على قيد الحياة ودفنهم بجوار مالكهم/أفراد أسرتهم. ومنذ عهد الفترة الانتقالية الثانية في مصر احتلت تماثيل شبتي/أوشبتي الصغيرة محل الخدم الحقيقيين؛ ومن ثم يبدو انتحار تشارميون وإيراس نابعًا على الأرجح من مفهوم دعم المتوفى في الحياة الأخرى الموجود في الثقافة المصرية، بالإضافة إلى إظهار ولائهما للملكة.
تثني المصادر الرومانية المكتوبة على شجاعة كليوباترا بانتحارها. يصور هوراس كليوباترا على أنها شخصية فاسقة، لكنها تتمتع بشجاعة الرجال «فهي لم ترتعد من الخوف، مثل النساء، عند التفكير فيما قد يفعله الخنجر»، فيشير هوراس مرتين في البيت الشعري نفسه إلى شجاعتها وفي المقطع نفسه توجد إشارة إلى تسممها بسم الثعبان؛ فقد نظر الرومان إلى اختيارها الانتحار على الأسر بإعجاب شديد؛ فعلى الأقل تصرفت تصرفًا شريفًا، على ما يبدو.
وفي المجلد الثاني من كتاب فيليوس باتركولوس «الأحداث التاريخية» تُصوَّر كليوباترا على أنها مثال آخر على ضعف أنطونيو أكثر من كونها سببًا في هلاكه. يكفر أنطونيو عن أخطائه بالانتحار في الفصل ٨٧ ثم يخبر المؤلف القارئ بأن كليوباترا أنهت حياتها بسم أفعى «دون التأثر بخوف النساء». هذا ويلمح يوسيفوس («الحرب اليهودية» ١ ٢٠. ٣. ٣٩٦-٣٩٧) إلى شجاعة كليوباترا في سياق الحديث عن وفاتها، وتظهر في القصيدة الغنائية ٣٧ لهوراس، الذي كتب يقول: «زادت قسوتها عندما أصبحت في مواجهة الموت. فنظرت بشجاعة، كأنها لا تبالي، إلى حُطام قصرها، ومدت يدها في جرأة ولمست الثعابين السامة، ثم رفعتها إليها وأحكمت قبضتها عليها، وقربتها منها كي يشرب قلبها حتى يرتوي من سمها الأسود» (ترجمة فيري ١٩٩٧: ٩٧).
نادرًا ما يظهر الانتحار في الكتابات المصرية؛ فقد سُمح للموظفين بإزهاق أرواحهم بعد مؤامرة الحريم التي حدثت في أثناء حكم رمسيس الثالث، الذي حكم تقريبًا من ١١٨٤ حتى ١١٥٣ قبل الميلاد (تايلور ٢٠٠١: ٤١). وحدثت حالة الانتحار الأخرى الوحيدة الموثقة جيدًا بعد فترة من عهد كليوباترا السابعة؛ وكانت لأنتينوس حبيبة الإمبراطور هادريان، التي غرقت في النيل عام ١٣٠ ميلاديًّا (لامبرت ١٩٨٤: ١٢٨–١٤٢). وتُعتبر حالة الانتحار أو هذه الحادثة على وجه الخصوص — التي تزخر المصادر بالتكهنات عنها — مختلفة بسبب وجود اعتقاد في أن الذين يتعرضون للغرق هم مباركون (تايلور ٢٠٠١: ٤١). منح الإمبراطور هادريان أنتينوس مكانة الربة وانتشرت العقيدة التي خصصها لهذه الإلهة الجديدة بنجاح من مصر إلى جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية.
يوجد أيضًا نص أكثر قدمًا يعود إلى المملكة الوسطى (بردية برلين ٣٠٢٤؛ فوكنر ١٩٥٦: ٢١–٤٠)، يتوسل فيها رجل لروحه كي تنهي حياته. يقول هذا الرجل إن اسمه مبغوض أكثر من رائحة النسور (فوكنر ١٩٥٦: ٢٧، السطر ٨٧)، ويقارن الموت «بتعافي رجل مريض، أشبه بالخروج من أبواب السجن بعد الاعتقال» (فوكنر ١٩٥٦: ٢٩، السطر ١٣١). ومع ذلك لا أستطيع أن أرى في قراءة فوكنر للنص دليلًا يشير إلى أن هذا الرجل يعتزم إزهاق حياته؛ فإنه يتوسل لروحه أن تخرج من جسده حتى يتسنى له خوض شعائر الانتقال الضرورية للحياة الأخرى. وينتقد المتحدث في هذا النص روحه لعدم قدرتها على التخفيف من معاناته ويتوسل إلى روحه أن تتصرف بعقلانية. وكما يشير فوكنر في تعليقه على النص، يذكِّرنا آخر سطرين بمشهد عودة الروح إلى الجسم بعد الموت، وأن هذا الرجل، وفقًا للمعتقدات المصرية القديمة، إذا مات بأسباب طبيعية ودُفن بالطريقة الصحيحة فإنه ليس ثمة ما يمنع روحه من العودة والسماح بميلاده مرةً أخرى في الحياة الآخرة (١٩٥٦: ٤٠).
يتمثَّل المفتاح إلى الحياة الآخرة لدى المصريين في أن تظل أجسادهم الفانية سليمة حتى يُتاح لروح الفرد العودة إلى جثمانه. وبمجرد أن يتمكن المتوفى من الإجابة عن مجموعة من الأسئلة ويظهر أن قلبه (ومن ثم ضميره) نقي وأخف فعليًّا من ريشة العدالة، فإنه يولد مرةً أخرى في الحياة الآخرة عندما تشرق الشمس فوقه لمدة ساعة واحدة في كل ليلة (تايلور ٢٠٠١: ١٥–٤٤)؛ ومن ثم فإن مفتاح الحياة الآخرة لدى المصريين كان يتمثَّل في بقاء الجسم سليمًا. وكما يشير كثير من كُتاب السيرة في العصر الحالي، لم تكن كليوباترا ملكة فحسب وإنما كانت إلهة في حياتها، ولهذا لم تكن تخشى الموت، كما تُظهر النصوص. إن وجهة النظر هذه مبسطة إلى حد ما وبينما توجد روايات عن احتفال عامة الشعب بوفاة الملك؛ ومن ثم ولادته مرةً أخرى في شكل أوزوريس، لم تتحول كليوباترا المتشبهة بإيزيس إلى حتحور الغرب بمثل هذه السهولة.
كان الملوك المصريون يحصلون على عبادة جنائزية، حيث يخصص مجموعة من الكهنة لرعاية المتوفى. كانت هذه المعابد منفصلة عادةً عن القبور، حيث يرتاح الجسد، وتعبِّر عن الاستمرار الرمزي للاهتمام بروح المتوفى. يختلف هذا المفهوم عن العبادات البطلمية للملوك والملكات التي تظهر بعد موتهم، حيث يتحول المتوفى عند وفاته إلى إله؛ ففي السياقات المصرية التقليدية يُمجد المتوفى في وضع الموت ولا يُكتفى بمجرد الاحتفاء بحياته وانتقاله. تقع عبادة أرسينوي الثانية نوعًا ما بين المفهومين؛ فنرى أن الملكة قُبلت ضمن هيكل الآلهة، لكنها لم تحصل على هذه المكانة إلا بسبب وفاتها.
من ثم، عندما يشير المؤرخون في العصر الحديث إلى عدم وجود ما يدعو كليوباترا إلى السعي إلى الخلود بسبب مكانتها كإلهة وهي على قيد الحياة (وايتهورن ١٩٩٤: ١٩٣)، فإنهم لا يدركون بالكامل مفهوم الموت لدى المصريين. يختلف هذا المفهوم تمامًا عن مفهوم الإلهة الحية. إن عبادة كليوباترا بوصفها أحد الآلهة ستستمر، لكن دورها كحاكمة فانية يحتم عليها التأكد من اجتيازها موقف الحساب من أجل الوصول إلى الحياة الأخرى. ويمكننا بالطبع في هذه الحالة افتراض أن كليوباترا كانت تمارس شعائر الديانة المصرية، فإذا كان أفراد العائلة الملكية المتوفَّون يدفنون وفقًا للشعائر المصرية في عهد قديم يرجع إلى القرن الثالث قبل الميلاد، فمن المرجح أن يحصل حاكم في القرن الأول على مثل هذا الشرف. وإذا كان المصريون مخطئين رغم كل شيء في تصورهم للحياة الآخرة، فإن كل شيء كان مهيأً لحياة الإغريق الآخرة، لكن إذا عكسنا هذا الوضع فلن تتحقق النتيجة نفسها.
(٣) القتل: نظرية بديلة
لا توجد نظرية مؤامرة قديمة تدور حول علاقة أوكتافيان بوفاة كليوباترا. ومع ذلك، شكك بعض المؤرخين في أواخر القرن التاسع عشر في درجة تورط أوكتافيان في الحادث (وايتهورن ١٩٩٤: ١٩٤). لم يكن التساؤل يدور بشكل مباشر حول قتل أوكتافيان لكليوباترا، وإنما بتسهيله لانتحارها عن طريق عدم توفير حراس لمراقبتها، فكما يشير وايتهورن لم يكن يجب سجن ملكة بالطريقة نفسها التي تُسجن بها الشخصيات غير الملكية (١٩٩٤: ١٩٥)، ويشير إلى إشارتين قديمتين لمحاولة انتحارها في كتابات بلوتارخ للدلالة على أن رغبتها تلك كانت مؤكدة. وبالطبع من المحتمل أن بلوتارخ كان يمهد بذلك لختام روايته. يدرك وايتهورن هذا الأسلوب الأدبي جيدًا ويشير إليه في بداية الفصل الذي يتحدث فيه عن وفاة كليوباترا، لكنه يستخدم الإشارتين هنا من أجل إظهار عزمها على الموت. وأنا أذكر هذه النقطة لأوضِّح مدى سهولة إمكانية تقبُّل المؤرخ للأجزاء التي تدعم حججه في إحدى الروايات في حين يرفض الأجزاء التي لا تدعمها.
مؤخرًا أبدت حلقة تليفزيونية خاصة مدتها ساعة من إنتاج شركة أتلانتك لقناة ديسكفري الولايات المتحدة/القناة الخامسة اهتمامًا بوفاة الملكة. في هذه الحلقة بعنوان «غموض وفاة كليوباترا» استخدم المحلل الجنائي بات براون مصادر رومانية مختارة من أجل تحديد هل انتحرت كليوباترا أم قُتلت. لم يشكك أيٌّ من المصادر الرومانية في إنهاء كليوباترا لحياتها؛ ففي الواقع يبدو كثير من الكُتاب المعاصرين والقدماء على حد سواء، حريصين على التأكيد على تعامل أوكتافيان الرحيم مع مارك أنطونيو والملكة عند وفاتهما. ولن يعرف أحد أبدًا ما إذا كانت هذه الشفقة الظاهرية تخفي وراءها قاتلًا وليس مجرد قائد أراد استعراض كليوباترا في موكب انتصاره. ومع ذلك ليس ثمة ما يدعم هذه النظرية؛ فلا تقدِّم التقييمات النفسية للحُكام المتوفين الموجودة في المصادر الثانوية أية مساعدة تُذكر في تحديد قدرة شخص ما على الانتحار. وتوجد المشكلة نفسها في الروايات القديمة لكنها تسمح لنا على الأقل بمعرفة الرواية الرومانية الرسمية لوفاة كليوباترا.
استنتج مقال عام ١٩٩٠ أن كليوباترا كانت تعاني من اضطراب الشخصية النرجسية (أورلاند وآخرون، ١٩٩٠: ١٦٩–١٧٥). يوصف اضطراب الشخصية النرجسية بأنه نمط متغلغل من الشعور بالعظمة، سواء كانت العظمة حقيقية أم خيالية. يشتهي المصابون بهذه الحالة الإعجاب ويفتقرون إلى التعاطف مع الآخرين. قد تصل المؤشرات على المرض إلى خمسة أو أكثر من الأعراض التالية: تضخم الإحساس بأهمية الذات، تضخيم المصابين لإنجازاتهم، تخيُّل النجاح أو الجمال أو الذكاء أو السلطة أو الحب المثالي، الاعتقاد في تميزهم أو تفردهم، الحاجة إلى إعجاب الأخرين المفرط بهم، وجود توقعات غير منطقية، استغلال الآخرين من أجل تحقيق أهدافهم، عدم الاستعداد لإدراك مشاعر الآخرين أو الاعتراف بها، الشعور بالحسد تجاه الآخرين أو الاعتقاد في حسد الآخرين لهم، التصرف بتكبر. من الواضح أن نقاد كليوباترا اعتقدوا أنها كانت تعاني من اضطراب الشخصية النرجسية، رغم أنهم لم يطلعوا بالتأكيد على مثل هذا التشخيص. وربما من الجدير بالذكر أن معظم الزعماء في التاريخ، كما يرد في المصادر الأدبية، لديهم على ما يبدو بعض من السمات السابقة. ولا يسعني إلا افتراض أن حقيقة كون كليوباترا امرأة جعلت السمات الشخصية التي تبديها، والتي عادةً ما تُدعَّم في الرجال، غير مقبولة أو مستهجنة.
(٤) مراسم الدفن القديمة والمعاصرة
في القرن الثالث قبل الميلاد حُرق بعض الإغريق في الإسكندرية وحُفظ رمادهم في إناء خزفي شاع استخدامه في حفظ الماء (يدعى هيدريا). وفي الجزء الأول من القرن العشرين عُثر على كثير من هذه الأواني في الضاحية الشرقية الجنائزية من الحضرة في الإسكندرية؛ ولذلك عُرفت هذه الأواني، التي يُنقش عليها عادةً اسم المتوفى، باسم «أواني الحضرة». أظهر التحليل أن كثيرًا من هذه الأواني تم استيرادها من جزيرة كريت اليونانية ثم أضاف أهالي الإسكندرية عليها بصمتهم. ومع ذلك، لم يمضِ وقت طويل حتى بدأ الحرفيون المصريون في تقليد شكل هذه الأواني وزخارفها، وبالتالي سمحوا لعائلة المتوفى باختيار مشهد مناسب يعبِّر عن مهنة المتوفى أو هوايته المفضلة. ومن المرجح أيضًا أن هذه الأواني كانت تُصنع قبل الوفاة (لايتفوت في كتاب من تحرير ووكر وهيجز، ٢٠٠١: ١١٧–١٢٠).
من ناحية أخرى، كان قسم آخر من أهالي الإسكندرية — الصفوة على الأرجح — يُدفنون في مقابر مزخرفة بإتقان. حمَل بعضٌ من غرف الدفن هذه ملامح مصرية، لكن سيطر الطراز الإغريقي على زخارفها وتوابيتها. حُفرت جميع هذه القبور في الصخر لذا توجد تحت سطح الأرض، ويمكن الوصول إليها عن طريق درج (فنيت ٢٠٠٢: ٤٦)، وتُظهر القبور في منطقة الفنار القديم بحي الأنفوشي (القبر ٢) المشاهد والسمات المعمارية التي تُميز القبور المصرية التقليدية متجسدة في قبور إغريقية خالصة أُقيمت في وقت قديم يرجع إلى القرن الثاني قبل الميلاد (فنيت ٢٠٠٢: ٧٧–٨٥). وتشبهها القبور الموجودة في منطقة مصطفى باشا كامل (فيداك ١٩٩٠: ١٣١-١٣٢). يحتوي القبر رقم ١ في هذا الموقع على سمات معمارية ورسومات على الطراز الإغريقي، لكنه يحتوي على تماثيل لأبي الهول تحمي المداخل إلى الحجرات المتعددة (فنيت ٢٠٠٢: ٥٠–٦١). يقترب استخدام تماثيل أبي الهول في مقابر مصطفى باشا من الأسلوب الإغريقي، حيث كانت الحيوانات، خاصةً الأسود، تحرس المقابر في القرن الرابع قبل الميلاد. في الثقافة المصرية تحمي عادةً تماثيل أبي الهول أروقة المواكب في المعابد. كانت هذه القبور تنتمي إلى مواطن إغريقي غني لكنها لم تكن تذكارية على غرار القبور الملكية.
يوجد قبران آخران تجدر الإشارة إليهما في هذا السياق. يُعرف الأول باسم قبر الألباستر (بوناكاسا ومينا ٢٠٠٠)، وارتبط عادةً بقبر الإسكندر. كان كثيرًا ما يفترض أن هذا البناء الصخري المنفرد يوجد فوق مجموعة من الحجرات الموجودة تحت الأرض، لكن عمليات السبر التي أجريت مؤخرًا تحت البناء دحضت هذه الفرضية (أمبرور، مراسلات شخصية ٢٠٠٤). يوجد هذا القبر حاليًّا في منطقة تُسمى المقابر اللاتينية، تقع على حدود المنطقة التي عُرفت بأنها وسط المدينة القديمة. رغم مقارنة تصميم قبر الألباستر بالمقابر المقدونية، فإنه أكثر شبهًا بمقام مقدس في مظهره الخارجي، وربما كان جزءًا مخصصًا للدفن من معبد صغير أو ربما كان مجرد مقام.
يتخذ أحد القبور التذكارية القليلة التي لا تزال موجودة حتى الآن شكلًا مصغرًا من منارة الإسكندرية ويقع خارج الإسكندرية على بحيرة مريوط في قرية أبو صير (أمبرور ٢٠٠٢: ٢٢٢–٢٢٥). يوجد تحت البناء قبر صغير؛ وقد حُفرت القبور في الصخر وهي ترجع إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وليس واضحًا إذا كان هذا النموذج الذي يبلغ ربع حجم المنارة كان يُستخدم كقبر في الأساس أم أنه استُخدم فقط كشاهد للقبر (أمبرور ٢٠٠٢: ٢٢٥). يقول فيداك (١٩٩٠: ١٣٣) إن هذا البناء كان جزءًا من التصميم الأصلي للقبر.
يوجد أيضًا ضريح الإسكندر وأسرة البطالمة الملكية، الذي عُرف باسم سيما أو سوما. هذا الضريح السكندري هو ثاني ضريح للإسكندر؛ فقد كان جثمانه يوجد في البداية في العاصمة القديمة ممفيس (هولبل ٢٠٠١: ١٥)، على الأرجح بينما كانت تُبنى العاصمة الجديدة. هذا وتشير المصادر الأدبية القديمة إلى أن بطليموس الأول أنشأ عبادة للإسكندر في قبره وأن أفراد أسرة البطالمة الحاكمة دُفنوا بجوار هذا الحاكم (هولبل ٢٠٠١: ١٦٩-١٧٠). ويدعم هذه المصادر الكهنوت الذي سُمي على اسمه والذي تكوَّن من أجل خدمة عبادات حُكام وملكات البطالمة المتوفين (أشتون ٢٠٠٣أ: ١٢٣–١٢٨ ملخص). وفي أثناء حكم بطليموس الرابع (٢٢٢–٢٠٤ قبل الميلاد) أُعيد بناء قبر الإسكندر (زينوبيوس ٣. ٩٤، وسترابو ١٨. ١. ٨)، وأُدخلت إصلاحات على العبادات الملكية، فتوسع مجمع القبر والمعبد وتغير الطراز ليضم هرمًا؛ مما أضفى على شكل المقبرة مزيدًا من الطابع المصري، لتحاكي المعابد الجنائزية للمملكة الحديثة.
توجد معابد جنائزية وقبور ملكية مصرية قديمة قد تكون كليوباترا بنت ضريحها على غرارها. يمثِّل معبد حتشبسوت الجنائزي في الضفة الغربية من مدينة طيبة نظيرًا محتملًا لمعبد كليوباترا الجنائزي الصغير. يحتفي هذا البناء المهيب بإنجازات واحدة من ملكات مصر القلائل بطريقة تقليدية، وتكمن قوته أيضًا في عرض الأقارب السيدات للملكة التي تُوفيت مؤخرًا. بُني معبد حتشبسوت؛ النصب التذكاري المهيب للحاكمة المتوفاة، بالقرب من موقع معبد أقدم يرجع إلى عهد المملكة الوسطى. تظهر الصور في النقوش البارزة التي تزين المعبد إنجازات هذه الحاكمة وتظهر قوتها في تأدية دور الملك.
(٥) ضريح كليوباترا
يفترض المتخصصون في الدراسات الكلاسيكية أن تصميم ضريح كليوباترا كان إغريقيًّا؛ إذ تصور معظم «عمليات إعادة البناء» مبنى لا يختلف كثيرًا عن قبور القرن الرابع مثل قبر الحاكم موسولوس في مدينة هاليكارناسوس، الذي يحتوي على غرفة تحت سطح الأرض ودور أول مرتفع عن سطح الأرض. أعاد فرومر (جريم ٢٠٠٣: ٤٨-٤٩) تصميم مخطط افتراضي لقبر كليوباترا على طراز إغريقي بالكامل. يتكون البناء المقترح من طابق أرضي وطابق أول، مع وجود أعمدة زخرفية في بوابة المبنى وباب في الطابق الأرضي. يحتوي الطابق الأول على نوافذ ويوجد بالداخل سُلم واحد على الأقل يصل إلى هذا الطابق ورواق يسمح بدخول الضوء إلى داخل جميع أرجاء المبنى. شكك وايتهورن أيضًا في صحة ولاء كليوباترا للثقافة المصرية، مشيرًا إلى أنها كانت إغريقية مقدونية وظهرت على هذا النحو على العملات (١٩٩٤: ١٩٣). لكن الأبحاث الأخيرة أظهرت أن كليوباترا كانت مصرية أكثر بمراحل من كونها إغريقية، ويجب ألا ننسى أن ضريحها كان في كثير من النواحي نصبًا تذكاريًّا يعبِّر عن مشاعر شخصية عارمة، على عكس العملات التي صدرت في ظل وضع أهداف دولية وسياسية في الاعتبار.
لا يوجد دليل يدعم فرضية أن قبر كليوباترا كان بالكامل على الطراز الإغريقي؛ فعلى الأقل قد يفترض المرء وجود بعض الرموز المصرية، مثلما يوجد في بعض القبور الأقدم عهدًا في الإسكندرية، كما أشرنا سابقًا. يدعي بلوتارخ وديو أن المبنى كان مكونًا من طابقين. وكما رأينا استخدم الكُتاب القدماء رمزية الطابق الأول من أجل إظهار ضعف مارك أنطونيو (الذي رُفع جسمه الضعيف المصاب إليه)، وضعف كليوباترا التي احتُجزت فعليًّا مع ما بقي من ثرواتها. يفترض الباحثون بناءً على هذا أن القبر كان على الطراز الإغريقي. بُني بعض المعابد المصرية الجنائزية، مثل معبد حتشبسوت المذكور آنفًا في الدير البحري، على عدة طوابق، وتحتوي معابد البطالمة على سُلم بداخلها يصل إلى الطابق الأول. وعلى الأرجح يُعتبر معبد حتحور في دندرة أكثر مثال مناسب على هذا من حيث تاريخه وارتباطه بكليوباترا السابعة. يعتمد كثير من الأمور على حجم القبر وقاعة الصلاة به وعلى ما إذا كان البناء، الذي يُقال إن كليوباترا احتمت بداخله، كان فعليًّا القبر الذي اعتزمت أن تُدفن فيه أم أنه كان بناءً ملحقًا به، ربما حتى خزانة مال.
(٦) موقع قبر كليوباترا السابعة
لم يُعثر على قبر كليوباترا، أو على الأقل لم يتعرف عليه علماء الآثار؛ ونتيجة لهذا، نعتمد حتى في هذا الكتاب، كما ذكرنا سابقًا، على المصادر الأدبية في وصف البناء، الذي لعب دورًا محوريًّا في أيام الملكة الأخيرة، هذا إن كانت تلك المصادر دقيقة. لا يتعرض إلا عدد قليل من الكُتَّاب في عصرنا الحالي لنماذج هذا البناء ولطريقة الدفن الصحيحة المناسبة لحاكم مصر. سنعتمد مرةً أخرى على المصادر الأدبية لمعرفة موقع هذا القبر، فيقول بلوتارخ («حياة أنطونيو» ٧٤) إن قبر كليوباترا كان بالقرب من ضريح/معبد الإلهة إيزيس. ويخبرنا بأن هذه المنطقة كانت مليئة بالمباني المرتفعة رائعة الجمال. ومع ذلك لم يذكر أيٌّ من المؤلفين القدماء في أيِّ جزء من المدينة كانت توجد هذه المنطقة. وربما تساعد الأعمال الميدانية الحديثة في الإسكندرية في تحديد المكان الذي كان يوجد فيه معبد إيزيس الذي أنشأته كليوباترا، وربما يؤدي هذا بدوره إلى تحديد المنطقة التي كان الضريح فيها. يُعتقد أن قبر كليوباترا كان منفصلًا عن قبر الإسكندر والبطالمة. ويُعتقد أيضًا أنه لم يكن قد اكتمل في وقت ظهور الروايات الأدبية عن انتحارها، التي وردت عن بلوتارخ وديو. ومرةً أخرى نعتمد على المصادر الأدبية الرومانية في الحصول على هذه المعلومات، لكنه كان تقليدًا معتادًا في السياق الثقافي المصري والروماني أن يبني الحاكم قبره في أثناء حياته.
في عام ٢٠٠٣ قيل إن ضريح كليوباترا السابعة ربما يكون ملحقًا بمعبد إيزيس في الجهة الشرقية من مدينة الإسكندرية، المعروفة حاليًّا باسم سموحة، وعلى الحدود القديمة بين الحضرة ومدينة إلفسينا السكندرية (أشتون ٢٠٠٣أ: ١٢٠–١٢٢). يمكن تجميع الشكل الخارجي للمعبد سالف الذكر من وصف الموقع الذي ورد عن المسافرين في القرن الثامن عشر ومن الاكتشافات التي يمكن ربطها بهذا الموقع. تضم هذه الاكتشافات التمثال الضخم المزدوج (المذكور في الفصل السادس)، وأعمدة، وتماثيل لأبي الهول، ومعبدًا مستديرًا، وفيلًا من الجرانيت (أشتون تحت الطبع ٢٠٠٧د). يوجد نظير لهذا الفيل في عصر الرومان ويشير إلى أن الموقع ظل مشغولًا في أثناء الاحتلال الروماني. ومع ذلك، حتى حدوث المزيد من الاستكشاف للموقع، الذي يوجد حاليًّا تحت عدد من المدارس وموقف أوتوبيسات ومركز شرطة وأرض خاصة (أشتون ٢٠٠٥د)، فإن افتراض أن الضريح كان يوجد في الموقع؛ في الجزء الشرقي من المدينة، يجب أن يظل مجرد تخمين. إن شكل معبد إيزيس ينطبق عليه ما ذكره بلوتارخ («حياة أنطونيو» ٧٤) عند حديثه عن القبر.
قرأ المسافرون على طائرات مصر للطيران في شهري يناير وفبراير عام ٢٠٠٦ عن قبر آخر مقترح لكليوباترا في أبي صير، التي تقع بالقرب من الإسكندرية على بحيرة مريوط. وقد بدأ العمل في هذا الموقع بعد اقتراح من عالمة آثار كلاسيكية من جامعة جمهورية الدومينيكان (كيه مارتينيز) بأن قبر كليوباترا قد يكون في هذه المنطقة. وفقًا لما ورد في المقال، ستجري أعمال التنقيب تحت إشراف المجلس الأعلى للآثار المصري (حواس ٢٠٠٦: ٢٢). وهكذا يستمر البحث عن كليوباترا.