المبنى: مادته وقوالبها
(١) عنصرا المبنى والمعنى
ورد في الحديث النبوي: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان.»
وجاء لبشَّار:
وهما قولان أدبيان يكفينا أن نلمحهما لمحة حتى نتبين أن كلًّا منهما يتألف من عنصرين أساسيين: يتألف من هذه الألفاظ الظاهرة المسبوكة، ومما تشتمل عليه من فكرة طي الألفاظ.
ومنذ القِدم والنقاد يفكون العمل الأدبي — كل عمل أدبي — إلى عنصرين أساسيين يسمونهما المبنى والمعنى، وبكلمة أخرى: الشكل والجوهر، أو القالب ومضمونه، ولا يزال هذا التحليل الأولي البدهي ساريًا في اعتبارات النقد الأدبي إلى اليوم. لكن النقاد لم يستطيعوا إلا أن يتساءلوا فورًا: ما العلاقة في العمل الأدبي بين المبنى والمعنى، أو الشكل والجوهر، أو القالب ومضمونه؟ ومن أهل النقد جماعة شاءت أن تتبسط فزعمت أن هذه العلاقة إنما هي صلة اللابس بملبوسه أو الوعاء بما يوضع فيه. وظاهرٌ ما في هذا التبسيط من خطأ؛ فاللابس إذا خلع ملبوسه بقي له وجوده المستقل، والمادة المفرغة في الوعاء إذا أُخِذت من وعائها لم تضمحل، لكن العمل الأدبي يزول معناه إذا أزيل مبناه، ويختفي جوهره إذا مُحِي شكله، ويذهب مضمونه إذا سلخ عنه قالبه. إلا أن فريقًا آخر من النقاد كان أكثر توفيقًا حين قال إن العلاقة في العمل الأدبي بين المبنى والمعنى إنما هي علاقة الجسد بالروح، وصحيح أن هذا رأي لا يحل المشكلة إلا بمشكلة؛ إذ ما هي علاقة الجسد بالروح؟ لكنه أقرب إلى تمثيل الحقيقة ما دام تلاحم المبنى والمعنى ضروريًّا لتقويم العمل الأدبي، كما أن قران الجسد والروح ضروري لتقويم وجودنا الحي الظاهر، وقد بلغ مِن توثُّق الصلة بين المعاني والمباني أننا نعجز في الواقع عن الإتيان بمبنى جُرِّد من كل معنى إلا إذا هذينا هذيانًا، أو الإتيان بمعنى لا يرتكز على عماده من المبنى.
فإذا أدركنا ذلك سهل علينا أن نرى رأيًا رشيدًا في المسألة الأخرى التي كثر فيها جِدال النقاد، ونقصد مسألة الأفضلية بين عنصري الأدب من مبنًى ومعنًى، ومعلوم أن من أهل النقد من يُؤثِر العنصر المعنوي ويُوصي بتوجيه أوفر الجهد إلى تجويده، ومن أهل النقد من يُؤثِر العنصر المبنوي ويدعو إلى إنفاق أعظم الجهد في إتقانه، وعُرف عن الجاحظ أنه كان ممن يرفعون قدر المبنى فوق قدر المعنى، واستُشهد على ذلك بقوله: «المعاني مطروحة في الطرقات …» قال ابن الأثير في المثل السائر: «العبارة عن المعاني هي التي تخلب بها العقول … الناس كلهم مشتركون في استخراج المعاني.» وبالطبع لنا أن نشك في أن المعاني مطروحة في الطرقات وأن الناس كلهم مشتركون في استخراجها، إلا ما كان منها بسيطًا قريب المتناول، وأبو هلال العسكري صاحب كتاب «الصناعتين» جاء بالكلمة الفصل حين قال: «الألفاظ خدم المعاني والمصرَّفة في حكمها، وكانت المعاني هي المالكة سياستها المستحقة طاعتها.» وعلى هذا فلا سبيل إلى الجدال في أن المعنى هو الغاية المقصودة أصلًا، لكن ما دامت تلك الغاية لا تتم إلا بتلاحم المبنى والمعنى — كما قلنا — فوجه القضية إذن ليس اهتمامًا بالمبنى على حساب المعنى أو بالمعنى على حساب المبنى، بل توفية كل عنصر حقه من العناية من الملاءمة بينهما.
وهنا ننتقل إلى النظر، على حدة، في نواحي المبنى الأدبي.
(٢) المفردات أو الألفاظ
كتب الجاحظ هذا الدعاء البديع، قال: «جنَّبك الله الشبهة وعصمك من الحيرة، وجعل بينك وبين المعرفة نسبًا وبين الصدق سببًا، وحبَّب إليك التثبت وزين في عينك الإنصاف، وأذاقك حلاوة التقوى وأشعر قلبك عز الحق، وأودع صدرك برد اليقين وطرد عنك ذل الطمع، وعرَّفك ما في الباطل من الذلة وما في الجهل من القلة.»
ونتأمل المبنى في هذا الدعاء فلا يفوتنا بالبديهة أن نلتفت إلى أصغر الأجزاء التي صيغ منها، نقصد المفردات أو الألفاظ، ولئن كان المبنى ينزل منزلة العِقد المنظوم في سلك ما؛ فالألفاظ تقع موقع حبات اللؤلؤ التي منها يتألف العِقد، وواضح أن الشرط البدائي في جمال العِقد ونفاسته أن تكون لآلئه جميلة نفيسة، ومن هنا كان على الأديب أن يعنى أولًا، من جهة المبنى، بمفرداته، وكان على الناقد أن ينصرف إلى تقدير هذه المفردات على ضوء أصول تهديه.
فما تلك الأصول؟
(٣) الألفاظ أصوات
ولا شك أن الأصوات اللفظية التي يعسر النطق بها على الفم وتَمجُّها آلة السمع تمثل ألفاظًا غير حسنة؛ فلفظة «أجشع» التي يستعملها الشنفرى في بيته من لامية العرب:
هي لفظة غير حسنة؛ لأن مخرجًا من مخارج حروفها «الجيم» لا يتلاءم مع «الشين» حتى ليستدعي ذلك وقفة عند «الجيم» في النطق وإلا التبست «أجشع» على السامع ﺑ «أشجع»، ولو أن الشنفرى استعمل «أشره» أو «أنْهم» في مكانها لَتلافَى هذه الشوهة العارضة.
ولفظة «بعاق»، بمعنى المطر، غير حسنة أيضًا لأن صوتها اللفظي لا يطيب للأذن ولعله يوحي صورة رجل يعالج القيء. والخلاصة أن الجرس الموسيقى الجميل شرط ضروري في مفردات الكاتب والشاعر.
(٤) الألفاظ بين واضحة وعويصة
غير أننا نركب شططًا إذا اعتبرنا الألفاظ أصواتًا ووقفنا عند هذا الحد؛ فالألفاظ أصوات معبرة لها مدلولات، ولها أعمار، فمن الألفاظ ما تكون مدلولاتها معروفة لدى المطلع، ومنها ما لا تكون معروفة، فالصنف الأول من الألفاظ هو الواضح المأنوس، والصنف الثاني هو العويص المستوحش، فالنفس مثلًا لفظة واضحة مأنوسة لدينا بعكس لفظة «الجِرِشَّى» (وهي تعني النفس أيضًا)؛ فإنها عويصة مستوحشة.
ولا حاجة بنا إلى القول إن الواضح المأنوس من الألفاظ هو خير من العويص المستوحش، والأديب الذي يستعمل الجرشى بدلًا من النفس، والتكأكؤ بدلًا من التجمع، والافرنقاع بدلًا من التفرق، إنما هو متَّهم في ذوقه إن كان جادًّا غير هازل.
(٥) الألفاظ وفق العصر
على أن الناقد يجب أن يذكر ما قدمناه من أن للألفاظ أعمارًا؛ فهي تعيش وتروج في عصر ثم تندفن في عصر آخر، فلا يجوز لنا مثلًا أن نتَّهم الجاهليين في ذوقهم الأدبي؛ لأنهم جاءوا بألفاظ نعتبرها نحن عويصة مستوحشة، فتأبط شرًّا فوق الملامة إذا قال:
(الموماة: القفرة الكبيرة؛ جحيشًا: وحيدًا؛ يعروري: يركب)، بل المنتظر من تأبط شرًّا الجاهلي أن ينحو مثل هذا النحو. لكن أبا تمام مؤاخذٌ حقًّا حين يقول:
(متأقة: ملأى، ثبًا ثبًا: جماعات جماعات)؛ فأبو تمام ابن العصر العباسي الذي أصبحت فيه مثل هذه الألفاظ مستهجنة، ونقص أبي تمام أنه حفظ كثيرًا من الشعر الجاهلي ووعى حشدًا كبيرًا من مفرداته، ثم لم يتخيَّر منها ما يلائم عصره، ولعل المنية عاجلته فلم يُتح له ذلك.
(٦) عيب الابتذال
وهناك عيب قد يعرض للمفردات الواضحة المأنوسة، إذا أغرقت في الوضوح والأُنس، هو عيب الابتذال، وينشأ الابتذال من أن الألفاظ قد لاكتها الألسنة طويلًا، ويمر القارئ بألفاظ كثيرة من قبيل «جناب الأجل الأمجد» ذهبت منها الحصانة والرفعة بتكرار الاستعمال.
(٧) الاختصاص في الألفاظ
والمفردات، بعد هذا، ينساق لها مع الاستعمال نوع من الاختصاص؛ لذلك قيل مثلًا لفظة شعرية، ولفظة علمية: فلفظتا «أيضًا» و«مطلقًا» غير شعريتين، ويتَّفق أن يتمكن الناقد من استشفاف اختصاص الشاعر أو الكاتب من لفظة يسوقها كما أدرك أحد النقاد أن صاحب هذا البيت:
فقيهٌ؛ لأن «ما الفرق» من ألفاظ الفقهاء.
(٨) جو الألفاظ
وينساق للألفاظ مع الاستعمال شيء أوسع من الاختصاص، وإن كان قريبًا منه، هو جوٌّ توحيه الألفاظ لدى مطالعتها، وقد تفي لفظتان بغرضٍ مماثل، لكن إحداهما ينبثق منها المعنى مصحوبًا بجوٍّ غير جو أختها على صورة أقوى أو أضعف، أكثر جدًّا أو أكثر هزلًا، فلنضرب مثلًا قول البحتري:
ولنتأمل لفظة «طلْق» فإنها معادلة لفظة «هش» أو «بش» وهي تنوب منابها في الوزن، فهل كانت إحدى هاتين اللفظتين، لو استعملها البحتري، توحي المعنى بقوةِ ما أوحته لفظة «طلق»؟ كلا، وكم يفقد البيت من روعته لو قلنا: أتاك الربيع الهش أو البش! ولنضرب مثلًا آخر قول أبي نواس:
ولنتأمل لفظة «يتعتعني» فإنها لا تبعد عن لفظة «يلعثمني» التي يستقيم معها الوزن أيضًا، لكن هل تفي بعمل أختها في البيت؟ كلا.
(٩) الاختيار بين الألفاظ المتشابهة معنًى
(١٠) الألفاظ وأوزانها
فلمَ عمد المتنبي في بيته الثاني إلى مصدر «فعَّل» من «ضرب» فاستعمله، ولم يقُل مثلًا «وضربك أعناق الملوك» كما قال في البيت الثالث «وتركك في الدنيا دويًّا»؟ أصدفة صنع ذلك؟ كلا؛ لأن «ضربًا» مصدر الثلاثي، لا تفيد القوة والكثرة التي تفيدها «تضريب» وإن يكن أصل المعنى واحدًا، وقال الجاحظ في مساق حكاية له يصف رجلًا هاربًا من الخوف والدهشة: «فانطلق نجيح مسرعًا قد استطير فؤاده حتى وصل إلى قومه.» فهل استعمل الجاحظ «استطير» عرَضًا؟ ولمَ لم يقل «طار»؟ ذلك أن «استطير» تدل على أن سببًا ما قد دفع فؤاد الرجل إلى الطيران، والجاحظ إنما أراد أذهاننا أن تبقى ملتفتة التفاتًا ضمنيًّا إلى هذا السبب، ولو أنه قال «طار فؤاده» لجاء الفعل لازمًا ولما بقي نصب أذهاننا دافع الخوف والدهشة الذي حمل فؤاد الرجل أن يطير.
حتى هذا الحد يلحظ القارئ، ولا شك، أننا كنا نعالج المفردات أو الألفاظ من حيث هي منفرطة قائمة بذواتها.
غير أن الألفاظ لا تؤلِّف أدبًا، نثرًا أو شعرًا، إلا إذا انتظمت في مُركَّب محكم من البيت إلى القصيدة أو من الجملة الصغيرة إلى الرسالة الكبيرة، ومتى انتظمت الألفاظ هذا الانتظام تبدَّل اسمها فأصبحت كلامًا أو عبارة وتحوَّل أساس النظر فيها فبتنا ننقدها لا باعتبارها وحدها، لكن باعتبار رفيقاتها أيضًا، وبذلك يتحول أساس نظرنا في المبنى.
(١١) جودة التزويج بين الألفاظ
يتحول أساس نظرنا في المبنى، ففيما كنا نلتمس جودة انتقاء اللفظة على حدة إذا بنا مدفوعين إلى التماس ما نسمِّيه جودة التزويج بين الألفاظ، والفرق واضح، فربما كانت كل لفظة بنفسها صالحة لا غبار عليها ثم كانت غير منسجمة وسائر الألفاظ، فاختيار موقع اللفظة من المركَّب إذن عظيم الأهمية كاختيار اللفظة نفسها، إن لم يكن أعظم أهمية، ولعل كل قارئ قد سمع بهذا الرجز الشهير:
فظاهر أن مفرداته، واحدة واحدة، مرضية لا بأس بها. إلا أن التزويج بينها ليس صالحًا البتة؛ بسبب هذه الأصوات المتكررة التي تردد فيها فتجعلها متنافرة ثقيلة على السمع واللسان.
فأول ما تقتضيه إذن جودة التزويج بين الألفاظ جمال التوقيع الموسيقي لا سيما في الشعر، الشعر العربي على الخصوص. غير أن السر كله لا ينحصر في هذا الشرط الواحد، بل يتجاوزه إلى اعتبار آخر هو حرص الكاتب أو الشاعر أن تكون الألفاظ التي يزوج بينها جارية على مستوى متماثل من جهة وضوحها ورفعتها واختصاصها وجوِّها وسائر الصفات اللفظية الحميدة. قال، مثلًا، أحد الناظمين يتغزل:
أفلا يلوح لنا فورًا أن التزويج غير موفق، على الأقل بين علم الكيمياء وألفاظ البيت الأول، وبين اﻟ «تصفيرة» وألفاظ البيت الثاني؟ أما علة عدم التوفيق فهي أن علم الكيمياء والتصفيرة ليست من المفردات الجارية بطبيعتها مع مادة الغزل، وخلاصة الرأي في هذا الباب وصية ابن الأثير في «مثله السائر»، قال: «إذا لم تجد اللفظة واقعة موقعها صائرة إلى مستقرها حالَّة في مركزها متصلة بسلكها، بل وجدتها قلقة في موضعها نافرة عن مكانها، فلا تُكرهها على اغتصاب الأماكن والنزول في غير أوطانها.»
(١٢) صحة الإعراب والترتيب
ومما لا يكاد يحتاج إلى ذكر أننا حين ننظر في جودة التزويج بين الألفاظ ينبغي لنا أولًا أن نحاسب الكاتب أو الشاعر على ترتيب مفرداته وإعرابها وفق قواعد اللغة المرسومة في علم النحو، فلا يكون مثلًا خبر «أن» منصوبًا، ولا يرفع المجرور، ولا يعترض معترض بين المبتدأ والخبر كما في بيت المتنبي:
وكان صواب الترتيب أن يقول: «وأبوك محمد والثقلان أنت.» لكن أشباه هذه المحظورات البسيطة كمخالفات القياس الصرفي يندر أن يقع فيها من أعدُّوا أنفسهم لممارسة الإنتاج الأدبي إعدادًا صالحًا.
وقد أدخل النحاة في هذا الحُكم مسألة تقديم الضمير على الاسم الظاهر الذي يرجع إليه، فقضوا بأن هذا التقديم لا يجوز، فلا يستقيم مثلًا قول القائل: «فتح كتابه التلميذ.» غير أن الشعراء على الخصوص عبثوا بهذه القاعدة فقال قائلهم:
وفي رأينا أن تقديم الضمير لا غبار عليه إذا امتنع اللبس فجاء الاسم الذي يعود إليه الضمير مباشرةً بعده كما يبدو من البيت السابق. بل كثيرًا ما تحوج الأغراض البلاغية إلى مثل هذا التدبير فنقول: «إلى نفسه أحسن فاعل الخير، وعلى نفسه جنى فاعل الشر.» وهو أقوى من قولنا: «أحسن فاعل الخير إلى نفسه وجنى فاعل الشر على نفسه.»
(١٣) الزخرف
وربما عرض للأدباء خلال تزويج الألفاظ أن يعنوا بضروب شكلية من الزينة نستطيع أن نسميها على الجملة الزخرف الخارجي. أما القدماء فسموها البديع اللفظي، وهو صناعة حظيت باهتمام كبير في عهد من عهود الأدب العربي، إلا أن هذا العهد كان انحطاطيًّا؛ لذلك حكم بصراء النقاد بأن البديع اللفظي له قيمته في تزيين المبنى شرط أن يأتي عفوًا وبمقدار يسير، وإلا كان عنوان الزيف ودليلًا على أن الكاتب أو الشاعر قلَّت مادته من المعنى فأراد أن يغطي هذا النقص بإسباغ التزاويق التي تُبهر العين ولا تغذي فكرًا أو عاطفةً.
قال أبو هلال العسكري صاحب «الصناعتين»: «فقد تبيَّن لك أن ما يعطي التجنيس من الفضيلة أمر لا يتم إلا بنُصرة المعنى؛ إذ لو كان باللفظ وحده لما كان فيه مستحسن ولما وجد فيه إلا معيب مستهجن؛ ولذلك ذُم الاستكثار منه والولوع به، وذلك أن المعاني لا تدين في كل موضع لما يجذبها التجنيس إليه؛ إذ الألفاظ خدم المعاني والمصرفة في حكمها، وكانت المعاني هي المالكة سياستها المستحقة طاعتها، فمن نصر اللفظ على المعنى كان كمن أزال الشيء عن جهته وأحاله عن طبيعته، وذلك مظنة الاستكراه وفيه فتح أبواب العيب والتعرض للشين، ولهذه الحالة كان كلام المتقدمين، الذين تركوا فضل العناية بالسجع ولزموا سجية الطبع، أمكن في العقول وأبعد من القلق وأوضح للمراد وأفضل عند ذوي التحصيل وأسلم من التفاوت وأكشف عن الأغراض وأنصر للجهة التي تنحو نحو العقل وأبعد من التعمد الذي هو ضرب من الخداع بالتزويق، والرضى بأن تقع النقيصة في نفس الصورة وذات الخلقة إذا أكثر فيها من الوشم والنقش وأثقل صاحبها بالحلي والوشي …»
وليس ثمة سبيل إلى الخلاف أن هذا الرأي في البديع اللفظي عدل وصواب؛ فإننا لو التفتنا إلى الحكمة: «دوام الحال من المُحال.» لوجدنا ما في السجعتين من التجنيس قد زاد العبارة رونقًا وخفةً على النطق والذاكرة فضلًا عن أنه انقاد من غير تعمُّل ولا تصنُّع. لكننا لو التفتنا إلى قول الشاعر:
لأحسسنا فورًا أنه قد ركب مركب التعسُّف ليسوق هذا التجنيس بين «كلَّ متني» و«كلمتني» بمعنى خاطبتني و«كلمتني» بمعنى جرحتني، فضلًا عن أن محصل البيت كله ليس بشيء ذي بال.
وقد فتن حب البديع اللفظي بعض الأدباء حتى أصبح هوسًا وذهب بهم أعجب المذاهب حتى اعتبروا فيه النقط، فزعموا في هذا البيت:
أنه يشتمل على ضرب من البديع اللفظي لأن حروف صدره كلها منقوط وحروف عجزه خالية من النقط، وسموه الملمَّع.
وصناعة السجع، وهي تقييد النثر بالقوافي، لا تخرج على كونها زخرفًا من زخارف المبنى، والسجع إذا أقبل سهلًا ولم يتجاوز الحد في مقداره، كان مُرضِيًا وأكسب العبارة توقيعًا موسيقيًّا. إلا أنه إذا سيق غصبًا وكثر كثرةً زائدة، تأذَّى به الإنشاء، وثقل على النفس. قال حكيم: «إن الحق أصعب محملًا وأصعب مركبًا، فإن أُشكل عليك أمران فاجتنب أحبهما إليك، واترك أسهلهما عليك.» فواضح أن التقفية بين «إليك» و«عليك» سائغة في الذوق تضيف إلى الكلام حسنًا لا سيما وقد أتت ساعة الوقف في العبارة. وقال الحريري في المقامة الصنعانية على لسان الحارث بن همام: «لما اقتعدت غارب الاغتراب وأنأتني المتربة عن الأتراب، طوحت بي طوائح الزمن إلى صنعاء اليمن، فدخلتها خاوي الوفاض بادي الإنفاض …» إلخ، وهذا من السجع الذي يبدو عليه فورًا طابع التكلف وأثر الكد؛ فقد شاء الحريري أن يبين أن راويته الحارث بن همام تغرَّب لفقره مسافرًا عن معاشره، فقال إنه اقتعد غارب الاغتراب وأنأته المتربة عن الأتراب، وشاء الحريري أن يبين أن راويته دخل صنعاء اليمن وجرابه فارغ وإفلاسه من كل شيء ظاهر، فقال إنه دخلها خاوي الوفاض بادي الإنفاض!
على أن السجع موضوع لا بدَّ لنا فيما بعد من العودة إليه.
(١٤) الغنى في اللفظ
وحتمٌ أن يدفعنا البحث في المبنى الأدبي والتزويج بين الألفاظ إلى الإلمام بصفة من ألزم الصفات التي بها يميز الأدباء الكبار، فإذا كان الكاتب أو الشاعر يحتاج إلى المهارة في اختيار ألفاظه، وفي تأليفها؛ فقد أصبح من الضروري أن يكون له خزانة لفظية غنية طيِّعة، تستطيع أن تلبيه في يسر وسهولة، ويستطيع أن يتصرَّف بما يتناوله منها تصرفًا وافيًا بأغراضه، وطبيعي أن لا يتم له ذلك إلا بمطالعة الآثار الأدبية النفيسة التي ورَّثها السابقون من الكتَّاب والشعراء، وقد أدرك العلماء حاجة الأديب إلى الثروة اللفظية فدرجوا على تأليف مجلدات أثبتوا فيها مقادير ضخمة من الألفاظ التي تطلق في شتى المواضيع كطلوع الصبح، والوقوع في المرض وما أشبه. من هذه المجلدات: «أدب الكاتب» لابن قتيبة و«الألفاظ الكتابية» للهمذاني و«سحر البلاغة» للثعالبي، وآخرها «نجعة الرائد» لليازجي إبراهيم.
على أن هذه الطريقة في جمع الثروة اللفظية تشتمل على أخطار: لأن الفرق بعيد بين أن يتعرف الأديب المتدرج إلى اللفظة وهي منفردة، ويتعرف إليها وهي نازلة حق منزلتها في الجملة. يضاف إلى ذلك أن هذه الطريقة في حيازة الغنى اللفظي خليقة أن تملأ أذهان الأدباء بتعابير متماثلة يكررونها جميعًا كلما عالجوا مواضيع متماثلة، من هذا القبيل قولهم إذا قصدوا التعبير عن نهاية الحرب: «وضعت الحرب أوزارها.» وقولهم إذا قصدوا التعبير عن تفوق شاعر: «لا يُشق غباره.» وبعد، فالأديب المتدرج حين يحمل دفعة على حفظ الألفاظ التي تقال في موضوع من المواضيع لا يأمن في إنشائه أن يتعود الدوران حول المعنى الواحد بما قد وعاه من الألفاظ، وتلك خطة تنتهي إلى التطويل الممل بل الثرثرة، ومخطئ من يظن أن الثروة اللفظية إنما تعني فيض المترادفات، وما أكثر ما نصادف لدى الأدباء جملًا مكدَّسة على النحو التالي: «أكل حتى امتلأ وانتفخ وكظه الطعام وبات لا يطيق النفس.» أو «فلما حضرته الوفاة وأشرف على الموت وبلغت روحه التراقي، طفقت الأم تنتحب وتعول وقد انحلَّ عقد دموعها وتناثرت لآلئ جفنيها.» فالظاهر من الصورتين هاتين أن الكاتب حفظ مقدارًا من المترادفات التي تقال في وصف التخمة والاحتضار والبكاء، فما سنحت له الفرصة حتى قذف بها قذفًا، وفي زعمه أنه كشف عن منجم لفظي وافر الذخر، لكنه في الواقع لم يكشف عن غير ثرثرة.
ويا ليت شعري ما يصنع أحدنا لو دخل أحد المعارض الطبيعية أو الصناعية ورأى ما ثمة من المسميات العضوية وغير العضوية من أنواع الحيوان وضروب النبات وصنوف المعادن، وعاين ما هناك من الآلات والأدوات وسائر أجناس المصنوعات وما تتألف منه من القطع والأجزاء بما لها من الهيئات المختلفة والمنافع المتباينة، وأراد العبارة عن شيء من هذه المذكورات؟ ثم ما هو فاعل لو أراد الكلام فيما يحدث كل يوم من المخترعات العلمية والصناعية والمكتشفات الطبيعية والكيماوية والفنون العقلية واليدوية، وما لكل ذلك من الأوضاع والحدود والمصالحات التي لا تغادر جليلًا ولا دقيقًا لا تدل عليه، بلفظه المخصوص؟
فهذا إنشاء إذا تأملناه لم يلبث أن يشفَّ لنا عن غنًى كبير في مادة اللفظ من غير ما دوران بالمترادفات حول المعنى الواحد، ولسنا نتبين في هذا الإنشاء مقدار الغنى اللفظي الذي أعان اليازجي على تشعيب معانيه وتمثيلها تشعيبًا وتمثيلًا دقيقًا إلا إذا حاولنا أن نورده على نمط ما قد يورده كاتب محدود المادة من اللفظ فيقول: «ويا ليت شعري ما يصنع أحدنا لو دخل أحد المعارض العصرية ورأى ما فيه من موجودات عالم الحيوان والنبات والمعدن، أو رأى ما فيه من الآلات الكثيرة المختلفة، وأراد العبارة عنها؟ ثم ما يصنع أحدنا لو رأى ما يحدث كل يوم من المخترعات والمكتشفات في أبواب العلم والفن وأراد العبارة عن كل ذلك بلفظه المخصوص؟»
والفرق بين النصين يهجم على الذهن هجومًا لوضوحه، فالنص اليازجي بما أوتي منشئه من الثروة اللفظية قادر على تفصيل أغراضه، بينما النص الآخر محمول على الاكتفاء بالتعميم لفقر مُنشئه في الألفاظ، لا المعاني؛ لأن مثل هذه المعاني مفتوحة للجميع.
(١٥) الجُمل وصيغها
وهنا ينتهي بنا المطاف في نقد المبنى الأدبي إلى النظر في ناحية لعلها أجلُّ نواحي هذا البحث، فقد علمنا أن الألفاظ في صناعة الأدب لا بدَّ لها من تزويج، فإذا زُوج بينها أصبحت عبارة. على أننا لم نذكر حتى الآن أن العبارة تتركب من أجزاء مؤلفة من الألفاظ ندعوها الجمل، وحدُّ الجملة أنها جزء الكلام الذي يحمل معنًى تامًّا، فإذا قلنا: خسيء، على حدة، وقلنا: الظالم، على حدة، لم يكمل لدينا معنًى. غير أننا حين نجمع بين اللفظتين فنقول: خسيء الظالم، يكمل لدينا معنًى تام من المعاني، وهذا شرح لمسألة تبدو بدهية إلا أن معرفتها حيوية، ومن الآفات التي تؤذي اللغة العربية أن قواعدها في الصميم مبنية على المنطق، فيتلقنها الطالب عهدَ الحداثة ويعي النتائج الشكلية التي رسمتها تلك القواعد، إلا أنه لا يدرك وجهها المنطقي، ومن هنا كنا لا نستغني عن هذه الفذلكة القصيرة في ماهية الجملة وأنواعها وما يدخل في تركيبها وما تتقلب عليه من الصيغ.
سبق لدينا أن الجملة هي جزء من الكلام الذي يحمل معنًى تامًّا، والجملة في اللسان العربي تقع على أصناف تبعًا لأساس النظر فيها، فإذا تأملناها من جهة التركيب، مثلًا، أو جهة النحو وجدناها إما اسمية وإما فعلية.
فالاسمية تتألف أصلًا من مبتدأ وخبر، ظاهرين أو مُؤوَّلين، فالظاهران كقولنا: «الطمع ذلٌّ.» والمبتدأ المُؤوَّل كقولنا: «أن تعفَّ أجمل بك» (تأويله: العفة أجمل بك)، و«إن المتنبي شاعر أروع في باب الحكمة من البحتري، حكمٌ جرى عليه الإجماع» (تأويله: كون المتنبي شاعرًا أروع في باب الحكمة من البحتري حكمٌ جرى عليه الإجماع). والخبر المُؤوَّل كقولنا: «أفضل الصبر أن تطيق ما يؤلمك وامتناعك مما يلذك» (تأويله: أفضل الصبر إطاقتك ما يؤلمك وامتناعك مما يلذك)، و«آفة العلم أن تنزل الظن منزلة اليقين» (تأويله: آفة العلم إنزالك الظن منزلة اليقين).
والجملة الفعلية تتألف أصلًا من: فعل (أو ما ينوب منابه)، وفاعل أو نائب فاعل ظاهرَين أو مُؤوَّلين، فالظاهران كقولنا: «خاب العجول وكوفئ المتأني.» والفاعل المُؤوَّل كقولنا: «ما زيَّنك في رأي الحق أنك شريف النسب» (تأويله: ما زيَّنك في رأي الحق شرف نسبك). ونائب الفاعل المُؤوَّل كقولنا: «كُتب على الظلم أنه حلو الأول مُر الآخر» (تأويله: كُتب على الظلم حلاوة أوله ومرارة آخره). أما ما ينوب مناب الفعل فكالصفة في قولنا: «هذا القادم البهية طلعته بشير فأل.»
ويسمى المبتدأ والفاعل ونائب الفعل في علم المعاني «مسندًا إليه» أيضًا كما يُسمى الخبر والفعل (أو ما ينوب منابه) «مسندًا» والعلاقة بينهما الإسناد.
عند هذا الحد يصبح لزامًا لنا، في نقد المبنى، أن ننصرف إلى النظر في صناعة عالية المرتبة، هي صناعة صوغ الجملة أو تركيبها من عناصرها، فتعرض لنا مسائل هامة: كالتقديم والتأخير في موضع التقديم أو التأخير، والذكر والحذف حيث يجب الذكر أو الحذف، ومعلوم أن القاعدة العامة هي تقديم المسند إليه في الجملة على المسند مع تعريف الأول وتنكير الثاني. إلا أن هذه القاعدة العامة لا تفي دائمًا بالمراد، وهي على الأغلب ديدن بسطاء المنشئين، وإذا تجاوزنا الحدود الوضعية التي توجب تقديم هذا أو ذاك من المسند إليه، أو المسند، وتقضي بذكر هذا أو ذاك أو حذفه من عناصر الجملة، رأينا أن المنشئ الرفيع يراعي فيما يقدمه عامل التأكيد، ويحرص فيما يؤخره أن لا يوصل القارئ إلى غاية الجملة قبل نهايتها لئلا يفتر نشاطه. أما من جهة الذكر والحذف فيجتهد أن يستغني إلا عما يقع الخلل عند تركه.
قال المعرِّي:
فقدم المسند إليه «اللبيب» لقصد التأكيد، وقال شاعر:
فقدم المسند «تراب» للقصد نفسه، وربما ظُن أن ضرورة الوزن حكمت على الشاعرين، لكن لو اختار المعرِّي لغيَّر صيغة النظم فقال مثلًا:
ولو أراد الآخر لقال:
وقالت الحكمة الطبية: «كُلْ على الجوع طعامك.» وقال المثل العربي: «إنك لا تجني من الشوك العنب.» «الظلم مرتعه وخيم.» فجعلت الحكمة الطبية «على الجوع» في قلب الجملة ولم تؤخرها لئلا يفوتها حقها من انتباه السامع الذي ربما توهم أن الجملة انتهت ﺑ: «كلْ طعامك.» كذلك جعل المثل العربي «من الشوك» و«مرتعه» في وسط الجملة للسبب نفسه.
وقال المثل الدارج: «درهم وقاية ولا قنطار علاج.» فاستغنى عن المسند في الجملتين ولم يقل: يفيدك درهم وقاية ولا يفيدك قنطار علاج، أو درهم وقاية تتعاطاه ولا قنطار علاج تتلقاه.
على أن النظر في الجملة على أساس تركيبها وحسب، لا يكفي إلا في النماذج البسيطة، وليست الجمل كلها بسيطة، بل منها المركبة التي هي جملة واحدة يدخل في تأليفها جمل عدة يكون لها محل من الإعراب النحوي أو لا يكون، ويحسن بنا أن نضرب مثلًا للإيضاح:
«قال بعض الحكماء: شر المال ما لزمك إثم مكسبه، وحُرمت أجر إنفاقه.» فالجملة الأولى: «قال بعض الحكماء» فعلية بسيطة تتألف من فعل وفاعل، لا محل لها من الإعراب لأنها ابتدائية. أما الجملة الثانية: «شر المال ما لزمك إثم مكسبه، وحرمت أجر إنفاقه» فليست بسيطة لأنها تتألف من جمل عدة: فهي كلها جملة، وفي كيانها جملتان فعليتان، الأولى: «لزمك إثم مكسبه»، والثانية: «حُرمت أجر إنفاقه» والجملتان كلتاهما لا محل لهما من الإعراب لأنهما صلتا الموصل «ما»، والجملة كلها، أو الجملة الأم، في محل نصب مفعول به من «قال».
وهكذا ينكشف لنا أن الجمل بسيطة ومركبة، ولا يلبث أن ينكشف لنا أننا نواجه في الجمل المركبة المسائل نفسها التي واجهناها في صوغ الجمل البسيطة، نعني: أيُّ الجمل نقدم وأيهما نؤخر، ومتى نذكر ومتى نحذف؟ والجواب هنا لا يختلف عن الجواب هناك، وخلاصته: أن نرعى في اعتباراتنا عامل التأكيد وانتباه القارئ، وأن نستغني عما يمكن الاستغناء عنه، فلنضرب مثلًا بيت المتنبي:
فهذا البيت كله جملة اسمية مركبة، ومبتدأها مصدر مُؤوَّل من الجملة الفعلية «أن يرى»، وخبرها مقدَّر يتعلق به شبه الجملة «من نكد الدنيا»، والجملة الاسمية «ما من صداقته بدٌّ» في محل نصب نعت «عدوًّا»، وقد نسَّق المتنبي الجمل في كيان هذه الجملة الكبيرة تنسيقًا محكمًا؛ فقدَّم الخبر وشبه الجملة المتعلق به، كما قدم شبه الجملة التالي أي «على الحر» ليكون قريبًا من لفظة «نكد» التي يتعلق بها، وواضح أن افتتاح البيت بقوله: «ومن نكد الدنيا على الحر» استهلال لا يهجم بالقارئ على الغاية لكن يوقظ اهتمامه وشوقه. ثم ذكر المبتدأ وقرن به على سبيل المفعولية لفظة «عدوًّا»، ونعت العدو بجملة اسمية قدم فيها الخبر على المبتدأ، فلم يُتح للقارئ طرفة عين يستطيع فيها أن يغفل ذهنه قبل النهاية التي بدونها لا تتم غاية البيت، وظاهر أن المتنبي قد حذف في بيته ثلاث كلمات لا موجب لإثباتها، فلم يقل: مصيبة من نكد الدنيا على الحر أن يرى عدوًّا له ما يوجد من صداقته بد.
ومما يتعلق بهذا الباب، باب النظر في الجمل المركبة من حيث صلاتها الإعرابية بعضها ببعض، موضوع جليل لا مندوحة عن معرفته لأنه يبحث أحوال الربط والقطع بين الجمل. ذلك هو الوصل والفصل، والربط بين الجمل يكون بعطفها (بأداة الواو)، والقطع يكون بإسقاط العطف، فمتى نعطف في السياق جملة على جملة، ومتى لا نعطف؟ هذه هي القضية التي يعالجها الوصل والفصل. على أن هذا الباب يضطرنا، زيادةً إلى معرفة إعراب الجمل، أن نعلم أنها تنقسم إلى خبرية وإنشائية تبعًا لإمكان صدقها أو كذبها، أو لاستحالة الصدق والكذب فيها، فالجملة التي تحتمل الصدق والكذب هي الخبرية، كقولنا: «الربيع خير فصول السنة.» والجملة التي يمتنع فيها صدق أو كذب هي الإنشائية، كقولنا في الاستفهام: «ما يصنع الأعمى بنور الصباح؟» أو قول أبي العتاهية في التمني:
أما الفصل فيكون إذا تباينت الجملتان في الإعراب، أو اختلفتا بين إنشائية وخبرية، أو كانت الثانية بدلًا من الأولى، أو بيانًا لها، أو جوابًا عن سؤال استوجبته الأولى ضمنًا، أو كان للأولى حكم لا يراد إعطاؤه للثانية. كقولنا: قال علي بن أبي طالب: «مصارع الرجال تحت بروق المطامع» (وجب الفصل بين الجملتين لأن الأولى لا محل لها من الإعراب والثانية في محل نصب على المفعولية من قال)، وكقولنا: «مات أبو تمام في ريعان شبابه، ليته عاش حتى استكمل نضجه الشعري» (وقع الفصل لاختلاف الجملتين خبرًا وإنشاءً)، وكقول القرآن: مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (وقع الفصل لأن الجملة الثانية بيان للأولى)، وكقولنا: «لقي المتآمر حتفه، أكل السم الذي طبخه» (وجب الفصل لأن الجملة الثانية بدل من الأولى)، وكقول شوقي:
(وجب الفصل بين الجملة في صدر البيت والجملة في عجزه لأن السؤال الأول اقتضى سؤالًا آخر ضمنيًّا، فكأن الشاعر قال: سألتني عن النهار عيوني، فبمَ أجبتها؟ أجبتها: رحم الله يا عيوني النهارا)، وكقولنا: «يحسب الناس أن الشعر سهل، الشعر صعب المراس» (وقع الفصل لأن جملة «أن الشعر سهل» داخلة في حكم المفعولية من فعل الظن «يحسب»، لكن جملة «الشعر صعب المراس» لم يقصد إدخالها في هذا الحكم)، وكقولنا: «إنما الجهل داء، العلم دواؤه» (وقع الفصل لأننا قصرنا الجهل في الجملة الأولى على كونه داء، ولم نشأ أن نقصر العلم على كونه دواء الجهل، فللعلم منافع أخرى، وهكذا اختلف الحكم بين الجملتين).
وهنا نلفت القارئ إلى أن باب الوصل والفصل لا يحيط بنطاق هذا الموضوع الواسع الذي نعالجه، نعني ربط الجمل وقطعها؛ فكثيرًا ما تعرض في الصنع الأدبي ضروب من الجمل لا يسري إليها من الفصل أو الوصل أحكام، كالجمل التي ترد مثلًا جوابًا للشرط أو حالًا أو استدراكًا أو إثباتًا بعد نفي أو نفيًا بعد إثبات أو دالة على المفاجأة أو الحدوث الفوري أو الوقوع بعد فترة، ولكن من هذه الجمل وسيلة للربط بسابقتها. قال المتنبي:
فالجملة الثانية: «لكان أدنى ضيغم» (وهي جواب لولا) مربوطة بالجملة الأولى «لولا العقول (موجودة)» باللام، وقال أبو تمام:
وفي هذا البيت شاهدان: فالجملة الثانية بعد «لاقى الكريهة» حالية ربطتها بالأولى واو الحال والضمير، وجملة «سيفه مسلول» استدراكية ربطتها بما قبلها «لكن»، والواو لا وجه لوجودها هنا وقد حكم بها الوزن على أبي تمام فهي عاهة صغيرة من عاهات المبنى في هذا البيت لأن القاعدة المبنوية العامة تشير بالاستغناء عن كل ما يمكن الاستغناء عنه في الكلام، وقال شاعر:
وقال آخر:
فالجملة في عجُز البيت الأول إثبات بعد نفي ربطت بينها وبين أختها «بل»، وعكسها الجملة في عجز البيت الثاني؛ أي أنها نفي بعد إثبات، فربطت بينها وبين أختها «لا»، وقال لبيد:
فالجملة في العجز مربوطة ﺑ «إذا» الفجائية لأنها تحمل معنى المفاجأة.
وقال شاعر:
وقال آخر:
ونحسب الوقت آن للانتقال إلى ناحية أخرى مبنوية من نواحي الصنع الأدبي، تلك ناحية النظر في صيغ الجمل، ولا شك أننا لحظنا أن أصناف الجمل التي تأتَّى لنا ذكرها، لها أنماط من الصيغ أو القوالب مخصوصة بها؛ فالجملة الفعلية المجهولية تختلف صيغتها عن المعلومية، وكلتاهما تختلف صيغةً عن الاسمية، والجملة الخبرية المنفية يغاير قالبها الجملة الخبرية الإيجابية، وكلتاهما تغاير في شكل القالب الجملة الإنشائية، والجملة الإنشائية الاستفهامية تختلف صورتها عن الجملة الإنشائية أو الطلبية أو الندائية وهلمَّ …
فإنَّا قد نرى الزمان مدبرًا بكل مكان، فكأن أمور الصدق قد نُزعت من الناس، فأصبح ما كان عزيزًا فقده مفقودًا، وموجودًا ما كان ضائرًا وجوده، وكأن الخير أصبح ذابلًا، والشر ناضرًا، وكأن الفهم قد زالت سبله، وكأن الحق ولَّى كسيرًا، وأقبل الباطل تابعه، وكأن اتِّباع الهوى وإضاعة الحكم أصبح بالحكام موكلًا، وأصبح المظلوم بالحيف مُقرًّا، والظالم بنفسه مستطيلًا، وكأن الحرص أصبح فاغرًا فاه من كل جهة، يتلقف ما قرب منه وما بعد، وكأن الرضى أصبح مجهولًا، وكأن الأشرار يسامون السماء، وكأن الأخيار يريدون بطن الأرض، وأصبحت المروءة مقذوفًا بها من أعلى شرف إلى أسفل درك، وأصبحت الدناءة مكرمة ممكنة، وأصبح السلطان منتقلًا من أهل الفضل إلى أهل النقص، وكأن الدنيا جذلة مسرورة تقول: قد غُيِّبت الخيرات، وأُظهرت السيئات.
ومتأمل هذا الإنشاء لا يسعه — وإن أُعجب بذخيرة اللفظ عند ابن المقفع — إلا أن يشهد أن الجمل في القطعة مضروبة على غرار واحد؛ فهي كلها جمل خبرية إيجابية. ثم إن كثرتها الغالبة تتركب من الحرف المشبه بالفعل «كأن» أو الفعل الناقص «أصبح» يتلوهما اسمهما وخبرهما، مما أدى إلى انسياق الكلام على نغم موسيقي رتيب، ومثل هذا التكرار في صيغ الجمل لا يخلو من إفادة التأكيد، على أنه في أغلب الأحيان دليل افتقار إلى التنويع وعلامة قصور عن التفنُّن.
وقال الجاحظ: «الكتاب نعمَ الذُّخر والعقدة والجليس والعمدة، ونعمَ النشوة، ونعم النزهة، ونعم المشتغل والحرفة، ونعم الأنيس ساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة، ونعم القرين والدخيل والزميل، ونعم الوزير والنزيل، والكتاب وعاء مليء علمًا، وظرف حشي ظُرفًا، وإناء شُحن مزاحًا. إن شئت كان أعيا من باقل، وإن شئت كان أبلغ من سحبان وائل، وإن شئت سرَّتك نوادره وشجتك مواعظه، ومن لك بواعظ ملهٍ وبناسك فاتك وناطق أخرس؟»
فمتأمل هذا الكلام يتبين — ولا ريب — أن الجاحظ قد عمد إلى تكرار قوالبه، إلا أنه كررها في أجزاء أجزاء من جمله ولم ينسَ أن يُحدث فيها تغييرًا وتنويعًا؛ فالجملة الأولى تتألف من مبتدأ «الكتاب» ومن أخبار عدة ركبت من فعل المدح «نِعم» ومن فاعله، وعطف بعضها على بعض في نسق واحد. إلا أن الجملة الثانية يطرأ عليها انتقال محسوس عن الجملة الأولى، فأخبارها أسماء منعوتة بجمل فعلية مجهولة، ولا تستهل الجملة الثالثة حتى نشهد فورًا أنها اختلفت بقالبها كل الاختلاف عن سابقتيها فإذا هي إنشائية استفهامية لا خبرية، ومن هنا كانت هذه القطعة الجاحظية في مبناها أقل استقرارًا على نغم موسيقي رتيب من قطعة ابن المقفع وأدل على التفنن في الصيغة الإنشائية.
قال أبو تمام:
وقال المتنبي:
ففي البيتين، بين الصدر والعجز، عبور من صيغة الخبر إلى صيغة إنشاء الطلب مما زاد مبنى البيتين رونقًا وبراعةً.
وقال شاعر:
فلننظر كيف افتتح البيت الأول بالطلب نهيًا، ثم عكف على الصيغة الخبرية في قوله: «رجل أودى»، ثم انتقل إلى الاستفهام، ثم عاد فساق البيت الثاني على صورة الخبر، فكان له في مبنى بيتين حظ مرموق من غنى القوالب.
ولعلنا نحسن صنعًا إذا ألممنا على سبيل التطبيق بفكرةٍ ما فأفرغناها في صيغة من المبنى بسيطة، ثم اجتهدنا أن نسمو بمبناها، ولتكن هذه الفكرة مقابلة بين البخيل بعلمه والبخيل بماله، أيهما ألأم؟ ولمَ؟
قد نقول: يبخل ممول بماله ويبخل عالم بعلمه، فيكون الثاني ألأم من الأول. يحرص الباخل بماله على متاع يفنى مع الإنفاق، فيصح له وجه من العذر، ويحرص الباخل بعلمه على ذخرٍ لا يفنى، بل يزداد، فلا يصح له وجه من العذر.
فهذا في مبناه من بسيط الإنشاء؛ لأن الجمل، اسمية وفعلية، واردة كلها مورد الخبرية على نحو واحد، والفعلية كلها عمادها فعل مضارع بني للمعلوم لا تختل صيغته.
وقد نقول: إذا بخل العالم بعلمه كان ألأم من الممول الذي يبخل بماله، فهل حرصت نفس الممول، حين حرصت، إلا على متاع يفنى مع الإنفاق؟ فلها في ذلك وجه من العذر. أما العالم الشحيح بعلمه فقد منعت نفسه ذخرًا لا ينقص، بل يزداد، كلما أنفق منه، فأي عذر له؟
وليس يحتاج تنوع القوالب في مبنى هذه العبارة إلى دلالة.
وبعد، فما أحوجنا إلى تذكير القارئ في هذا المقام بأن جميع الأصول التي سبق لنا بحثها، إن أعانته على إدراك المحاسن في المبنى الأدبي، فلا تُجدي في تربية الذوق النقدي والإنشائي إلا مع التلقح بآثار الكتَّاب والشعراء الأفذاذ ومع طول العهد بالممارسة حتى تستقر لدى الناقد والمنشئ ملكة طبيعية يخفى معها أثر التكلف والكد، فالتكلف والكد إذا لحقا بالصنع الأدبي كسفا رونقه وأضعفا من قوته.