المعاني
في الفصلين السابقين بحثنا المبنى الأدبي: مادته وقوالبها، ثم بحثنا طرق الأداء، فبقي علينا أن ننتقل إلى بحث المعاني التي هي غاية المبنى الأدبي وطرق الأداء.
(١) المعاني لا يمكن حصرها
والمعاني معادن يعجز الناقد عن حدها أو حصرها، ويجدها الشاعر أو الكاتب في عالم نفسه وفي ظواهر الطبيعة وبواطنها وفي الاجتماع البشري. أما عمدة الشاعر أو الكاتب في إثارة المعاني فهي الخيال والعقل والعاطفة، تؤازرها ثقافة شاملة، ومن هنا أيَّد ابن الأثير في «المثل السائر» رأي القائلين: «ينبغي للكاتب أن يتعلق بكل علم حتى قيل: كل ذي علم يسوغ له أن ينسب نفسَه إليه فيقول: فلان النحوي وفلان المتكلم، ولا يسوغ له أن ينسب نفسه إلى الكتابة فيقول: فلان الكاتب؛ لما يفتقر إليه من الخوض في كل فن.»
يجب أن يكون النسيب الذي يتم به الغرض هو ما كثرت فيه الأدلة على التهالك واللوعة، وما كان فيه من التصابي والرقة أكثر مما يكون من الخشن والجلادة، ومن الخشوع والذلة أكثر مما يكون فيه من الإباء والعز، وأن يكون جماع الأمر فيه ما ضاد التحافظ والعزيمة ووافق الانحلال والرخاوة.
فإذا سلمنا بهذا الرأي امتنع علينا أن ننسب إلى الغزل كل شعر غير خَنِث ولا مائع ولا مجبول بالدموع، وتحتم أن نضرب عُرْض الحائط بأشباه هذين البيتين الغزليين الضاحكين لإبراهيم بن المهدي:
فالسر إذن ليس في تبويب المعاني وفق صفات معينة، بل في قدرة الشاعر أو الكاتب على التأليف بينها لتخدم غرضه. قال أحد الشعراء يهجو وزيرًا:
فواضح أن العروض (وهو علم وزن الشعر)، وما للعروض من أبحر، بعيد عن أن يدخل في معاني الهجاء. لكن الشاعر، لما رأى أن وزيره المهجو لا يُشد به الأزر، فطن إلى أن أبحر العروض تسمى أبحرًا ولا ماء فيها، فألَّفَ بين المعنيين عن طريق التشبيه تأليفًا موفقًا جاء دليلًا على مهارته في إثارة المعاني من شتى معادنها وبرهانًا على حسن تصرفه بها في سبيل الغاية المقصودة.
(٢) موافقة المعاني للمقام
على أن المعاني لا بدَّ لها، وإن لم تخضع لحصر ولا لتبويب، أن تفي بشرط أساسي هو الموافقة للمقام أو لما يسميه البلاغيون مقتضى الحال، فربما كان المعنى في حدِّ ذاته سليمًا، ولكنه يُعاب بالقياس إلى المقام الذي قيل فيه، وسواء أكان المقام وضعًا خارجيًّا يواجهه الشاعر أو الكاتب، أم حالة داخلية تطرأ عليه، فالشاعر الذي حُكي أنه دخل على الرشيد، وهو في قصر جديد ابتناه، فأنشده في المطلع:
إنما كان غير بليغ البتة؛ لأن المسافة بين المعنى والمقام جاءت بعيدة جدًّا، بل جاء المقام والمعنى ناشزين على خط مستقيم.
وكثيرًا ما يجد الشاعر أو الكاتب نفسه محمولًا على الكلام في موقف حرج يتطلب منه مهارة خاصة في الملاءمة بين المعنى ومقتضى الحال، فعندئذٍ يتبين مقدار حظ الشاعر أو الكاتب من البلاغة، ولا شك أن ابن نباتة كان بارعًا حقًّا حين قال لابن صلاح الدين مهنئًا إياه بالمُلك ومعزيًّا بأبيه:
وأحمد شوقي كان في براعته متفوقًا حين قال في «أيا صوفيا» وكانت كنيسة فأُحِيلت إلى مسجد:
وهذا الباب، نقصد مطابقة المعاني لمقتضى الحال، باب واسع لا يحيط به نطاق، وإنما اشترط النقاد في المعاني أن توافق المقام لأنه لا بد من تجاوب بين نفس الأديب وقُرَّائه أو سامعيه، فإذا فاجأهم الأديب بما لم يهيئهم المقام لانتظاره لم تبلغ معانيه غايتها من الاتصال بعقولهم أو عواطفهم.
(٣) وضوحها
وبديهي أن المعاني إذا احتاجت إلى مطابقة مقتضى الحال احتاجت كذلك إلى الوضوح، ومطابقتها لمقتضى الحال هي وجه البلاغة فيها. أما وضوحها فهو الفصاحة، وليس المقصود بوضوح المعاني أن تكون سطحية، أو مبسَّطة مفصلة تبسيطًا وتفصيلًا يبيحها للأذهان القاصرة، فمعلوم أن عمق المعاني فضيلة فيها، كما أن التلميح والإيحاء أجود من التبسيط وكثرة التفصيل، على ما سنرى في آخر الفصل. لكن المراد بوضوح المعاني أن لا تكون مغلقة أو غامضة، وأغلب ما يأتيها هذان العيبان من أن الشاعر أو الكاتب لم يتمهل ليتمكن من معانيه، ثم لم يسأل نفسه هل يفي أداؤه حق الوفاء بالهدف الذي يرمي إليه. قال الشاعر:
قصد أن العيش مع الراحة في ظلال الجهل خير من العيش مع الكد في ظلال العلم، فظاهر أن أداء البيت مخلٌّ بمعناه.
وقال أبو تمام:
وهذا البيت على صيغته الواردة هو من الصناديق المحكمة الإقفال التي يصعب أن تنفتح عن معنى من المعاني، فلو نثرناه لوجدنا أبا تمام يقول لممدوحه أبي دلف العجلي: لولا أنك فتتَّ — أي دققت — بجودك وبأسك المجدَ الذي طالت به السن لكان المجد قد خرف، وهذا كلام لا محصل له، فماذا أراد بقوله: دققت المجد بجودك وبأسك؟ ماذا أراد بقوله: كان المجد قد خرف؟ على أن الذي يقرأ القصيدة ويستأنس بلهجتها يقدِّر أن أبا تمام إنما قصد أن يقول لأبي دلف: تداركت بجودك وبأسك المجدَ بعد أن شاخ، ولولا أنك تداركته لكان قد أصابه الخرف مع الشيخوخة، وبعبارة أخرى: أنك أنقذت المجد وحفظته.
ومثل هذا الإغلاق أو الغموض ربما استهوى فتيان الشعراء الناشئين فقالوا وزعموا أن على القارئ أن يفهم من قولهم ما يريد!
(٤) اقتران المعاني وتسلسلها
ومن شروط المعاني، التي تتمشى مع شرط وضوحها وموافقتها للمقام، شرط الاقتران والتسلسل، ولما كان من المفروض أن للشاعر أو الكاتب غرضًا رئيسيًّا فيما ينظم أو يكتب، فالمعاني ينبغي لها أن تكون متدرجة بالقارئ نحو ذلك الغرض الرئيسي، وقد جعل ابن الأثير ثاني ركن من أركان الكتابة: «أن يكون خروج الكاتب من معنًى إلى معنًى برابطة لتكون رقاب المعاني آخذة بعضها ببعض ولا تكون مقتضبة.»
وهنا لزام في عنقنا أن نعترف أن الشعراء العرب، على وجه الإجمال، لم يكونوا ممن يتقيدون بغرضهم الرئيسي، فيقتصروا من المعاني على ما له صلة بقصدهم لتأتي قصائدهم ذات وحدة، وإذا نحن فتحنا ديوانًا ما وقرأنا قصيدة مدح مثلًا، فالراجح أننا نجد فيها مقدارًا من أبيات الغزل أو غيرها لا تمتُّ إلى صلب الموضوع، والكتَّابُ العرب أيضًا ميَّالون في تآليفهم إلى الشرود من غرضٍ إلى غرض، وهكذا رأينا كثرة من التآليف الأدبية العربية لا تجري على نظام، تفاجئنا حين نقرأها بمواضيع شتى لا نتوقع العثور عليها هناك، وتُعرَف هذه الطريقة ﺑ «الاستطراد» والجاحظ أشهر ممثليها، تجعل المطالعة متنوعة مريحة إلا أنها تُضحِّي بالتسلسل الفكري، والتأليف الحديث لا يتبناها على كل حال.
(٥) الصدق
ومن أعظم شروط المعاني الصدق. لكن يجب أن لا نخلط بين نوعين من الصدق: العلمي والأدبي، فالصدق العلمي هو ما طابق الوقائع والحقائق المجردة كقولنا: «الشمس تشرق نهارًا وتغيب ليلًا.» بينما يعني الصدق الأدبي صدق إحساس واعتقاد من الكاتب أو الشاعر بمعانيه، وليس من الضروري أن تكون تلك المعاني صادقة بالنسبة إلى الوقائع والحقائق المجردة. قال أبو تمام في الرثاء:
فنحن على يقين، من حيث الواقع والحقيقة المجردة، أن ليس في الدنيا روضة اشتهت أن تكون قبرًا للمرثي أو شعرت بموته، لكننا مع ذلك لا ندَّعي أن هذا معنًى كاذب، لأننا نتصور أبا تمام نفسه أحس واعتقد لدى موت الفقيد أن كل روضة اشتهت أن تكون قبرًا يضم رفاته، وبالطبع، هذا لا يعني أن الشاعر أو الكاتب يستطيع أن يذهب كل مذهب في المغالاة فيقول مع المتنبي:
ثم يدَّعي أن الأمر صادق بالنسبة إليه، فالمغالاة، كما مر بنا، من العيوب الناشئة.
وليس ضروريًّا أن تكون المعاني الأدبية صادقة بالنسبة إلى كل إنسان، فالأصل أن تكون صادقة، أولًا، من جهة كاتبها أو شاعرها. على أننا نعلم أن المعاني تعظم قيمتها كلما اتسع نطاق صدقها بالنسبة إلى الناس؛ لأن الكاتب أو الشاعر عندئذٍ يكون ممثلًا في شخصه إما فئة وإما أمة وإما الإنسانية بأسرها. قال المتنبي:
فهذه المعاني ليست صادقة بالقياس إلى المتنبي وحده، بل بالقياس إلى الناس كلهم، ومن هنا قال القائل: «كأن أبا الطيب يتكلم بألسنة جميع الناس.» ولا تكاد مزية في المعاني تعدل صفة الصدق الأدبي، فإن المعنى وإن كان جيدًا ثم علمنا أن صاحبه منافق أو متملق فيه، هبطت جودته. من ذلك أننا نقرأ قول المتنبي في كافور:
وهو معنًى جيد، ثم ندرك أن المتنبي لم يكن حقًّا يحب كافور هذا الحب، بل إنما كان في دخيلة نفسه يزدريه ويطمع منه بولاية، حتى إذا عجز عن الظفر منه بمطمعه نهشه بالهجاء أبشع نهش. أفلا تهبط عندنا قيمة معنى المتنبي بعد أن ندرك هذا الإدراك؟
(٦) المعاني بين الابتذال والتقليد والابتكار
والمعاني تتفاوت قيمُها من حيث هي مبتذلة شاع ورخص استعمالها، أو من حيث هي تقليد ونقل عن معانٍ سبقتها، أو من حيث هي جديدة فيها توليد وابتكار.
فمن المعاني المبتذلة قول القائل:
وقول الآخر:
وتعتبر المعاني مبتذلة لا لسخفها وحسب، بل لأن الألسنة لاكتها طويلًا، وفي الشعر العربي وفرة من هذه المعاني نراها في كثير من أبوابه كالمدح والرثاء والغزل، منها مثلًا: تكرار التشبيه بالأسد والقمر والورد والدر.
ولعيب الابتذال في المعاني شقيق لا يقلُّ عنه هو عيب التقليد، ويوم قال الصاحب ابن عباد:
كان ينسح نسخًا مفضوحًا قول المتنبي:
أتى بعده إسماعيل صبري فقال:
يكاد المعنيان لا يختلفان؛ فالمتنبي يقول: إن حبيبه رماه وخاف أن يرميه هو ردًّا على فعلته، لكن هوى المتنبي كسر كفه وقوسه وأسهمه وحال بينه وبين الرماية، وكذلك إسماعيل صبري يقول: إنه إذا أراد أن يرمي خِلًّا قديمًا خانه، تعرَّض طيف الصداقة بينه وبين خِله فحمله على تكسير سهمه وأعاده دون ما رماية، فالراجح أن إسماعيل صبري أخذ معناه عن المتنبي، غير أنه قصَّر عن مستواه؛ فجوهر المعنى الذي ساقه المتنبي في بيت واحد استغرق إسماعيل صبري بيتين حتى ألمَّ به، وهذه المعطوفات التي وقع عليها الكسر: «كفي وقوسي وأسهمي» أكسبت معنى المتنبي قوةً وتأكيدًا خاصًّا.
وقال بشار بن برد:
فقال سَلْم الخاسر:
فهتف بشار: خمل بيتنا وسار بيت سلم! وهذا ما وقع بالفعل.
وبين البيتين معنًى مشترك متماثل؛ فبشار يقول: إن مراقب الناس فاشل، وإن الفاتك اللهج هو الحاظي بالطيبات، وسلم يوافقه، ولكن «مات همًّا» من قول سلم أقوى من قول بشار: «لم يظفر بحاجته»، وكلمة «الجسور» أسرع إلى الفهم من «الفاتك اللهج»، و«فاز باللذة الجسور» أخفُّ في المداولة من «وفاز بالطيبات الفاتك اللهج»، فإن كان سلم قَبَس المعنى من بشار فقد جوَّده.
وقال الشاعر القديم:
فجاء بعده من قال:
فجليٌّ أن الشاعر اللاحق قد استند إلى معنى الشاعر القديم ودار عليه. غير أنه استطاع أن يشتق منه معاني لم تخطر للشاعر القديم ببال، فكان آخذًا إلا أنه كان مجددًا مولدًا.
أما الابتكار في المعاني، أي: استنباطها من أصول معادنها في النفس والطبيعة والمجتمع دون ما التفات إلى شاعر أو كاتب آخر، فهو شيء نادر الوقوع، وممن أتيح لهم الابتكار أبو نواس مثلًا في موضوع الخمر، اتكأ قليلًا على سابقيه كالأخطل والوليد بن يزيد الأموي، إلا أنه انفرد باختراعات معنوية جديدة كل الجدة.
وخليل مطران في العصر الحديث قد وفق إلى ابتداعات استوحاها في عالم الاجتماع كقوله في الجماهير المصرية التي كانت تسجد قديمًا لدى تمثال رعمسيس المنحوت من المرمر الأحمر:
قصد أن رعمسيس، الفرعون الفرد، لم تقم له هذه العظمة إلا على استنزاف الشعب؛ فحين كانت الجماهير تقبِّل مرمر تمثاله لم تكن في الحقيقة تُقبل إلا دمه الذي بذل في سبيل نحت المرمر النفيس المورَّد.
(٧) تذييل
(٧-١) نظرة في المبنى والمعنى متلازمين
سبق لنا أن قلنا إن اعتبار المبنى والمعنى باستقلال واحدهما عن الآخر هو اعتبار محض اصطلاحي، وقد اتَّضح لنا تطبيقًا أن الكلام في المبنى لا يستقيم دون التفات صريح أو ضمني إلى المعنى، كما أن الكلام في المعنى لا يصح بالانقطاع عن المبنى، فهذا موضوع لا نعود إليه الساعة. لكن لا بدَّ لنا أن نذكر أن العمل الأدبي من حيث هو مبنًى ومعنًى متلازمان، قد يكون مبناه مختصرًا عن معناه أو مساويًّا له أو فضفاضًا عليه، فالحالة الأولى تعرف بالإيجاز، والثانية بالمساواة، والثالثة بالإطناب.
والإيجاز على وجه عام هو أفضل هذه الحالات؛ لأنه يقوم على الإيماء والتلميح ويفسح مجالًا لحظ القارئ أو السامع من القدرة على التحصيل العقلي، والإيجاز نوعان: حذف وقصر، فإيجاز الحذف ما بُني على إسقاط جزء من الكلام يستطيع القارئ أو السامع استنتاجه بنفسه. من ذلك أن معاوية بن أبي سفيان سأل مرة صحار العبدي: ما البلاغة؟ فأجابه: «أن تقول فلا تبطئ، وتصيب فلا تخطئ.» فأنَّبه معاوية: أكذا قلتَ يا صحار؟ فأجابه: «البلاغة أن لا تخطئ ولا تبطئ.» فأسقط من كلامه الأول الجزء الذي لا حاجة إليه.
وإيجاز القصَر، وهو أرفع نوعي الإيجاز، سِره القدرة على الإشارة باللمحة اللفظية القصيرة إلى المعنى الذي لا يلبث أن يستدعي معاني أخرى متصلة به. كقول امرئ القيس في وصف فرسه: «قيدَ الأوابد.» فقد أفرغ في هذين اللفظين نشاطَ الفرس وسرعة لحاقه بالصيد وعجز الحيوان الوحشي الشَّرود عن الهرب والخلاص منه.
أما المساواة فهي عمدة الإنشاء الوسط، تُعطي مع اللفظ مقدارًا من المعنى لا يزيد عليه ولا ينقص، كقول المتنبي:
وأما الإطناب فهو مركب خطر قد ينزلق صاحبه إلى حشو الكلام ولغوه. قال أبو العتاهية:
فذكْر الدمع بعد البكاء ثم ذكر العين بعد الدمع ثم ذكر النحيب بعد البكاء لا يكاد يكون له وجه هنا سوى الحرص على إكمال الوزن، ولو قال أبو العتاهية: «بكيت على الشباب فما نفع البكاء» لما فقد الكلام سوى رنينه الموسيقي ولبقي المعنى وافيًا.
لكن للإطناب مواطنه التي يحسن فيها بل يجب استعماله. قال القرآن في خطاب الله لموسى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، فقوله «من غير سوء» مضمن في قوله «بيضاء». لكن لما كان البياض قد يعني البرص احترس القرآن بقوله: مِنْ غَيْرِ سُوءٍ؛ فكان للإطناب في هذا الموضع سببه الموجب.