مادة التاريخ الأدبي
(١) النقص في تاريخ الأدب
في التمهيد لهذا الكتاب قلنا: إن التاريخ الأدبي هو دراسة الآداب باعتبارها ثمرة أشخاص وعصور، وقد أصبحنا الآن أقدر على تفصيل ما تتضمن هذه الجملة، فالتاريخ الأدبي هو دراسة الكتَّاب والشعراء الذين أنجبتهم اللغة على ممر الزمان واختلاف المكان، وهو أيضًا دراسة ما عولج واستحدث في هذا الزمان أو المكان من أشكال أدبية — شعرية أو نثرية — ومن مواضيع وأساليب.
والحق أن الأدب العربي لم يُكتب تاريخه على هذا الوجه بعدُ؛ فالقدماء عامةً اكتفوا بتقسيم تاريخه على أساس البيئة، لا سيما الجغرافية، مع التفات إلى جزالة المبنى أو لينه، فقالوا الأدب القديم، أرادوا به الأدب الناشئ نشأة بدوية صحراوية، وجعلوا أجله من الجاهلية إلى صدر الإسلام أو أواخر العهد الأموي. ثم قالوا الأدب المولَّد، أرادوا به الأدب الناشئ نشأة حضرية عمرانية في المدن والقرى العباسية. ثم قالوا الأدب المُحدث وهو آخر ما انتهوا إليه، يقصدون به الأدب الذي تمَّ فيه انقطاع صلة الجوار أو الزيارة بين الأدباء والصحراء.
أما المعاصرون فقد بنوا جلَّ التاريخ الأدبي على تقسيمات التاريخ السياسي، فقالوا: أدب العصر الجاهلي، والراشدي، والأموي، والعباسي الأول، والثاني، وهلمَّ … وواضح أن هذا الترتيب مضلل؛ لأنه نظرة إلى الأدب من خلال التبدلات السياسية في الهيئات الحاكمة مباشرةً، مع العلم أن هذه التبدلات قد تقع دون أن تؤثر في مجرى الأدب.
إن تاريخ الأدب العربي، الذي لم يُكتَب بعد، يجب أن يقوم أولًا على إحصاء تام للمخلفات الأدبية العربية في جميع البقاع والأدوار، ومن ثَم يجب تصنيفه حسب أشكاله الشعرية والنثرية وحسب مواضيعه التي طرقها وحسب الأساليب التي تقلَّب عليها، فإذا تمَّ هذا العمل أمكن عندئذٍ أن يُسجَّل تاريخ هذا الأدب من جاهليته إلى يومنا الحاضر وفق تطوراته المخصوصة به، فيقال مثلًا عصر الخطابة أو القصة أو السجع وهلمَّ …
ولا إنكار أن التاريخ الأدبي تدخل فيه مواد موفورة بحيث يمكن أن يكون له أكثر من تقسيم واحد، ذلك حسب القاعدة التي تُتَّخَذ أساسًا لهذا التقسيم. لكن لا بدَّ للمؤرخ الأدبي من أن يذكر، على الأقل، تلك القاعدة التي يتخذها أساسًا لتقسيمه، وهذا ما لم يدرج عليه مؤرخو الأدب العربي حتى اليوم؛ لأنهم اكتفوا بالتقسيم على أساس التبدلات السياسية.
وضروري جدًّا إخراج تاريخ الأدب العربي هذا المخرج الجديد على أساس أشكاله الشعرية والنثرية ومواضيعه وأساليبه التي مارسها. نقول ضروري جدًّا لأسباب عدة: أولها أنه يكشف كشفًا واضحًا عما انتاب الأدب العربي، إلى جانب فضائله، من نقائص كقلة التنوع وانعدام بعض الفنون فيه انعدامًا تامًّا كالملحمة والمسرحية، وإن في ذلك لَحَثًّا وتحريضًا للقرائح على الابتكار.
(٢) تبويب مواد التاريخ الأدبي
تجيء في رأس هذه المواد دراسة البيئة، والبيئة تتعلق بالإقليم الذي ينشأ فيه الأدب وما يتصف به هذا الإقليم من خصب أو جدب في تربته، ولطف أو غلظ في سمائه وهوائه، وغزارة أو شُح في مائه، وجمال أو وحشة في جباله وسهوله وأوديته، وهذه هي البيئة الطبيعية، وكذلك تتعلق البيئة بالمجتمع الذي ينشأ فيه الأدب وما يكون عليه هذا المجتمع من درجة في التطور، أبدويٌّ هو أم حضري؟ وما يتركب منه من طبقات، ثم ما يصحبه من عادات وتقاليد وقيم خلقية وأنظمة وأحوال سياسية واقتصادية، وما يقارنه من نشاط ذهني في نواحي الفلسفة أو الدين أو المذاهب الأدبية؛ وهذه هي البيئة الوضعية.
ولسنا نحتاج إلى برهان على أهمية البيئة الطبيعية والوضعية في فهم الأدب ودراسة التاريخ الأدبي، فلولا أننا نعلم أن الأدب الجاهلي نشأ في صحراء وفي مجتمع بدوي، ولولا أننا نعلم أن مدار الحياة في الصحراء إلى إقبال فصل الربيع؛ إذ تكتسي الأرض خضرةً ترعاها الماشية فتدرُّ ألبانها وتسمن لحومها، ثم لولا أننا نعلم أن المجتمع البدوي ينشقُّ قبائل يكثر بينها الغزو ويعز الأمن، لما استطعنا أن ندرك لمَ قال النابغة في الثناء على الملك النعمان:
فأنزل ممدوحه منزلة الربيع لأن في الربيع رزقًا للناس، وأنزله منزلة البلد الحرام لأن البلد الحرام أمن لا نهب فيه ولا سفك.
وكذلك لولا أننا نعلم أن ظروف الحياة في الأعصر العباسية تحولت في الأوساط الأرستقراطية، على الأقل، تحوُّلًا واسعًا من البداوة وشظفها إلى الحضارة وترفها، ولولا أننا نعلم أن هذا التحول وغيره من الأسباب أدى إلى اقتناع بعض العقول أن الطريقة القديمة التي تستلزم الوقوف على الأطلال في مطالع القصائد أصبحت واجبة التبديل، لما فهمنا لمَ أنشد أبو نواس متهكمًا بامرئ القيس وأصحابه الجاهليين:
ومن مواد التاريخ الأدبي دراسة سيَر الكتَّاب والشعراء، وليس المقصود بسيَرهم أن نروي ما يطيب لنا من نوادرهم ونتف أخبارهم، بل أن نكون على علم منظم بمدى ثقافتهم وتطورات حياتهم وما تأتَّى لهم من اختبارات واتصالات وما تهيأ لهم من أمزجة ورثوها أو اكتسبوها.
فلولا دراستنا مثلًا لسيرة أبي العتاهية، وعلمنا بحبه لعتبة، جارية الخيزران أم المهدي، حبًّا لم يُرزَق فيه التوفيق ولا السعادة، حتى اشتركت حسرة الحرمان ومرارة اليأس في صرفه عن مسلك المجون إلى مسلك الزهد، لَانْحجَبَ عنا كثير من الضوء الذي نبصر فيه ونفهم شعر أبي العتاهية الزهدي.
إن أحمقين اصطحبا في طريق فقال أحدهما للآخر: تعال نتمنَّ على الله، فإن الطريق تُقطع بالحديث. فقال أحدهما: أنا أتمنى قطائع غنم أنتفع بلبنها ولحمها وصوفها. وقال الآخر: أنا أتمنى قطائع ذئاب أرسلها على غنمك حتى لا تترك منها شيئًا. قال: ويحك، أهذا من حق الصحبة وحرمة العشرة؟ فتصايحا وتخاصما، واشتدت الخصومة بينهما حتى تماسكا بالأطواق. ثم تراضيا على أن أول من يطلع عليهما يكون حكمًا بينهما، وطلع عليهما شيخ بحمار عليه زقان من عسل فحدثاه بحديثهما، فنزَّل الزقين وفتحهما حتى سال العسل على التراب، ثم قال: صب الله دمي مثل هذا العسل إن لم تكونا أحمقين!
تلاقى غوتاميان على جسر فوق نهر، فسأل أحدهما الآخر: أين تذهب؟ أجابه: إني ماضٍ لأبتاع غنمًا.
– أمن هنا ترجع بعد قضاء حاجتك؟
– نعم من هنا.
– وكيف تعبر بغنمك النهر؟
– أمشي على الجسر.
– ها! ها! كنت أقدِّر ذلك. لكني لن أسمح لك بالعبور فالجسر لي.
– أعبر قسرًا.
– أقسرًا تعبر؟ وكيف تصنع إذا أدخلتُ إصبعي في حلقك فخنقتك؟
ثم شاهدا رجلًا مقبلًا من طاحونة قريبة ومعه دابة محملة كيسًا، فقالا: نُحكِّم هذا الرجل الغوتامي فيما شجر بيننا من خلاف.
فما سمع الغوتامي الثالث حكايتهما حتى أمرهما أن يعيناه في إنزال الكيس عن ظهر الدابة. ثم فتحه وأمرهما أن يعيناه في حمله إلى حافة الجسر، حيث جعل يحدِّر منه الطحين في ماء النهر، فلما فرغ الكيس نفضه وسألهما: أفيه طحين بعد؟ قالا: لا! قال: وهكذا ليس في رأسيكما دماغ!
فكيف حدث أن تشابهت هاتان الحكايتان في أدبين مختلفين هذا التشابه؟ أكان ذلك اتفاقًا أم اقتباسًا لأدب من أدب؟ إن البتَّ في هذه القضية عمل من أعمال التاريخ الأدبي، أو مادة من مواده هي دراسة التفاعلات وإجراء المقارنات بين آداب الشعوب.
(٢-١) حب وشرب وحرب (خطوط صورة أدبية للعصر الجاهلي ومحيطه الطبيعي ومزاج أهله)
حدد لنا طَرفة، قاصدًا أو غير قاصد، غاية الحياة العربية البدوية بقوله:
هذه صورة «السيد» الجاهلي، فهو يرى أن الحياة تنتهي عند باب القبر، وأن الموت نهاية كل حي:
يريد العربي أن يأكل خيراته في حياته، ولا عاش كل بخيل.
وإذا فتشنا عن الملامح الأخرى وجدنا أكثرها عند هذا الشاب. أما ما ينقصنا من خطوط فهو عند السيد زهيرَ في «مَن ومَن ومَن» التي أطراها عمر بن الخطاب، الإمام العادل والخبير بكلام العرب.
إن طبيعة المكان القاسي كيَّفت هذا الإنسان الذي نسميه عربيًّا، فانفراده في تلك الصحراء الحمراء السمراء جعل لونه نحاسيًّا وعزيمته فولاذية ودفاعه غريبًا عجيبًا. إن ذلك المناخ العنيد جعل الرأس العربي رأسًا فريدًا؛ إذ أفنى الضعيف منه ولم يبقَ من هذا الرأس الأسمر إلا الصالح للحياة.
إن انفراد العربي في صحرائه جعل منه هذا الرجل الذي نعرفه، فالشجاعة العربية هي من هبات المحيط وعطاياه السنية؛ فالذي يعيش في بيت من الوبر فلا بد من أن يكون شجاعًا، حاضر البديهة والجنان واليد، ليقابل عدويه: الإنسان والحيوان، والإباء العربي يدعو إليه أسلوب العيش؛ فمن لا يستقر في مكان ما يأبى كل ما يذله ويستعبده، فالعربي البدوي سائح دائم، وعن هذا أيضًا نتجت قلة صبره، وضعف تعمقه في التفكير، وارتجاله في كل شيء، فالمبادرة سمة عربية. إن المجد مبتدر، كما يقول جرير. إن الإقامة الدائمة في مكان ما تحمل الإنسان على إطالة التفكير بما حوله، أما المسافر الدائم، سليل الشيخ يعرُب، فلا ينظر إلا إلى مظاهر الأشياء؛ ولهذا لا يتعمق العربي في موضوعه. لقد شبهته بالنحلة تأخذ حاجتها من الزهرة وتظل الزهرة زهرة، لا ينقص شيء من عرفها وجمالها وطراوتها.
ومن خواص العربي الإيجاز، وهذا مقتبس من شكل الحياة؛ فبيته وجيز، ولباسه وجيز، وطعامه وجيز. لا تلمه إن تغزل بعباءته:
فهي كل شيء، تصلح لكل ما له من مآرب؛ فهي الجبة والرداء، والقميص واللحاف، والبُرنس، والمشمع، والطراحة، وهي خيمته تقيه الهجير، متى أركز عصاه في الرمل ونشرها عليها وقعد يتفيأ ليستريح أو ينام. اعذره، ولا تملَّ، متى قرأت وصفه الناقة، فهي مستودع البقاء، هي سيارته الخاصة، وهي سيارة الشحن، وهي مطبخه وأهراؤه. هي مصدر جميع المواد اللازمة له، ومن وبرها يكتسي، ولله درها؛ فكل ما فيها نافع حتى زبلها، فإنه كالفحم الحجري.
أما الكرم فأسلوب الحياة دعا إليه. العربي يسوق ثروته أمامه وهي معرضة للهلاك؛ ولهذا لا يدخرها. إنه وهَّاب نهَّاب، اشتراكي متطرف، يغزو إذا جاع أو احتاج، ويكفُّ يده عن جيرانه ما دام بخير. أما الغزو فهو سُنَّة أوجبتها الحال؛ فالكفاح لحفظ البقاء تبرره جميع النظم دينية ومدنية. كان الغزو عندهم كحرب اليوم المقيدة بنظم تجب مراعاتها وإلا كانت الحرب ظالمة وغير مشروعة، وكذلك الغزو، وقد ضل من عدَّ الغزو سرقة أو كالسرقة.
والعربي متقلب في آرائه، وقد أكسبه محيطه هذه الخاصة. هو غير عنيد، غفور رحيم كربِّه، لا يصر ولا يثبت، ككل من يحب الفصاحة واللسن، إلا إذا كان له ثأر فإنه لا يهنأ له عيش حتى يأخذه.
والعربي يغويه الطريف، ويعجبه الذكي الظريف، وإننا لنظلم الجاهلي إذا خلطناه بالبرابرة والمتوحشين، فهو ابن مدنية، ووارث حضارة. شهيم أبيٌّ ذو شمم، توحي إليك طلعته كل هذا إذا تأملت. يثرثر العربي حينًا، ويتكلم صامتًا أحيانًا. ذكي نجيب لبيب تكفيه الإشارة ليفهم، حاضر الذهن، حذِر؛ لأنه يواجه الأخطار في كل لحظة من حياته.
اختباراته محدودة، وتحديده لجميع الشئون يكاد يكون عامًّا؛ لأنه سطحي في كل أعماله. يحب الامتزاج بالناس إلى حدٍّ ما، ثم يعود إلى عزلته. يعشق العدالة والحرية والمساواة وينتصر لجاره، والجار عندنا قبل الدار لأنه عوننا في الملمات؛ ولهذا نقول: جارك القريب خير من أخيك البعيد.
إن العزلة العربية خلقت في الرجل العربي كل هذه الخصائص التي يُترجم عنها شعره وأدبه.
العربي تيَّاه فخور، وهذا ما يحمله على التبرج والتطوس والتطيُّب والتجمل؛ فهو رجل مظاهر، يباهي بكل شيء ويغالي جدًّا بالتبجح بأصله وفصله. من هنا جاء العرب التقعُّر في حوادث تاريخهم وسردها على عواهنها دون تمحيص، وانكماش العرب في جزيرتهم جرَّهم إلى حب ذاتهم، حبًّا لا هوادة فيه؛ فرأوا أنفسهم فوق العالمين أجمعين، وحسبوا دمهم أسمى من دم الآخرين، ومن هذه الناحية جاءهم التشدد بالمصاهرة. ثم جرَّهم تصنيف أنفسهم وتأصيلها إلى تصنيف خيلهم وتأصيلها.
والعربي مزواج مطلاق؛ ولذلك أسباب: أولًا لأنه يحب النسل، وشعاره: إنما العزة للكاثر، فهو مجنون بحب العِزة. ثانيًا لأنه شهواني، وهذه الشهوة توقظها طبيعة المحيط الحار. يكثر العربي من الزوجات لأنه مطبوع على التنقل، حتى في الحب، ناهيك أن المرأة البدوية هي عضد زوجها وعونه، فهو لا يخدمها، كما هي الحالة اليوم، وإفراط العربي في المحبة الجنسية حمله على المغالاة في صون المرأة والغيرة منها وعليها، وهو الذي حمله أيضًا على وأد البنات، ومن أسباب وأد البنات أن كثرة الزوجات تؤدي إلى كثرة النسل، فشاء العربي أن يظل خفيف الظهر فلم يبقِ من بناته إلا اللازم «للتوريد».
قال ابن كلثوم:
إن للمرأة في الشعر كله أدوارًا خطيرة وأخطر هذه الأدوار في الأدب العربي، وفي الحياة العربية البدوية، وهذه هند وغيرها ماذا فعلن عندما قاتل المشركون النبي محمدًا؟ وهذه ليلى وغيرها كم لهن من يد على تفتيق القرائح وخلق الشعر الطيب!
ومن خصال البدوي الحماسة، فهو متحمس حتى التهور؛ ولذلك قلَّت الأحلام في شعره فجاء قليل الإيحاء؛ فأخفق في الفنون المستوحاة، وبرع فيما بعد، في الفنون اليدوية كالعمارة.
أظهر نبوغًا في الدروس العملية والذهنية، يحلم بالحسيات لا بالمعنويات، يؤثر الحياة الجسدية على الروحية؛ فالروح أمرها لخالقها. يكره التصوف والزهد. يُقبل على الدنيا إقباله على الصلاة، ويتمتع ويعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا، كما يعمل لآخرته كأنه يموت غدًا. يسَّر دينه ولم يُعسِّر فأخذ من دنياه ما استطاع وترجَّى الآخرة رجاءً قويًّا.
البدوي لم يتقن عمله ولم يتوخَّ الغايات البعيدة؛ فهو سطحي في هذا، كما هو سطحي في شِعره، وكذلك هو سطحي في أعماله الأولى، وكلَّ ذلك ناتج عن نشأته الأولى، وعن وحدته وانفراده، فكما لا تتقصى أغنامه مراعيها فتقضم وتخضم، تأخذ المتيسر ولا تطالب بالمتعسر، كذلك صاحبها في أعماله حتى بعد حضارته.
إن العربي كراكب البحر، يستعرض ما يمر به من مناظر فتَّانة خلَّابة أكثر ما يعنيه ما في البحر من أسرار.
يتخيل العربي، إنما بوجه عام، فيحكم على الأمور حكمًا قاطعًا دون برهان، يعتمد على ذكائه فلا يبالي باكتساب ما عند غيره، وهذا شأن كل معتدٍّ بنفسه كالعربي، فهو في العموم أقدر منه على الخصوص.
لم يصدق الفرزدق؛ فالعربي يثور لأقل سبب، ولا يهدأ إن لم يشفِ نفسه ويثأر.
العربي مغامر إذا دفع، والبيان يهيِّجه أكثر من الموسيقي؛ فهو يفكر بقلبه لا بعقله. يفي إذا صادق، إن لِذتَ به أمنِت، فإما أن يصونك وإما أن يموت دونك. إن هذا ميراث دهور أصبح دين العرب الأمثل وعقيدتهم الغالية؛ فالعربي لا ينام على ضَيم، يقابل السيف بالسيف، ويأخذ بثأره بعد أربعين عامًا، يصبو إلى الآداب أكثر من العلم، يعيش بقلبه لا بعقله، وهو مع ذلك يحب العدل، وإباؤه وعزته يبغضان الرحمة إليه. يرضى البدوي بالحالة الراهنة إذا كان في سعة، ولم تمس حريته، ولا يضج منها ويطلب غيرها إلا في الضيق. يحب حرية القول ولكنه لا يكافح دونها مكافحته ضد قيود حريته. يؤثر العافية إلا إذا أُهين ونيل مما يقدسه.
يتَّحد إذا واجه خطرًا أجنبيًّا، وإذا أمن عاد إلى التنازع الداخلي. لا يُذعن إلا للتقاليد، ولا يُغيِّرها إلى مرغمًا، كما أنه لا يُطيع إلا مكرهًا، وهذا عائد إلى أسلوب حياته الأصلية الذي عوده ذلك. ينشد الاستقلال أبدًا، يؤثر بيتًا تخفق الأرياح فيه على قصر منيف يحبس فيه حواسه الخمس ضمن جدران أربعة ولو رفعت من ذهب.
لا يقلد، ولا ينزل عن قيافته. يريد أن يكون متبوعًا لا تابعًا، وسيدًا لا مسودًا. يحب الخشونة، واخشوشنوا فإن النعم لا تدوم، ويفضل اللذات على الثروة. يجمع لينفق ويحسن، لا ليمنع ويثري. قليل التفكير بالعواقب، يؤمن ويصدق، ولكنه لا يدع معتقداته ولو تبين له فسادها. قلما يأخذ بالنظريات «الفلسفية» فحسه متسلط على فكره.
كل شيء وجيز ومتعب وصعب في المحيط العربي؛ فما الصحراء إلا بحر يابس جاف، ولو كنت مكان عمر حين سأله أحدهم: صِف لي البحر، لقلت له: صف لي الصحراء، فالصحراء جافَّة كهوائها، وكونها على نمط واحد جعل كل شيء عند العربي، حتى شعره، على نمط واحد، فهي التي صيَّرت البدوي فظًّا، غليظ القلب. إن محيطًا كله جفاف ويبوسة يجعل كل شيء ينشأ فيه يابسًا.
فظواهر الجزيرة الجوية قاسية، وألوان مناظرها وطباع سكانها وبنيتهم جاءت من نوعها. ندر المطر عندهم واشتدت الحرارة فقالوا: برَّد الله ضريحه، وإذا انهل المطر سقط بغزارة فأفسد؛ ولهذا قال الشاعر:
وفي الحديث: اللهم حوالينا لا علينا، ووصف طوفان امرئ القيس دليل قاطع، فانظر كيف ابتُدئت نزهته وكيف اختُتمت.
إن حالة كهذه تضيق الصدر، ومع ذلك لم تبلغ بالعربي حد التطرف، فقد رأينا حلمًا، ولكن الحلم ليس أولى خصال العرب، وإن ادعوه، فمن لا يَظلم الناس يُظلَم.
إن قلة الماء تجفف حتى أخلاق الرجال، ومتى جفت الطباع وقست، تبعها الشعر، فإذا رأيتهم يقتتلون على ماء ويستعيرون الحوض في كلامهم للتعبير عن مقاصدهم، فاعذرهم. كل ما لهم ناطق، والناطق يقتضي له الماء، ولولا مناخ الصحراء القاسي لما صبرت الناقة على الشرب، وضربوا أخماسًا لأسداس.
لا يُؤمن العربي إلا بذاته، وهذه الذات فنيت في القبيلة؛ فالقبيلة — قبل الإسلام — كانت الذاتية العربية، فكان العربي لا ينظر إلا إليها، وهي التي جعلت شعرنا كله ذاتيًّا؛ فالقبيلة كانت الإله المعبود، ثم صارت بعد الإسلام قبيلة أعظم وأعز، فالبدوي لا يبالي كثيرًا أو قليلًا بما وراء الكون، وقد حسب الدين عرضًا يزول بزوال النبي، وفي هذا قال الحطيئة:
ولذلك قلَّ ذكر الله في الشعر الجاهلي، وأقل من ذلك ذكر الثواب والعقاب؛ فهو في نظر البدوي حديث خرافة يسمعه ويبتسم ابتسامة مُرة.
حكى لي أحدهم أن أحد أيمة الدين البيروتيين، أو الدمشقيين، ذهب إلى قبائل شرق الأردن واعظًا؛ فقعد يُحدث بني صخر ذات ليلة عن الدينونة، وكيف يكون الحساب عسيرًا جدًّا فيعاقب الإنسان على ما جنت يداه، وأطال الشيخ الإمام الحديث، فانبرى له أخيرًا أحد مشايخ بني صخر فقال له: يا شيخ، في هذه «الغوشة» سيدنا موسى ما يكون؟
فأجابه الشيخ: بل يكون.
– وسيدنا عيسى؟
– وكيف لا يكون؟!
– والنبي ﷺ؟
– قبلهم كلهم.
فضحك البدوي ضحكة ازدراء وصاح بالشيخ: قُم عنا، رعبتنا يا شيخ، هؤلاء ثلاثة أجاويد، بوجودهم لا يصير شيء.
وإعجاب العربي بنفسه جعله لا يؤثر أدبًا على أدبه، وفي هذا تاه أيضًا الجاحظ العظيم حين قال: وفضيلة الشعر مقصورة على العرب، وعلى من تكلم بلسان العرب.
ويتخطَّى من هذا إلى أن يرى في لغته كل شيء، فسدَّ منافذها وصانها، واللغة كالكائنات تأخذ وتعطي لتحيا؛ ولهذا الاعتداد بالذات أصيبت لغتنا بما أصيبت من جمود، مع أنها أرحب اللغات صدرًا، وألينهن قدًّا، تتثنى كأن عظامها من خيزران. إنها أوفر اللغات موسيقى لو أحسنَّا استعمالها، ولكننا غرتنا ذاتيتنا وحسبنا الفن الشعري كله في العروض والقافية. مع أن لغتنا لينة مطواع كالذهب، تطرق وترقق وتمدد كما نشاء، فمهما خشن الحرف فإنه يسترخي متى جاوره حرف لين.
إن اعتداد الجاهلي بنفسه واعتزاله غيره من الناس حالَ دون تطور الشعر. جاء خياله سطحيًّا حسيًّا لأن مروره في صحرائه سطحي أيضًا، يتبع مواشيه إلى المراعي، ينتقل ويلتفت فيرى كل شيء في محيطه متشابهًا، ومن أين يأتيه الوحي؟ وشعره ذاتي غنائي كله لأنه لا يدرك غير الساعة التي هو فيها:
ولهذا لا يعرف الاقتصاد والادخار. هو كالحجل لا يبارح محيطه، ومن كان هذا شأنه فمن أين يأتيه الجديد؟ ولكن هذا لا يعني أن نصمهم بالجهل ونعدهم من البربر. إن العربي خلاصة إنسانية، صهرته شمس الصحراء فلم تُبقِ منه إلا عروق الرجولة الحق وخطوطها.
والشعر الجاهلي هو صورة صادقة لمحيطه وعصره ولون بلاده. أوحى إليه الحل والترحال شعرًا غراميًّا وتحرقًا وتشوقًا؛ فبكى على الطلول. يقول بعضهم: لا وحدة في القصيدة العربية أو الجاهلية خصوصًا، والحقيقة غير ذلك: فما وَصف العربي — خذ مثلًا امرأ القيس، إن صح ما زعم لنا من حكاية دارة جلجل — غير حوادث نهاره، فهي موضوعه المستقل. لست ممن يشكون بوجود امرئ القيس ولا غيره، فإذا لم يصف لنا قصور القسطنطينية فلأنه مات ولم يصلنا شعره، وأغلب الظن لأنه كان مشغول البال بالمُلك الذي ضاع، فليعذره منكر وجوده، ناهيك أن زيَّ وصف القصور لم يكن في تلك الأيام.
(٢-٢) حياة «الشاب القتيل» (سيرة لطَرفة بن العبد)
شاعر جاهلي من أصحاب المعلقات، من قبيلة بكر شقيقة تغلب، وهما اللتان نشبت بينهما حرب البسوس. أبوه العبد بن سفيان، وأمه وردة أخت المتلمس، فالمتلمس خاله. له أخ يُدعى معبدًا، وأخت لأمه فقط تعرف بالخرنق شاعرة وزوجة رجل غني يُدعى عبد عمرو بن بشر، وله عم يلقب بالمرقش الأصغر شاعر، والمرقش هذا أخو أو ابن عم أخي المرقش الأكبر، شاعر آخر، وله ابن عم يُسمَّى مالكًا، وابن عم قيس بن خالد، وابن عم عمرو بن مرثد.
أول ما نلتقي صاحبنا صبيًّا في البحرين على الشاطئ الغربي من الخليج الفارسي. لكنه صبي غير سائر الصبية؛ لقد وُلد معه الشعر وراضعه في المهد، وهذه شفتاه تختلجان به في حداثته، ثم هو يتوقَّد ويتفجر ذكاء.
ونحن هنا في غنًى عن سوق الروايات التي تدل على شاعريته المبكرة وذكائه المتفوق، ولعلها لا تثبت للتحقيق.
غير أن خبرين عن صباه حريَّان بالاعتبار والتصديق لبعدهما من الكلفة وحب التزويق، ولشفوف سيرته عنهما: الأول موت أبيه ونشأته يتيمًا، والثاني احتكاكه بالأدب والأدباء.
فأما الأمر الأول فوسَّع عليه في مجال الحرية حين كان التوسيع خطرًا على الأخلاق، ولا غرابة إذ إن الأبوة نوع من القيد للبنوة تسيطر على أعمالها، فتقوِّم من اعوجاجها وتخفف من نزقها حتى تنضج وتتزن ويكون لها من حنكتها ودربتها وازع يردعها إذا اشتطت ونور يهديها. أما طرفة فقد عدِم هذا الوازع، وإذا لم نقل إنه عدم الاتزان والحنكة والدربة، فنقول إنه أضاع الهدوء وامتلاك الأعصاب وحسن السياسة والاعتدال، وفقد النظرة الجدية إلى الحياة فلم تكن سيرته إلا ثورةً وكبرياءً وتطرفًا.
ثم إن هذا اليُتم في الصغر عرَّضه لما يتعرض له الكثرة من صغار الأيتام، عرَّضه لمطامع أقربائه، ويلوح أنهم تطاولوا على ميراثه واستحلوا بعض حقوقه مما لم يكم من شأنه إلا أن ينمي حدته ويزيد في تهوره ويضيف إلى استهتاره بالحياة وسوء ظن بها وبأهلها.
وأما الأمر الثاني فشحذ قريحته وصقل استعداده وهيأ طبعه، والمتلمس والمرقشان والمسيَّب بن علس الذين نشأ على اتصال بهم كلهم شعراء مجيدون، والذي يخلق بنا أن نلاحظه هو أن هؤلاء جميعًا لم يكونوا على جانب من التعفف والرزانة كبير، بل كانوا يرون الحياة فرصة يغتنمها الإنسان للمتعة قبل أن ينزل التراب الذي هو نهاية النهايات.
وندرج مع شاعرنا من عهد الحداثة فإذا هذا المجال الطليق الذي فسحه له اليتم الباكر، وهذه الأُسوة غير المضبوطة التي رآها في عشرائه من الشعراء تعمل عملها الطبيعي؛ فينصب على اللهو والشراب مبدِّدًا في انصبابه ما سقط إليه من ثروة عن أبيه، وإذا ذوو قرباه تتحلب أفواههم لشيء من هذه الثروة على نحوٍ ما قدمنا فتسوء علائقه بهم، وليس طرفة ممن يحسنون السياسة ويزيلون العراقيل بالحسنى، وكأن ذوي قرباه ليسوا ممن يعفون إذا ألحف داعي الطمع، فما زال سوء العلائق يشتد حتى أفضى به إلى هجائهم، وما زال هذا الفتى الحمي مرسل العنان لا يقمع جماح نفسه، لا في تبديد ماله ولا في هجاء ذوي قُرباه، حتى قلَّ أصحابه ووجد نفسه مفردًا إفراد البعير الأجرب على حدِّ قوله في معلقته، فماذا بعد هذا إلا أن يغادر قومه ويمضي على وجهه؟
شرد طرفة في الآفاق وبعدَ في شروده حتى روي أنه وصل إلى النجاشي صاحب الحبشة ورويت له أبيات في ذلك، ولسنا نعتقد أنه بلغ هذا الشوط، على أنه كيف كان الأمر يحسن بنا أن نذكر أن صاحبنا انتقل من عيش خفضٍ ولين ودعة إلى ما هو الشظف والشدة والغلاظة؛ فذاق المرارة بعد الحلاوة وإننا لنجد الطعمَين في شعره.
وتستمر الرواية فإذا الشاعر يعود إلى الحظيرة التي شرد منها مطوي النفس على السخط وسوء الظن، وإذا قومه يتلقونه بكبرياء العاذر على المعتذر والغافر على المستغفر، فلا يجدون له عملًا أليق به من رعاية الإبل، ومن هو هذا الذي سخَّره هذا التسخير وأزرى به هذا الإزراء؟ هو أخوه معبد!
ولكن لم يكن من المعقول أن يجيد طرفة رعاية الإبل اليوم، وهو الناعم المترف بالأمس؛ فانصرف عنها إلى استهتاره القديم فعنَّفه أخوه ونبَّهه إلى سوء العاقبة وتهكَّم عليه بأن شِعره لن يرد الإبل إذا أُخذت. قالوا: فلم يكترث لشيء من هذا … بلى! ثار ثائره لمرارة التهكم وآلى أن يسرِّح الإبل وحدها لا يخرج فيها رجاء أن تؤخذ ورجاء أن يردها بشعره، وفي الحق أن أُخذت؛ فصار الشاعر هدفًا للتقريع المضاض، وبات أخوه يلحُّ عليه في طلبها؛ فالتجأ إلى ابن عمه مالك يستعينه على استرجاعها من آخذيها وهم مضربون، فلم يكن منه إلا أن انتهره، وبأية قسوة وغلظة: «فرطتم في إبلكم وجئتم تتعبونني في طلبها.» هنا تسوق الرواية أن نفس الشاعر جاشت جيشانًا فنظم شعرًا حارًّا نقرأه في معلقته منه هذان البيتان:
فاستدعاه عمرو بن مرثد وأمر وُلْده السبعة، فدفع له كلٌّ منهم عشرًا من النياق، ثم أمر ثلاثة من بني بنيه فدفعوا له مثل ذلك، فرد إبل أخيه. أما الباقي فقد لا نحتاج أن نذكر كيف أنفقه شاعر كطرفة وقف حياته على اللهو في عشق وشراب.
ويرى الفتى نفسه مضطرًّا إلى مغادرة قبيلته للمرة الثانية. لكن إلى أين؟ تسوق الرواية أن المتلمس خاله وعبد عمرو بن بشر صِهره أوصلاه إلى بلاط الحيرة، وكانا ينادمان عمرو بن هند وأخاه قابوسًا فهشَّ له الملك واستخف منادمته ونفق عنده شعره. غير أن النعمة لم تدم وسبب هذا التبدل مُختلَف فيه.
فمنهم من يذكر أن الخرنق أخت طرفة شكت زوجها عبد عمرو بن بشر إليه فهجاه هجاءً مرًّا:
فبلغ ذلك عمرو بن هند؛ فخرج يتصيد ومعه عبد عمرو، فرمى حمارًا فعقره، فقال لعبد عمرو: انزل فاذبحه، فعالجه فأعياه؛ فضحك الملك وقال: لقد أبصرك طرفة حيث يقول، وأنشده: «ولا خير فيه»، وكان طرفة قد هجا عمرو بن هند وأخاه قبل ذلك هجاءً مرًّا:
فلما أنشد عمرو بن هند لعبد عمرو ما قاله طرفة أجابه: أبيت اللعن، ما قال فيك أشد مما قال فيَّ، وأنشده: «فليت لنا مكان الملك عمرو»؛ فانقلب عليه وأخذ يعمل على التخلص منه، وتروى الرواية هذه بألوان شتى إلا أن مفضاها واحد.
ومنهم من يذكر غير ذلك، فيزعم أن عمرو بن هند كان يومًا على الشراب وطرفة نديمه فأشرفت أخت الملك فرأى طرفة ظلها في الجام الذي في يده فأنشد:
فنظر إليه نظرة كادت تقتلعه من مجلسه.
على كل حال، غضب عليه الملك وآثر إبعاده عنه فألحقه مع المتلمس بأخيه قابوس وكان يرشحه للمُلك بعده، فلم تطب صحبة ولي العهد لأحد من الشاعرَين. ذلك أن قابوسًا كان مولعًا بالصيد يخرج بهما في الصباح فلا يعودان إلا في المساء مجهدَين منهوكَين، ثم يغدو في الصباح الثاني على الشراب وينساهما ببابه نهارهما، فما كان منهما إلا أن هجواه وكان هجاء طرفة: «فليت لنا مكان الملك عمرو» وقد سبق ذكره، ومن ثَم تأخذ الرواية مجراها الأول.
وبعدُ فقد حقَّ لنا أن نسأل كيف تخلص عمرو بن هند من هذا الفتى المدلُّ التيَّاه الذي لا يرعى حرمة؟ هنا رواية أخرى شتى الألوان أيضًا، لكن مفضاها كذلك واحد. قالوا: أمر ملك الحيرة أن يُكتب كتاب إلى عامله بالبحرين ليقتل طرفة في مسقط رأسه؛ فنبَّهه بعض جلسائه إلى أنه لن يسلم من هجاء المتلمس خال طرفة وحليفه، فاستحضر الشاعرَين وأعطى كلًّا منهما كتابًا مختومًا إلى عامل البلاد المذكورة وأوهمهما أنه أمر لهما بجائزة، فمضيا إلى حيث بُعثا. غير أن المتلمس ما لبث أن داخله الشك في صدق الملك ففضَّ ختم الكتاب وأتى غلامًا من أهل الحيرة يسأله أن يقرأه له، فتلمحه، وإذا بالغلام يصيح: «ثكلت المتلمس أمه!» فعرف الشاعر أن حتفه في الكتاب وأنذر طرفة من سوء المصير فلم يأبه لإنذاره؛ فألقى هو صحيفته في شعبة من الفرات ولحق بالشام حيث الغساسنة أعداء المناذرة.
وبلغ طرفة البحرين وأتى عاملها. قالوا: وكان العامل يمت إليه بنسب، فلما اطَّلع على أمر الملك أخبر طرفة اليقين، وفسح له في مجال الهرب. غير أن الشاعر ظنه يكذب وخال جائزته قد عظمت عليه فأبى وأصر على الإقامة؛ فزجه العامل في الحبس وبعث إلى عمرو بن هند أن يرسل من يتولى عمله مكانه لأنه لن يقتل الرجل، ولبث منتظرًا قدوم العامل الجديد، حتى إذا قدم قتله وقتل طرفة معه.
ومن ألوان الرواية التي تُلائم شخصية شاعرنا أنه خُيِّر في القتلة التي يؤثرها فطلب أن يسقى خمرًا ثم تُفصد أكحله فيموت سكران.
تلك هي سيرة طرفة بن العبد الذي لُقِّب بالشاب القتيل لموته الباكر. شاعر غنَّى أعذب غنائه على كأس خمر وطلعة امرأة. يسخر بالبخيل الذي يحبس ماله فيقول له: ستعلم إن متنا غدًا أينا الصدي؟ لا يتهيَّب ملكًا فيصدق فيه ما يُحكى أن خاله المتلمس قال له وقد رأى لسانه الممدود: ويل لهذا من هذا! ويقضي نحبه في ميعة العمر فيصح عليه حكم الهمذاني: مات ولم تظهر أسرار دفائنه ولم تُفتح أغلاق خزائنه!
(٢-٣) الشعر الأندلسي مرآة لجمال الأندلس (أثر المحيط الطبيعي في الأدب)
إذا شئت أن تلتمس إبداع شعراء الأندلس وافتنانهم، ودقة وصفهم، وجمال تصويرهم، وحلاوة معانيهم، وخصب خيالهم، فاسمعهم يذكرون الطبيعة الناعمة الناضرة، وينعتون زينتها وحلاها، وأصباغها وألوانها، ويصورون حضارتها وعمرانها؛ فترى شعرهم حافلًا بذكر الرياض والأزهار، والطيور والأشجار، والجداول والأنهار، والنجوم والأقمار، والغيوم والأمطار، والقصور وحدائقها، والبرك ودوافقها، والصور والتماثيل، والنقوش والتهاويل، وما إلى ذلك من مفاتن في الطبيعة والعمران، والأندلسي أشغف الناس بالطبيعة، وألصقهم بها، لا يفتأ يتغنى بمحاسنها سواء كان جادًّا أو لاهيًا، ضاحكًا أو باكيًا.
وإذا شئت أن تلتمس حب الوطن في الشعر العربي، فاطلبه عند شعراء الأندلس؛ فإنه ممتزج بكل علقة من دمائهم، مصور في كل جارحة من جوارحهم، والأندلس قِبلة شاعرها، كيف اتجه، وأنَّى اغترب، لا ينقطع عن ذكرها، ولا يرى بلدًا في الدنيا يضاهيها، فجمالها فوق كل جمال، وعمرانها فوق كل عمران، وهي جنة الخُلد بحُورها وولدانها، ورحيقها وكوثرها.
وليس بينه وبين الشاعر العباسي شبه من هذه الناحية؛ لأن العاطفة الوطنية ضعيفة في شعر المشارقة، لا تكاد تلمح لها خيالًا إلا في الندرى، والظاهر أن وجود المسلمين في بقعة تحيط بها دول نصرانية، لا تأتلي تجاهدهم لتخرجهم منها ذودًا عن الدين والوطن، مكَّن هذه العاطفة فيهم وجعلهم يقابلون أعداءهم بالمثل حتى أصبح حب الوطن مالكًا على نفوسهم.
وحُقَّ لأهل الأندلس أن يتعبدوا لوطنهم؛ فإن هذا الصقع الجميل المخصاب جدير بأن يمتلك القلوب ويستهويها، ولا سيما قلوب الشعراء فإنها أسرع من غيرها إلى تعشُّق الجمال والخضوع لسلطانه، واستشفاف سحره، والفَناء في ماديته وروحانيته، وقد استحثت الأندلس قرائح الشعراء بوحي طبيعتها وغذتها أفضل غذاء، وحبتها بخيال جميل لم يظفر بمثله من شعراء الشرق إلا الأقلون؛ فإن قرطبة وإشبيلية وغرناطة كانت أبلغ أثرًا في مخيلات الشعراء من الشام والعراق ومصر، فإذا هم والطبيعة إلفان لا يفترقان وروحان متصلان، وإذا الطبيعة لديهم نفس هيولانية تقبل جميع الصور وتتقمص جميع الأجسام، لا يخلو منها غرض من أغراضهم، ولا يتخلى عنها خاطر من خواطرهم، فإن مدحوا خصوها بنصيب من مدحتهم، فجعلوا صورها بالأشياء المعنوية:
أو بالأشياء المادية:
ويهدي شاعرهم قصيدته إلى ممدوحه فيما يرى غير الروض شبيهًا لها:
وربما أراد التخلص إلى المدح فيستخدم الطبيعة سبيلًا إلى ممدوحه كما فعل أبو عامر بن شُهيد في مدح المؤتمن بن عامر فإنه استهل مدحته بذكر الخمر والساقي، وانتهى إلى وصف سحاب ماطر:
وإن تغزَّلوا متشوقين إلى أحبتهم عنت لهم أيام اللقاء بالأندلس؛ فينقطعون عن الغزل منصرفين إلى وصف موضع اللقاء كأن لذة الاتصال بالطبيعة كافية أن تؤدي شرح أحوالهم إلى أحبائهم الهاجرين. قال ابن زيدون يذكر ولَّادة وهو بالزهراء، وهي في قرطبة:
ويصف عاشقهم حبيبه فيجعله جنة مختلفة الأزهار، وربما تعفف فيما يرى غير الطبيعة صورة لعفته كقول أبي عمر بن فرج:
ويطول بنا الأمر أن تتبعنا صور الطبيعة في مختلف أنواع الشعر الأندلسي، فحسبنا القول إنها حديثهم في جميع أغراضهم، والرجوع إلى أشعارهم يؤيد صحة ما نقول.
وكان من إمعانهم في إبراز صور الطبيعة وتشخيصها أن شغلوا عن وصف إحساسهم بجمالها، وتذوقهم أسرارها، والتذاذهم بالاتحاد بها، فخلا شعرهم أو كاد يخلو من تصوير اختلاجات نفوسهم نحوها، وانجذاب عواطفهم إليها. مثال ذلك قول ابن خفاجة وهو أشعر من وصف الطبيعة عندهم، وشغف بمحاسنها، واتصل بها. قال يصف نهرًا:
ولكنهم أبدعوا في بث الحياة بها، ودرس نفسانيتها على ما يوحي إليهم خيالهم الخصب، فعلَ ابن زيدون في قافيته التي أرسلها إلى ولَّادة، وفعل ابن شهيد في وصف السحاب الماطر، وكثير من معاني الأندلسيين في الطبيعة مطروق، سبقهم إليه المشارقة، ولكنهم تلطفوا في إخراجه، وتفنَّنوا في تصويره؛ فظهرت عليه الجدة والطرافة كقول ابن الزقاق:
وشغفُ الأندلسيين بالطبيعة منحهم خيالًا جميلًا، وتشابيه حلوة، فكانت الرقة والنعومة ميزة أشعارهم، والفضل في ذلك للأندلس وما لربوعها من تأثير في نفوسهم، حتى كان حبهم لها عبادة. قال ابن خفاجة:
وكان للأندلس وطبيعتها القسط الأوفر في موشحاتهم الشهيرة.