الدراسة الأدبية
(١) تعريفها
الدراسة الأدبية تزويج بين النقد والتاريخ الأدبي. يعني هذا أن الدارس الأدبي إذا استقبل موضوعه حشد له جميع ما يتعلق به من أصول النقد ومادة التاريخ الأدبي وانصرف إلى تطبيقها عليه.
لكن يجب التنويه ببعض وصايا مبدئية ربما ظهرت غاية في البساطة إلا أنها جديرة، مع ذلك، أن تقيم أمام الدارس، حين يضرب عنها صفحًا، عقبات جدِّية.
لا بدَّ أولًا من إنعام النظر في الموضوع المعروض للدراسة. لا بد من ضبط الغاية المقصودة من هذا الموضوع، على وجه دقيق، فإذا كان الموضوع — وكثيرًا ما يكون — قطعة شعرية أو نثرية وجبت قراءتها في أناة وضبط لغوي وتفهم لمعاني مفرداتها وتراكيبها، وما أكثر ما نصادف طلابًا يسرعون إلى التعليق على شعر امرئ القيس مثلًا وهم لا يحسنون قراءة نص من نصوص هذا الشعر مع إقامة إعرابه وشرح مفرداته وتراكيبه. ثم يجب إدراك الغرض الرئيسي الذي تهدف إليه القطعة الشعرية أو النثرية، ويستحسن أن يضع الدارس عنوانًا أو عناوين للقطعة تعبر عما تنطوي عليه من غرض رئيسي. كذلك يُستحسن أن يحاول الدارس فك القطعة إلى ما نسميه رءوس أقلامها؛ فينكشف كيف تدرَّج كاتبها أو شاعرها في الوصول إلى غرضه الرئيسي.
من ثم ينبغي للدارس أن يلتفت إلى معرفة مناسبة القطعة، متى كتبها كاتبها أو نظمها شاعرها، وفي أية ظروف أحاطت به، وعلى أية حال نفسية، وهكذا يمكن — من جهة — الربط بين القطعة ومزاج عصرها، والقطعة ومزاج كاتبها أو شاعرها.
وأخيرًا يكون للدارس أن ينصرف إلى تحكيم الذوق في القطعة فينظر في نوعها الأدبي، وفي شكلها النثري إن كانت نثرًا وفي شكلها الشعري إن كانت شعرًا، ينظر في مفرداتها وفاقًا لأصول نقد اللفظ، وفي جُملها وفاقًا لأصول نقد التركيب، وفي طرق أدائها من حيث هي وافية بالمعاني، وفي معانيها من حيث هي مطابقة لمقتضى الحال، وفي أسلوبها عامةً، حتى يفرغ من ذلك كله إلى الرأي في قيمتها من جهة أثرها في النفس وحظها من عمق الفكر وضيق الرسالة أو سعتها.
وفيما يلي فصل وجيز عقدناه تطبيقًا لما سبق على قطعة شعرية لأبي فراس الحمداني.
(١-١) أبو فراس في سجنه والحمامة النائحة
هو ذا أبو فراس الأمير الحمداني، الشاعر الفارس، يسمع صوت حمامة فيناجيها بهذه القطعة من الشعر الغنائي.
والحمامة طائر وديع تتغلب عليه الرقة والكآبة، ومن عادته أن يقوم منفردًا على غصن فيبعث من حنجرته نبرات خافتة، تمتُّ إلى الأنين بصلة وتشف عن لاعج الحنين. قيل في الأسطورة إن الحمامة في قديم الزمان أضاعت ذَكرها — واسمه الهديل — فهي لا تنفك تدعوه وتندبه؛ لذلك كانت الحمامة مورد وحي لكثيرين من شعراء العرب، وهم في حالة نفسية حزينة، فناجوها بقِطع من أشعارهم جد ناعمة ورقيقة.
وقد ناجى أبو فراس الحمامة وهو في الأسر لدى الروم، وكان الأمير الشاعر قد خاض معارك كثيرة في قتال الروم تحت راية ابن عمه سيف الدولة الحمداني؛ فأبلى بلاءً حسنًا حتى وقع في الأسر، والمزعوم أنه أُسر مرتين، ويقال بل مرة، وتلك مسألة لا تهمنا. إنما يهمنا أن الأمير الشاعر كان سجينًا، سواء في قلعة خرشنة أو في القسطنطينية، عندما نظم أبياته التي نعالج النظر فيها.
فلنتصوره إذن وراء قضبان الحديد. لنتصور «زين الشباب» كما نعت نفسه مهينًا في قبضة الغرباء الأعداء بعد أن كان عزيزًا في إمارة بني حمدان، لا يرى وجه السماء بعد أن كان يمرح في حلب ومنبج، أمه التي حضنته وربته بعيدة عنه، وإخوانه قد كادت تنقطع بينه وبينهم الأسباب لولا ذكريات تطيف.
ولا أمل له باسترجاع حريته ما لم يدفع الفدية، والفدية لن تجيئه إلا من ابن عمه. لكن لأمر ما يتردد ابن عمه في أداء الفدية عنه، وذلك هو الجرح الذي لا ينفك يقطر دمًا في دخيلة أبي فراس، جرح عميق عسير الاندمال. لمَ لا يفديه ابن عمه؟ أيرى كثيرًا عليه مقدارًا من الدنانير الذهبية، وهو الذي عاش جنديًّا لسيف الدولة لا يتقاعس عن بذل دمه في سبيله، وشتَّان بين الذهب والدم؟
وإذا ذكرنا أن أبا فراس شاعر وفارس وأمير في آنٍ، أدركنا كم يجب أن يكون رهيف الإحساس، يسري إليه الإحساس من شاعريته وفروسيته وتربيته الأرستقراطية غير الخنثة ولا المائعة، ولعله لو لم يكن رهيف الإحساس لم يشعر بالثورة من جرَّاء تهاون ابن عمه في أمره تهاونًا لا يفرق عن إنكار الجميل، ولم يجد لذلك مس ألم كحز السكين.
فما عسانا أن ننتظر منه وهو في هذه الحالة النفسية الثائرة المتألمة، حين يسمع من سجنه نوح حمامة على شجرة في الفضاء الطلق؟
ألا ننتظر منه أن يعجب لبكاء تلك الحمامة وهي لم تذق مرارة الفراق ولا ملأت نفسها الهموم، وهي إلى ذلك حرة لا تكتنفها الجدران السميكة القاتمة؟ ألا ننتظر منه أن يقارن بين حالته وحالة الحمامة؟ بلى! وهذا ما فعله أبو فراس. أما مبنى القطعة فلا غبار عليه: الألفاظ واضحة مأنوسة لا عيب فيها سوى المخالفة الصرفية في «تعالي» من البيت الثالث؛ فالقافية تحتم كسرها وهي، حسب ما ترجح الأصول، ينبغي لها الفتح.
ويعجبنا لدى أبي فراس نداء الندبة: أيا جارتا! وقد كان باستطاعته أن يقول: أيا جارتي، فلم يفعل لأن نداء الندبة يثير في الذهن الحسرة والكآبة مما يلائم الموقف.
والتركيب أيضًا جيد؛ فلا مأخذ على التزويج بين الألفاظ في الأبيات، إلا أن تركيب البيت الرابع «تعالي تري روحًا» لا يخلو من إطناب يعيبه لأنه أقرب إلى الحشو؛ فكلمة «لدي» يستغنى عنها، و«يعذَّب» التي هي جملة فعلية في محل النعت لجسم، لا تتساوق مع النعت المفرد «بال»، وقد كان أصلح للمساوقة أن يقول: «معذَّب»، لكن الوزن عندئذٍ يختل مع التنوين.
على أن هذه النقيصة البسيطة تغطيها حسنات جمة في تركيب القطعة، فهذا الشرط المحذوف الجواب: «لو تعلمين بحالي» بليغ بإيجازه لأنه يطوف بذهن القارئ في مدى واسع من تأويل ما كان يقع لو علمت الحمامة بحال الشاعر، ولعل أعظم لذة يغنمها القارئ من قراءة الأدب هي هذه اللحظات التي يثيره الأديب في خلالها إلى التأويل.
فأما معاني القطعة فلا حاجة إلى تكرير أنها مطابقة لما ننتظر من أبي فراس في مثل موقفه، وكم يعجبنا البيت الخامس: «أيضحك مأسور …» باستفهاماته التعجبية، وبطباقاته: مأسور وطليقة، ومحزون وسالٍ، ولا شك أن هذا البيت قمة القطعة، تدرج إليه أبو فراس في نجوى الحمامة، وبثَّ في بيت واحد جملة ما أراد أن يقول، ثم ألحق به بيتًا آخر يشف عن نفسية الفارس، فيه يعلن حاجته إلى البكاء وإباءه أن يرخِّص دموعه، وهو القائل في غير موضع يصف ذاته: «أراك عصي الدمع شيمتك الصبر.»
وليس في معاني القطعة إلا ما يدل أنها صادرة عن صدق شعور، ولا نلبث ونحن نقرأها — إذا كنا نفهم ظروفها — أن يتصل بنا الشعور الذي كان مستوليًا على الشاعر حين نظمها. غير أننا مع ذلك لا نستطيع إلا أن نحس أن أبا فراس ترك غير مقولٍ كثيرًا مما كان يحسن، بل يجب، أن يقوله في مثل موقفه، ومعنى هذا أنه من حيث هو فنان لم ينتفع بموضوعه حق الانتفاع، فالمفهوم بطبيعة الحال أن أبا فراس لا يناجي الحمامة لذاتها، وهي لا تعقل عنه، بل إنما وجه إليها الخطاب والمقصود غيرها، وقد كان ميسورًا للشاعر أن يقول للحمامة مثلًا: ولمَ تنوحين وما أحسبك ذقت مرارة الجحود التي ذقتها من أقرب الناس إليَّ؟
(٢) من فنون الدارسة الأدبية
وللدراسة الأدبية طبعًا فنون موفورة تتنوع بتنوع المواضيع وباختلاف النواحي المراد تأكيدها من البحث، وليس إلى حصر فنون الدراسة الأدبية سبيل، فنكتفي إذن بأكثرها شهرةً، نعني: تصوير شخصية أديب وإظهار ميزته، والموازنة بين قطعتين، والكشف عن صاحب قطعة مجهول، والتعليق على رأي من الآراء الأدبية، ولا شك أن خير ما نصنعه هو إثبات نموذج تطبيقي على كل فن من الفنون المذكورة.
(٢-١) الصاحب ابن عباد في غروره (صورة لشخصية أديب)
قال يومًا: «من في الدار؟» فقيل له: «أبو القاسم الكاتب وابن ثابت.» فعمل في الحال بيتين، وقال لإنسان بين يديه: إذا أذنت لهذين فادخل بعدهما بساعة وقل: «قد قلت بيتين، فإن رسمت لي إنشادهما أنشدت.» وازعم أنك بدهت بهما، ولا تجزع من تأففي بك، ولا تفزع من نُكري عليك، ودفع البيتين إليه وأمره بالخروج إلى الصحن، وأذن للرجلين حتى وصلا، فلما جلسا وأنسا دخل الآخر على تفيئتهما، ووقف للخدمة، وأخذ يتلمظ يري أنه يقرض شعرًا. ثم قال: يا مولانا، قد حضرني بيتان، فإن أنت أذنت لي أنشدت. قال: أنت إنسان أخرق سخيف، لا تقول شيئًا فيه خير، اكفني أمرك وشعرك. قال: يا مولانا، هي بديهتي، فإن نكرتني ظلمتني، وعلى كل حال فاسمع، فإن كانا بارعين وإلا فعاملني بما تحب. قال: أنت لجوج، هات، فأنشد:
قال: قاتلك الله، لقد أحسنت وأنت مسيء. قال لي أبو القاسم: فكدت أتفقأ غيظًا؛ لأني علمت أنها من فعلاته المعروفة، وكان ذلك الجاهل لا يقرض بيتًا، ثم حدثني الخادم الحديث بنصه.
والذي غلَّطه في نفسه وحمله على الإعجاب بفضله والاستبداد برأيه، أنه لم يجبه قط بتخطئة، ولا قوبل بتسوئة، ولا قيل له أخطأت أو قصرت أو لحنت أو غلطت أو أخللت؛ لأنه نشأ على أن يقال: أصاب سيدنا، وصدق مولانا، ولله درُّه، ولله بلاؤه، وما رأينا مثله، ولا سمعنا من يقاربه، من «ابن عبد كان» مضافًا إليه؟ ومن «ابن ثوابة» مقيسًا عليه؟ ومن «إبراهيم بن العباس الوصلي» إذا جماع بينهما؟ من «صريع الغواني»، من «أشجع السلمي» إذا سلك طريقهما، ومتح برشائهما، وقدح بزندهما؟ قد استدرك مولانا على «الخليل» في العروض، وعلى «أبي عمرو بن العلاء» في اللغة، وعلى «أبي يوسف» في القضاء. هو والله أولى بقول: «أبي شريح أوس بن حجر التميمي» في «فضالة بن كلدة»:
قد يسبق المدح إلى من لا يستحقه، ويصير المال إلى من لا يليق به أن يكون ميِّلًا حتى إذا وجد من كان لذلك مستحقًّا منحه ووفر عليه.
(٢-٢) طريقة أبي تمام (دراسة في ميزة شاعر)
لنقل منذ اللحظة الأولى أن ميزة هذا الشاعر الكبير ليست باليسيرة على الفهم، لكنها ذات طابع قوي، وليس أبو تمام سريعًا إلى الذوق والقلب، فقد لا يكون في الأدب العربي شاعر مثله يحتاج إلى طول معاشرة، لكن القارئ يحبه بعد أن يألفه، ويجد فيه من اللذة والمتعة ما يكافئه على هذا الحب، ونحن طبعًا لا نريد بميزة أبي تمام نعت شخصه أو صفة أخلاقه، بل إنما نريد بيانه ومعانيه.
وقد أشار قدماء النقاد إلى مذهب شعري جعلوا ابتداءه بمسلم بن الوليد، صريع الغواني، وجعلوا أبا تمام عَلمًا من أعلامه غالى فيه أحيانًا حتى أفسده.
أما خصائص هذا المذهب فهي وفرة استخدام المحسنات البديعية من لفظية ومعنوية، وكثرة الاعتماد على التشابيه والاستعارات والكنايات في أداء الأغراض المقصودة. لا ريب أن في هذا كله احتيالًا على تجميل المعنى، وسلوك طريق غير الطريق المباشر إليه. ثم لا ريب أن في هذا كله صناعة ظاهرة.
ومن هنا حكم القدماء حكمهم على هذا المذهب الشعري؛ فخصُّوا أبا تمام من بين أتباعه جميعًا، بصناعة تظهر وتشتد عليه حتى تزيل منه أثر العفوية والطبعية، وتسربله بالغموض والإبهام.
ونحن وإن كنا لا ننكر ما في حكم القدماء على هذا المذهب الشعري، وعلى أبي تمام، من صحة، نرى أن الشعر كله لا يخلو من صناعة، ولا يمكنه أن يخلو، ونرى كذلك أن في هذا المذهب الشعري عمقًا يوجب علينا أن لا نكتفي بالنظر إليه من خلال المحسنات البديعية والتشابيه والاستعارات والكنايات، فهذه ليست سوى الذرائع التي تذرَّع بها.
وهنا نجد أنفسنا مضطرين ولو إلى بحث وجيز في حقيقة بعض المحسنات البديعية، وفي المنشأ الذي تصدر عنه التشابيه والاستعارات والكنايات.
ومفهوم أن المحسنات البديعية منها اللفظي ومنها المعنوي. أما اللفظي فأقلها قيمة، وهو أشبه بالأزهار المتقنة المصنوعة من ورق يحسن مرآها، ولا رائحة لها، وأما المعنوي فتتفاوت قيمته، ومن أرقى أنواعه الطباق، وقد شغف به أبو تمام شغفًا خاصًّا، والطباق هو أن تسوق الشيء وضده، والمعجب أن أبا تمام كثير الالتفات إلى اجتماع الأضداد في الحياة، بل إنه ليلحظ تولُّد الضد من ضده، وهذا عمق عميق في التفكير:
•••
وأما المنشأ الذي تصدر عنه التشابيه والاستعارات والكنايات فنخاله في الأصل شعور الشاعر باقتران، أو تقارض، أو وحدة بين أشياء الكون من جماد وحي، وما القصد من التشبيه في الأصل، إلا إبراز علاقة من مشابهة بين طرفين، والاستعارة مبنية على سبب من القرابة بين المستعار له والمستعار منه، وكذلك الكناية لا تخلو من وجه للدلالة على المكني عنه.
وحين نتحدث عن الكون في نظر الإنسان — لا سيما الشاعر — فإننا نعني في الحقيقة أكوانًا، فهناك الكون الخارجي، نقصد الطبيعة المحيطة بالإنسان من كون جمادٍ وكون حي. ثم هناك الكون الحسي، والكون المعنوي، وهي كلها أكوان متشابكة مؤثر بعضها في بعض، والشاعر ميَّال إلى رؤيتها كونًا من خلال كون، وكونًا مرآة لكون، وهذا لا يخلو من الغموض، فلنمثل. قال مسلم بن الوليد، صريع الغواني:
فواضح من هذا البيت أن الشاعر قد رأى كونًا من خلال كون، أو كونًا مرآة لكون، فالرياح الهابة وصدى صوتها الكئيب وتعرجها في هبوبها أسباب حملت مسلم بن الوليد على أن يُنزل الرياح منزلة البشر العاقلين ويُضفي عليها ما يضفي على الإنسان من القلق والجزع والحيرة والتشبث بأطراف الصخور عند تسلق الجبل الوعر.
وإننا لا نجد شاعرًا عربيًّا كأبي تمام استطاع أن يرى الأكوان بعضها من خلال بعض، أو بعضها مرآة لبعض، وما لم نفهمه في هذا الضوء فاتنا الكثير من سحره وروعة فنه؛ فأبو تمام لم يلجأ إلى الطباق ألهوة يتلهى بها، لكنه عمد إلى ذريعة بيانية جلا بها حقائق هي وقائع لا مهرب منها على بروز التناقض فيها، فلنقرأ له هذه الأبيات:
وقد يأتي بما هو أعمق وأبقى على الدهر:
كذلك لم يلجا أبو تمام إلى التشابيه والاستعارات والكنايات ألاعيب يكشف بها عن مهارة، لكنه اخترق بإحساسه وفهمه مظاهر الأكوان فتناول بعضها من خلال بعض وشهد بعضها مرآة لبعض، كما أسلفنا، وإلى القارئ قوله في رثاء صديقه الشاعر علي بن الجهم:
فما أبرع الطباق وأروع — على التناقض — هذا السم والجمر الذي وضعه في الزلال البارد صديق مات لصديق يعيش بعده مفجوعًا به! ثم ما أجمل نعت «الخضر» للأخلاق، وما أبدع استعارة «الربى» لها! وأبو تمام موفق جدًّا، في أغلب الأحيان؛ إذ يرى «الإنسانيات» من خلال مشاهد الطبيعة، على نحوِ ما رأى الأخلاق العالية الزكية من خلال الربى الخضر في البيت السابق.
ولو أن أحدنا شاء أن يمثل وجهًا وقحًا صفيقًا دنيئًا لوجد نفسه حائرًا لدى ابتكار صورة جديدة يعبر بها عن غرضه. إلا أن أبا تمام وقع على صورة هي حقًّا جديدة مبتكرة لهذا المعنى؛ فرأى الوجه القبيح الصفيق الدنيء من خلال مستنقع نتن كساه الطحلب، قال:
والأمثال من هذا القبيل موفورة لدى شاعرنا؛ فقد أراد أن يصف بالصراحة نسب قوم، فمثَّله بالفجر المشرق على الجنة الناضرة:
ومن هنا كان أبو تمام يسلك إلى المعاني الطريق غير المباشر، فإذا وفق — وكثيرًا ما يوفق — استطاع أن ينهض بالمعنى المألوف إلى مستوًى رفيع، كما في قوله:
فما قصد أن يقول سوى أنهم شفوا غليلهم من الأعداء بعد موقعة البذ، ولو أنه قال: أبنا وقد شفينا الغليل، لما جاء بشيء، لكنه كنَّى عن هذا المعنى بقوله: ونحن قصار أعمار الحقود، فكساه حلة جديدة طريفة.
وليتأمل القارئ هذا البيت الآخر من شعره في الخمر:
فكل ما أراد أن يقوله أبو تمام أن الخمر لانت بلين الماء بعد حدة مذاقها وشراسة فعلها. إلا أنه سلك إلى تقرير المعنى سبيلًا نهض به ورفع مستواه.
ثم فليتأمل القارئ بيته في الغمامة والبرق:
وضمائر الأغماد هي السيوف، وما أبرعها كناية سلكت بالكلام سبيلًا غير مباشر إلى المعنى، فنضهت به؛ إذ لو قال: كأنها السيوف، لما أتى بما استرعى انتباهًا.
كذلك، فليتأمل القارئ قوله المبتكر في وصف البغي وعاقبته الوخيمة:
فقد جسَّد الظلم في بعير من التنابذ والتفرقة ينزل بأصحابه واديًا نبته المصائب والبلايا!
وأخيرًا لا بد من دعوة القارئ إلى تأمل هذا البيت الرائع في وصف الفرس:
وهذا البيت الفذ في وصف ممدوحه الحسن بن وهب:
أراد في البيت الأول أن يصوِّر لون جواد أحمر يضرب إلى صفرة شديدة، ولو أنه قال: جواد أحمر اللون مموه بالأصفر لكان قوله تافهًا قليل الحظ من الشاعرية. على أنه حين أبصر لون الجواد رجع إلى مشهد الشمس التي عراها الكسوف، ثم خَيَّل لنا أن الشمس منساحة على جلد هذا الجواد وأنها مكسوفة فيه، وذلك من بدائع التخييل.
وشاء في البيت الآخر أن يصوِّر ما للممدوح من جمال فائق يدوم على الأيام، فجعل غده يشتاق لُقياه وجعل أمسه يكثر الحنين إليه، وذلك أيضًا من بدائع التلطف في إخراج المعنى.
عند هذا الحد نقف، ونعتقد أننا، إن لم نكن وفَّينا ميزة أبي تمام حقها؛ فقد رسمنا سبيلًا إلى تفهمها، وهي ميزة تبدو للناظر السطحي محصورة في التهالك على الطباقات والتشبيهات والاستعارات والكنايات، غير أنها في الحق أعمق جدًّا؛ فهي ميزة الشاعر الذي يسرع به خياله وحظه من الثقافة إلى الانتقال بين الأكوان جميعها يقترض منها مادة لإبراز معانيه إيماءً وتخييلًا على الوجه غير المباشر؛ لذلك كان فهم أبي تمام غير ميسور للقارئ الذي لا يتمتع بثقافة وبنصيب من القدرة على التحصيل العقلي، وربما قيل إن أبا تمام نحا هذا النحو تأثرًا بالأغارقة. غير أن التفسير لا موجب له، لأننا نشاهد لُمَعًا من الطريقة التمامية في الشعر العربي في العهد المخضرم، كقول الحطيئة للخليفة عمر بن الخطاب:
وقد أثبت بعضهم ختام البيت على أنه «تعمى بها الخُبُر» (جمع خبير أي دليل)، والواقع أن الحطيئة استعمل الخَبَر، مجازًا، بمعنى الخبير ثم جعل الخبر نفسه يعمى لدى اجتيازه الفلاة الواسعة التي تفصل الشاعر عن أهله، ومن أبيات جرير:
فتح بعضهم «نهاره» و«ليله» على أنهما ظرفان مفعولان فيه، والواقع أن جريرًا أرادهما مضمومين على الابتداء، فليس أعور نبهان هو الأعمى البصير، بل نهاره هو الأعمى، أي: أنه يستتر فيه حياءً من الظهور، وليله هو البصير، أي: أنه يخرج فيه لغاياته الدنيئة آمنًا تحت سجوف ظلمته.
وفي هذين البيتين، كما قلنا، لمع من الطريقة التمامية في تشخيص غير الأشخاص، فالحطيئة قد جعل الخبر إنسانًا يعمى، وجرير قد جعل الليل والنهار إنسانين يعميان ويبصران. هذا من أسلوب أبي تمام.
أما المحسنات البديعية اللفظية، والكثرة من المفردات الجاهلية العويصة، فكانت سمات اتَّسم بها شعر أبي تمام إلا أنها لا تؤلف ميزته، ولعل أبا تمام، لو رُزق طول العمر، لصفَّى طريقته مما كدرها من الشوائب.
(٢-٣) المتنبي والبحتري وصراع الأسد (في الموازنة بين القصيدتين)
إن شاعرين من أكبر شعراء العرب نظما قصيدتين في موضوع واحد، هو وصف الأسد، فلنحاول أن نعين قيمة كلٍّ من القصيدتين. قال البحتري يمدح الفتح بن خاقان، ويذكر مبارزته الأسد:
•••
وقال المتنبي يمدح بدر بن عمار، ويذكر مبارزته الأسد:
•••
ونحن مضطرون، للمقابلة بين القصيدتين، أن نفكك أجزاءهما، ثم نعيدها إلى وحدتها مرة أخرى. ولنتحرَّ الآن الصور، والأفكار، والأصوات، والإحساسات في كلٍّ منهما:
-
الصور: ليث البحتري: (أ) واحد من ليوث كثيرة لا تكاد تميزه من غيره،
بلون أو وصف. (ب) في روض أشب، يرود التلال تارة، ويحتل الأباطح
أخرى، ويحدد للقاء نابه ومخلبه.
ليث المتنبي: (أ) هو ذلك الليث النادر الذي تتعب نفسك في التفتيش عنه، وقد لا تجده إلا في محترف الفنان. يضرب لونه إلى الحمرة، عظيم اللبدة، ثخين العفرة، خضابه دم الفرسان، صوته في أذني الفرات والنيل، النار في عينيه، تياه، مزهو، مغيظ.
-
الأفكار: البحتري: توسل إلى الإبانة عن شجاعة الأسد بأنه جعل طعامه
على حمر الوحش وبقره، وأنه أدل بشغبه على الممدوح، فإذا عاين
صولته أحجم، وإن لم يرَ سبيلًا للنجاة أقدم.
المتنبي: طعام ليثه الفرسان، وهو أسد شجاع يترفع عن الهرب، ويؤثر الموت الكريم عليه، وقد تحدى صاحبه بالوثبة.
- الإحساس: إن شعور الرهبة الذي يثيره فينا أسد المتنبي العريق في أسديته، يقتنص الفوارس ويسيل الدم من شدقيه، لا يثيره فينا أسد البحتري، بين الأقحوان والحوذان يعتدي على ضعيف الوحش، وبالتالي فإن شعور اللذة والراحة الذي نجده لانتصار ممدوح المتنبي، لا نحسه لممدوح البحتري.
- الأصوات: قد تكون الأصوات أسلس عند البحتري وأصفى منها عند المتنبي، ولكنها أقل إيحاءً.
فأنت ترى، من بعد هذا، التفاوتَ العظيم بين القصيدتين، وترى أن الموضوع وهو واحد لم يعين قيمة كلٍّ منهما، بل هي أشياء أخرى، ولكنك لا تقبل بأن الموضوع غير ذي قيمة وأنت تشعر بوجوده في الفكرة والصوت والصورة والإحساس، وعلى هذا فإن عملية التجزئة التي قمنا بها غير صحيحة وما هي إلا من قبيل عملية التشريح التي يقوم بها أستاذ الجراحة لإفهام تلاميذه، هي للإفهام لا غير.
لا بدَّ لنا أن نأخذ القصيدة تامة، فنحكم عليها كوحدة غير متجزئة، فليست القصيدة الموضوع، ولا الصوت، ولا الصور، ولا الفكرة، ولا الحس، بل هي كل ذلك، متحدًا ببعضه اتحادًا لا ينفصم، كاتحاد الدم بالحياة، وهي فوق ذلك شيء مستقل بذاته، هي قصيدة.
(٢-٤) «ذاك عيش لو دام لي» (نظر في قطعة وكشف عن صاحبها المجهول)
واضح أن هذه قطعة شعرية في التغزل بالخمر، لكنها كما نواجهها يتيمة، أي: أن أباها أو شاعرها مفقود. على أن اسم الشاعر العربي الذي يتبادر إلى الذهن حين يعرض ذكر الخمر هو أبو نواس، ومع ذلك فلسنا نستطيع أن نجزم أن هذه الأبيات لأبي نواس؛ لأن كثرة من شعراء العرب في الجاهلية، وعهد بني أمية وبني العباس، وفي مصر والأندلس، قد تغزلوا بالخمر.
لكن أليس في هذه الأبيات دليل معيَّن يساعدنا على الاهتداء إلى صاحبها بصورة أضبط؟
أجل! هناك معنى البيت الثاني منها:
فنحن نعرف أن اختلافًا في الرأي برز في العصر العباسي الأول حول القديم والجديد في الشعر، فزعم نفر من علماء النقد أن الشعر الجاهلي هو أفضل الشعر وأن طريقته هي أفضل الطرق، فليس للشعراء الجدد إلا أن يضربوا على غرار الجاهليين، فزعم نفر من الشعراء الجدد أن ذلك بعيد عن المعقول، فالجاهليون نظموا في محيط غير محيطهم وبتأثير دوافع غير دوافعهم، ومن المستنكر، وهم في العصر العباسي الأول بجميع حضارته الزاخرة، أن يستوحوا الصحراء وحياتها البدوية الجافة، وقام على رأس أولئك الشعراء الجدد شاعر جعل ديدنه أن يسخر بطريقة الشعر القديمة وأبين خصائصها وصف الطلول الدارسة ومناجاتها. ذلك هو أبو نواس، وما القول الذي ورد في البيت الثاني: «ودع الوصف للطلول» إلا أنملة تومئ لنا إليه.
ونقرأ البيت الأخير فإذا الشاعر يورد اسم الأمين، وهو الخليفة العباسي المعروف، ويذكر أنه يخافه، وأن خوفه إياه حمله على التنازل عن حياة الشرب الممتعة، وأبو نواس عاصر الأمين ونادمه ووادَّه، وقد اتفق للأمين أن أمر شاعرنا بالامتناع عن الخمر لإفراطه فيها وتعريضه إياه للفضيحة؛ فقد قال أبو نواس مرة في الخمر:
فزعم جهارًا أن الخليفة — يعني الأمين — صديق الشراب، وزعمٌ كهذا، مع تحريم الدين الإسلامي للسُّكر، ومع كثرة أعداء الأمين؛ حريٌّ أن يستغله الدعاة السياسيون بين الرعية لمآربهم، فحجز الخليفة بين شاعرنا والخمر؛ فقاسى من جرَّاء ذلك ألمًا قويًّا، ولبث فترة يتحسر على صفيَّته التي حيل بينه وبينها، ولا شك أن الأبيات التي ننظر فيها الآن قد نظمها في فترة التحسر تلك، ونظم غيرها أيضًا فقال:
وإذن فهذه الطائفة من الأبيات المجهول صاحبها هي لأبي نواس، وإذا التفتنا إلى ألفاظها السلسة ومعانيها وجدناها به حَرِيَّة؛ فهو أبرع شعراء العرب على الإطلاق في التغزل بالخمر، وهذه المعاني: كرور الدهر على الخمر حتى لا يُبقي إلا لبابها، وترقيقه لها حتى تصبح هباءً تدركها العيون ولا تلمسها الأكف، واستضحاكها لدى شجها عن لآلٍ تُقتنى لو أمكن تجميعها في الأيدي؛ كل هذه المعاني أبو نواس أستاذها ورافع لوائها.
(٢-٥) المطالعة والحفظ في تكوين الأديب (تعليق على رأي أدبي)
ينصح صاحب المثل السائر متعلم الكتابة بحفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية وعدة من دواوين فحول الشعراء، و«الحفظ» هذا كان له في ثقافة العصور السالفة شأن عظيم، وقد وجد أيضًا في علماء البيان المتقدمين من أشاروا على متعلم الكتابة بأن ينسى ما حفظه لئلا يغلب عليه التقليد؛ فلا يظهر طبعه ولا يُعرف إبداعه.
وربَّ قائلٍ إن العبقرية هبة من الطبيعة، لا يجدي المحروم منها حفظه مهما اتسع، ودرسه مهما عمق. بل إن كثرة الحفظ والدرس قد تقتل عنده مَلَكة الابتكار والتوليد، وتجعل منه رجلًا من حبر وورق، لا من لحم ودم.
هذا قول حق لا نجادل فيه، فإن كثيرًا من كتَّابنا هم ذلك الرجل المسيخ الذي لو قطعت شرايينه لما أخرجت إلا حبرًا، ولو مزقت لحمه لما أخذت إلا ورقًا، ولكن ليس بالفنان العبقري كل من أراد أن يكون كذلك، والعبقري نفسه مدين للذين تقدموه أجمعين، بل لعله أكثر الناس دَيْنًا كما أنه أكثرهم غنًى، وهو ما عناه أحد كتَّاب الفرنسيس بقوله، ناظرًا من هذه الناحية: «النبوغ أو العبقرية صبر طويل.»
بيد أن هذا لا يمنع من أن الكتابة فن له قواعد وأصول وضعت بعد الاختبار الطويل، ينبغي أن تُدرَس وتُجاد معرفتها للعمل بمقتضاها، ومن أن للكتابة نماذج باقية على الزمان، ينبغي أن يُنظر فيها بتذوق وروية وإمعان.
والشرط الأساسي أولًا، وآخرًا، هو أن يستمد المرء عناصر فنه وأدبه من الينبوعَين اللذين لا يشح سلسبيلهما أبدًا، أعني الكون والحياة: كونٌ لا تنفد روائعه ولا تُحدُّ صوره، وحياةٌ لن تزال متطورة متحولة، فكأنه بعث مستمر في خلق جديد.
يقول أناتول فرانس: «لا ينبغي للصغار أن يقرءوا في الكتب. توجد أشياء كثيرة جديرة بأن يروها ولم يروها: البحيرات والجبال والأنهار، والمدن والأرياف، والبحر ومراكبه، والسماء وكواكبها.» وليست نصيحته هذه للصغار وحدهم بل للكبار أيضًا. مَن منا يستطيع أن يقول: «لقد كبرتُ على هذا الكون وعلى هذه الحياة، هما كتابان لا بأس بهما، لكن انتهيت من قراءتهما. ماذا تريد؟ إني «ختمت».» من يستطيع — بالله عليك — أن يقول هذا، إلا رجل من ورق وحبر!
أكثر أدبائنا — ولا أغالي — حقيقون أن يبيتوا كشافة قبل أن يصبحوا أدباء، الكتَّاب منهم والشعراء. بل إني أذهب إلى أبعد من هذا فأقول: من الواجب عليهم، إذا أرادوا حقًّا أن يكونا كتَّابًا وشعراء، أن يجتازوا أولًا مدرسة الكشاف، فإنهم في هذه المدرسة قد يكتسبون الصفات والمزايا اللازمة لكل أهل الفنون، أو ينمون هذه الصفات والمزايا إن تكُ كامنة فيهم.
لو شئت يومًا أن أتمثل الأديب في بلادنا، أو أن أتخيل أنموذجًا وسطًا لأدبائنا، لما قامت في ذهني إلا صورة واحدة، هي صورة رجل من ورق وحبر، ولا تكاد تجد فرقًا إلا في لون الحبر ونوع الورق. سلْ هذا «الآدمي» الآن عن حواسه الخمس وعن يقظتها، وعن نهمها وعن ظمَئِها، وسط مجالي الطبيعة وأحداث الحياة، يَقُلْ لك بسذاجة لا حد لها: «هل غادر الشعراء؟» أو هو، في الأغلب، لا يُجيبك بشيء؛ لأنه لم يفهم ما أردت، والسعيد السعيد من وجد تحت إبطه بيتًا من الشعر أو مثلًا سائرًا، فتناوله بخفة ورشاقة، فلا يسعك إلا أن تقول معجبًا رغم أنفك: «لله، ما أسرع خاطره وما أجود حافظته!» ثم تصافحه مودعًا، فلا يسعك إلا أن تقول: «أُفٍّ له! لقد ترك في يدي أثرًا من حبره وريحًا من ورقه.» بيد أنه غدًا — ومن يجيرنا من الغد؟ — سيطلع علينا بقصيدة من نظمه، أو يهبط بمقالة من نثره، فيطعننا بها طعنة مميتة، لولا لطف الله بعباده.
إن الكاتب أو الشاعر الحقيقي يستمد من الطبيعة والحياة، أولًا وآخرًا، فإذا كان ثمة معينٌ لا يشحُّ ماؤه ولا تنفد مادته، فذلك هو، لا مراء. أما الأديب أو المتأدب الذي يحسب أن في دراسة الكتب وسعة الرواية ما يكفي لجعله شاعرًا مفلقًا وكاتبًا مبدعًا، فقد ضلَّ سبيلًا؛ إذ إن هذا دون الكفاية، والأديب حقًّا من كان على اتصال دائم يقظ بهذا الوجود الذي يحدِّث عنه، وبهؤلاء الناس الذين يتحدث عنهم/إليهم، وهل الأدب إلا حديث عن الناس وعن الوجود؟ ذلك هو الأديب حقًّا وصدقًا، لا كما عرَّفته عصور الصناعة بأنه راوية للشعر، حافظة للأمثال، محيط بالأخبار، آخذ من كل فن بطرف، وهلم جرًّا. ليكن في إحاطته بالأخبار كالأوقيانوس، وفي روايته الشعر كألف ديوان، وفي حفظه الأمثال كمجموعة الميداني، وفي أخذه بأطراف الفنون كشبكة الصياد، فهو وشأنه؛ لكن هذا كله لا يساوي عندي قليلًا من الخبرة المباشرة الشخصية بالحياة والناس، وشيئًا من الاتصال الحقيقي الحي بالطبيعة والوجود.
ومن هنا رأي عامة الناس في الأديب واستخفافهم به حتى ليكادوا ينظرون إليه نظرهم إلى طفل لا يعرف من الحياة قليلًا أو كثيرًا، فإذا قذفت به الأقدار يومًا في ذلك البحر الزاخر كان، لا محالة، من المغرقين، وهو رأي عامة الناس، لا سيما أولئك الذين تستغرقهم حياة الكسب والعمل، كالتجار وأرباب الصناعات، فإن هؤلاء لا يتحدثون إلى شاعر، بل لا ينظرون إليه، إلا أزهرت على شفاههم بأسرع من لمح البصر، ابتسامة ذات مغزى: «هذا مخلوق عجيب يعيش في قافية كما تعيش دودة الحرير في شرنقتها!»
في مدرسة الكشاف يتعلم الأديب — إن شاء الله — أن الطبيعة والحياة والناس أشياء لها وجود حقيقي، ولها قيمة، فلا تُعدُّ العناية بها عبثًا ولهوًا وإنفاقًا للعمر في غير طائل، وفيها يتعلم أن الحياة في الطبيعة ومع الناس — على الأقل بقدر ما يعيش في الكتب — حياة جديرة بأن يحياها؛ حسبه منها أنها تحول دون مسخه رجلًا قرطاسيًّا، بل حسبه منها أنه إذا لم يقدَّر له أن ينفع بأدبه، فقد انتفع هو بعمره.
لا بأس، لا بأس بأن يظل «الأديب» رجلًا من لحم ودم!