كيف نتحدث عمَّا هو غير موجود؟
إذا أخبرتُك بأني فيلسوف، فكيف تفهم ما أقول؟ التفسير الأقرب إلى البديهة هو أنك تدرك ما تشير إليه كلمة «أنا» (عندما أستخدمها)، وتدرك معنى أن يكون المرء فيلسوفًا، وتفهم أني أزعم أن ماهية الفيلسوف تنطبق على شخصي. طبقًا للغة فريجه الاصطلاحية (كما ذكرنا في الفصل الأول)، تدرك أني أؤكِّد أن الموضوع، الذي يُمثِّله هنا ضمير المتكلم «أنا»، يندرج تحت المفهوم، الذي يُمثِّله هنا «الفيلسوف». وعلاوةً على ذلك، تعلم أنَّ زعمي صحيح إذا كنت بالفعل فيلسوفًا؛ أي إذا كنت أندرج بالفعل تحت مفهوم «الفيلسوف».
وإذا أخبرتُك بأن زوجتي فيلسوفة، فكيف تفهم ما أقول؟ إذا كنت تعرف زوجتي معرفةً شخصية، فسيكون التفسير مماثلًا لسابقه؛ تدرك أني أؤكِّد أن هذا الموضوع، وهو زوجتي، يندرج تحت مفهوم «الفيلسوف». ولكن، ماذا لو لم تكن تعرفها؟ في هذه الحالة، يبدو أننا سنحتاج إلى تفسير مختلف. قد يكون أحدُ الطُّروح أن تفهم أني أزعم أن لديَّ زوجة وأنها فيلسوفة. ولكي تحكم على صحة هذا الطَّرح، سيكون عليك أن تُثبِت صحة الزعمَين. ولكن، هل يجب أن تكون على معرفة بزوجتي حتى تفهم ما قلته (فهمًا صحيحًا)، أم يكفي أن تعلم أن لديَّ زوجة؟
وإذا أخبرتُك بأن ملك فرنسا فيلسوف، فكيف تفهم ما أقول؟ إذا كنت تعلم أن فرنسا لم تعد نظامًا ملَكيًّا، فقد يكون فهمُ ما أقول مُحيِّرًا، على الرغم من أن الكلمات نفسها منطقية. هل أستخدم الوصفَ المحدَّد «ملك فرنسا» بأسلوب غير مألوف، أم إن الأمر التبسَ عليَّ؟ وإذا كان يبدو عليَّ أني جادٌّ، أفلن تقول إن ما أقوله «كلام مُختلَق وغير صحيح»؟ وقد يكون الذهاب إلى هذا الافتراض مَثار حيرة أكبر؛ إذ قد يُفهَم من هذا الافتراض أن ملك فرنسا ليس فيلسوفًا، بل يعمل في مهنة أخرى.
وإذا أخبرتُك بأن بانجلوس فيلسوف، فكيف تفهم ما أقول؟ إذا كنت تعرف رواية «التفاؤل» لفولتير، فستُدرِك أن بانجلوس شخصية خيالية (بَيد أنها مستوحاة من فيلسوف حقيقي هو لايبنتس). ولكن، هل يكون زعمي صحيحًا لو أن بانجلوس كان فيلسوفًا بالفعل في هذه الرواية؟ دفعَ بعضُ الفلاسفة (مثل فريجه) بأنَّ القضايا المتعلقة بموضوعاتٍ تخيُّلية لا يمكن أن تكون صحيحة، بل يجدر اعتبارها بدلًا من ذلك ليست صحيحة وليست خطأً، ليست صدقًا وليست كذبًا. ولكن، مهما يكن ما يقوله المرء عن قيمة الصدق في القضايا التخيُّلية، يبدو أن ما عليك معرفته لفهم هذه القضايا يختلف عما عليك معرفته في الحالات الثلاث الأولى التي تناولناها. فلِكَي ندرك ما تعنيه كلمة «بانجلوس»، علينا أن نحدِّد العمل الأدبي الذي استُخدم فيه هذا الاسم.
تقترح هذه الحالات الأربع، التي تسوق أمثلةً بسيطة على زعم أن شخصًا ما فيلسوف، أنه لا يوجد تفسيرٌ عامٌّ مباشر لكيفية فهمنا حتى لمثل هذه القضايا البسيطة. ولطالما مثَّلَت هذه القضايا على وجه الخصوص، التي من المفترَض أن تشير إلى شيءٍ غير موجود سواءٌ كان مُتخيَّلًا أم لا، معضلةً على مدى تاريخ الفلسفة. إذا زعمتُ أنه يمكنني أن أرسم شكلًا عشرونيَّ الأوجُه، فثَمَّة شيءٌ أزعم أني قادر على رسمه؛ مُجسَّم هندسي له ٢٠ وجهًا (والذي يوجد منه العديد من الأنواع). ولكن، إذا زعمتُ أنْ لا أحدَ يمكنه رسم دائرة مربَّعة، ففي هذه الحالة لا أزعم أن ثَمَّة شيئًا لا يمكن لأحدٍ رسمُه؛ ذلك أنه لا يوجد شيء على هذه الشاكلة من الأساس. أم إني أزعم ذلك؟ هل يمكننا الإشارة إلى «الأشياء المستحيلة»؟ لا شكَّ في أن التحليل مطلوب في هذه الحالة لمساعدتنا في فهم ما يحدث حقيقةً عندما نتحدث عمَّا هو غير موجود.
القضايا الوجودية
ماذا يعني الزعم بأن شيئًا ما موجود أو غير موجود؟ هل يشبه هذا الزعم بأن شخصًا ما فيلسوف؟ في الحالة الثانية، يعني هذا الزعم — طبقًا للُغة فريجه الاصطلاحية — أن موضوعًا معيَّنًا يندرج تحت مفهوم «فيلسوف» (من المستوى الأول). وعليه، هل زعم أن شيئًا ما موجود يعني الزعم بأن موضوعًا يندرج تحت مفهوم «موجود» (من المستوى الأول)؟ قد لا يبدو هذا صحيحًا: إذا كانت هذه المفاهيم تمثِّل صفات، فإن صفة الوجود تبدو مختلفة في نوعها عن صفة أن يكون المرء فيلسوفًا. وقد تظهر المعضِلة في أوضح صورها إذا تناولنا القضايا الوجودية المنفية، مثل القضية (الصادقة) بأن أحادي القرن لا وجودَ له. ما الذي يعنيه قول إن شيئًا لا وجودَ له؟ ألَا يجب أن يكون لأحادي القرن وجودٌ بشكلٍ ما ليُقال أيُّ شيء عنه؟ اقترح بعضُ الفلاسفة أننا بحاجة إلى التفرقة بين «الوجود الفعلي» و«الوجود الضمني». ربما أحادي القرن لا وجودَ له (في العالَم الزماني المكاني الحقيقي)، ولكن، لا بد أن له وجودًا ضمنيًّا (في عالَم «مثالي» ما) حتى يتسنَّى لنا الحديث عنها.
يبدو الحديث عن «الوجود الضمني» حلًّا متسرِّعًا للمعضِلة التي تثيرها القضايا الوجودية المنفية، مثلما هو الحال عندما نجيب بقولنا «لا نهائية» عندما نُسأل عن عدد الأشياء في العالَم الذي طرحناه في الفصل الأول. ولكن، بناءً على ما قيل في هذا الفصل، فإننا نملك مقوماتِ حلِّ هذه المعضِلة بطريقة أكثر إرضاءً. على وجه الخصوص، علينا أن نستحضر ما قاله فريجه عن أن القضايا العددية عبارة عن إفادات بشأن المفاهيم. ولا بد أن تُفهَم القضايا الوجودية من هذا المنطلَق نفسه. ولا شكَّ في أنها لا تتعدَّى كونها أحد أنواع القضايا العددية؛ فالقول بأن أحادي القرن لا وجود له يتماثل تمامًا مع القول بأنه لا توجد حالات لأحادي القرن، أو بعبارة أخرى، مفهوم «أحادي القرن» له عدد صفر من الحالات.
في المنطق (الكَمِّي) الحديث، تُصاغ قضية أن أحادي القرن لا وجودَ له كالآتي:
عندما نطرح زعمًا وجوديًّا، فإننا لا ننسب مفهومًا من المستوى الأول إلى موضوع ما، ولا ننسب مفهومًا من المستوى الثاني إلى مفهوم من المستوى الأول. ومن ثَم، لن يكون علينا أن نفترض أن أحادي القرن يجب أن يكون «موجودًا ضمنيًّا» لنقول أيَّ شيء عنه، حتى وإن كان ما نقوله هو أنه لا وجودَ له. عندما نقول إن أحادي القرن لا وجودَ له، فإننا لا نتحدث عن أحادي القرن، بل نتحدث عن «مفهوم» كونه أحادي القرن، ونقول إن هذا المفهوم غير مُمثَّل؛ أي ليست له حالات. قدَّم تحليل فريجه المنطقي، بعد ذلك، حلًّا جيدًا للمعضِلة التي أثارتها القضايا الوجودية المنفية. وعلى غرار القضايا العددية، تُعد القضايا الوجودية بوجه عام (سواءٌ كانت إثباتًا أو نفيًا) إفادات بشأن المفاهيم.
هل الإله الكامل موجود؟
إنَّ أحد أشهر الحُجج في تاريخ الفلسفة هي الحجة الأنطولوجية المعروفة عن وجود الإله. (الأنطولوجيا هي دراسة الكينونة، وتُعنى بالأشياء، وأنواعها، ووجودها، وطرق وجودها). ويمكن التعبير عن هذه الحجة، في أبسط صورها، على النحو الآتي:
من الواضح أن هذه الحجة صحيحة: إذا كانت المقدِّمات صحيحة، فلا بد أن يكون الاستنتاج صحيحًا. ولكن، هل الحجة «سليمة» — بعبارة أخرى، هل للحجة مقدِّمات صحيحة بالإضافة إلى كونها صحيحة في ذاتها؟ كلُّ ما تقوله المقدمة الأولى هو أن الإله هو الكائن الأكمل على الإطلاق؛ الأمر الذي قد نعتقد أنه صحيح بطبيعة الحال. ولكن، ماذا عن المقدمة الثانية؟ أليس الوجود أكثر كمالًا من عدم الوجود؟ ربما كانت صفات على غرار الرحمة، والعِلم المُطلَق، والقدرة المُطلَقة تُعَدُّ كمالًا، ولكن، هل يُعَدُّ الوجود كمالًا؟
يبدو أن من التسرع اعتبارَ الحجة الأنطولوجية، كما هي معروضة هنا، سليمة. هل يمكننا حقيقةً الوصول إلى استنتاج أنطولوجي، بشأنِ ما هو موجود، مما يبدو أنه مجرد مزاعم تعريفية؟ ألسنا ندرج الوجود في تعريفنا للإله؟ باستخدام حُجة مماثلة، ألا يمكننا أن نُثبِت وجود الشيطان؟ وستبدو هذه الحجة كالآتي:
من شأن هذا القياس التشبيهي أن يؤكِّد شكوك المرء في الحجة الأنطولوجية لوجود الإله. ولكن، إذا كان رأي فريجه بشأن القضايا الوجودية صحيحًا، فسيكون لدينا تشخيصًا مُنمَّقًا لموضع القصور في هذه الحجة: إنها تُعامِل الوجود على أنه صفة من المستوى الأول بينما يجدر اعتباره صفةً من المستوى الثاني. أو بتعبير أدق، يجدر فهمُ المزاعم الوجودية وفقًا لتمثيل المفاهيم. طبقًا لهذا الرأي، ما نعنيه بقولنا إنَّ الإله موجود هو أن مفهوم «الإله» مُمثَّل (بتفرُّد؛ أي على نحو وحيد من نوعه). يمكننا تعريف مفهوم الإله (من المستوى الأول) بأنه يتضمن مفاهيم أخرى (من المستوى الأول) على غرار أن يكون رحيمًا، ومُطلَقَ العِلم، ومُطلَقَ القدرة، إلا أن هذا لا يَكفُل لنا أن نقفز إلى أي استنتاجات فيما يتعلق بما إذا كان هذا المفهوم مُمثَّلًا. بعبارة أخرى، يمكننا قبول المقدمة (١) من الحجة، إلا أن المقدمة (٢) خطأ، إذا كنا نعني ﺑ «الكمال» صفةً من المستوى الأول. (أما إذا كنا نعني أيَّ شيءٍ آخر، فلن تصبح الحجة صحيحة).
غنيٌّ عن القول إنه على مدى العقود قد تطوَّرت نُسَخ أكثر تعقيدًا من الحجة الأنطولوجية، ولا تزال هذه الحجة تثير الجدل حتى يومنا هذا. لن يمكننا أن نستوفي الحديث عن هذه الحجة في هذا الكتاب، فما يهمُّنا هو توضيح العمل الفلسفي الذي يمكن استخدامه في قبول تحليل فريجه للأعداد والقضايا الوجودية بوصفها إفادات بشأن المفاهيم، وأوجه الاختلاف بين المفاهيم من المستوى الأول والمستوى الثاني.
التعريف ببرتراند راسل
برتراند راسل (١٨٧٢–١٩٧٠) أحدُ عمالقة الفِكْر في القرن العشرين. فلم يكن أحدَ مؤسِّسي الفلسفة التحليلية فحسب، بل كان ناشطًا سياسيًّا، وكتبَ عن كثير من القضايا الاجتماعية والأخلاقية. وُلد راسل في ويلز، ودرَس الرياضيات ثم الفلسفة في جامعة كامبريدج، حيث انتُخب بعد ذلك ليحصل على الزمالة عام ١٨٩٦ بفضلِ بحثٍ علمي أجراه عن أُسس علم الهندسة. بعدما انجذب في البداية إلى المثالية البريطانية، وهي التقليد الفلسفي الذي كان مهيمِنًا على بريطانيا في ذلك العصر، رفضَها بعد ذلك على أساس أنها لا يمكنها أن تُنصِف الرياضيات، ثم كرَّس نفسه، مثل فريجه، لإثبات أنَّ علم الحساب (والهندسة أيضًا في حالة راسل) يمكن إخضاعه إلى المنطق. عرضَ راسل آراءه حول المَنطِقانيَّة للمرة الأولى في كتابه «مبادئ الرياضيات»، الذي نُشر في ١٩٠٣، ورُوجعَت هذه الآراء وقُدِّمَت تفسيراتٌ رسمية مفصَّلة لها في عمله الرئيسي الذي يحمل نفس عنوان كتابه السابق ولكن باللغة اللاتينية، وهو «برنسيبيا ماثيماتيكا»، والذي نُشر في ثلاثةِ مجلداتٍ بين عامَي ١٩١٠ و١٩١٣. ألَّف راسل هذا العمل بمشاركة أستاذه السابق في مادة الرياضيات بجامعة كامبريدج ألفرد نورث هوايتهد (١٨٦١–١٩٤٧)، والذي أصبح فيما بعدُ فيلسوفًا مهمًّا عن جدارة.
على غرار فريجه، عرَّف راسل الأعدادَ الطبيعية بأنها فئات مُستخدِمًا المفاهيم المنطقية فقط. ولكن، على النقيض من فريجه، توصَّل راسل إلى اعتقاد بأن الفئات يجب ألا تُعامَل على أنها موضوعات، سواءٌ كانت منطقية أم غير ذلك. ودفع، بدلًا من ذلك، بأنها «تخيُّلاتٌ منطقية». سنتناول، فيما تبقَّى من هذا الفصل، كيف توصَّلَ راسل إلى قناعة بصحة هذا الرأي، وكيف اعتقد أننا قادرون مع ذلك على التحدث عن هذه التخيُّلات. ترتكز إجابته في الأساس على نظرية الأوصاف التي وضعها، والتي قدَّمها للمرة الأولى في أطروحة تحت عنوان «عن التدليل» في ١٩٠٥، والتي تُعَدُّ منذ نشرها نموذجًا فكريًّا من نماذج التحليل. ولفهم ما استندَ إليه، علينا أن نعود إلى تعريف الأعداد كفئات.
مفارقة راسل
في الفصل الأول، تناولنا المفارقة التي تنشأ عندما نأخذ مجموعة كلِّ الأشياء ونعتبر المجموعات الجزئية من هذه المجموعة أشياءَ: يمكننا أن نُنشئ مجموعةً أكبر، وهي مجموعة القوى. قادت هذه المفارقة راسل إلى اكتشاف مفارقة أخرى، والتي أصبحت تُسمَّى حاليًّا تيمنًا به «مفارقة راسل». صاغَ راسل نفسه هذه المفارقة وفقًا ﻟ «الفئات» بدلًا من «المجموعات»؛ ولذا، دعونا نتتبع مناقشته لها وفقًا لهذه المعطيات (مربع ٢).
مربع ٢: مفارقة راسل
دعونا نتناول فئة الخيول. هذه الفئة ليست في ذاتها حِصانًا، ومن ثَم، فإن الفئة ليست عنصرًا من نفسها. دعونا نتناول فئة اللاخيول. هذه الفئة ليست حِصانًا، ومن ثَم، فإن الفئة «عنصر» من نفسها. وعليه، فإن بعض الفئات تكون عناصر من نفسها والبعض الآخر لا يكون كذلك. والآن، دعونا نتناول الفئة التي تضم كلَّ الفئات التي ليست عناصر من نفسها. هل هذه الفئة عنصر من نفسها أم لا؟ إذا كانت كذلك، فبما أنها الفئة التي تحوي كلَّ الفئات التي ليست عناصر من نفسها، فلن تصبح بالتبعية عنصرًا من نفسها. وإذا لم تكن كذلك، فبما أن هذه هي الصفة المحدِّدة للفئات التي تحويها، فإنها تصبح بالتبعية عنصرًا من نفسها. ومن هنا، ينشأ التناقض الظاهري.
لماذا قد يؤرِّقنا هذا التناقض؟ لمَ لا نُنكِر وجودَ أي فئة على غرار فئة الفئات التي ليست عناصر من نفسها، مثلما يُنكِر المرءُ أيَّ مجموعة على غرار مجموعة كل الأشياء؟ تكمُن المشكلة في أن الشرط المحدِّد لهذه الفئة يبدو منطقيًّا تمامًا. وإذا ما أجزنا مفاهيم الفئات وعناصر الفئات، فسيكون في مقدورنا أن نصوغ، بمسوِّغاتٍ مشروعة، مفهوم «كون بعض الفئات عناصر من نفسها» ومفهوم «عدم كون بعض الفئات عناصر من نفسها». يبدو أن المفهوم الأول يحدِّد هو نفسه فئة مشروعة: فئة الفئات التي تكون عناصر من نفسها. (هل هذه الفئة عنصرٌ من نفسها أم لا؟ إذا كانت كذلك، فإنها تصبح بالتبعية عنصرًا من نفسها، أما إن لم تكن كذلك، فلن تصبح بالتبعية عنصرًا من نفسها؛ وعليه، لا ينشأ تناقضٌ في هذه الحالة). وبالمثل، يحدِّد المفهوم الثاني أيضًا فئة مشروعة: فئة الفئات التي ليست عناصر من نفسها. ولكن، فكرة هذه الفئة هي التي تؤدي إلى حدوث تناقض.
في الفصل الأول، ذكرتُ مبدأ أنَّ كل مفهوم تندرج تحته فئةٌ من الأشياء. ويمكن لهذه الفئة أن تُوجَد حتى وإن كان المفهوم المحدِّد لها متناقضًا منطقيًّا (مثل ألا يكون المفهوم متطابقًا مع ذاته)، في هذه الحالة تكون الفئة هي الفئة الفارغة. ولكن، لا يمكن أن تكون فئة الفئات التي ليست عناصر من نفسها فئةً فارغةً؛ ذلك أنها تحتوي على عناصر؛ جميع الفئات التي ليست عناصر من نفسها (مثل فئة الخيول). في واقع الأمر، يبدو أننا نتعامل هنا مع مفهوم مُحدِّد جائز منطقيًّا، ولكن لا يمكن أن تكون الفئة المناظِرة له موجودة؛ لأنَّ لها صفات متناقضة منطقيًّا (أي أن تكون عنصرًا من نفسها وليست عنصرًا من نفسها في الآن عينه). وعليه، يبدو أن المبدأ الذي ينصُّ على أن كلَّ مفهوم تندرج تحته فئةٌ من الأشياء، خطأ. وتوضِّح مفارقة راسل أن ثَمَّة مثالًا مناقضًا واحدًا على أقل تقدير.
دعونا نقارن ما سبق بمفهوم الدائرة المربعة. لا يمكن أن يوجد «موضوع» يُسمى الدائرة المربعة؛ ذلك أنه لا يوجد شيءٌ يمكن أن يحمل صفات متناقضة. ولكن توجد بالفعل فئة مناظِرة لذلك، وهي في هذه الحالة الفئة الفارغة. ولكن، تختلف هذه عما لدينا في حالة مفارقة راسل. الفئة المتناقضة هي فئة الفئات التي ليست عناصر من نفسها، لا يمكن أن يوجد موضوع تُمثِّله هذه الفئة. ولكن، إذا كان المبدأ المُحدِّد لهذه الفئة جائزًا منطقيًّا، فلا بد أن هذه الفئة موجودة، إذا كان المبدأ الذي ينصُّ على أن لكل مفهوم فئةً من الأشياء تندرج تحته صحيحًا. لدينا مثال على مصطلح يبدو ذا معنًى تمامًا — «فئة الفئات التي ليست عناصر من نفسها» — والذي يبدو واضحًا أنه يتعذر إدراجه ضمن فئة من الفئات.
بما أن كلًّا من فريجه وراسل أرادا تعريف الأعداد وفقًا للفئات (وبالطبع، فئات الفئات)، التي يتم تعريفها بمفاهيم جائزة منطقيًّا، فمن المحتمَل أن تكون مفارقة راسل هدَّامة. بعثَ راسل برسالة إلى فريجه في يونيو ١٩٠٢ يُخطِره بالتناقض الذي اكتشفه، وأدركَ فريجه على الفور مدى فداحته، وردَّ بأنه يهدِّد الأسس التي كان يأمل أن يضعها لعلم الحساب. بحلول الوقت عندما استلم فريجه رسالة راسل، كان المجلد الثاني من عمل فريجه الرئيسي، «القوانين الأساسية لعلم الحساب»، قيد الطباعة، وكان المجلد الأول منه قد نُشر في ١٨٩٣. في هذا العمل، حاول فريجه أن يوضِّح بصورةٍ رسميةٍ ما مهَّد له بصورةٍ غير متخصِّصة في كتابه تحت عنوان «أسس علم الحساب» في ١٨٨٤؛ الكتاب الذي شرحنا فِكرته الرئيسية (أن القضايا العددية عبارة عن إفادات بشأن المفاهيم) في الفصل الأول من هذا الكتاب. حاول فريجه أن يرد على مفارقة راسل في مُلحَق كتابه سريعًا ليُضيفه إلى المجلد الثاني من كتاب «القوانين الأساسية». إلا أنه سُرعانَ ما أدرك أن ردَّه ليس وافيًا، وانتهى به المطاف بالتخلي عن مشروعه المنطقاني، وكرَّس ما تبقَّى من حياته لتوضيح أفكاره المنطقية. إلا أن راسل لم يستسلم بسهولة، وكرَّس السنوات العشرة التالية من عمره لحل مشكلة التناقض الظاهري ومحاولة إثبات أن المشروع المنطقاني قابل للتنفيذ. وكما سنرى في الفصل الرابع، كانت مفارقة راسل هي ما جذبَ فيتجنشتاين إلى الفلسفة. ومن منطلَق الدور الرئيسي الذي لعبته مفارقة راسل في تطوُّر الفلسفة التحليلية، دعونا نُلقِ نظرةً أعمق على نشأتها والردود المتوفِّرة عليها.
الرَدُّ على مفارقة راسل
تنشأ مفارقة راسل عند محاولة تكوين فئة ينطبق عليها مفهوم «عدم كون الفئة عنصرًا من نفسها». إذا كانت ثَمة فئةٌ مثل هذه، فسيكون علينا أن نسأل عمَّا إذا كانت هذه الفئة تندرج تحت مفهومها المُحدِّد أم لا. وإذا كانت كذلك، فلن تصبح بالتبعية عنصرًا من نفسها، أما إن لم تكن كذلك، فإنها تصبح بالتبعية عنصرًا من نفسها؛ ومن ثَم، ينشأ التناقض. ذهبَ أحدُ الردود إلى إنكار وجود مثل هذه الفئة، إلا أنه ينتهك بذلك المبدأَ الذي ينصُّ على أنَّ لكل مفهوم فئةً من الأشياء تندرج تحته. وجاء ردٌّ آخر مستثنيًا حالة أن تندرج الفئة تحت مفهومها المُحدِّد.
كان هذا الردُّ الثاني في الأساس هو ردَّ فريجه. لا يمكن للفئات أن تندرج تحت مفاهيمها المحدِّدة. وينطوي هذا الرد على مشكلة أساسية واحدة، وهي أنه لا يضمن عدم ظهور المفارقات ذات الصلة بهذا الموضوع. والأهم من ذلك أنه عجز عن شرح «السبب» في أن الفئات لا يمكن أن تندرج تحت مفاهيمها المُحدِّدة. كما أن مجرد استثناء هذه الحالة بسبب ما تؤدي إليه من تناقض، يبدو ارتجالًا؛ لا يقدِّم هذا الرد أيَّ سببٍ مبدئي لهذا الاستثناء. ولا عجبَ في أن فريجه سُرعانَ ما تخلَّى عن مشروعه المنطقاني.
جاء ردُّ راسل أكثر حسمًا، وقدَّم تعليلًا فلسفيًّا منطقيًّا. طبقًا لتفسيره، يمكننا التحدث بطريقة مشروعة عن الفئات، ولكن يجدر اعتبارها «تخيُّلاتٍ منطقية» وليس موضوعات، بالمعنى الدقيق للكلمة. وعليه، لا يمكن أن تندرج فئةٌ تحت مفهومها المُحدِّد. فكلُّ مفهوم يحدِّد، بالطبع، فئةً، إلا أن هذه الفئة ليست بشيءٍ يمكن للمرء أن يسأل عمَّا إذا كان يندرج تحت مفهومه المُحدِّد أم لا. ومن ثَم، لا يمكن أن ينشأ التناقض الظاهري.
كان ردُّ راسل جزءًا من نظرية هدفت إلى تقديم تبرير فلسفي للحل الذي قدَّمه لمشكلة التناقض الظاهري. في هذه النظرية، المعروفة باسم نظرية الأنماط، يوجد «تسلسل هرمي» من الموضوعات والفئات. عند أبسط مستوًى، توجد موضوعاتٌ «واقعية» — موضوعات على غرار الكتب، والمقاعد، والخيول، وما إلى ذلك. وعند المستوى الذي يليه، توجد فئات من الموضوعات — على غرار فئة الخيول وفئة اللاخيول (التي تضم جميع هذه الموضوعات الواقعية، مثل الكتب والمقاعد، التي ليست خيولًا). ثم توجد فئاتٌ تضمُّ فئاتِ الموضوعات، وهكذا صعودًا في التسلسل الهرمي. تدور الفكرة الرئيسية حول أن شيئًا ما عند أي مستوًى معيَّن سيكون عنصرًا في فئةٍ من مستوًى أعلى. ومن شأن هذه الفكرة أن تنحِّي جانبًا أيَّ فئة تكون عنصرًا من نفسها؛ وعليه، فلا مجال لأي تناقضات.
تعرَّضنا بالفعل لفكرة التسلسل الهرمي عندما ناقشنا آراءَ فريجه في الفصل الأول؛ ثَمَّة مفاهيم من المستوى الأول، ومفاهيم من المستوى الثاني، وهَلُمَّ جرًّا. ما يقوله راسل هو أنه لا يوجد تسلسل هرمي من المفاهيم فحسب، بل يوجد أيضًا تسلسل هرمي من الموضوعات — الموضوعات الواقعية، وفئات الموضوعات (المستوى الأول)، وفئات فئاتِ الموضوعات (المستوى الثاني)، وهكذا. ويمكن أن تكون الفئات من المستوى الأول عناصر في الفئات من المستوى الثاني، ولكن لا يمكن أن تكون عناصر في فئاتٍ أخرى من المستوى الأول، وهذا يماثل فكرة أن المفاهيم من المستوى الأول يمكن أن تندرج ضِمن مفاهيم من المستوى الثاني، ولكن لا يمكن أن تندرج ضمن مفاهيم أخرى من المستوى الأول. وعليه، فإن ما نُحِّي جانبًا ليس مجرد فئة تكون عنصرًا من نفسها (الأمر الذي أحدثَ التناقض)، بل أي فئة تكون عنصرًا من فئة ليست من مستوًى أعلى. ثم قدَّم راسل نظرية أكثر شمولًا اشتُقَّ منها حلٌّ لمشكلة التناقض الظاهري.
طبقًا لراسل، ثَمَّة «أنواع» مختلفة من الأشياء، وما يُقال عن أشياء من نوعٍ ما ليس بالضرورة أن يُقال عن أشياء من نوع آخر. وبالطبع، محاولة تحديد أنَّ فئةً، على سبيل المثال، تكون عنصرًا من نفسها أو لا تكون هي محاولةٌ مآلها إلى اللامعقول. سنتناول هذه الفكرة بمزيد من التفصيل في الفصل الرابع عندما نناقش أهميتها بالنسبة إلى فيتجنشتاين. أما الآن، فعلينا أن نستفيض أكثر في الحديث عن فكرة الفئات بوصفها تخيُّلاتٍ منطقية.
هل يوجد ناسٌ عاديون؟
طبقًا لراسل، الموضوعات الواقعية الوحيدة هي تلك الموجودة عند قاعدة التسلسل الهرمي. والفئات عبارة عن «تخيُّلاتٍ منطقية». وإذا لم تكن الفئات موضوعاتٍ واقعية، فستختفي مشكلة أنْ يحمل أيٌّ منها صفات متناقضة. إلا أنَّ راسل، مثل فريجه، كان يريد أن يدلِّل على أنَّ الأعداد فئات. ولكن، إذا كانت الأعداد أيضًا تخيُّلاتٍ منطقية، أفلن يعني ذلك أن الأعداد لا وجودَ لها؟ لم يكن هذا رأي فريجه. فطبقًا لفريجه، يجب أن يكون للأعداد وجودٌ حتى يمكن تقديمُ إفاداتٍ صادقة عنها. ماذا يعني إذَن أن شيئًا ما عبارة عن «تخيُّل منطقي»؟ وكيف يمكننا مع ذلك تقديمُ إفاداتٍ صادقة عنه؟
(أ١) المرأة البريطانية العادية تنجب ١٫٩ طفل.
(أ٢) إجمالي عدد الأطفال الذين تنجبهم النساء البريطانيات مقسومًا على إجمالي عدد النساء البريطانيات يساوي ١٫٩.
يوضِّح لنا هذا ما يتعيَّن علينا معرفته للتأكد من صحة هذا الزعم أو خطئه. علينا أن نعرف عدد النساء البريطانيات، وكذلك عدد الأطفال لكلٍّ منهن. في هذه الحالة، علينا أن نعرف شيئًا عن «كل» امرأة بريطانية، ليس عن امرأةٍ واحدة فقط.
ومن ثَم، سيكون الزعم بأن المرأة البريطانية العادية تنجب ١٫٩ طفل زعمًا مُقنَّعًا يشمل جميع النساء البريطانيات. يقدِّم لنا الزعم (أ١) اختزالًا مفيدًا للزعم (أ٢)؛ الأمر الذي يسمح لنا بمقارنة الوضع نفسه بسهولة أكبر مع مختلف الدول، على سبيل المثال. يمكننا أن نصرِّح بمزاعم على غرار «في حين تنجب المرأة البريطانية العادية ١٫٩ طفل، تنجب المرأة الصينية العادية ١٫٥ طفل». وستكون «المرأة البريطانية العادية» و«المرأة الصينية العادية» «تخيُّلَين منطقيَّين». فلا توجد نساء بهذا الوصف، إلا أن المصطلح يقدِّم طريقةً سهلة للحديث عنهن، وهو ما يُمكِّننا من الإدلاء بإفاداتٍ صادقة بطريقة أبسط.
(ﺟ١) فئة الخيول فئةٌ جزئية من فئة الحيوانات.
(ﺟ٢) أيُّ شيءٍ يندرج تحت مفهوم «حصان» يندرج بالتبعية تحت مفهوم «حيوان».
بناءً على الصلة الوثيقة بين الفئات والمفاهيم، كما ينصُّ مبدأ أنَّ لكلِّ مفهوم فئةً تتحدد بواسطته، فإن الحديث عن الفئات يمكن أن يتحول دائمًا إلى حديث عن المفاهيم المناظِرة لها. المفاهيم «تسبق أنطولوجيًّا» الفئات التي تحدِّدها، وفقًا لرأي الفلاسفة. وتلك هي الفكرة التي يقوم عليها زعم راسل بأن الفئات تخيُّلاتٌ منطقية — أو، كما يقول عنها أيضًا، «بنًى منطقية». «يُبنى» الحديثُ عن الفئات على الحديث عن المفاهيم، مثلما هو الحال مع الحديث عن «المرأة العادية» حيث يُبنى على الحديث عن المرأة الواقعية.
(ﺟ٤) كلُّ الخيول حيوانات.
تُفهَم هذه القضية أيضًا على أنه إذا كان أيُّ شيء حصانًا، فسيكون بالتبعية حيوانًا، ومن الواضح أن هذه القضية تتعلق بالمفاهيم. تبدو القضايا (ﺟ١) و(ﺟ٢) و(ﺟ٣) و(ﺟ٤) جميعها وكأنها تقول الشيء نفسه، إلا أن (ﺟ٢) هي أكثر قضية توضِّح ما يجري، من الناحية المنطقية، في ظل وجود (ﺟ٣) كصيغة منطقية لها. وسوف نتطرق إلى مسألة «المعنى الحقيقي» لهذه القضايا بمزيد من التفصيل في الفصلَين الثالث والرابع. ولكن، قبل أن نمضي قُدمًا، علينا أن نتعرف على أشهر نظريات راسل؛ نظرية الأوصاف.
نظرية الأوصاف
(ك١) ملك فرنسا فيلسوف.
(ك٢) لفرنسا ملكٌ واحد فقط، وملك فرنسا — أيًّا كان — فيلسوف.
(ك٥) إنَّ مفهوم «ملك فرنسا» مُمثَّل على نحو متفرِّد، وأيُّ شيء يُمثِّل هذا المفهوم يُمثِّل أيضًا مفهوم «فيلسوف».
إذا لم يكن يوجد، في الحقيقة، ملك لفرنسا، فسيتَّضح أن القضية كاذبة (لأن المفهوم المُكوِّن لها (ك٢أ) كاذب: مفهوم «ملك فرنسا» غير ممثَّل على الإطلاق).
منذ طرحها للمرة الأولى في ١٩٠٥، قدَّمت نظريةُ الأوصاف التي وضعها راسل نموذجًا فكريًّا للتحليل ليستخدمه الفلاسفة التحليليون اللاحقون، وأُثيرَ حولها كثيرٌ من الجدل والخلاف. سنتناول هذا بمزيد من التفصيل في الفصول القادمة. كما أن ثَمَّة الكثير ليُقال عن العوامل التي حفَّزته لوضعِها. كانت مسألة كيفية التحدث عن شيء غير موجود أحدَ هذه العوامل. ولكنها كانت أحدَ أهم العوامل على الإطلاق؛ ذلك أن حلَّها مكَّن راسل من إثبات أن الفئات تخيُّلاتٌ منطقية؛ ومن ثَم، نجح في حلِّ مشكلة التناقض الظاهري في المفارقة التي تحمل اسمه. أثبتت نظرية الأوصاف، كما يقول راسل، أنَّ وصفًا محدَّدًا من شأنه أن يسهم في إسباغ معنًى على جملة يبدو أنها بلا معنًى في ذاتها. فعبارات على غرار «ملك فرنسا» أو «فئة الموضوعات غير المتطابقة مع ذاتها» قد لا تحمل أيَّ معنًى، ولكن يمكننا مع ذلك الإدلاءُ بقضايا ذات معنًى (قضايا تحتمل الصدق أو الكذب) باستخدامها.
كيف يمكننا إذَن أن نتحدث عن غير الموجود؟
يقتضي تحليلُ فريجه للقضايا الوجودية ونظريةُ راسل للأوصاف أن القضايا التي تشير في مضمونها إلى موضوعات غير موجودة يجب أن تُفهَم على أنها إفادات حول المفاهيم. على سبيل المثال، عندما نقول (صدقًا) إن أحادي القرن لا وجودَ له، يصبح «المعنى الحقيقي» الذي نقصده هو أن مفهوم «أحادي القرن» غير مُمثَّل، وبالزعم (كذبًا، طبقًا لراسل) أنَّ ملك فرنسا الحالي فيلسوف، فإن «المعنى الحقيقي» الذي نقصده هو أن مفهوم «ملك فرنسا» مُمثَّل بتفرُّد، وأن أيَّ شيء يندرج تحت هذا المفهوم يندرج أيضًا تحت مفهوم «فيلسوف». وعليه، يمكنني أن أتحدث عن غير الموجود باستخدام المفاهيم المناسبة.
طبقًا لراسل، الفئات — ومن ثَم، الأعداد — لا وجودَ لها؛ فهي تخيُّلاتٌ منطقية. ولكن، يمكننا أن نستوعب كيفية الحديث عنها من خلال تحليل القضايا التي تتحدث عنها تحليلًا صحيحًا، ثم «اختزالها» مجدَّدًا لتصبح إفاداتٍ حو المفاهيم. تفتح هذه الاستراتيجية المجالَ أمام وضع برنامج عام للتحليل، «يختزل» أكبر عدد ممكن من القضايا لتصبح أساسًا جوهريًّا مميَّزًا للقضايا. تقع هذه الاستراتيجية في صميم ما سُمِّي فيما بعدُ بمذهب «الذَّرِّية المنطقية»، الذي وضعه راسل بمشاركة فيتجنشتاين في أواخر العَقد الأول من القرن العشرين، كما سنرى في الفصل الرابع.
تحدَّثتُ على مدى هذا الفصل عن تحليل القضايا إلى «معناها الحقيقي»، وآثرتُ أن أضعَ عبارة «المعنى الحقيقي» بين علامتَي اقتباس للإشارة إلى أنها تستوجب مزيدًا من الشرح. يبدو أنه لن يمكننا فهم كيفية التحدث عما هو غير موجود إلا إذا تمكَّنَّا من تحويل القضايا التي تشير في مضمونها إلى ما هو غير موجود إلى قضايا توضِّح «المعنى الحقيقي» لها. وقد حانَ الوقت لتناول بعض القضايا التي أُثيرت حول «المعنى الحقيقي».