هل تفهم ما أعنيه؟
إذا افترضنا أنَّ عالِمًا بأصول الإنسان وصَل إلى الأرض قادمًا من الفضاء الخارجي، واستمع إلى حواراتنا، فربما يندهش من وتيرة سؤالنا للشخص الذي نتحدث إليه عما إذا كان يفهم ما نعنيه. إننا نستخدم كثيرًا من العبارات في اللغتَين المنطوقة والمكتوبة تعبِّر عن عدم اليقين من أننا قد عبَّرنا عن أنفسنا على النحو الصحيح، أو تعبِّر عن إقرارنا بأننا لم نفعل ذلك، أو تحاول أن تطمئننا طوال الوقت عما إذا كان الآخرون يفهمون ما نعنيه أم لا. هل تفهم ما أعنيه؟ توجد عباراتٌ أخرى بالإضافة إلى هذه العبارة، مثل «إنْ صحَّ التعبير»، و«إذا جاز القول»، و«بالمعنى التقريبي»، و«على سبيل التقريب الأولي»، و«بشكلٍ ما»، و«نوعًا ما»، و«بشكل أو آخر»، و«إلى آخره»، و«وما إلى ذلك»، و«كما تعلم»، و«كما لو». (ثَمَّة عبارات مماثلة في كثير من اللغات الأخرى؛ وعليه، فإن هذه الظاهرة ليست قاصرة على المتحدِّثين باللغة العربية). وعلى مستوًى أكثر تطورًا، نستخدم أيضًا مجموعة متنوعة من أساليب القياس، والمخطَّطات، والأمثلة، والأشكال التوضيحية، والاستعارات، والتشبيهات؛ في محاولة منا لتوضيح ما نقول. كما نستخدم مجموعة من التعبيرات في محاولة منا لوصف هذه العملية ونتيجتها المرجوَّة — «توجيه الرسالة»، و«فهم المغزى»، و«استيعاب الفكرة»، و«التقاط مَربَط الفَرَس»، و«بلوغ المَرام»، وغيرها من تعبيراتٍ أخرى.
منذ البدايات الأولى لنشأة الفلسفة (سواءٌ الغربية أو غير الغربية)، أدركَ الفلاسفة على وجه الخصوص قصورَ اللغة ومحدوديتها. إلا أنهم اختلفوا فيما بينهم بشأنِ ما إذا كان هذا القصور يعكس قصورًا في الفِكْر، فيما يخصُّ ماهية تفسيره ومقتضياته، وفيما يخصُّ كيفية استجابتنا لذلك — باختصار، فيما يخصُّ ما يعنيه ذلك نفسه. خلال حواراتنا اليومية، قد نُسهب في الحديث دون إحكام ودقة، ولكن، مع الوقت، أو إذا أمعنَّا التفكير بما يكفي في أمرٍ ما، أفلن نكون مُلزَمين، عاجلًا أو آجلًا، بإدراك الطريقة الملائمة للتعبير عن أنفسنا؟ كم مرةً فكَّرت في الرد المثالي على دعابة أو نقد وجَّهه إليك شخصٌ ما، ولكن، بعدما تكون قد أهدرتَ فرصة الرد؟ على أي حال، ألا نردِّد باستمرارٍ ما يقوله الآخرون لنا، سواءٌ لاستيضاح ما قالوا، أو لإخبار شخص آخر بما قالوا في وقتٍ لاحق؟ أليست هذه جميع الحالات التي تتضمن أفكارًا واضحة يلزم استيعابها، ومهمتنا ببساطةٍ أن نجد الصياغة المناسبة للتعبير عن مقصدنا؟
من ناحية أخرى، كم مرةً وجدتَ شخصًا آخر يعبِّر عن الفكرة التي كنت تجاهد لطرحها بطريقة أكثر تنميقًا وإحكامًا مما كنت ستفعل؟ كما أن لدينا العديد من التعبيرات الاصطلاحية، على غرار «أدركتُ عين الصواب» و«أصبتُ كبد الحقيقة»، للتعبير عن هذه التجرِبة العامة. أليست هذه الحالات لا يعلم فيها الآخرون ما أعنيه فحسب، بل يعلمون ما أعنيه «أفضل» مني؟ ولكن، ماذا يعني «ذلك»؟ هل يعني، مثلًا، أني لم أكن أعلم فعليًّا ما أعني في هذه الحالات؟ ولكن، إذا كنت قادرًا على إدراك أن شخصًا آخر قد عبَّر بدقة عمَّا أحاول قوله، أفلا يعني ذلك أني أعلم ما أعنيه؟ إذا لم أكن قد استوعبتُ بالفعل الفكرةَ بطريقةٍ ما، فكيف يمكنني أن أقول إن شخصًا آخر قد استوعبها؟ لا أقول، على سبيل المثال، «إنَّ الفكرة التي طرأت عليك للتو جيدة»، بل أقول «هذه هي الفكرة التي طرأت عليَّ بالضبط، وقد أحسنتَ التعبيرَ عنها!». عرضَ ألكسندر بوب هذه الفكرة، بأسلوبٍ شعري منمَّق وموجَز، في قصيدته «مقال في النقد» منذ ما يزيد على ٣٠٠ عام مضت حين قال:
التحليل التفسيري
ولكن ثَمَّة معنًى ثالثًا لمصطلح «التحليل» لا يقل أهميةً عن المعنيَين الأوَّلَين، والذي يُعَدُّ من السمات المميِّزة للفلسفة التحليلية. إنه التحليل «التفسيري»، الذي تناولناه بالفعل في الفصلَين الأول والثاني. على سبيل المثال، يتكون تحليل فريجه للبيانات الوجودية والعددية من «تفسيرها» على أنها إفاداتٌ حول المفاهيم، وبالمثل «تفسِّر» نظرية الأوصاف لراسل الجُمل التي تتضمن أوصافًا محدَّدة بأنها تعبِّر عن مزاعم وادعاءات بشأن المفاهيم. وبناءً على هذه التحليلات التفسيرية، يمكن استخدام التحليل التفكيكي في تحديد العناصر المكوِّنة في كل حالة، مثل المفاهيم ذات الصلة، سواءٌ كانت استقرائية (مثل مفهوم أحادي القرن من المستوى الأول، والذي يمكن «تفكيكه» بعد ذلك إلى مفهومَي حصان وقرن) أو منطقية (مثل المفهوم من المستوى الثاني المُمثَّل). كما يمكننا أن نرى أن لهذه التحليلات بُعدًا تراجعيًّا، والهدف من ذلك هو العمل بطريقة عكسية وصولًا إلى العناصر التي نرى أنها أساسية وتمثِّل جوهر الموضوع (في هذه الحالات، المفاهيم ذات الصلة). ومن ثَم، يستحق الأمرُ التشديدَ على أنه في حالات التحليل الفعلية، تكون جميع الأبعاد الثلاثة — التفسيري، والتفكيكي، والتراجعي — مُتضمَّنة.
ستكون العلاقة بين أبعاد التحليل الثلاثة هذه موضوعًا مهمًّا على مدى الجزء المتبقي من هذا الكتاب، وسنربط بعض الموضوعات معًا في الفصل السادس. ولكن، دعونا نركز حاليًّا على التحليل التفسيري، ونرى كيف يثير التساؤلات التي طرحناها للتو بخصوص المعنى. دعونا نتناول تحليل راسل التفسيري لقضية «ملك فرنسا الحالي فيلسوف»، حيث نجد أن «مفهوم «ملك فرنسا» مُمثَّل بتفرُّد، وأيُّ شيءٍ يُمثِّل هذا المفهوم يُمثِّل أيضًا مفهومَ «فيلسوف».» هل هذا ما «يعنيه» شخصٌ ما عندما يفهم الجملة الأصلية؟ إذا سألت عما تعنيه هذه الجملة، فمن غير المرجَّح أن يجيبك أغلبُ الناس بأسلوب تحليل راسل: على المرء أن يكون على دراية بنظرية الأوصاف (والشرح الوارد في الفصل الثاني) لكي يتمكن من ذلك. ولكن، هذا تحديدًا هو مَربَط الفَرس. ما يقدِّمه التحليل التفسيري عادةً هو مصادر مفاهيمية أكثر ثراءً لتفسير هذا المعنى. لعلَّ من المُغْري القول بأنَّ التحليل التفسيري يخبرنا ﺑ «المعنى الحقيقي» لشيءٍ ما أو بما «يجدر بنا» أن نعنيه. ولكن، كيف يمكننا أن نفهم، أو نشرح، أو حتى نَصِف كلَّ ذلك؟ كما سنرى لاحقًا، انتهى المطاف بالمسائل التي أثارها التحليلُ التفسيري بأن تُعالَج وتُستكشف من قِبَل الفلاسفة التحليليين أنفسهم.
التعريف بجورج إدوارد مور
يُعَدُّ جي إي مور (١٨٧٣–١٩٥٨)، إلى جانب راسل، مؤسِّسَي الفلسفة التحليلية في بريطانيا من خلال تمرُّدهما المشترك على المثالية البريطانية في مطلع القرن العشرين. ولا شكَّ في أن راسل قد أرجعَ الفضل إلى مور بوصفه قائدًا للمسيرة، ثم تبعه راسل بعد ذلك بفترة وجيزة. وعلى الرغم من أن اهتمام راسل الرئيسي في ذلك الوقت كان منصبًّا على فلسفة الرياضيات والمنطق، فإن اهتمام مور كان منصبًّا على نظرية المعرفة (الإبستمولوجيا) والأخلاق. مثلما هو الحال مع راسل، تلقَّى مور تعليمه في جامعة كامبريدج، وانتُخب للحصول على الزمالة في ١٨٩٨؛ أي بعد عامَين من حصول راسل على زمالته. ثم غادر جامعة كامبريدج عندما انتهت زمالته في ١٩٠٤، ولكنه عادَ إليها في ١٩١١ ليتولى منصبَ مُحاضِر في علم الأخلاق. وأصبح أستاذًا منذ عام ١٩٢٥ وحتى تقاعده عام ١٩٣٩ (عندما خلَفه فيتجنشتاين)، وكان محرِّرًا في مجلة «مايند»، إحدى أهم الدوريات العلمية الفلسفية، منذ ١٩٢١ وحتى ١٩٤٤. قضى مور أغلب الحرب العالمية الثانية في الولايات المتحدة، وعمل مُحاضِرًا في نيويورك وكاليفورنيا، ضمن أماكن أخرى، بهدف نشر الفلسفة التحليلية في أمريكا الشمالية.
كان أشهر أعماله كتاب «المبادئ الأخلاقية» (برنسيبيا إثيكا)، الذي نُشر في ١٩٠٣، ولكنه نَشر أيضًا عددًا من المقالات المؤثِّرة، بما في ذلك «دفاع عن المنطق السليم» (١٩٢٥)، و«إثبات وجود عالم خارجي» (١٩٣٩)، كان الهدف منها هو دحض مذهبَي المثالية والشك. أخَذ مور على عاتقه مهمة تمييز وتوضيح الأسئلة التي طرحها الفلاسفة والإجابات العديدة التي ربما أُعطيت على هذه الأسئلة، بأكبر قدر من الدقة، ولكن من دون أن يُلزِم نفسه، في كثير من الحالات، بإعطاء أي إجابات قاطعة. ونتيجةً لذلك، كان يُرى عادةً عبر كتاباته على أنه متحذلِق بإفراط، ولكن كان له تأثيرٌ كبير على مَن تعلَّموا على يديه ومَن دخلوا معه في مناقشاتٍ فلسفية. وكان إرثه هو منهجه التحليلي وليس مجموعة بعينها من المعتقدات أو الأفكار.
هل يمكن تعريف «الخير»؟
كان السؤال الرئيسي المطروح في كتاب «المبادئ الأخلاقية» هو «ما الخير؟» وكان ادعاءُ مور الرئيسي هو أن «الخير» لا يمكن تعريفه، أو، كما يمكننا أن نقول، إن الخير لا يمكن تحليله؛ ومن ثَم، يجب اعتباره صفةً بسيطة. وكانت حُجته الرئيسية لهذا الادعاء هي «حجة السؤال المفتوح»، كما سُميت فيما بعد. لنفترض أن ثَمَّة تعريفًا ممكنًا ﻟ «الخير»، وهو «أنه ما نرغب في أن نرغبه»، التعريف الذي يرى مور نفسه أنه أكثر معقوليةً. ولكن، يبدو أنه يمكننا أن نسأل بصدقٍ «هل ما نرغب في أن نرغبه خير؟». يبدو هذا السؤال «مفتوحًا» حتى إنَّ السؤال «هل ما هو خيرٌ خير؟» أو سؤال «هل ما نرغب في أن نرغبه هو ما نرغب في أن نرغبه؟» لا يبدو مفتوحًا مقارنةً به. يبدو جليًّا أن الإجابة على هذين السؤالَين الأخيرين هي «نعم»، فقد طُلب منا أن نوافق على أمرٍ هو تحصيل حاصل، أمر معروف بديهيًّا أنه صواب. ولكن، إذا كان «الخير» (أو «ما هو خير») و«ما نرغب في أن نرغبه» يحملان المعنى نفسه تمامًا، فلا بد أن تكون جميع الأسئلة أسئلةً مغلَقةً على حدٍّ سواء. وبما أن حججًا مماثلة يمكن تطبيقها على «أي» تعريف مزعوم ﻟ «الخير»، فيبدو أنه يجب اعتبار «الخير» غير قابل للتعريف.
لمَ لا يكون الحال على هذا المنوال بالنسبة إلى الأخلاق؟ ومن منطلَق أنه «عالِم أخلاق»، ألم يكن يجدُر بمور أن يحاول اكتشافَ طبيعة الخير مثلما يسعى عالِمُ الكيمياء إلى اكتشاف طبيعة مادة معيَّنة؟ ببلوغ هذه المرحلة، نكون قد وصلنا إلى واحدة من أعقد مشكلات الفلسفة عمومًا، وليس الفلسفة التحليلية وحدها. هل يمكن الإجابة عن الأسئلة الأخلاقية باستخدام مناهج العلوم الطبيعية ونتائجها؟ أولئك الذين يقولون «نعم» يُسمَّون «الطبيعانيين»، ولم يقتصر الجدل بين الطبيعانيين وغير الطبيعانيين على الأخلاق فحسب، بل احتدم بقوة في كثير من مجالات الفلسفة الأخرى. على سبيل المثال، هاجمَ فريجه جميعَ أنواع الطبيعانية في فلسفة الرياضيات، وكان أحدُ أكبر الدوافع وراء محاولته إثبات أنَّ علم الحساب أساسه المنطق هو رفْضَ التفسيرات التجريبية والسيكولوجية للأعداد.
كان مور على يقين من أنَّ التفسيرات الطبيعانية للأخلاق مخطئة وغير صحيحة؛ فجميعها ملتزِم بما أطلَق عليه اسم «المغالطة الطبيعانية»، وكان الهدف من طرح حجة السؤال المفتوح هو إثباتها. وكانت أي محاولة طبيعانية لتعريف «الخير»، سواءٌ كانت تتعلق بالمتعة، أو السعادة، أو الرغبات، أو أيًّا كان، تصطدم بحجة السؤال المفتوح وتقع تحت طائلتها. كيف رأى إذَن أن الموقف مختلف عن العلوم الطبيعية؟ ثَمَّة كثير من الكتابات عن هذا الموضوع، ولكن، دعوني أحاول تحديد إحدى أفكاره الأساسية. في حالة السؤال الأخلاقي، على غرار السؤال عما إذا كان شيئًا «جيدًا» أو أن فعلًا ما «صواب»، لسنا بحاجة إلى إجراء أي أبحاث علمية، فإننا نمتلك الموارد اللازمة للإجابة عن السؤال بأنفسنا. سنحتاج بالطبع إلى معرفة كل الحقائق ذات الصلة، إلا أنها وحدها لن تعطينا الإجابة، فعلينا أن نطبِّق أيضًا مفاهيمنا ومعتقداتنا الأخلاقية التي نمتلكها بالفعل. ومن حيث المبدأ، سيكون ذلك كافيًا، لن يكون علينا أن ننتظر أن تقدِّم لنا العلومُ الطبيعية الإجابة.
تحدَّث مور هنا عن «الحَدْس»؛ الأمر الذي تسبَّب أيضًا في كثير من الجدل، إلا أن الفكرة الرئيسية هنا أيضًا بسيطة. كلُّ ما يمكننا فِعله هو أن نضع أنفسنا (من خلال أخذ الحقائق في الاعتبار) في موضع يُمكِّننا من رؤية الخصلة البسيطة التي تُدعى «الخير» (إذا كان موجودًا) مثلما هو الحال عندما يكون علينا أن نضع أنفسنا في موضع مناسب (في إضاءة مناسبة، وما إلى ذلك) لرؤية لون شيءٍ ما. ربما كان التحدي الأكبر أمام اللاطبيعانية هو تفصيل بعض من هذه التفسيرات عن كيفية فهم الصفات التي من المفترَض أنها لا طبيعية والدفاع عنها، في حين أن التحدي الأكبر الذي يواجه الطبيعانية هو تقديم تعريفات مُقنعة ﻟ «الخير» وغيره من المصطلحات الأخلاقية. ولا يزال السؤال عما إذا كان يمكن تعريف «الخير» سؤالًا مفتوحًا حتى يومنا هذا.
كيف يمكن أن تكون التحليلات صحيحة ومفيدة في آنٍ واحد؟
تضع حجة السؤال المفتوح التي طرحها مور فرضيةً رئيسية: إذا فهمت معنى عبارتَين، فسيمكنك على الفور أن تعرف ما إذا كان معناهما متماثلَين أم لا. يمكنك أن تفهم معنى «الخير» ومعنى «أنه ما نرغب في أن نرغبه»، على سبيل المثال، وتقول على الفور، طبقًا لمور، إنهما مختلفان. ولكن، كما أشرنا أعلاه، فإنَّ هذا يهدِّد «أيَّ» محاولة لتعريفِ شيءٍ ما أو تحليله. في واقع الأمر، أفرزت فرضية مور ما أصبح يُطلَق عليه منذ ذلك الحين «مفارقة التحليل» (مربع ٣). إذا كان التحليل هو ما تسعى الفلسفة التحليلية إلى تقديمه في الأساس، فإنها كانت ستنطوي فيما يبدو على مثالب خطيرة في جوهرها.
مربع ٣: مفارقة التحليل
افترض أنَّ تحليلًا على الصورة «أ هو نفسه ب»، حيث «أ» يُمثِّل ما جرى تحليله، و«ب» يُمثِّل ما قُدِّم على أنه التحليل. إذَن، «أ» و«ب» ليس لهما نفس المعنى، في كلتا الحالتَين يُمثِّل التحليل تطابقًا بديهيًّا، وإلا فإنهما غير ذلك، وفي كلتا الحالتَين التحليل غير صحيح. وعليه، فلا يمكن أن يكون التحليل صحيحًا ومفيدًا في آنٍ واحد.
الدلالة والمَرجعية
ينشأ كثيرٌ من المفارقات بسبب غموض أحد المصطلحات الرئيسية. ويبدو أن مفارقة التحليل ليست استثناءً في ذلك. ولا شكَّ في أنها تستدعي إزالة غموض «المعنى»؛ أي تحليله! في تعريفٍ (كتابة تحليل) على الصورة «أ هو نفسه ب»، لا بد أن يكون لكلٍّ من «أ» و«ب» المعنى نفسه، في إحدى دلالات «المعنى»، لكي يكون التعريف صحيحًا، ولكن يجب أن يكون لهما معنيان مختلفان، في دلالة أخرى من دلالات «المعنى»، لكي يكون التعريف مفيدًا. ما هاتان الدلالتان المختلفتان ﻟ «المعنى»؟
(القضية) هسبيروس (نجمة المساء) هو نفسه فوسفوروس (نجمة الصباح).
«هسبيروس» هو الاسم الذي كان يُطلَق على كوكب الزُّهَرة عندما يظهر مساءً، و«فوسفوروس» هو الاسم الذي كان يُطلَق على كوكب الزُّهَرة عندما يظهر صباحًا. واكتشف علماءُ الفلك فيما بعدُ أن هسبيروس وفوسفوروس جِرم سماويٌّ واحد، وهو كوكب الزُّهَرة. إذَن، هذه (القضية) صحيحة ومفيدة في آنٍ واحد.
ما قاله فريجه أن «هسبيروس» و«فوسفوروس» لهما «المَرجعية» نفسها (يشير كلاهما إلى كوكب الزُّهَرة) ولكن لهما «دلالتين» مختلفتين. طبقًا لفريجه، تعبِّر الدلالة عن «أسلوب تحديد» أو «أسلوب عرض» المرجعية. يمكن أن يُعرَض لنا كوكب الزُّهَرة في الصباح، كما يتضح من استخدامنا لفظة «فوسفوروس» («نجمة الصباح») في إشارة إليه، أو في المساء، كما يتضح من استخدامنا لفظة «هسبيروس» («نجمة المساء»). ويمكن أن قضية التطابق مفيدة بمجرد أن ندرك أن الموضوع المُشار إليه بطريقةٍ ما هو نفسه في الحقيقة، ولكن مُشار إليه بطريقةٍ أخرى.
أعتقد أنَّ هذا الفارق بين الدلالة والمرجعية هو الخطوة الأولى نحو حلِّ مفارقة التحليل، على الرغم من أن فكرة «الدلالة» قد تسبَّبت في جدل هائل منذ قدَّم فريجه هذا الفارق ودعا إلى التوضيح والتفصيل. إلا أن ثَمَّة أمرًا إضافيًّا نحتاجه على أي حال، من وجهة نظري، لحلِّ المفارقة. دعونا نعُدْ مرةً أخرى إلى تناول تحليل فريجه لعبارة «أحادي القرن لا وجود له»، حيث «يكون مفهوم «أحادي القرن» غير مُمثَّل». قد يكون مضلِّلًا أن نَصِف هذه العبارة على أنها طريقتان فقط لوصف المعنى نفسه، مثلما هو الحال مع «هسبيروس هو نفسه فوسفوروس». الهدف من التحليل هو تصحيح «سوء الفهم» الذي قد نقع فيه عند التفكير في أن «أحادي القرن لا وجود له». إن الدلالات، إذا صحَّ التعبير، ليست متساوية، وقد يكون من الأفضل النظر إلى التحليل على أنه شحذ أو تنقيح لدلالة «أحادي القرن لا وجود له»؛ وهو ما يجعل الدلالات تتماشى معًا من خلال إثراء فهمنا الأصلي باستخدام مواد مفاهيمية جديدة يقوم عليها تحليلنا. إذا كان الغرض من الحديث عن «الدلالات» هو اقتناص ما نفهمه عن شيءٍ ما، فقد يتغيَّر هذا بمرور الوقت، حتى وإن ظللنا نستخدم التعبيرات نفسها، ويؤثِّر التحليلُ نفسه على هذا التغير. باختصار، أعتقد أنَّ التحليل يكون مفيدًا عبر أن يكون «تحويليًّا»، وعلينا أن نمنح فكرة التحويل دورًا محوريًّا في تفسيرنا للتحليل. لقد شرحنا هذه الفكرة بالفعل في الفصلَين الأول والثاني، وسنعود إليها مرةً أخرى فيما سيأتي.
هل تفهم ما أعنيه إذَن؟
ذكرنا أن حجة السؤال المفتوح لدى مور تطرح فرضيةً رئيسية: إذا فهمت معنى عبارتَين، فسيمكنك على الفور أن تعرف ما إذا كان هذان المعنيان متماثلَين أم لا. في ضوء إزالة غموض «المعنى» التي أشرنا إليها توًّا، تكون هذه الفرضية معقولة، على أفضل تقدير، فيما يخصُّ الدلالات. إذا كان هذا صحيحًا، فثَمَّة طريقة واحدة يمكنني بها أن أدَّعي أني أفهم ما أعنيه: عندما أفهم دلالات التعبيرات التي أستخدمها، فإني أنظر إليها على أنها تتضمن القدرة على معرفة ما إذا كانت هذه الدلالات هي نفسها دلالات أي تعبيرات أخرى أفهمها. وعليه، توجد طريقة واحدة يمكنك بها أن تدَّعي أنك تفهم ما أعنيه: عندما تفهم دلالات التعبيرات التي أستخدمها. و«لا» يمكنك أن تدَّعي أنك تفهم ما أعنيه إذا لم تفهم دلالات التعبيرات التي أستخدمها.
ولكن، بتقسيم «المعنى» في الذهن إلى «دلالة» و«مرجعية»، تصبح أمامك طريقة أخرى يمكنك استخدامها لتدَّعي أنك لا تفهم ما أعنيه، حتى وإن كنت تفهم دلالات التعبيرات التي أستخدمها: عندما لا تفهم مرجعية أحد هذه التعبيرات على أقل تقدير. إذا قلت «صديقي قادم»، على سبيل المثال، فقد تسأل: «مَن تعني؟» إذا لم تكن تعلم إلى مَن أشير. كمثال أكثر تطرفًا، تخيَّل أنك استيقظت لتجد نفسك في منتصف غرفة حالكة الظلام بعد أن تعرَّضت لعملية تخدير وخطف؛ ومن ثَم، فإنك لا تعرف أين أنت، أو في أي وقت من اليوم، أو حتى مَن تكون. لعلك ستكون صادقًا لو قلت «أنا هنا الآن»، ولكن، هل تعرف حقًّا ما تعنيه بذلك إذا كنت لا تعرف إلامَ تشير كلٌّ من «أنا»، و«هنا»، و«الآن»؟ وإذا كنتُ في نفس وضعك، فلن أعرف أنا أيضًا ما تعنيه بذلك.