هل ثَمَّة حدود لما يمكننا قوله أو التفكير فيه؟
«لا يمكنك قول ذلك!» كم مرةً قيلت لك هذه الجملة؟ ربما كنت تشكو من مديرك لصديق مقرَّب وتُلمِّح بما ستقوله في اجتماعكما القادم. أو كنت تخطِّط مع زملائك لعرض تقديمي ستقدِّمونه لمؤسسة تمويل. وربما قيل لك أيضًا، أو قلت لنفسك: «لا يمكنك أن تفكِّر بهذه الطريقة!» ربما كنت تخشى أن تُفسِد العرض التقديمي. أو كنت واثقًا من أنك ستُهزَم في مباراة رياضية أمام منافس انتصرَ عليك من قبلُ عدة مرات. ولكنك تعلم يقينًا أن التفكير في هذه الأمور سيؤثر بالسلب على أدائك. لا شكَّ في أن عبارة «لا يمكنك» في جميع هذه الحالات لا تُعبِّر عن «الاستحالة» المنطقية. فثَمَّة دلالةٌ بديهية على أنه «يمكنك» أن تقول هذه الأمور أو تفكِّر فيها. ولكن، تكمُن الفكرة في أنه «لا يمكنك» فعل ذلك إذا كنت ترغب في تحقيقِ شيءٍ ما: الحفاظ على وظيفتك، أو الحصول على تمويل، أو تقديم عرض جيد، أو الفوز في مباراة. ومن ثَم، تتحدد حدود ما يمكننا قوله أو فعله في مثل هذه الحالات من خلال أهدافك واهتماماتك.
ولكن، هل ثَمَّة حدود «منطقية» لما يمكننا قوله أو التفكير فيه؟ لعله من المُغْري أن نصوغ ذلك على النحو الآتي: هل ثَمَّة أمور لا يمكننا قولها أو التفكير فيها من الناحية المنطقية؟ ولكن، إذا كنا بصدد الإجابة عن هذا السؤال من خلال سرد هذه الأمور، فسيكون من الجلي أننا نُناقِض أنفسنا! وعليه، من الأفضل أن نتحدث عن «الحدود». إذا كانت ثَمَّة حدود بالفعل لما يمكننا قوله أو التفكير فيه، فعلى الرغم من أننا لا نستطيع توضيح ماهيتها من خلال تخطِّيها (والتخطي هنا لا يماثل توضيح حدود مساحة ما عن طريق اجتيازها، على سبيل المثال)، يمكننا أن نحدِّدها من «داخل» نطاق ما يمكننا قوله أو التفكير فيه على نحو مشروع وجائز. إذَن، ما نوع الحدود التي ربما تكون موجودة؟
إذا كان ما يمكننا قوله أو التفكير فيه محكومًا بلغتنا، فستكون الاستراتيجية البديهية للإجابة عن هذا السؤال هي تحديد حدود لغتنا. فمنذ أن بدأ البشر يتدبرون لغاتهم، ظلَّ يراودهم الشك في فاعلية اللغة في تمثيل عالمهم والتعبير عن معتقداتهم، ومن المؤكَّد أن بعضهم اعتقد أن ثَمَّة معتقَدات — المعتقَدات الدينية على سبيل المثال — لا يمكن التعبير عنها لغويًّا بطريقة سليمة. وقد يوحي ذلك بأنه على الرغم من أن ثَمَّة حدودًا لما يمكننا قوله، فلا توجد حدود مناظِرة لما يمكننا التفكير فيه. (قد توجد حدود أخرى، ولكنها ليست حدودًا فرَضتها اللغة وحدها). ولكن، هل يمكن أن تراودنا أفكار تفوق قدرتنا على التعبير عنها بالقول؟ وإن لم يكن الأمر كذلك، فما حدود اللغة التي تقيِّد ما يمكننا قوله وما يمكننا التفكير فيه؟
بعضُ عقباتِ التعبير بالقول
ومثلما رأينا في الفصل الثاني، خلال عرض نظرية الأنماط، ذهبَ راسل إلى ضرورة التمييز بين الموضوعات، وفئات الموضوعات، وفئات فئات الموضوعات، وهكذا وصولًا إلى قمة التسلسل الهرمي. ولكن، تُواجهنا مجدَّدًا مشكلةُ تمييز هذه الفروق؛ فما ينطبق على الموضوعات لا ينطبق على فئات الكائنات، أو الفئات من المستوى الأعلى، والعكس صحيح. يمكننا القول بأن الموضوع عنصر من فئة معينة (من المستوى الأول)، كقولنا — مثلًا — إنَّ جوتلوب عنصر من فئة البشر. ويمكننا القول أيضًا إن الموضوع ليس عنصرًا من فئة معيَّنة (من المستوى الأول)، كقولنا — مثلًا — إنَّ جوتلوب ليس عنصرًا من فئة الخيول. ولكن، تخيَّل الآن القول إن فئةً ما ليست موضوعًا (في محاولة للتعبير عن الفارق الذي يحاول راسل تحديده)، كقولنا — مثلًا — إنَّ فئة البشر ليست موضوعًا. سيبدو الأمر وكأننا نقول إن فئة البشر ليست عنصرًا من فئة الموضوعات. إلا أن هاتَين الفئتَين فئتان «من المستوى الأول»، والفئة من المستوى الأول لا يمكن أن تكون عنصرًا من فئة أخرى من المستوى الأول، طبقًا لتصوُّر راسل عن التسلسل الهرمي للفئات. (الفئة من المستوى الأول يمكن أن تكون «فئة جزئية» من فئة أخرى من المستوى الأول، ولكن هذه علاقة مختلفة). وعليه، فإنَّ هذا الكلام مُستبعَد في رأي راسل. تؤثِّر مشكلاتٌ مشابهة على المحاولات الأخرى للتعبير عن الفروق التي اتسمَ بها تسلسل راسل الهرمي، مثل أنَّ الموضوع ليس فئة، بمعنى أن الموضوع ليس عنصرًا من فئة الفئات. ولكن، لا يمكن أن تكون الموضوعات عناصر إلا من فئات العناصر، وليس من فئات فئات العناصر. وعليه، ثَمَّة عقبات تعترض طريق تمييز الفروق.
ما نحن بصدده هنا هو ما يمكن أن نُسمِّيه الآن «خطأ النوع». تندرج الأشياء ضمن أنواع مختلفة، وما يمكن قوله بمشروعية عن أشياء من نوع ما لا يمكن بالضرورة قوله عن أشياء من نوعٍ آخر. ولكن، يستلزم الأمر معالجةً خاصة لتوضيح ذلك: ها نحن من جديد في منطقة يسهُل فيها الوقوع في فخ الغموض والالتباس الفلسفي.
التعريف بلودفيج فيتجنشتاين
يُزعَم أن لودفيج فيتجنشتاين (١٨٨٩–١٩٥١) هو أعظم فلاسفة القرن العشرين على الرغم من أن أفكاره أثارت ردود أفعال قوية. وُلد فيتجنشتاين في فيينا، ودرَس هندسة الطيران في جامعة مانشستر قبل أن يهتم بالفلسفة بعد قراءة كتاب «مبادئ الرياضيات» لراسل (الذي نُشر في ١٩٠٣). كان لهذا الكتاب مُلحَق يفسِّر أفكار فريجه، وأرسلَ فيتجنشتاين خطابًا إلى فريجه يطلب منه أن يسمح له بزيارته، وتمَّت الزيارة بالفعل في صيف ١٩١١. ونظرًا إلى تقدُّم فريجه في السن والمشاكل الصحية التي كان يعاني منها آنذاك، أوصى بأن يدرس فيتجنشتاين مع راسل في كامبريدج. عمل فيتجنشتاين مع راسل حتى أكتوبر ١٩١٣ عندما رحلَ ليعيش بمفرده في النرويج قبل أن يلتحق بالجيش النمساوي مع اندلاع الحرب في يوليو ١٩١٤. خدم في الجيش طوال فترة الحرب، ولكنه لم يتوقف عن العمل على أفكاره الفلسفية. نُشرَت أفكاره هذه، في نهاية المطاف، في كتابه القصير الذي يحمل عنوان «رسالة منطقية فلسفية» في ١٩٢١ (تُرجم إلى الإنجليزية في ١٩٢٢)، وهو أحد أهم الكتب في تاريخ الفلسفة على الرغم من غموضه الشديد.
في كتاب «رسالة منطقية فلسفية»، ادَّعى فيتجنشتاين أنه تمكَّن من حلِّ جميع المشكلات الفلسفية من جذورها، وبين عامَي ١٩٢٠ و١٩٢٦ درَّس في العديد من المدارس في ريف النمسا قبل أن يعود إلى فيينا ليساعد في تصميم منزل لشقيقته جريتل. أُغريَ فيتجنشتاين تدريجيًّا بالعودة إلى الفلسفة عن طريق التواصل مع أعضاء ما يُسمى بحلقة فيينا، والذين كانوا شديدي التأثر بكتاب «رسالة منطقية فلسفية»، وكانوا يطبِّقون أفكار فيتجنشتاين وينشرونها، وإن لم يكن فيتجنشتاين يوافق على ذلك دومًا. ثم عادَ أخيرًا إلى كامبريدج عام ١٩٢٩، وبدأ في نقد أفكاره وفرضياته السابقة، وبدأ بوضع منهج فلسفي جديد. انتُخب فيتجنشتاين للزمالة في كلية الثالوث، وخلَفَ مور كأستاذ للفلسفة عام ١٩٣٩، وتقاعدَ عام ١٩٤٧. لم ينشر فيتجنشتاين أيَّ كتبٍ أخرى في حياته، إلا أن كتاباته نُقِّحَت، وتُرجمَت، ونُشرَت بعد وفاته عام ١٩٥١. من بين هذه الكتب كتاب «بحوثٌ فلسفية» (الذي أُلِّف الجزء الأكبر منه قبل عام ١٩٤٥)، وكتاب «في اليقين» (الذي ألَّفه في العامَين الأخيرين من حياته)، وهما الكتابان الأكثر تأثيرًا خلال الفترة الأخيرة من حياته.
القول والعَرْض
كان ما جذبَ فيتجنشتاين إلى الفلسفة هو مفارقة راسل التي صاغها راسل من أجل اكتشاف التناقض في نظام فريجه، كما ذكرنا في الفصل الثاني. كان ردُّ راسل على ذلك هو نظرية الأنماط، إلا أن فيتجنشتاين لم يرَ أن هذا الردَّ كافٍ. وعلى النقيض، تقبَّل فيتجنشتاين نظرية الأوصاف لراسل، على الرغم من أنه توصَّل إلى استنتاجاته الخاصة مما اعتقد أنه مضمون رسالتها. وفيما يتعلق بعمل فريجه، وجدَ فيتجنشتاين أنه مصدر للمشكلات عليه مواجهته، ليس فقط في أعماله الأولى، بل على مدى حياته أيضًا. ومثلما قال بوضوح في مقدمة كتابه «رسالة منطقية فلسفية»، كان فريجه وراسل العاملَين الأبلغ تأثيرًا في فكره. ومن ثَم، فإنه بوضع مناقشاتنا في الفصلَين الأول والثاني في الاعتبار، أصبح في مقدورنا الآن فهمُ ردود فيتجنشتاين على عدد على الأقل من أفكار فريجه وراسل.
أدركَ فيتجنشتاين المشكلة المتعلقة بنقاش فريجه عن الفارق بين المفاهيم والموضوعات، وأدركَ أيضًا أن ثَمَّة مشكلات ظهرت في نظرية الأنماط لراسل. ومكَّنه الفارق بين القول والعَرض من تشخيص الأمور التي جانَبهما الصوابُ فيها: ما كان يحاول كلٌّ من فريجه وراسل «قوله» لتحديد الفارق بين الأنماط لا يمكن «عرضه» إلا باستخدام الكلمات ذات الصلة. ومرةً أخرى، يمكننا استخدام المثال المتعلق بمفهوم الجوع لتوضيح الفكرة الأساسية. فكرة أن هذا المفهوم لا يمكن أن ينطبق على أي شيء بخلاف ما هو حيوان «معروضة»؛ أي مشار إليها، في استخدامنا لكلمة «جائع». وأيُّ محاولة للتعبير عن ذلك بقول أمور على غرار «أجهزة الكمبيوتر المحمولة ليست جائعة» تخرق قواعد المعنى التي تحكم استخدامنا لكلمة «جائع»، ولا تستوفي الفروقَ بين الأنواع المُتضمَّنة في هذا السياق.
إنَّ الفارقَ بين القَول والعَرْض فارقٌ جوهري في فلسفة كتاب «رسالة منطقية فلسفية»، أو هكذا يبدو الأمر. والآن، وصلنا إلى انعطاف في حبكة القصة؛ الأمر الذي ولَّد كثيرًا من الجدل، لا سيَّما خلال السنوات الأخيرة. ماذا عن الفارق نفسه؟ هل يمكننا أن «نقول» ماهية هذا الفارق، أم إنه لا يمكننا إلا «عرضه» فقط؟
دعونا نستعرض هذا بمزيد من التفصيل من خلال تناوُل تصوُّر فيتجنشتاين عن القول أولًا، ثم تصوُّره عن العَرْض ثانيًا.
ماذا يعني قولُ شيءٍ ما؟
يفترض هذا التفسيرُ مقدَّمًا أن ثَمَّة موضوعات تشير إليها عناصرُ الجملة. ولا يلزم أن تكون هذه الموضوعات مسوغة في العلاقات التي صوَّرتها الجملة (في هذه الحالة، تكون الجملة كاذبة)، ولكن لا بد أن تكون الموضوعات موجودة لكي تكون للجملة دلالة. إذَن، ماذا عن الجُمل التي تتضمن أوصافًا محدَّدة تفتقر إلى المرجعية، مثل «ملك فرنسا فيلسوف»؟ في هذه الحالة يستعين فيتجنشتاين بنظرية الأوصاف لراسل. وكما رأينا في الفصل الثاني، فسَّر راسل هذه الجملة بأنها تتعلق «فعليًّا» بالمفاهيم؛ في هذه الحالة، قال إنَّ مفهوم «ملك فرنسا» مُمثَّل على نحو متفرِّد؛ وأيًّا كان ما يُمثِّل هذا المفهوم، فإن هذا المفهوم نفسه يُمثِّل أيضًا مفهومَ «فيلسوف». وإذا كان هذا صحيحًا، فإن ما يُشترط وجوده لكي تكون للجملة دلالة (ولكي تحتمل الصدق أو الكذب) هي المفاهيم المتضمَّنة هنا (بما فيها المفاهيم المنطقية مثل مفهوم كونه ممثَّلًا).
ولكن، في واقع الأمر، قد تمرُّ هذه المفاهيم بدورها بجولةٍ أخرى من التحليل. ربما كان مفهوم «ملك فرنسا» قابلًا للتحليل بدلالة مفهوم أن ثَمَّة ملِكًا وبدلالة موضوع أن ثَمَّة بلدًا هي فرنسا، على سبيل المثال. إذَن، ما يُشترط لتكون للجملة دلالة هو أن توجد مرجعية لجميع عناصر الجملة التي تُمثِّل «تحليلها النهائي». ولكن، قد يكون التحليل النهائي لجملةٍ ما شديدَ التعقيد. دعونا نتأمل أحد الأمثلة التي عرضناها في الفصل الثاني: «المرأة البريطانية العادية تنجب ١٫٩ طفل». يجب أن يشير التحليل الكامل لهذه الجملة إلى كلِّ امرأةٍ بريطانية وإلى كلٍّ من أطفالهن (وسيكون الادعاء حينها أن إجمالي عدد الأطفال المولودين مقسومًا على إجمالي عدد السيدات البريطانيات يساوي ١٫٩). ولكي تكون لهذه الجملة دلالة، فلا بد أن يكون جميع هؤلاء الناس موجودين.
ولكن، من المعروف عن فيتجنشتاين أنه لم يُعطِ قَطُّ مثالًا على تحليل نهائي لجملةٍ ما، بل لم يذكر حتى نوعَ التحليل الذي قد يتوقعه المرء. ولكنه أصرَّ على أن كلَّ جملة لها تحليلٌ نهائي، وأن الموضوعات التي تَبيَّن وجودُها نتيجةً لذلك (أيَّما كانت)، لا بد أن تكون موجودة، بوصفها شرطًا منطقيًّا لكي تكون للجملة دلالة. فعند مرحلة ما، لا بد أن تتلاقى اللغة التي نستخدمها مع الواقع الذي تسعى إلى تمثيله. كان هذا رأيًا نشرَه راسل، ومنحَه اسم «الذَّريَّة المنطقية»: إمكانية التحليل تفترض مقدَّمًا أنَّ الواقع يتكون في أبسط صوره من «ذرات» تعطي مرجعية لجميع الأسماء الأولية التي تتكوَّن منها الجملة، وهو ما يعبِّر إجمالًا عن التحليل النهائي.
المعنى والهراء
في سبيل ذلك، دعونا نتناول مفارقةً أخرى، وهو ما يمثِّل — كما رأينا من قبل — طريقةً جيدة في الفلسفة لتحفيز الحاجة إلى الوقوف على فروق بعينها. إنها مفارقة الاستدلال (مربع ٤).
مربع ٤: مفارقة الاستدلال
لنتأمَّل الأمثلة البسيطة الآتية على الاستدلال المنطقي:
ولكن، أيًّا كانت القضايا المنطقية التي يحاول المرءُ عرضها، تظل الفكرة الرئيسية أن هذه القضايا تختلف في حالتها تمامًا عن القضايا «التجريبية» المعتادة، القضايا التي تخبرنا بشيءٍ ما عن العالَم. كما أنَّ كونها تحصيل حاصل يميِّزها عن الهراء المباشر، ربما هي لا تقول شيئًا، ولكنها رغم ذلك تعرض شيئًا — عن ممارساتنا الاستدلالية.
هل يمكن أن يعرض الهراءُ أيَّ شيء؟
ما الهراءُ إذَن؟ إذا كانت الجملة الخالية من المعنى يمكنها أن تعرض شيئًا، فهل يُنظَر إلى الهراء على أنه لا يمكنه حتى أن يعرض لنا شيئًا؟ أم إن ثَمَّة أنواعًا مختلفة من الهراء؟ كيف يجدر بنا النظر إلى محاولات فريجه وراسل للتعبير عن الفروق القائمة بين الأنواع؟ اقترحتُ سابقًا أنَّ ما كان يحاول فريجه وراسل قوله لا يمكن قوله ولكن يمكن عرضه فقط، وفقًا لفيتجنشتاين. ولكن، هل يعني ذلك أن جُملًا على غرار «لا مفاهيم تكون موضوعات» يجدر معاملتها على أنها نوعٌ من القضايا المنطقية؛ ومن ثَم، تكون خالية من المعنى بدلًا من كونها هراءً؟
أثارت المسائلُ التي طُرحت في هذا السياق جدلًا واسعًا. فعندما يتأمَّل المرءُ قضايا كتاب «رسالة منطقية فلسفية»، سيدرك أن الغالبية العظمى من الناس يفشلون في تلبية شرط فيتجنشتاين لكي تتحقق الدلالة ويتم المعنى: أنهم لا يصوِّرون أيَّ حالة من حالات الواقع الممكنة؛ وعلى الرغم من أن بعض هذه الحالات تكون قضايا منطقية، فإن أغلبها ليس كذلك. وهذا هو ما دفعَ بعض المفسِّرين إلى تمييز نوعَين من الهراء؛ هراء حرفي أو فعلي، وهراء مجازي أو توضيحي. يعرض الهراء المجازي التوضيحي شيئًا بالفعل، الحقائق «الممتنعة الوصف» التي من المفترَض أن فيتجنشتاين يحاول التعبير عنها عن طريق وصف طبيعة اللغة، والمنطق، والعالَم. ولكن، دفعَ آخرون بأننا نتعامل مع استعارة فيتجنشتاين الشهيرة في نهاية كتاب «رسالة منطقية فلسفية» على محمل الجِد؛ وهي أن قضاياه يجب أن يُنظَر إليها على أنها سُلَّم يلقي به المرءُ بعيدًا بمجرد الصعود إلى المنظور الصحيح. لا شك في أن أغلب قضاياه هراءٌ، بدقيق العبارة، وكان الهدف من كتاب «رسالة منطقية فلسفية» هو مساعدتنا في التفكير حتى نصل إلى إدراك كامل لهذا الأمر ولمقتضياته. فمَن منهم على صواب؟
ينشأ الهراء في أشكال عديدة، إلا أن ما يتضمَّنه أو يعتمد عليه عبارة عن نوع من خرق القواعد التي تحكم استخدام تعبيرات بعينها. قد ينشأ عن خرق القواعد النحوية كلامٌ مُبهَم غير مفهوم، مثل «الزُّمرد الملطَّخ بالفول السوداني كريه إلى حدٍّ ما»، إلا أن نوع الهراء الذي يستهوي الفلاسفة ينشأ عندما تكون الجملة صحيحة تمامًا نحويًّا (ولو ظاهريًّا على الأقل)، ولكن مع خرق شروط أو حدود إمكانية تطبيق تعبير واحد أساسي على الأقل، بعبارة أخرى، عندما تُنتهك القواعد الدلالية. وقد تكون جملة «الكمبيوتر المحمول جائع» مثالًا بسيطًا على ذلك؛ كما ذكرنا سابقًا، كلمة «جائع» ليست محمولًا ينطبق على الجمادات.
قد تبدو جملةٌ مثل «لا مفاهيم تكون موضوعات» شبيهةً بجملة «لا حيتان تكون أسماكًا»، وجملةٌ مثل «لا يمكن أن تكون فئةٌ عنصرًا من نفسها» قد تشبه جملة «لا يمكن أن يلتقط أحدٌ صورةً لنفسه»، ولكن عندما ندرك التناقضات والمفارقات التي قد تنشأ، ندرك أن التشابهات مضلِّلة، وأن الجملة الأولى، في كلٍّ من الحالتَين، ما هي إلا هراء مقنَّع. قد يتطلب توضيح ذلك عملًا مُضنيًا، إلا أن النتيجة النهائية لن تكون إعادة تأويل الجملة حتى يصبح لها معنًى، بل إدراك لسبب وجوب اعتبارها بلا معنًى. ولكن، بإدراك ذلك، نتعلم شيئًا عن شروط وحدود إمكانية تطبيق التعبيرات ذات الصلة، ومن هذا المنطلَق يُعرَض شيءٌ ما. ومن ثَم، هناك حقيقة في وجهة نظر كلٍّ من طرَفَي الجدل المذكور أعلاه. ليست الجملة نفسها هي ما تعرض شيئًا، ولا سيَّما أنها لا تعبِّر عن حقيقة ممتنِعة الوصف، ولكن من المؤكَّد أن عملية توضيح السبب وراء كونها بلا معنًى هي ما تعرض شيئًا بالفعل — عن سماتٍ أساسية معيَّنة للُّغة التي نستخدمها. ينطبق الأمرُ نفسه على أي محاولة لتحديد الفارق نفسه بين قول شيء وعرضه؛ ما نعنيه بهذا القول معروضٌ بنوع من التوضيح الذي سعيتُ إلى تقديمه في هذا الفصل.
هل الميتافيزيقا ضَربٌ من الهراء؟
يتمثَّل المنهج الفلسفي الصحيح في الآتي: ألا تقُل شيئًا عدا ما يمكن قوله؛ أي قضايا العلوم الطبيعية — أو بعبارة أخرى، شيء لا علاقة له بالفلسفة — ومن ثَم، حينما يريد شخص آخر أن يقول شيئًا ميتافيزيقيًّا، أن توضِّح له أنه لم يعطِ معنًى لدلالات معيَّنة في قضاياه.
الميتافيزيقا هي فرع الفلسفة المَعني بالطبيعة الجوهرية للعالَم، أو كما يمكن أن تتَّسم أيضًا، الفرع المَعني بالأنواع الأولية التي نستخدمها في التفكير في العالَم، مثل «الموضوع»، و«المفهوم»، و«الوجود»، و«الكينونة»، و«الماهية»، و«المكان»، و«الزمن»، وما إلى ذلك.
أوضحَ التجريبيون المنطقيون فَرقًا جوهريًّا بين القضايا «التحليلية» و«التركيبية». فقد اعتقدوا أن القضايا التحليلية قضايا يعتمد صِدقها أو كذبها على معاني المصطلحات المكوِّنة لها فحسب. على سبيل المثال، جملة «الأخضر لون» تُعد صادقة بناءً على معنى كلمة «الأخضر». وعلى النقيض، اعتقدوا أن القضايا التركيبية قضايا يعتمد صِدقها أو كذبها على الحالة التي يكون عليها العالَم. وتُعَدُّ جملة «زهرة الأوركيد هذه خضراء» مثالًا بسيطًا على ذلك؛ ستكون الجملة صادقة إذا كانت زهرة الأوركيد التي أقصدها تحمل بالفعل صفة كونها خضراء اللون. وفي محاولة لتفسير القضايا التركيبية، استعانَ التجريبيون المنطقيون بما أطلقوا عليه اصطلاحًا مذهبَ التحقُّقية: لا يكون للقضية معنًى إلا إذا كان من الممكن «إثباتها»؛ أي إنه يمكن من حيث المبدأ تحديدُ صدقها أو كذبها بالتجربة. وللحكم بما إذا كانت جملة «زهرة الأوركيد هذه خضراء» صادقة أم كاذبة، علينا أن ننظر إلى زهرة الأوركيد ونرى ما لونها.
قام مذهب التحققية على تصوُّر فيتجنشتاين عن الدلالة والمعنى. لا يكون للقضية دلالة ومعنًى إلا إذا كانت تُصوِّر إحدى حالات الواقع الممكنة؛ فإذا كانت حالة الواقع الممكنة هذه قائمة بالفعل، فستكون القضية صادقة، وإن لم تكن كذلك، فستكون القضية كاذبة. ما أضافه التجريبيون المنطقيون إلى هذا التصور، كشرطٍ إضافي لكي يكون للقضية دلالة (أو معنًى)، هو أنه لا بد من أن «نتحقَّق» مما إذا كانت حالة الواقع الممكنة هذه قائمة أم لا. واعتُبر أن جميع القضايا التجريبية — والعلمية — تندرج ضمن هذه الفئة.
ماذا إذَن عن القضايا الميتافيزيقية؟ وفقًا لفريجه، ثَمَّة نوعان رئيسيان من الأشياء في العالَم، الموضوعات والمفاهيم، وكلٌّ منهما يختلف كثيرًا عن الآخر. ومن ثَم، فإنَّ جملة «لا مفاهيم تكون موضوعات» قد تكون مثالًا جيدًا على القضايا الميتافيزيقية. ولكن، في تفسير فيتجنشتاين، هذه الجملة خالية من المعنى. وتنطبق الفكرة نفسها على جميع القضايا الميتافيزيقية؛ بقدر أنها لا تصوِّر حالات ممكنة من الواقع أو أنها منطقية، فهي تكون بلا معنًى. أيَّد التجريبيون المنطقيون الرأي الآتي: القضايا الميتافيزيقية ليست تركيبية؛ لأنه لا يمكن إثباتها، ولا تحليلية؛ لأنه لا يمكن تحديد ما إذا كانت صادقة أم كاذبة اعتمادًا على المعنى فقط؛ ومن ثَم، فهي بلا معنًى.
تحوَّل هجوم كارناب على هايدجر إلى تفسير كلاسيكي متشدِّد، وأخطأ إصابة النقطة التي كان يحاول هايدجر قولها «فعليًّا» (ليس لا شيء!). إلا أنه أبرز كيف وسَّع كارناب أفكار فيتجنشتاين من خلال التأكيد على الدور الذي يجب على لغة المنطق أن تلعبه، مثل اللغة التي وضعها كلٌّ من فريجه وراسل. فصياغة القضايا بلغة منطقية يوفِّر وسيلةً لغربلة القضايا الميتافيزيقية، والتي يمكن إفراغها فيما بعدُ في سلَّة مهملات اللامعنى أو الهراء. ووفقًا للإيجابيين المنطقيين، تحاول الميتافيزيقا أن تفكِّر مُتخطِّيةً حدودَ ما يمكن قوله أو التفكير فيه على نحو ذي معنًى، وتحتاج إلى تقييد ذرائعها وتفسير الهراء الذي تنتجه.
إذَن، هل ثَمَّة حدود لما يمكننا قوله أو التفكير فيه؟
في تمهيد كتاب «رسالة منطقية فلسفية»، كتبَ فيتجنشتاين أنَّ هدفه هو رسمُ حدٍّ للفِكْر، أو بمعنًى أصح، وفقًا لكلماته، للتعبير عن الأفكار، حيث إن الطريقة الوحيدة لرسم هذا الحد تأتي من داخل اللغة. ومن ثَم، بالنسبة إلى فيتجنشتاين، تتحدَّد حدودُ ما يمكننا التفكير فيه بحدود لغتنا، وكانت مهمة كتاب «رسالة منطقية فلسفية» توضيح ذلك؛ إن لم يكن توضيح جميع التفاصيل، فتوضيح الإطار العام على أقل تقدير. ركَّزنا هنا على نوع رئيسي واحد من الأمثلة لتوضيح ذلك، تمييز الفرق بين الأنواع، على غرار تمييز الفرق بين الموضوع والمفهوم لدى فريجه، والفرق بين الموضوع والفئة لدى راسل، وكلاهما فرض قيودًا على طرق تفكيرنا. وفقًا لفيتجنشتاين، لا يمكننا «قول» ما تكون عليه هذه الفروق، ولكن ما تتضمَّنه «يُعرَض» من خلال استخدامنا (الصحيح) للتعبيرات ذات الصلة — أسماء الأعلام، وكلمات المفاهيم، ومصطلحات الفئات.
إنَّ أيَّ محاولة لخرق القواعد النحوية أو الدلالية للُّغة مآلُها إلى الهراء، أو اللامعنى، وشعر فيتجنشتاين بأن مشكلة الفلسفة تنشأ عن الفهم الخاطئ لهذه القواعد؛ وذلك — وفقًا لكلماته — من خلال عدم القدرة على فهم منطق لغتنا. ويتطلب حلُّ هذه المشكلات — أو ربما من الأفضل لو قلنا القضاء عليها — توضيحَ كيفية خرق هذه القواعد. وإحدى الطرق لفعل ذلك — كما أيَّد كارناب — هي إظهار كيف أنها لا تنشأ عن «تدوين المفاهيم» أو اللغة المنطقية مثلما تصوَّر فريجه وراسل. إلا أن فيتجنشتاين أكَّد أن اللغة المنطقية — وقد اختلفَ مع كارناب في ذلك — ينتج عنها أيضًا غموضٌ فلسفي خاص بها، مثلما رأينا في حالة مفارقة راسل ونظرية الأنماط. ومن ثَم، فإن بناءَ لغة منطقية لا يُعَدُّ حلًّا وافيًا لجميع المشكلات الفلسفية، ولكن لا بد من استخدامه في ظل وجود أهداف فلسفية واضحة في الذهن. إذَن، ثَمَّة حدودٌ بالفعل لما يمكننا قوله أو التفكير فيه، وعلى الرغم من أننا قد نواجه صعوبات في التعبير «قولًا» عن ماهيتها، فيمكن بالتأكيد «عرضها» عن طريق تقديم شرحٍ دقيق لطرائق اللغة وآلياتها المعقَّدة.