قصة من العدالة الجنائية
منذ مدَّة من الزمن، ارتُكِبت عمليةُ سطو في قصر اللورد إتش، الذي يقع في أحد ميادين بلجرافيا. وقد نجحَ اللصوص في الحصول على غنيمة مجزية. حيث سرَقوا الأطقُم الذهبية بأكملها، وكذلك الكثير من المجوهرات، التي تخصُّ السيدة إتش، وهي ذاتُ قيمة هائلة.
ظلَّت الطريقة التي تمكَّن بها اللصوصُ من الوصول إلى المبنى غامضةً تمامًا لمدَّة طويلة. كانت الملابَسات الظاهرية تُبرر الاعتقاد بأن واحدًا أو أكثرَ من خُدَّام سيادته أو سيادتها قد ساعدوا وحرَّضوا على السرقة. لكن لم يكن هناك أيُّ أثر لما يُسمى بالأدلة القانونية لإجازة هذا الشك أو تبريره. ومِن ثَمَّ لم يُقبَض على أيِّ شخص قريب من الأسرة؛ ولكن رُصِدت مكافأةٌ للكشف عن المجرمين، واستُنفِدَت جهود الشرطة العادية في محاولة تعقب الجُناة.
وهكذا مرَّت أسابيعُ وشهور (حوالي ثلاثة شهور)، ولم يُقدَّم أحدٌ إلى العدالة.
فانزعج سيادة اللورد إلى أبعد الحدود بسبب إخفاق العدالة. وذات يوم ذهبَ إلى محاميه، معلنًا أنه سيُنفق نصف ثروته، إذا لزم الأمر، من أجل القبض على الجاني ومعاقبته على فِعلته.
لا أعرفُ مدى مساهمة السيدة إتش في اتخاذ هذا القرار، لكن لديَّ فكرة أن هناك الكثيرَ مما يدعوها إلى المشاركة في اتخاذه؛ فمن المؤكَّد بما لا يدع مجالًا للشك أنَّ فقدان مجوهراتها قد أضرَّ بمَعنوياتها، وأثار حنقَها إلى أقصى حد. ونظرًا إلى كونها حادةَ الطِّباع، فهي ستُوقع، حسبما أعتقد، الانتقام الفوريَّ على أشد اللصوص شراسةً إذا كان بإمكانها الإمساكُ به.
وقد انزعجَ محامو اللورد إتش إلى حدٍّ ما بسبب إخفاق الشرطة وعدم تمكنها من الكشف عن هوية المجرمين. ومِن ثَمَّ تواصلوا معي بشأن الموضوع، ووكَّلوني بالقضية بعد فترة.
لقد كانت قضيةً صعبة تنطوي على قدرٍ بالغ من التحدي. وسبَّبَت لي مشكلةً أكثرَ بعشر مرات من الكثير من القضايا الأكبر والأكثر أهمية. ومع ذلك، بعد أن وُكِّلت بها، أصبحتُ مصرًّا على المضيِّ قُدمًا فيها. وشعرتُ أنني لن أقعَ في حيرة من أمري.
ولمدة طويلة لم أتمكَّن من الحصول على دليل. وفي النهاية شممتُ رائحة فريستي، ومنذ تلك اللحظة كانت النتيجةُ مؤكَّدة، على الرغم من أنه لا يمكن الإيقاعُ بها إلا من خلال مسار دائري وملتوٍ.
وقد قبضتُ على الجاني الرئيسي في نهاية الأمر.
حيث نُفِّذت عملية السطو برُمَّتها من قِبل رجل وامرأة. وقد هرَبت المرأة فور القبض على الرجل. كان بإمكاني القبضُ عليها قبل الرجل، لكن لو فعلتُ ذلك كنت سأفقده. حيث كان القبض عليها سيُعطيه إشعارًا بالخطر المحدِق به؛ وفي الحقيقة، كنت غيرَ مبالٍ تقريبًا بشأن هروب المرأة إذا تمكَّنتُ من القبض على رفيقها.
كان اللورد إتش أكثرَ غضبًا من أي وقت مضى عندما تأكَّدَ من هوية المجرم؛ على الرغم من أنه أكدَّ لمحاميه، وفق ما أبلَغوني، أنه لم يكن لديه أدنى معرفةٍ بالرجل، ولم يفترض أنَّ الجانيَ لديه أيُّ معرفة به بخلاف ما قد يعرفه جميع لصوص لندن بشكل عامٍّ عن أحد النبلاء.
ظننتُ أنَّ هناك سببًا غامضًا أشعلَ هذه الرغبة في الانتقام لدى سيادته، إلى جانب التأثير الطبيعيِّ لخَسارته على عقله. كان ذلك كافيًا لتفسير تلك الرغبة المفرطة في الانتقام، لكنه لم يَبدُ لي دافعًا كافيًا للتصاعد المفاجئ لمثل تلك الرغبةِ منذ الكشف عن هُوية المجرم. وأنا لا أعلم، على الرغم من ذلك، ما إذا كانت شكوكي صحيحةً أو لا. فمن الوارد أن تكون غير صحيحة.
ومِن ثَمَّ مَثَلَ الجاني أمام قاضي التحقيق، بالطريقة المعتادة، وقُدِّم إليه طلبٌ بوضع المتهَم في الحبس الاحتياطي فوافقَ عليه. وقد عارضَ محامي السجين الطلبَ بكل قدرته الجدَلية ومهارته في الدفاع، ولكن دون جدوى. حيث ارتأت المحكمةُ أنَّ أصحاب الادِّعاء يستحقُّون كلَّ فرصة لاكتشاف مصير مقتنياتهم، ومِن ثَمَّ توريط السجين في دليل إدانته كي يجعل هروبه عبر ثغرات القانون مستحيلًا.
وفي النهاية عُرِضَت القضية على السجين بما يكفي من الوضوح، ليس فقط لتبريرِ إحالته للمحاكمة، ولكن لضمانِ إدانته عند إجراء تلك المحاكمة. وبِناءً على ذلك جرَت محاكمته.
وخلال الجلسات التالية، وجدت هيئةُ المحلفين الكبرى بالمحكمة الجنائية المركزية أنَّ لائحة الاتهام مدعومةٌ بما يكفي من الأدلة ضدَّ السجين، ووفق الإجراءات المعتادة وُضِعَ السجين في قفص الاتهام، ليخوضَ المحنة الكبرى ذاتَ الصِّلة بهذه القضية.
كانت المحكمة مزدحمةً إلى حدٍّ ما. وقد جذبت وقائعُ هذه السرقة انتباهَ الجمهور. حيث تضافرَت قيمة الأطقم الذهبية، ونُدرة الأحجار الكريمة، ودقة الجريمة واكتمال أركانها، لإضفاء جوٍّ من الأهمية العامة على القضية.
وداخلَ قاعةِ المحكمة، في انتظار المحاكمة بقلق شديد، حضرَ اللورد إتش والسيدة زوجته.
وفي رواق القاعة حضَرت امرأةٌ، ترتدي ثيابًا باهظةَ الثمن، تزيِّنها جوهرة ثمينة. لقد كانت، ربما، واحدةً من أجمل النساء في لندن؛ وكان جمالها من النوع الذي عادةً ما يُوصَف بالجمال الرقيق. كانت هناك رقَّة واضحة ولطف في التعبير يكمن وراء آثار المشاعر العميقة والمؤلمة التي أثارها شيءٌ متوقَّع.
استقرت عينا هذه المرأة الجميلة ذات الملابس الأنيقة على اللورد إتش والسيدة زوجته، اللذَين جلسا معًا على مقعد في يمين القاعة، على مسافة قصيرة من منصَّة القاضي، واللذَين كانا محطَّ أنظار الحضور الآخرين بجانب هذه المرأة المثيرة للإعجاب.
كانت القضية المنظورة أمام المحكمة آنذاك محاكمةً مملَّة بتهمة الشهادة الزُّور، وتحتوي على عدد كبير من الأدلة المتضاربة. ومِن ثَمَّ أصبحت مهامُّ القاضي وهيئةِ المحلفين صعبةً للغاية بسبب الكتلة المتشابكة من الحقيقة والخيال التي نسجَتها مهارةُ الادِّعاء وبراعة الدفاع أمام المحكمة. بالنسبة إلى الأطراف المهتمَّة بالقضية التالية — قضية سرقة الأطقم الذهبية — لا شك أن تلك الأدلة المتشابكة كانت مزعجةً للغاية، وكذلك بالنسبة إلى الرجل الموجود في قفص الاتهام، الذي ترتجف حريته في ميزان هذه الشهادة المتضاربة، أو حصافة أعضاء هيئة المحلفين وقدرتهم على التمييز.
بالتزامن مع الجزء الأخير من محاكمة الشهادة الزور، أجرى محاميا الدفاع، السيد سيرجنت بونديروس، والسيد أنتوني ستفجاون، مشاورةً مع السيد ويديل، محامي السجين.
وقد جرى التواصلُ مع هذا الأخير «الرجل النبيل وفقًا لقانون صادرٍ عن البرلمان» في الليلة السابقة. كان عبارةً عن رسالة كتبتها السيدة الجميلة الجالسة في رواق قاعة المحكمة، التي أجرَت أيضًا مقابلةً مع السيد ويديل في ذلك الصباح.
وقد اختِيرَ المكانُ الذي جلسَت فيه داخل المحكمة من قِبَل المستشار القانوني للسجين. حيث حسب بدقةٍ مقبولة مكانَ جلوس سيادة اللورد، وأراد لها أن تكون في نطاق رؤيته، دون أن تكون بارزةً للغاية بالنسبة إلى المشاهد العَرضي غيرِ المهتم.
كان المستشار القانوني للسجين، في هذا التشاور، قد أوضحَ للمحامي حيلتَه، أو التحوُّل الدراماتيكي المُستهدَف. ومِن ثَمَّ اعتبر الرقيبُ الخبير وزميله المبتدئ أنَّ الفكرة جيدة، ويمكن القول إنه قد وافق عليها؛ على الرغم من أنه، كما أوضَحوا، لم يكن من واجبهم المهنيِّ إبداءُ رأي حول ذلك. عندما انتهت المشاورة، عاد المحامي إلى المحكمة، وجلس أحدهما على مقعده واستند الآخرُ بفتورٍ على درابزين مقاعد المحامين.
بينما وقفَ السيد ويديل على سلَّم المحكمة، مراقبًا بابَ الخروج من المحكمة، ومنتظرًا رؤيةَ تأثير حيلته الصغيرة.
تلقَّى حاجبُ المحكمة رسالة مطوية في شكل ثلاثي الأركان من يد شخصٍ ما، موجَّهةً إلى اللورد إتش، مع عُملة ذهبية صغيرة، طلبَ منه الاحتفاظ بها، وتسليم الرسالة إلى سيادة اللورد دون أن تراه السيدة زوجته.
وكان نصُّ الرسالة على النحو التالي:
رِواق قاعة محكمة الجنايات المركزية
١٩ يوليو …١٨٥
سيدي اللورد، أستحلفك بالله، لا تُقاضِ أخي، وتقتل المخلصة لك كلارا!
وجَّه سيادته عينَيه نحو الرواق، ولأول مرة في ذلك المكان رأى شكل وملامح سيدة غير مجهولةٍ بالنسبة إليه، ولكنه كان قد قابلها كثيرًا في مكان آخر. كان لتلك العينين ومعرفة كاتِب الرسالة، تأثيرٌ عظيم في مشاعر الرجل النبيل المرهفة. ولذا أصبح وجهُه شاحبًا مثل الطباشير. وكان يرتجف تقريبًا مثل رجلٍ أصابه مرضُ رقاص سيدنهام. ثم أُصيبَ بالإغماء على الفور بعد أن وضَع الرسالة في جيبه دون أن يلحظها أحد.
تسبَّب هذا الحدثُ في الشعور الذي وصفه مراسلو الصحف اليومية بأنه إحساسٌ مؤلم في المحكمة. حيث نُقِل سيادته في عربته إلى مقر إقامته في ميدان … سكوير، في بلجرافيا، دون أن ينطق بأكثرَ من جملةٍ واحدة.
كانت تلك الجملة التي نطقها هي أمرٌ لمحاميه بتأجيل المحاكمة.
وبعد فترة قصيرة، بدأت محاكمةُ الحِنْث باليمين، وانتهت بتبرئة السجين.
وبناءً على ذلك نهضَ السيد كيني، بصفته أحد محامي الادعاء، بعد اجتماعٍ مع نظيره الخبير المعيَّن للدفاع، وتوسَّل، نيابةً عن سيادته، بسبب المرض المفاجئ للمدَّعي، أن تؤجَّل محاكمة السجين. وقالوا إن محامي السجين شعَروا ببعض الصعوبة في معارضة الطلب بعد ما رأَوه، لكنهم أضافوا أنهم يعتقدون أن السجين، الذي لا دخلَ له بمرض سيادته، يحقُّ له الإفراج عنه بكفالة. فقال القاضي، بعد إلقاء نظرةٍ على الإفادات، إنه لا يرى أن المتهم يحقُّ له مثلُ هذه المطالبة، ورفضَ ربط هذا الشرط بتأجيل القضية، مثلما يلتمس الادِّعاء.
حافظت كلارا، التي شاهدت من الرواق كلَّ ما حدث، وقد أصغَت باهتمام إلى كلِّ كلمة قالها المحامون والقاضي، على رباطة جأشها، لكن ذهنها كان يموج بتفكيرٍ قَلِق. ثم غادرَت المحكمة عندما جرى التوصُّل إلى هذا القرار في قضية شقيقها؛ الذي كان، في الواقع، غيرَ مدركٍ تمامًا حتى هذه اللحظةِ لما حدث في غيابه، وعندما شُرِحَ له ذلك، لم يفهم سبب حدوثه.
ثم أُحضِرَ السجينُ مرة أخرى في الجلسة التالية للمحاكمة. وحضر سيادة اللورد لكن لم تحضر معه زوجته. فقد حثَّها زوجُها على البقاء في المنزل؛ لأنه أدرك تأثيرَ الأجواء البغيضة للمحكمة عليها. وعلى الرغم من أنه كان حتى اليومِ الأول للمحاكمة عازمًا على أن يُطالب للسجين بأقصى عقوبة يمكن أن توقَّع عليه، أصبحَ على استعدادٍ الآن لأن يلتمس له العفو.
ومِن ثَمَّ أُعيدت صياغةُ الأدلة، التي كشَفت في المذكرات التي قُدِّمت أصلًا إلى المحامي عن سلسلةٍ كاملة من الإثباتات. فقد احتوَت الآن على سرد يوضِّح الصعوبات التي تعترض نظرية الادعاء، وأسهبت في تبرير موقف المتهم ودحضِ الحُجَج ضدَّه. وأصبحت المذكرات الخاصة بالدفاع، التي قُدِّمت في الأصل دون أن تنص على أي ردٍّ محتمَل على التهمة، تحتوي الآن على نظريةٍ تُوفق بين الأدلة كما هي، أو كما كان من المتوقع أن تظل قائمة، مع إمكانية براءة المتهم.
ولم يردَّ شاهِدُ الادعاء على اسمه عند استدعائه؛ ويُمكن إبلاغ القارئ بأنَّ هذا الشاهِد قد تجاوزَ اختصاصَ أيِّ محكمة إنجليزية. وكانت النتيجة انهيارَ الادعاء وإطلاقَ سراح الجاني.
إنَّ تفسير هذا الإخفاق في تطبيق العدالة بسيط. لقد كانت كلارا الجميلةُ هي عشيقةَ اللورد النبيل. حيث أغواها بالفعل قبل بضعِ سنوات، وظلَّت تعيش منذ ذلك الحين (غيرَ معروفةٍ لزوجته) تحت حماية سيادته. وهي أخت السجين. لكنها بريئة من كلِّ مشاركة أو علم بالسرقة. ولم ترَ هذا الأخَ لسنوات عديدة. لقد كانا يتيمَين. وقد واجه كلاهما العالمَ في سنٍّ مبكرة للغاية من أجل كسبِ قوتِهما. وعندما كان عمرُها أقلَّ من ١٤ عامًا، عملت في أحد محلات القبَّعات في غرب لندن، ثم رُقِّيت إلى بائعةٍ في متجر في أكسفورد ستريت. أما هو فقد شغَل وظيفةً في مستودع بالمدينة، لكنه لم يحصل قط على ترقية من خلال إظهار أيِّ اجتهاد أو إخلاص من جانبه.
لقد ابتعدَ الأخُ والأختُ عن دروب الفضيلة في مسارَين مختلفين وفي أوقات مختلِفة، وظل كلٌّ منهما لا يعرف مكانَ الآخر لمدة ستِّ سنوات. حيث لم يهتمَّ أيٌّ منهما بإعلام الآخر بمكان وجوده أو نشاطاته أو أسلوب حياته. والآن يعرف القارئُ جيدًا ما حلَّ بها. أما هو فمن الضروري أن نقول عنه إنه قد سرَق أصحابَ عمله، الذين عفَوْا عنه فيما اعتقدوا بشكلٍ صحيح أنه جريمةٌ أُولى، لكنهم أطلَقوا سراحه وهو فاقِد الأهلية. ومن خطوة إلى خطوة، تدنَّى إلى مرتبةٍ أعمقَ وأعمق في متاهات الإجرام، حتى انخرطَ بشكلٍ لا ينفصم مع شركائه في مختلف حالات الاحتيال والسرقة والسطو.
كان أسلوبُ عملية السطو بسيطًا جدًّا. حيث استحوذَ السجينُ على مشاعرِ الخادمة في منزل اللورد إتش، واستخدم المعلوماتِ التي حصَل عليها بهذه الطريقة كي يُنفذ، بتواطُئِها، إن لم يكن مساعدتها، الجريمةَ التي اتُّهِم بارتكابها فيما بعدُ في المحكمة المركزية للجنايات. ومع ذلك، لم تكن هذه أولَ قضيةٍ له في تلك المحكمة. لقد حُوكِمَ هناك في قضية سابقة، وحصلَ على البراءة، مثلما حدث هذا اليوم، بسبب قصورٍ في الأدلة ضدَّه. وقد قرأَت الأخت — التي بالاستعانة بوسائلها الآن أفلَت هو من العقاب — عن جريمته الأخيرة في إحدى الصحف التي ذكَرَت الاسمَ الحقيقي للمتهَم، خلال استعراضها القضايا المعروضةَ على هيئة المحلفين الكبرى، باعتباره حقيقةً اكتشفها الادِّعاءُ، مع الإتيان على ذِكر وظيفة أو وظيفتَين مارسَهما المتهم في بداية حياته المهنية، وهو ما عُدَّ دليلًا كافيًا لإثبات هُويتِه لديها بأنه شقيقُها المفقود.
من اللحظة التي اكتشفَت فيها كلارا هذا الأمر، أصبحَ من المستحيل عليها الوصولُ إلى سيادة اللورد. كان أولُ ما طرأ على ذهنها هو أن تُلقي بنفسها عند قدمَيه، وأن تطلب حريةَ أخيها، باعتبارها الخدمةَ الوحيدة التي لا تطلبها منه لشخصِها، وكأعلى مكافأةٍ على منحه نفسَها بلا مقابل. لكنها لم تتمكَّن من ذلك، فأرشدها ذكاؤها الأنثويُّ إلى التواصل مع محامي الدفاع. ولم تجد صعوبةً في معرفة مَن الذي وُكِّل بهذه المهمة، والتقت بالسيد ويديل، الذي رتَّبَ معها الحيلة التي حققَت نجاحًا كبيرًا.
•••
أعقبَ هذه القصةَ الصغيرة حدثٌ أو حدَثان يمكن أن يطَّلع القارئ عليهما. فقد تقبَّل اللورد إتش، الذي لم يكن بأي حال من الأحوال رجلًا راجحَ العقل، الحادثَ كتحذيرٍ من العناية الإلهية. ولم يكن مستعدًّا لمُعاداة زوجته بسبب مخاطرةٍ بسيطة، حيث كان مرتبطًا بها إلى حدٍّ ما، وكان يخشى أن تسوءَ سُمعته نتيجةَ علاقته الآثمة مع أخت السجين. ولذا عقدَ العزم على أن يُصبح فاضلًا، ونفَّذ هذا القرارَ باتفاقٍ مالي مع عشيقته، من خلال محامي الأسرة. وقد استفادت هي، التي لم تُلوِّثْها الخطيئة إلا من خلال علاقتها غير المشروعة بالمدعي، من هذا الاتفاق المالي الموضوع الآن تحت تصرفها بطريقة تُمكِّنها من الحياة بشرفٍ واحترام من الآن فصاعدًا. كما حاولَ شقيقها أن يفعل الشيء نفسَه؛ لكن هذه الرغبة تحطمت بسبب التدخُّل المستمرِّ في قراراته الجيدة من زملائه القدامى. وكذلك جرَّب طرقًا شتى، مثل أخته، من أجل الحياة بشرف؛ لكن استحالة إخفاء هُويته الحقيقية وإبقائها سرًّا جعلَت هذا أمرًا غيرَ ممكن. إذ كان طَوال الوقت يُصادف «أصدقاء» سابقين، يُسفِّهون نواياه ويُحبطونها. وقالوا له إنها مزحةٌ جيدةٌ تلك الفكرةُ التي دعَته إلى العمل الشريف لكسبِ رزقه. وسألوه بسخرية: «هل فكر حقًّا في أن يُصبح شريفًا؟ يا لها من فكرة مضحكة!» وتعجَّبوا من الأمر. كما اضطهدوه بأشكال مختلفة. وطلبوا منه المال، وهدَّدوه ﺑ «كشف» أسرار جرائمِه لدى الشرطة و«الوشاية» به إن تردَّد. كان عليه أن يمنحهم في مثل هذه الحالات كلَّ ما لديه، وأن يَعِدَهم بأكثرَ مما لديه أو يُمكن أن يكسبه كثمنٍ لعدم الوشاية به. ونظرًا إلى التضييق عليه من كلِّ جانب، واكتشافِ أنه من المستحيل كسبُ رزقه بشرفٍ في هذا البلد، قرَّر الهربَ منه، بمساعدة المال الذي قدَّمَته له أختُه وزوجُ أخته (لأنه بحلول هذا الوقت أصبحَت كلارا زوجةَ رجلٍ حسَنِ الطباع، طيب المعاملة، يعمل بإدارة الجمارك)؛ وكانت آخر مرة أَراهُ فيها وسطَ حشد من ركَّاب الدرجة الثالثة على متن سفينة مهاجرين في طريقها إلى أستراليا، حيث آمُل أن يكون قد تمكَّن الآن من العيش كأحد أفراد المجتمع المحترمين.