مراقبتي لإحدى الزوجات
إنَّ أحداث القصة التي أنا على وشك أن أحكِيَها هي من بين الأشياء الغريبة والمثيرة للفضول في تَجارِبي.
فقبل بضع سنوات، زارني رجلٌ نبيل لديه تَرِكة كبيرة، وهو أحدُ النبلاء الذين لا يحملون لقبًا في إنجلترا، وأوضح لي أنَّ لديه أسبابًا تدفعه للشكِّ في إخلاص زوجته. ولم أُقِرَّ قوة هذه الأسباب. كما أنه وصَف الحقائق التي بُني عليها هذا الإيمانُ الكئيب، ولو جزئيًّا، بخيانة السيدة أو عدم إخلاصها، ربما، بدقة حِرفيَّة صارمة، بأنها «تافهة للغاية».
ومع ذلك، فإنَّ هذا الشك يجب ألَّا يتجاهلَه تمامًا شخصٌ غريب في أول نظرةٍ على القضية. بدَت مكانةُ زائري في المجتمع، ومؤهِّلاته الفكرية، وعاطفته تُجاه زوجته، كضمانات بأنه لن يدينها دون سبب. كما أنه، لم يُؤكِّد بثقةٍ أنها مذنبة. كلُّ ما كان لديه، أو ادَّعى أنه لدَيه، هو شك. وقد أخبرَني أنه ليس هناك ما يُسعده أكثرَ مِن وجود دليلٍ يُؤدي إلى الاقتناع التامِّ بأنه كان واهمًا بشأن الزوجة.
ربما يكون من الجيد وصفُ الممثِّلين في هذه الدراما الصغيرة المثيرة للفضول وصفًا كاملًا. حيث كان السيد بيرسيفال هو الابنَ الوحيد لمالكِ أراضٍ ثريٍّ ومتزايد الثراءِ في مقاطعة ساسكس. ونتيجةً لذلك، فقد وَرِث تركةَ والدِه بالكامل، بالإضافة إلى مبلغٍ كبير من المال، واستثمارات كبيرة في الصناديق المالية العامَّة وغيرها من الأوراق المالية الموثوق فيها. وقد كانت هناك عنايةٌ جيدة بتعليمه. لكنه فقَد والدتَه عندما كان يبلغ من العمر ١٤ عامًا فقط، ومن المحتمل أن شخصيتَه عانت من نقصِ التأثيرات التأديبية لرعاية الأم. ومع ذلك، كان هذا هو العيبَ الوحيد، إذا كان عيبًا، في تنشئته. كان والده يُراقب سلوكه باهتمامٍ في مرحلة شبابه. فقد تلقى تعليمه في إيتون، حيث برَع في أكثرَ من فرعٍ دراسي. وحصل على مرتبة الشرف في أكسفورد. لقد كان نوعًا متفوقًا من الطبقة المعروفة باسم «رجال الريف». وكانت عاداتُه هي عاداتِ رجل الثقافة ورجل الثروة.
أما السيدة بيرسيفال، فهي سيدة طيبة، رغم أنها فقيرة نسبيًّا. يحمل والدها لقبَ إقطاعي أيرلندي، لكن إيجار الأراضي لم يكن كبيرًا جدًّا، وكان بحاجة إلى إدارةٍ حاذقة لمنعها من الوقوع في القبضة المدمرة لمحكمة العقارات المرهونة. ومع ذلك، ومن مواردهما الضئيلة، منحها والداها تعليمًا عاليًا. حيث كانت تُجيد الرسم، وماهرةً في عزف الموسيقى، كما أنها فارسةٌ أنيقة، وبخلاف ذلك كانت بارعة. وكانت أخلاقها حرَّة وطبيعية، وأحيانًا ما تكون شبيهةً بالأطفال أو مبتهِجة. وكانت أطولَ قليلًا، وقليلًا فقط، من متوسِّط قامات بناتِ جنسها؛ ورشيقة المظهر، وذات وجهٍ لطيف. ولو كنتُ خبيرًا في الرسم بالكلمات، مثل روائي، لوصفتُ هذه السيدة بأنها امرأة شبهُ كاملة.
سيفهمُ القارئ أنني، في هذا الوصف، استبقتُ القصة حتى أُطلِعَه على المزيد عن السيدة والرجل أكثرَ مما يُمكن أن أتعلَّمَه في غضون شهرَين.
«اعذر لي صراحتي، يا سيدي، كما آمُل، لكنني لا أرى أساسًا لشكِّك في زوجتك.»
«أنا معجبٌ بصراحتك. إنها مطمئنة. قد أكون مخطئًا. أنا أصلِّي بإخلاص كي يتضحَ أنني كذلك. لقد قيل لي، إن لديك خبرةً كبيرة في مثل هذه الأمور العائلية المؤلمة التي أُزعجك بها الآن. إن استشارتك تُمثل بالفعل مصدرَ ارتياحٍ كبيرًا لي. وإذا استطعتَ إزالةَ الشكوك الفظيعة التي تُثقل كاهلي، فسأقدِّر معروفك للغاية؛ لكن دعني أعرِفُ الحقيقة، أيًّا كانت.»
ومِن ثَمَّ رجَوتُه مرة أخرى أن يكون أكثرَ دقةً مما كان عليه في توضيح سبب شكوكه بالتفصيل.
«بكل ثقة، يُمكنني القول إننا كنا في حفل عشاء في منزل السيد تالبويز، في سيمور بليس، الأسبوع قبلَ الماضي، وكان من المستحيل تجنبُ ملاحظة تصرفها بحرية مع اللورد الشاب سويلينجتون والعقيد فورشور.»
قلتُ له: «العقيد! إنه رجل في الستينَ من عمره. لقد كان بطلًا في الخدمة العسكرية، وهو «بطل» في كلِّ حفل هذه الأيام، حسبما سمعتُ. أليس من الممكن أن تكون اتهاماتك لزوجتك مجردَ مجاملات تجد كلُّ النساء الحقيقيات بهجةً في منحها مَن هم في مثل عمره وشجاعته؟»
«قد يكون هذا التفسيرُ صحيحًا؛ ولكن كيف تُفسر مزاحها مع ذلك الشاب الأخرقِ المغرور والتافه، اللورد سويلينجتون؟»
«قد يكون مزاحًا بريئًا ومعاملةً ظريفة من امرأة مهذبة. السيدات أحيانًا يجدن بهجةً شديدة في المزاح، لمجردِ إضاعة الوقت، مع الشخص الأخرق، في أيِّ طبقة من المجتمع قد يوجَد فيها.»
«أتمنى مخلصًا أن تكون على حق؛ لكن للأسف لم تكن هذه هي الأسبابَ الوحيدة لحزني. زوجتي مغرمة جدًّا بالاستمتاع. وقد ذهبنا مؤخرًا إلى حفلتَي إفطارٍ عامَّتَين، إحداهما لدى السيدة دبليو … في كيو، والأخرى لدى الماركيزة … في تشيسويك.»
«هذا يكشف — واعذرني لاقتراحي، في ظل التقدير الأكثر سلبية، وعقلانية في الوقت نفسِه، للشخصية البشرية — شيئًا من اللطف، بما يتفق تمامًا مع نقاء القلب والاستقامة الشديدة في السلوك.»
«يُسعدني أن أقول إنك مفسِّر متسامحٌ للسلوك البشري.»
«في الواقع كنت لا آمُل ذلك؛ فعلى الرغم من أنني رأيتُ الكثير من الشر، وقدرًا كبيرًا من الجرائم الغامضة، وكذلك الواضحة، فقد واجهتُ العديد من الحالات التي أدَّت فيها الشكوك الظالمة إلى حدوثِ كوارث. ولكن هل هناك أيُّ شيء في سلوك زوجتك لتبريرِ شكوكك بشأنها، وإذا كان الأمر كذلك فما هو هذا الشيء؟»
«حسنًا، لقد كانت تُغازل كلَّ رجل نبيل موجودٍ في كل حفلة، صغيرًا وكبيرًا.»
«كل رجل نبيل؟»
«أجل، تقريبًا.»
«هذا يكفي لإظهار عدم صحةِ مخاوفك. ربما كانت السيدة بيرسيفال مفعَمةً جدًّا بالحيوية، لكني أظن أن تصرفها بحرِّية نابعٌ، في جزءٍ كبير منه، من إدراكها أنها لا تفعل ما يُعَد ذنبًا ومن تحكُّمِها الذاتيِّ في أخلاقها.»
«مرة أخرى أقول إني آمُل أن تكون على صواب، وأن أكون مخطئًا.»
«لماذا التركيز على هذه الكلمة؛ آمُل؟ هل لاحظتَ أيَّ حالات أخرى لما تعتبره تصرفًا غيرَ لائق من زوجتك؟»
أجابَ بحسرة: «أجل.»
«أخبرني عنها.»
«منذ عدة أيام، حثَّتني زوجتي على اصطحابها إلى معرض الزهور الذي أُقيمَ في حدائق جمعية بوتانيك سوسايتي، في ريجنتس بارك.»
قاطعتُه متسائلًا: «طلبَت منك أن تأخذها إلى هناك؟»
«أجل، وقد فعلتُ ذلك. فأنا أمنحها كلَّ ما تشاء؛ ولِمَ لا، ما دمتُ لستُ متأكدًا من أن عواطفها قد ضلَّت أو أنها خائنة؟»
«هذا صحيحٌ تمامًا؛ ولكن هل حدث أيُّ شيء هناك؟»
«ربما قد لا تعتبره أنت شيئًا مهمًّا. لقد أمسكَت بذراع العقيد فورشور لبضعِ ساعات.»
«العقيد الهندي العجوز؟»
«أجل.»
«حسنًا، في الواقع، لا أرى أيَّ شيء في ذلك. لقد تصادفَ أن حضرتُ ذلك المعرض مع زوجتي السيدة فوريستر وأحد أقاربنا المرموقين. وأتذكر أنه كان من بين الأزهارِ عدةُ نباتات شرقية، نجحَ زارعو الأزهار لدينا في استنباتها هنا في بلدنا. هذا واحدٌ من أكثر الأحداث شيوعًا في أي معرِض زهور.»
«أتمنى أن أتمكنَ من النظر إلى هذه الأشياء كما تنظر أنت. إنَّ حدثًا واحدًا من هذا النوع ربما لم يكن قد أثار مخاوفي؛ ولكن العديد منها، وفي أوقات مختلفةٍ، يقدم دليلًا كليًّا تستحيل مقاومتُه.»
«كم مضى على زواجك؟»
«أكثر من عامَين بقليل.»
«هل أنجبتما أطفالًا؟»
«كلا.»
لقد كنتُ مقتنعًا تمامًا، مثلما يجب أن يكون القارئ، أنه ليس هناك في الواقع شيءٌ في سلوك السيدة بيرسيفال يُبرر الشكوك القاسيةَ لزوجها. ولذا رأيتُ أن تعيينه لي سيصبح من أكثر الأشياء التي يُمكنه القيام بها سخافةً.
هل يجب أن أقبل تعيينه لي؟ هل يجب أن أسمح لنفسي بأن أُستخدَم كجاسوسٍ على تحركات زوجته بينما أنا مقتنعٌ بشدة ببراءتها؟
يمكن كشفُ غموض هذه الغيرة من خلال تفسير بسيط. كانت السيدة قد وُهبَت بطبيعتها مزاجًا متقلبًا إلى حدٍّ ما، لم يفعل تعليمُها الكثيرَ لتقويمه منه. كانت المشاهدُ نفسُها التي قضَت طفولتها فيها مصدرَ إلهام لها للميل نحو التصرف الجامح أو اللعوب. ولم يحدث أيُّ شيء في حياتها الزوجية حتى الآن للتحكُّم في المرحِ البريء في شخصيتها أو الحدِّ منه، والذي قد يكون غيرَ اللائق. ولو أنَّ زواجها بالسيد بيرسيفال قد بورك من خلال الرزق بأطفال (الأمر الذي لا داعي للقول إنه لم يكن هناك حتى الآن سببٌ لليأس من حدوثه)، لكان مِن المرجَّح أنها ستُصبح عضوةً أقلَّ جاذبية في حفلات العشاء، وأقلَّ ثرثرةً أو مرحًا في حفلات الإفطار، وأقل اهتمامًا بالاستفسار في معارض الزهور.
لكن هل يجب عليَّ، أو لا، أن أتعهَّد بتأكيد شكوك الزوج غير المنصف أو إزالتها؟
وهكذا لم أستطع أن أحسم أمري بهذا الخصوص. وطلبتُ مهلة للتفكير. واتفقتُ مع السيد بيرسيفال على أن يزورني مرةً أخرى في غضون ثلاثة أيام.
خلال المدَّة الفاصلة بين زيارته الأولى والثانية، أجريتُ بعناية موازنةً بين الأسباب المؤيِّدة والمعارضة لتولِّي المهمة، وقرَّرتُ قَبولها في نهاية الأمر. وإنْ لم أفعل ذلك، كنت أعرف أن هناك آخرين سيفعلون، إذا عُرِضَت عليهم المهمة. وإذا تولَّوا التحقيقَ فيها، فلم أكن متأكدًا على الإطلاق من أنهم سيُؤدُّون مهمتهم بدقةٍ ومراعاة. فاعتقدتُ أنه من المحتمَل الاستعانةُ برجل فظٍّ أو وقح، وأنه قد يُفسر، من خلال البدء في تحقيقه باستنتاجٍ مسبق أن السيدة مذنبة، ما رآه من تصرفها بحرية تفسيرًا يَزيد من غَيرة زوجها. ومن ناحيةٍ أخرى، إذا تولَّيتُ هذه القضية، فلم أكن لأشكَّ في أن النتيجة هي تبرئة السيدة بيرسيفال في نظر زوجها.
حافظَ السيد بيرسيفال على موعده معي بدقة.
وقد بدأ هو الحديث.
فقال: «آمُل أن تكون قد وافقت على مساعدتي.»
«لقد وافقَتُ بالفعل.»
«حسنًا، سأكون ممتنًّا لك عندما تكشف الحقيقة؛ وسيكون امتنانًا مضاعفًا إذا تمكنتَ من إثبات أن شكوكي بشأن زوجتي لا أساسَ لها من الصحة.»
«أتوقعُ أن أحصل على هذا الامتنان المضاعَف.»
قال بتأكيدٍ كبير: «ليكن ما يكون. ليس هناك ما يَعيبك مِهنيًّا، حسبما أفهم، أنك قد كوَّنت بالفعل رأيًا مفاده أن زوجتي صالحةٌ بقدر ما أتمنى لها، وأنني أحمقُ غيور. وبالطبع لن يُعجبني أيضًا أن تُدينها إدانةً مسبقة. أنا على قناعة بأنك ستُؤدي واجبك تجاهي بإخلاصٍ وتجاهها بمراعاة الحيادية.»
وقد وعدتُه بفعل ذلك.
كان هناك حفل في النادي الاجتماعي «ألماك» في اليوم التالي. وكانت السيدة بيرسيفال ستحضره، وكذلك زوجها. لكنهما سيذهبان كلٌّ على حِدَة، تبعًا لقواعد البروتوكول السائدة؛ هي في عرَبة تجرُّها الأحصنة، وهو في عربته المكشوفة.
لم أكن أعتقد أن ناديَ «ألماك» هو مكان مرغوب فيه لبدء تحقيقاتي. لن يكونَ من السهل بالنسبة إليَّ أن أحصل على الإذن بدخول هذا المكان الضيق لكلِّ التجمُّعات، على الرغم من أنه بإمكاني إنجاز ذلك، كما فعلتُ من قبل. ولذا، فضَّلتُ موقع مراقبة تكون فيه الآدابُ الاجتماعية أقلَّ صرامة.
في الأسبوع التالي، كان من المقرَّر أن يُقام حفل تنكُّري كبير، تحت رعاية هيئة مؤثرة من السيدات الراعيات، للتخفيف من الجوع في وايت تشابل؛ ورأت السيدة بيرسيفال، إيمانًا منها بالأعمال الخيرية التقليدية، أن من واجبها أن تشتريَ تذكرة (مقابل سعر جنيه واحد، الذي يحصل المحتاجون على جزءٍ ضئيلٍ منه)، وأن ترعى صانع الفساتين وصانع القبعات بمبلغٍ أكبر، كدليلٍ على تعاطفها الشديد مع الفقراء الجائعين.
لقد حضرتُ ذلك الحفل، وقد شعرتُ بالغثيان من الاستهزاء الملموس بالضائقة التي صُمِّم الحفل ظاهريًّا للتخفيف منها؛ لكن يجب ألَّا أخرج عن مسار قصتي كي أعظ.
في ذلك الحفل لم أرَ أيَّ تصرف غير لائق من السيدة بيرسيفال يدعو إلى الشك، وكذلك في مَعرِض الزهور الذي أُقيمَ في ساحة كريستال بالاس في سيدنهام؛ وفي حفل إفطار عام أقامته الماركيزة ﻟ … في حديقة منزلها في تشيسويك. كما أثبتَ المزيدُ من المراقبة الدقيقة على نحوٍ خاص لتحركات السيدة أنها سيدةٌ فاضلة للغاية.
لقد أُصِبتُ الآن بالتعب والاشمئزاز من مهمتي، وأنهيتُ المهمة بإبلاغ السيد بيرسيفال باقتناعي المطلَقِ ببراءة زوجته وعفَّتِها. وقد تلقى تقريري دون إبداء أيِّ رأي فيه، وكان واضحًا أنه غيرُ راضٍ عنه تمامًا. في رأيي، أضعفَ تقريري شكوكَه، لكنه لم يقضِ عليها. كنت آسفًا للنتيجة غير الكاملة، لكنني لم أستطع فعلَ أكثر مما فعلت لإرضائه.
غالبًا ما كنت أفكر في هذه الحالة الغريبة وأتأمَّل فيها. ما الذي يمكن أن يُثير هذه الشكوكَ في ذهن رجلٍ مثل السيد بيرسيفال؟ كانت الإجابة من وجهة نظري هي عدم التوافق المزاجي. فقد كان رجلًا جادًّا وخَجولًا إلى حدٍّ ما. بينما زوجته، رغم أنها امرأة صالحة، كانت شخصيةً مَرِحة ومتقلبة إلى حدٍّ ما. وأستطيع التأكيد أن هذا زواجٌ غير متكافئ في كثير من النواحي. وأعتقد أن البؤس الحتميَّ هو مصيرُ هذا الزوج وتلك الزوجة في المستقبل.
بعد مرور ما يقرب من عامٍ على انتهائي من تلك المهمة مع السيد بيرسيفال والسيدة زوجته، زار مكتبي محامٍ بارزٌ في لندن، لم يكن يعلم شيئًا عن مهمتي السابقة، بغرض تتبُّع انسحاب ذلك الرجل، الذي هجر زوجته، وكان يختبئ من جميع أصدقائه. إذ لم يسمع زائري، وهو المحامي الخاص للسيد بيرسيفال، أيَّ أخبار عنه منذ فِراره. ليس من المفترض أن يكون قد تعرَّضَ لأيِّ عنف، رغم أنه كان من الصعب تحديدُ الأذى الذي ربما لحق به. كان طبيبه قد أشار إلى أنه يُعاني من واحدٍ من آلاف الأشكال لواحد من مئات الفروع من هذا الاضطراب المعروف باسم الجنون الجماعي المألوف. وهو نوعٌ خفيف وغير ضارٍّ من المرض؛ نوعٌ من الاكتئاب الشديد. كان أصدقاء السيد البائس حريصين على اكتشافِ مكانه، وربما مراقبته سرًّا؛ وفي أسوأ الأحوال، وضعِه تحت التحفُّظ اللطيف والمؤقَّت. ولكونه معروفًا بأنه رجل ذو طموحٍ عالٍ ومشرِّف — من المرجح جدًّا أن يحصل على مقعدٍ في البرلمان ويشغله بجدارة، ما لم تُدمَّر فرصه — استُنكِرَت الدعاية أو الفضيحة أو القيل والقال، حول موضوع فجيعته.
ومِن ثَمَّ قَبلتُ هذه المهمة، واعتقدتُ أنه من المستحسن إطلاعُ المحامي على المهمة السابقة التي كلَّفني بها السيد بيرسيفال، حتى يتمكنَ من إعادة ذكر الحقائق للطبيب، الذي سيحصل بِناءً على ذلك على بعض الأفكار حول سرِّ فجيعة الرجل النبيل.
لم يكن لدينا أيُّ دليل على مكان وجود السيد بيرسيفال. وقادتنا بعضُ الحقائق إلى تصورِ أنه لم يُغادر هذا البلد. لكنني أبقيتُ نفسي على اتصال مع الشرطة الفرنسية والبلجيكية، كأفضل طريقة لتعقبه إذا كان قد عبَر البحر. وقد فحصتُ بدقة جميعَ الأوراق المحلية حول المفقودين والمقدَّمة في مقاهي بيلي وديكون، بحيث أعلم بأيِّ ضررٍ إذا أصابه. وكان هذا إجراءً احترازيًّا أضفتُه إلى تحقيق الشرطة المعتاد من خلال إعلانٍ مكتوب.
وذات يوم حصلتُ على معلومات من خلال صحيفة في غرب إنجلترا تُفيد بأن رجلًا نبيلًا، تنطبق عليه صفاتُ السيد بيرسيفال، قد عُثِر عليه وهو يتجول عبر الساحل، في حالةٍ تُشير إلى اضطرابٍ عقلي. فلم أُضيِّع الوقت وسارعت بالتوجُّه إلى المكان، مع الطبيب والسيدة بيرسيفال، التي أصرَّت على أن تذهب معنا.
ومِن ثَمَّ استعَدْنا المسكين الذي استسلم لسيطرتنا مثل الرضيع. وأحضرناه إلى لندن، وأخَذْنا له منزلًا في الضاحية الغربية، حتى يكون بعيدًا عن أعين النمَّامين، وقريبًا من طبيبه. ربما، لا داعيَ للقول إن زوجته كانت ترعاه بنفسها في الأساس، ولم تسمح لأيِّ شخص آخر سواها بخدمته. وحصل المريضُ على فترات لركوب العربة، وأداءِ تمارينَ خفيفة، وتناول أدوية مقوية يومًا بعد يوم؛ حتى إنه في غضون أسابيعَ قليلة، وتحت رعاية الطبيب، اتُّخِذت الترتيبات لنقله، في يخته الخاص، إلى شمال أوروبا.
وقد أوضحَ لي الطبيبُ أن سرَّ مرضه هو خيبةُ الأمل أو الطموح بنفاد صبر. حيث كان الابنَ الوحيد. وقد ورثَ، إضافةً إلى تركة والده، رغبةَ ذلك الرجل في تأسيس عائلة. ومِن ثَمَّ خشي أن تكون لعنةُ العُقم قد أصابته هو أو زوجتَه، كما أن التفكير المستمرَّ في هذا الأمر قد زاد الغيرة في قلبه.
وفي شمال أوروبا استعاد السيد بيرسيفال صحته العقلية بالكامل. وعند عودته إلى إنجلترا زارني، وشكَرني بصدقٍ شديد على الدور الذي لعبته في القصة التي ذكَرتها؛ مشيرًا إلى أنه إذا كان أيُّ شيء يمكن أن يتجاوز امتنانه للاهتمام الذي أوليتُه له، فسيكون الطريقةَ المخلصة التي كافحتُ بها وسعيتُ إلى تدمير شكوكه التي لا أساسَ لها من الصحة في زوجته. وقال إنها المرأة الفضلى أو الأكثرُ نبلًا على الإطلاق. وكان يخشى أن تكون قد أضرَّت بصحتها بسببِ اهتمامها اليقِظ به أثناءَ مرضه؛ لذا فالحزن الوحيد الذي يشعر به الآن هو التخوُّف، لكونها حامِلًا، من أن التغيير في الجو والسفر إلى شمال أوروبا، الذي أُوصي به للتوِّ من أجلها، لن يكون كافيًا لإعادة الحيوية والقوة إلى جسدها الحسَّاس. ومع ذلك، فأنا سعيدٌ لأن في مقدوري القول إن هذه المخاوف لم تتحقَّق. إذ إن السيد والسيدة بيرسيفال، وهما من بين أسعدِ الناس في العالم (لأن صحة كِلَيهما، من حيث العقلُ والجسدُ على حدٍّ سواء، في أحسن حال)، قد رُزِقَا بولدَين، مع احتمال الإسهام بمزيدٍ من الضمانات التي تكفُل عدم انقطاع شجرة عائلتهما عن الإثمار في هذا الجيل.