هُوية مغلوطة
جلسَ تاجر محترم للغاية في مكتبٍ صغير مريح، يستخدمه لحفظِ سِجلاته وإدارة الحسابات، في الجزء الخلفي من متجره، الذي يقع على بُعد ميلٍ واحد من مانيسون هاوس في مدينة لندن، وذلك في عصر أحد أيام صيفِ عام ١٨٦١. ولم يوجَد معه أحدٌ في هذه المناسبة سوى زوجته. وقد كان ظرفًا غيرَ معتاد أن تكون السيدة هناك، حيث يُقيم السيد دلمار في منزلٍ صغير أنيق في إحدى الضواحي الشرقية من العاصمة. وعِلاوة على ذلك، كان أبًا لعائلة تتكوَّن من أربعة أبناء وثلاثِ بنات، تتراوحُ أعمارهم بين السابعة والثانية والعشرين. كما أنه الوكيل الكنَسي للأبرشية التي يُزاول أعماله التِّجارية فيها. وهو يعتبر مثالَ الفضيلة في البلدة ونموذجًا للاستقامة في الأعمال التجارية. وفي الواقع، فإن قلةً من الرجال في العالم كله يتمتَّعون بسُمعة أفضل من السيد دلمار. إذ لم تَشُب سمعتَه شائبةٌ على الإطلاق، ولا يحقُّ لأحدٍ أن ينتقد شخصيته ولو بكلمة. وكان منزله مبهجًا بفضل قدرٍ لا بأسَ به من الرَّخاء وزوجته الصالحة وأولاده المطيعين.
هذه التفاصيل عن السيد دلمار وعائلته وعلاقاته وظروفه وسُمعته ضروريةٌ لتمكين القارئ من تقديرِ الأحداث التي يجب أن أصِفَها.
لقد جاءت السيدة دلمار إلى المدينة، في هذه المناسبة، من أجل التسوُّق. وقد طلبت من زوجها الحصيف مبلغًا تقريبيًّا من المال الذي تحتاجه — أو اعتبرت أنها بحاجةٍ إليه — لشراء مجموعة متنوعة من المستلزمات المنزلية، من حذاءِ طفلها الصغير إلى أغطية رأس ابنتها الكبرى. فتفحَّص السيد دلمار النفقات المتوقَّعة، أو كما قد أصِفُ الأمر، راجعَ التقديراتِ المنزليةَ بحَصافة تستحقُّ الثناء، وأعتقد أيضًا، بعاطفة الزوج والأبِ تجاه مَن يعول.
وأثناء ذلك دخل أحدُ مساعدي السيد دلمار إلى المكتب، وقال له: «هناك رجل يرغب في رؤيتك يا سيدي، في المتجر.»
«أحضره إلى هنا يا ويليامز.»
«يقول إنه يريد أن يراك على انفرادٍ يا سيدي.»
صاحَ السيد دلمار مندهشًا: «على انفراد! أحضره إلى هنا.» ونظر إلى زوجته وهو يُنهي الجملة.
غادر ويليامز المكتب وأخبر الرجلَ، الذي كان يقفُ في المتجر، أن سيِّدَه يريدُ مقابلتَه في الداخل.
قال الزائر المجهول للبائع: «لقد أخبرتني أن السيدة دلمار موجودة في الداخل مع زوجها؟»
أجابه البائع: «أجل يا سيدي.»
«إذن أنا أُفضِّل أن يخرج السيد دلمار إليَّ هنا.»
«لن يفعلَ ذلك يا سيدي. ويقول إنَّ عليك أن تدخلَ إليه.»
«حسنًا، سأدخل.»
تقدَّم الزائر المجهول إلى المكتب حيث يوجد الزوجانِ المحترمان السعيدان؛ وفتحَ البابَ بحذرٍ وتوتر، وبدا أنه متردِّد في تنفيذ هدفه.
ومِن ثَمَّ قال: «أُفضل أن أتحدث معك يا سيدي للحظةٍ على انفراد.»
«يُمكنك التحدث كما تريد يا سيدي؛ فهذه السيدة هي زوجتي.»
«إنه موضوعٌ خاص.»
صاحَ السيد دلمار وقد تصاعد توتُّرُه: «ليست لديَّ موضوعات خاصة أو أسرار غير معروفة لزوجتي يا سيدي.»
«حسنًا يا سيدي، سأُصبح ممتنًّا لك للغاية إن تمكنتُ من الحديث معك على انفراد.»
«قلت لك يا سيدي، ليس لديَّ أسرار أُخفيها عن زوجتي. ما هو الموضوع الذي تريد الحديث فيه؟»
«أنا أُصرُّ يا سيدي!»
«ماذا تقصد أيها السيد؟ أنا الذي أُصر على أن تُخبرني فورًا ما الذي أتى بك إلى هنا. وإن لم تفعل فسأطردك إلى الشارع.»
قال السيد دلمار هذه الكلمات بنبرة أثارت انزعاج زائره، الذي ربما يكون قد أدركَ جِدية التهديد الذي تسببَت فيه طريقتُه الرقيقة؛ لكنه استجمع شجاعته وتقدم نحو المكتب وأخرجَ من جيبه ورقةً سلمها في صمتٍ إلى الزوج المذهول والساخط.
كانت الورقة عبارةً عن استدعاء للمُثول أمام القضاء لتبرير عدم إنفاقه على طفلة السيدة سيلينا ويلكنز، عاملة خدمة الغُرف في فندق جريفينز هيد (وهو فندق ممتاز، معروف جيدًا للمسافرين التِّجاريين على طريق ميدلاند الذين يزورون بلدة …)
كان السيد دلمار رجلًا خاضَ الكثيرَ من تَجارِب الحياة، على الرغم من أنه، لحسن حظِّه، لم يتعرَّض للكثير من تقلُّباتها أو شرورها ومَخاطرها. ومع ذلك، لم تُساعده معرفته وخبرته على استيعاب هذا الموقف. وخلال دقيقتَين أو ثلاث دقائق من الصمت التام، أخذَ الأشخاصُ الثلاثة ينظرون بعضهم إلى بعض بالتناوُب، وصار السيد دلمار فريسةً للمشاعر المتضاربة والأغراض المتقاطعة. في البداية وجد أنه مجبرٌ على طرد الرجل، دون سابق إنذار، لتنفيذ التهديد الذي أطلقَه منذ وقتٍ قصير، ومعاقبته كوكيل لهذه المزحة العمَلية الشائنة التي تُمارَس الآن عليه، كما تصوَّرَها، من خلال توبيخه على نحو شديد كي يَخْزى من تصرفه. وبعد ذلك، ارتجفَ أمام تخوُّفٍ غامض من أن مؤامرةً حمقاء ربما قد حِيكَت لتدمير سلامه وسلام عائلته. ثم طرأت عدةُ تساؤلات على ذهنه؛ هل تصرَّف بحصافةٍ عندما أجبر الضابط المتنكر على تقديم الاستدعاء في حضور السيدة دلمار؟ هل ينبغي أن يُعامل المرسال الذي جلب هذا التشهيرَ الرسمي الفاضح بتحضُّر؟ هل يأتمنه على سرِّه؟ ما الذي يجب حقًّا أن يفعله؟
وخلال فترة الثلاث الدقائق الوجيزة، ساوره العديدُ من الشكوك حول ما إذا كان، في نهاية الأمر، من الحكمة لرجلِ أعمال، ورجلٍ خبير بالدنيا، أن يُخبر زوجته بكل أسراره. وأخيرًا قرر أن يستمرَّ في هذا الظرف الطارئ في اتباع تلك الصراحة والاستقامة تجاهَ زوجته، التي كانت مصدرَ الكثير من الراحة لهما في حالات الطوارئ المختلفة التي تُواجهها أحيانًا حتى الحياة الهادئة لتاجر لندن ذي الأعمال المزدهرة.
كانت الزوجة قد نظَرت إلى المشهد السابق بدهشة وخوف. إذ إن تغيُّر لون وجه زوجها، وارتعاش ملامحه، والحركة المتوترة لأطرافه، في ظل الغضب المكبوت، والاشمئزاز، والرهبة، أخبرَتها أن الوثيقة التي رأته يتسلمها كانت بمثابة رسالة تمهيدية لشيء مروِّع للغاية. وهي إن لم تكن تعرف جيدًا مدى استقامة والدِ أطفالها وشرفه، لكانت قد قفزَت إلى استنتاج، في ظل حيرتها، مفاده أنه قد ارتكبَ تزويرًا، أو قتل شخصًا ما، وأن الاستدعاء هو أمرٌ قضائي لاعتقاله بتهمةٍ ربما تُؤدي لإيداعه في سجن بورتلاند أو قد تصل به إلى حبل المشنقة.
كان الضابط هو أولَ مَن كسر الصمت.
حيث قال: «إنها مهمة مؤلمة يا سيدي.»
«لا بأسَ. ولكن ماذا يعني هذا؟» أجابَ السيد دلمار، منتقلًا بسرعة من اللامبالاة المتأثِّرة إلى الفضول المؤلم.
قال الضابط: «أنت تُدرك يا سيدي ما يَعنيه.»
لولا خشيةُ الرجل من أن يبطش به السيد دلمار، لارتسمَت ابتسامة ساخرة على وجهه.
«أنا أعرف يا سيدي ما هو.» أجاب السيد دلمار؛ وقد استجمع كلَّ عزيمته، ورفع نفسَه إلى مستوًى عالٍ من الكرامة الأخلاقية، الذي ربما لم يرتقِ إليه أبدًا في أي لحظة من حياته الزوجية، منذ اليوم الذي تزوج فيه تلك المرأةَ في شبابه ورجولته النقية، بكل السبُل المحترمة، لتُصبح شريكتَه ورفيقتَه إلى المذبح، وأضافَ:
«وأنا سعيد جدًّا بالفعل يا سيدي، لسبب واحد فقط، هو أنني لم أوافق على رؤيتك، أو أن أتسلَّم من يدك هذه الورقةَ الشائنة، دون معرفة زوجتي.»
ظلت السيدة دلمار صامتة ومتحيِّرة وقلقة للغاية.
قال الضابط بنبرةٍ اعتذارية، وهو ينظر إلى الباب وكأنه يرغب في المغادرة: «لقد قمتُ بواجبي.»
قال السيد دلمار: «يمكنك المغادرة.»
لن أسرد كلَّ تفاصيلِ المشهد الذي أعقبَ ذلك. لكن يكفي، على كلِّ الأحوال، أن يعرف القارئ أن السيد دلمار قد قرأ الوثيقةَ على زوجته، وشرحَ هدفَها بالضبط، وطلبَ مساعدتها في حلِّ هذا اللغز. ولم تكن لديه فرصةٌ لسؤالها عما إذا كانت تعتقد أنه مذنبٌ بالجُرم المنسوب إليه. فقد بادرَت هي بتأكيدِ إيمانها ببراءته التامَّة. وأخبرته أنها تشعر بأن ذلك حدث نتيجةً لخطأ فادح في الهُوية الشخصية، أو لمؤامرة شائنة.
سيكون من الخطأ القولُ إن الثقة المتبادَلة لم تترك إحساسًا مؤلمًا بالعواقب المحتمَلة لهذا الحادث الغامض؛ ومع ذلك يُمكن التأكيد أن الحدث لم يُقلل من حب تلك المرأة لزوجها، ولم يُثر في صدرها ولو للحظةٍ أيَّ شك طفيف في إخلاص زوجها.
ومِن ثَمَّ ذهبَ الرجل البائس، الذي هو ملزَم هكذا بالدفاع عن نفسه ضدَّ تهمةٍ هو بريء منها تمامًا، إلى مُحاميه الذي قال إنه لا يستطيع أن يتَّخذ قراره. إذ وقع هذا الرجل المحترم، السيد درولي، في حيرة من أمره لتحديدِ ما إذا كان موُكله غبيًّا بما يكفي لخداعه، أو ما إذا كان ضحيةً لما وصفَته السيدة دلمار بأنه مؤامَرة شائنة، أو ما إذا كان يُمارَس ضده مخطط ابتزاز مُحاك ببراعة.
ولذا طُلِبَت مني المساعدة حينَذاك. ومِن ثَمَّ طَلبت أن أحصل على حرية تصرفٍ كاملة، حتى أتمكنَ من التحقيق في اللغز بطريقتي الخاصة. أعتقد أنه كان بإمكاني توضيحُ الأمر بسهولة أكبر، إذا لم أشعر بالحرج من دقة تعليماتي. ومع ذلك، فقد طُلب مني الاستفسار، في المقام الأول، عما إذا كانت سيلينا ويلكنز قد وكَّلَت أيَّ محامٍ، وإذا كانت قد فعلت، فعليَّ أن أتواصل معه. كما طُلب مني استخدامُ أفضل مهاراتي في تتبُّع خيوط القضية؛ وفي الوقت نفسِه، إذا كان الرجل المحترف على الجانب الآخر رجلًا ذا سُمعة طيبة، فعليَّ التعامل معه بصراحة. إذ يتوجَّب أن أشرح ظروف المدَّعَى عليه وشخصيتَه، وأؤكِّدَ استحالة ارتكابه أيَّ جريمة من هذا القبيل تتنافى مع قواعد اللياقة العائلية وأصولها؛ كما طُلب مني أن أحاول تصفية القضية أو تسويتَها دون فضيحةٍ أو تشهير.
وقد فعلتُ كما طُلب مني. إذ إن عادتي، عندما أتلقَّى تعليماتٍ محددةً من المحامين، هي أن أتبعها حرفيًّا. وقد جنَّبَتني عمومًا الكثيرَ من المتاعب، ولكي تُصبح النتيجة مُرضية، فأنا أُفضل هذه الطريقة أكثرَ من غيرها؛ لكن في بعض الأحيان تُصبح الخُطة محيِّرة ومزعجةً بعض الشيء؛ لأنني أتصور أنه من خلالها قد فقدتُ هدفي، ولم أحصل على الفضل في النجاح بمجهودي الخالص.
ومِن ثَمَّ، تأكدتُ من أن الفتاة، بِناءً على توصية سيدها وسيدتها السابقَين، قد وكلَت محاميًا، وهو ذو مكانة مرموقة بين المحامين في ذلك الجزء من البلاد. وقد استقبلَني بلُطف، وأعربَ عن استعداده لإخباري بكلِّ شيء عن القضية. ومع ذلك، أصرَّ على أن المدَّعى عليه من المؤكَّد أنه نذلٌ مخادع، ومنافقٌ بارع، وإنسانٌ ملعون، وما إلى ذلك. كما أخبرني أنه ليس هناك أدنى قدرٍ من الشك بشأن القضية؛ واتخذ موقفًا متعصبًا بروحٍ حزبية وهو مقتنع تمامًا بصحة أقوالِ موكلته.
أما بخصوص هُوية الشخص، فهو يعتقد أن أيَّ دفاع عن هذا الرجل يجب أن ينهار؛ لأنه حصل، من خلال وُكلائه في لندن، على وصفٍ للسيد دلمار، الذي يتوافق تمامًا مع الوصف الذي قدَّمَته له «موكلته البائسة». صحيحٌ أن الفتاة المسكينة، كما قال، لم ترَ الرجل منذ وقوع مصيبتها؛ لأنه لم يكن لديها المالُ للقيام بزياراتٍ إلى لندن؛ كما، في الواقع، لم تكن قوَّتُها كافيةً لتمكينها من القيام بتلك الرحلة والعودة دون تعريض حياتها للخطر. وقد عقَد الحزنُ والعار والإهانة المريرة لسانَها حتى آخرِ لحظة ممكنة. واعترفَت بما حدث لها فقط عندما أصبحَ الدليل الماديُّ على خطئها واضحًا لسيدتها. وتابعَ المحامي قائلًا: «والعجيبُ في الأمر يا سيدي، أنه حتى بعد التأكُّد من حالة الفتاة المسكينة، رفضت أن تقول مَن هو المتسبِّب في بؤسها، وتشبَّثَت باعتقادٍ أحمقَ مفاده أنه نظرًا إلى كونه رجلًا نبيلًا، فسوف يَفي بوعده يومًا ما ويتزوَّجها. لكن الأمر كشف يا سيدي على النحو التالي. حيث أُعيدت إلى منزلها لتُحبَس هناك. ففتشَت والدتُها كيس نقودها الصغير ذات ليلة، ووجدت فيه بطاقة الرجل العديم الضمير. فتأكَّد أصدقاؤها من اسمه وعنوانه.»
وعندما حصلتُ على هذه التفاصيل من محامي سيلينا ويلكنز، كان ذلك في وقتٍ متأخِّر نوعًا ما؛ لذلك كتبتُ تقريرًا عن مقابلتي مع المحامي بأسرعِ ما يمكن، وأرسلتُه إلى المحامي الذي تلقيت تعليماتي منه في لندن.
بعد ذلك تلقيتُ الرد عبر برقية، وطُلب مني متابعةُ التحقيق، فليس هناك شكٌّ في أن القضية تنطوي على تآمُر أو احتيال.
وربما كان من الأفضل ذِكرُ بعضِ التفاصيل الإضافية لهذه القضية الغامضة عبر السرد الموجز الذي يُمكنني تقديمه عن التحقيق أمام القضاة.
ففي اليوم المحدَّد لجلسة المحكمة، حضر السيد دلمار من لندن، مع محاميه المحترم، ومع محامٍ آخرَ شهير ظهر اسمُه في ألف رواية من روايات محكمة الجنايات المركزية بشارع أولد بيلي. وقد استُجوِبَت الفتاة. حيث روَت قصتها وسط دموع وتنهُّدات وانفعالات. وخلاصة القصة أن رجلًا نبيلًا، أو «تاجرًا» كما وصفته، والذي زار بلدة … ونزل خمس مرات أو ستًّا في الفندق الذي كانت تعمل فيه، أبدى إعجابه الشديد بها، وتحت غطاء الوعد بالزواج، تسبَّب في وقوعها في الخطيئة. ولم تتردَّد في التصريح بأن المدَّعى عليه هو مَن فعَل ذلك. وقدَّمت البطاقة التي طُبع عليها اسمه وعُنوانه إلى المحكمة. ولم يستطع الاستجوابُ المتعمق من قِبَل محامي المدعى عليه أن يُفنِّد هذه الادعاءات. وعلى الرغم من أن الرجل لم يذهب إلى الفندق المعنيِّ عدةَ مرات، فإنه بدا معتادًا على المدينة، وقد رأته يدخل فندقًا منافسًا قبل أن تعرفه كواحدٍ من نزلاء سيدها أو زبائنه. وبعد ذلك أدى المدعى عليه اليمين. ونفى أن يكون قد رأى الفتاة مطلقًا من قبل، أو أنه جاء إلى البلدة منذ عدة سنوات، أو أنه نزل مطلقًا في الفندق الذي كانت تعمل فيه.
وقد دافعَ محامي المدعية بأن القضية المرفوعة ضد المدعى عليه هي قضية محسومة. وقال إنها لا يعتريها أيُّ شك. ثم وجَّه طعناتٍ لاذعةً لسُمعة المتهم؛ ذلك أنه من خلال دفاعه السيئ قد وجَّه إهانة إلى موكلته علاوةً على الضرر الذي سبق أن ألحقه بها. ومن ناحية أخرى، دفعَ محامي المدعى عليه بأن الأدلة التي قدَّمتها المدعيةُ منقوصة؛ كما أنها بعيدةُ الاحتمال من عدة نواحٍ؛ وأنه ينبغي ألا يُؤخذ بها مقابل شهادة المدعى عليه المحترم نيابةً عنه. ودعا الرجل الخبير هيئة المحكمة إلى رفض القضية، وألمحَ إلى أنه إذا كان الحُكم ضدَّ موكله، فسوف يلجأ إلى الاستئناف. وقد اتفقَت هيئة المحكمة مع محامي المدعية؛ وأعربت عن رأيٍ مفاده أنها فتاةٌ قد غُرِّر بها وخُدِعت؛ وقالت بعضَ الأشياء السيئة عن المدعى عليه، كما أعربت عن رغبتها في فعل ما لا يمكنها، بالمناسبة، سوى فعله، على حدِّ اعتقادي وهو منحُه فرصةً للاستئناف على الحُكم.
سيَخطر للقارئ أن هناك عدةَ وسائل لدحض بعض الحقائق الخاصة التي استندَت إليها قضية المدعية، كما حدث بالفعل، على الرغم من أنني حذفتها من أجل الإيجاز، ولأنها ليست ضرورية للتفسير يجب أن أعطيَ حقيقةً واحدة مهمة.
سيتساءل القارئ كيف وصلَت بطاقة المدعى عليه إلى يد المدعية. سأقول على الفور، من أجل إزالة بعضِ الغموض، إن الفتاة نفسَها كانت بلا شكٍّ مخطئة، على الرغم من التسرع إلى حدٍّ ما في الأدلة التي قدمَتها بشأن هُوية مَن أغواها.
لكن، ما لم يكن أحدُ شركائها قد أعطاها هذه البطاقة، فكيف يمكنها الحصولُ عليها؟ لا بد أنها قد وصلت إليها من قِبل شخصٍ شرير للغاية، يريد أن يُحوِّل التحقيقَ من مساره الصحيح إلى مسار أهل بيت رجل بريء وسديد العقل، وإلى خطَرِ تدمير سعادته وأسرته.
وهكذا أصبح تتبعُ هذا المجرم هو مهمتي الخاصة. لكن لم يكن لديَّ الكثيرُ من الوقت لاكتشاف الحقيقة قبل سماع الاستئناف والبتِّ فيه.
لم يستطع السيد دلمار مساعدتي. فقد أعطى بطاقته، في أوقاتٍ مختلفة، لمختلِف الناس؛ وخلال عدة سنوات، ربما يكون بضعُ مئات من الأشخاص هم الوسيلةَ الواعية أو اللاواعية، المباشرة أو البعيدة، لنقلِ البطاقة المدمرة من يده إلى يد المدعية.
وبعد أن أمضيتُ أسبوعًا في بذل الجهود لتعقُّب الجاني المزدوج — ودَعْني أقُلْ بصراحة، بدون أيِّ دليل يُمكنني أن أكتشفه من خلاله — كنتُ قد سئمت المهمة، لكن خلال هذه الفترة بزغ شعاعٌ من الضوء عبر ذِكْرى غير مكتملة للسيد دلمار. وتذكَّر أنه قبل حوالي عشَرة أشهر من تقديم الدعوى ضده في … اضطُرَّ إلى زيارة نورويتش في مهمة عمل عاجلة. حيث كان الرجل الذي يَدين له بمبلغ كبير من المال يُواجه صعوباتٍ مالية، فدعا إلى اجتماعٍ لدائنيه، ودُعي السيد دلمار للحضور. وبعد إتمام هذه المهمة، كان ينوي العودةَ إلى المدينة في قطار متأخِّر، لكنه انخرط في محادثة مع بقية الدائنين حتى تأخر الوقتُ وأصبح من الضروريِّ التخلِّي عن هذه النية. وبِناءً عليه، قضى ليلته في فندق ساراسنز هيد، وسعى إلى قضاء الساعات التي تسبق النومَ في التدخين وتناوُل الشراب في قاعة التجَّار بالفندق. حيث قابل الموجودين، كما قد يفعل أيُّ غريب متواضع، بتحيةٍ وُدية ورفقة جيدة. وتعرَّف السيد دلمار هناك على رجلٍ ظل يُثرثر معه وتقرب منه للغاية. هذا الرجل، الذي أخبره عن مجال عمله أثناء المحادثة، أخرج علبة بطاقاته وكان على وشك منح بطاقته للسيد دلمار، ولسوء الحظ، كما قال، وجد أنها قد نَفِدت، لكنه أخبره بعُنوانه. فأخرج السيد دلمار أيضًا علبة بطاقاته، ولسوء الحظِّ أيضًا، كما ستوضح بقيةُ الأحداث، أعطى التاجر اسمَه وعُنوانه المطبوعَين.
لم أستغرق وقتًا طويلًا — وكذلك سيفعل أيُّ شخص، كما أظن — في استنتاج أن هذا التاجرَ هو الشرير في قصتي.
ومِن ثَمَّ أخذتُ صورة فوتوغرافية للسيد دلمار في جيبي، وحجزتُ تذكرتي بسرعةٍ إلى نورويتش، ولم يكن لديَّ الكثير من الشك بشأن الإيقاع بذلك الوغد.
هل يرغب القارئ في معرفة كيف أوقعتُ به؟ تبدو عمليةً بسيطة وسهلة للغاية بعد شرحها، ولا أظن أن الكثير من الفضل يعود إليَّ في ذلك. امنح رجلًا ثاقبَ الفِكر خيطًا، وأضمنُ لك أنه إذا كان لديه الوقتُ والفرصة، فسوف يتمكن من خلاله من حلِّ اللغز.
حسنًا، إن الطريقة التي تتبعتُ بها الخيط إلى أقصى الحدود كانت كما يلي. لقد استنتجتُ على الفور في ذهني أنَّ ميول هذا الرجل ستسبقه أينما ذهب، وأنه في أغلب الفنادق والحانات التي أقام فيها سنجد على الأقل خادمةً جميلة واحدة تتذكَّر اسمه وشكله.
وقد كنت على حق. فبعد أن تعرفت بأسلوبٍ محترم وبريء على الخادمات في فندق ساراسينز هيد في نورويتش، تجرأتُ وعرَضت على إحداهن صورةَ الرجل الذي أقتفي أثرَه. فرأيتُ على الفور أن هذه الفتاة تشعر نحوَه باستياءٍ شديد. لقد لاحظتُ شيئًا مثل احتقار، أو اشمئزازٍ منه. وكان هذا كافيًا بالنسبة إليَّ. فقلت للفتاة بصراحة إنني أريد أن أتعقَّبه وأُعاقبه على جريمة دنيئة وحقيرة. وقد رأيتُ، على الرغم من أنها خادمةُ غرف في فندق، أنها كان لديها حسُّ احترام قواعد السلوك التقليدية كغيرها من النساء. ومع ذلك، للتأكُّد أكثرَ من مساعدتها لي، ناشدتُها مستخدمًا وسيلة أخرى، والتي من المفترض أن يكون لها بعض التأثير على فتاة فقيرة. حيث عرَضتُ عليها مكافأةً قدرها خمسةُ جنيهات ذهبية إذا مكَّنَتني من اكتشافه، وكتأكيدٍ لصدق المكافأة وجديتها منحتُها جنيهًا ذهبيًّا في الحال. فأخبرتني أنها تعتقد أن الصورة تُشبه ملامح السيد جون براون، موظف التحصيل بشركة السيجار الذي يتنقل على هذا الخط، والذي أقام في هذا الفندق منذ فترة، والذي قد يعود مرة أخرى في غضون أسبوع أو أسبوعَين على الأكثر، حيث إن موعد زيارته إلى نورويتش قد اقترب. كما قالت إنها ستعرض الصورة على الخادمات الأُخريات، إذا تركتُها معها، ولما كان بإمكاني الحصولُ على صورة أخرى بسهولة، فقد فعلتُ ذلك. اتفقَت بقية الخادمات على أن تلك الصورة لم تكن صورة السيد جون براون بالفعل، لكنها تُشبهه للغاية. وقالت إحداهن: «مَن في الصورة يُشبهه تمامًا.» وفي صباح اليوم التالي وصلت رسائل إلى الفندق، بخصوص تأكيد حجزٍ للأشخاص المتوقَّع وصولهم (والتي توضع على رف في الغرفة التجارية)، ومن بين تلك الرسائل رسالتان للسيد جون براون من لندن. وفي اليوم التالي، وصل السيد جون براون من لندن، وأدهشني شَبهُ الرجل وهو يفتح باب الغرفة التجارية، التي كنت جالسًا فيها حينذاك، مترقبًا وصولَه في قلق. ولا داعي لأخذ القارئ عبر الخطوات اللاحقة لتحقيقي. فهو سيُدرك أنني قد امتلكت زمام الأمور. إذ يكفي أن نقول إن بعض الاستفسارات حول الموضوع أوضحت حقيقة أن مسافرًا منتظمًا (على الطريق الذي تقع فيه بلدة … وفندق جريفينز هيد) قد أُصيب فجأةً بالمرض، وأن العديد من الحسابات مستحَقة للشركة التي يُسافر من أجلها على هذا الخط، فكلفت الشركة السيد جون براون بالقيام بالرحلة إلى وسط البلاد عدة مرات. وخلال إحدى هذه الرحلات، وجد فرصتَه الشرِّيرة لإغواء خادمة الفندق، والتلاعب بها عبر الحيلة الدنيئة التي أدَّت إلى استدعاء السيد دلمار، وتقديم المدعية للشهادة الطائشة عن هُويته، وإدانته من قِبل هيئة المحكمة. وهكذا أصبح من الضروري توضيحُ أن الحكم الصادر ضدَّ السيد دلمار قد أُبطِل في محكمة الاستئناف؛ وأن شخصيته كرجل يتمتَّع بشرفٍ لا تشوبه شائبةٌ وبالفضيلة العائلية قد تعزَّزَت، إن أمكن، عبر المحنة التي خاضها.