حادثة على شريط السكك الحديدية؟
قبل بضع سنواتٍ، وعلى بُعد نحو ١٥ ميلًا من لندن، كان على رجل يُدعى فريلينج، في طريق عودته من القرية أيه إلى القرية بي على مسافة أربعة أميال فقط، أن يَعبُر أحدَ خطَّين رئيسيين للسكك الحديدية يمتدان شمالًا من العاصمة الكبرى ويقطعان المناطقَ المكتظَّة بالسكان في إنجلترا. ولإعطاء الحقيقة الدقيقة عن هذا الرجل، نقول إنه كان في زيارةٍ لصديق؛ رجل خبير في مجال البستنة وزراعة الزهور والمحاصيل، حيث كان السيد فريلينج يرغب في الاستثمار بهذا المجال. ولإعطاء المزيد من الحقائق، إذ يُستحَب ذِكرَها كاملة، بعد الفحص والموافقة والإعجاب بمهارة صديقه ونتائجها، دعا السيد جودوين صديقه السيد فريلينج لتناول العشاء معه؛ وأعتقد أن الضيف قد شربَ بشكلٍ مفرط من مخازن الشراب لدى مضيفه. ومع ذلك لم يفقد قدرتَه على تمييز المشاهد والأصوات؛ ولو كان كذلك، ما برز كشخصيةٍ في هذه الرواية.
كان الطريقُ الذي سلكه السيد فريلينج من منزل صديقه إلى منزله، بعد عبوره شريطَ السِّكك الحديدية، عبر ممرٍّ ضيق غيرِ بعيد عن المحطة. لكن لحسن حظِّه، ربما، هو لم يكن يُدرك أنه، بالقرب من ممرِّ المشاة عبر الخط (أي، خط السكة الحديدية)، وقعَ اصطدامٌ كبير في الوقت الذي كان فيه الريفيَّان الهاويان منخرِطَين في الحديث؛ في مكانٍ ما قبل أربع ساعات تقريبًا من الأحداث التي أنا على وشك وصفها. ومع ذلك، فقد رُفع الركام قبل أن يمرَّ صديقنا بمكان الكارثة، ولم يظهر أيٌّ من بقاياها في ضوء القمر. لم يكن قد ابتعد عن القضبان، عندما اعتقد أنه سمع صوتًا منخفضًا مثل الأنين؛ وإذا كان يُجيد الحكمَ على مثل هذه الأمور (حسبما دار في عقله)، فهو أنينُ رجلٍ أو امرأة في حالة ألم. ومِن ثَمَّ توقفَ؛ وأنصتَ. لكن كان كلُّ شيء صامتًا. فتحرَّكَ خطوةً أو اثنتين. واستمعَ مرة أخرى فجلبَت له الريحُ شيئًا مثل تَكْرار الأنين. هل يمكن أن يكون مخطئًا؟ سألَ نفسه. كلا؛ كان هذا صوتًا بشريًّا. ربما أحد البائسين في حالة سُكْر. إذا كان الأمرُ كذلك، فإنَّ الفكرة الأولى التي طرحت نفسَها كانت، أنه يجب عليه العودةُ ليتأكَّد أن الرجل لم يكن مستلقيًا في مسار القطار الحديدي أو عرباته. يُقال إنَّ الأفكار الثانية هي الأفضل، وإذا كانت الأنانية أفضلَ من عدم المبالاة، فإن أفكار السيد فريلينج الثانية أفضلُ من أفكاره الأولى. فقد قال في نفسه، ما الذي يعنيه إذا كان الناس في حالة سكرٍ أو لا؟ يجب أن يُعانوا من أجل ذلك، كانت هذه الفكرة الثانية لدى هذا الرجل نصفِ المخمور. لذلك سار مرة أخرى؛ لكن الصوت الذي صار أعلى هذه المرةَ أتاه مرةً أخرى. وهو لم يكن في الأساس رجلًا قاسيًا؛ وعلى الرغم من أن منزله كان له عواملُ جذبٍ خاصةٌ له في حالته حينَذاك، فقد اضطُرَّ إلى التوقف بفِعل قوة طبيعته الإنسانية.
إنَّه أنينٌ آخر. لا يمكن أن يكون هناك خطأٌ في ذلك. كان هناك بائسٌ مسكين يرقد في مكانٍ ما بالقرب منه في حالة ألم واضح. فصاحَ:
«يا هذا! ما الخطب؟»
ردَّ عليه تأوُّهٌ ضعيف.
فصاحَ: «أين أنت؟»
مرة أخرى جاءَه الرد في صوت أنين.
لم يكن لإنسانٍ محترم، على الرغم من أنه نصفُ مخمور، أن يتجاهلَ الأمر. ولذا عاد في اتجاه السكة الحديدية لبضعِ خطوات. ثم توقف، واستقبلَت أذنه مرة أخرى صوتًا كئيبًا.
قال المسافر في نفسه: «لا بد أن هناك رجلًا مسكينًا ممدَّدًا على السكة الحديدية في حالة احتضار. فماذا أفعل؟ إنَّ أقرب محطة؛ وهي المحطة بي تبعد مسافة ميلَين؛ وأقرب منزل يبعد ميلين. ومع ذلك، يجب أن أعثر على مكان رقوده، وأن أعرفَ مشكلته، وأفعل ما بوُسعي لمساعدته.»
وبعد أن اتخذ هذا القرار، عاد إلى الوراء، وتوقَّف للإنصات، وبين الحينِ والآخَر كان يسترشد بصرخة الألم.
وبعد مدة وصل إلى البوابة المتاخِمة للسكَّة الحديدية، فتوقَّف واستمع إلى صرخةٍ أخرى تُرشده إلى اليمين أو اليسار. وانتظر لحظةً ليحصل على الإشارة التي يحتاجها. فاستدار إلى اليسار، وسار بسرعةٍ لمسافة ٣٠٠ ياردة، عندما واجه عقَبة في مساره، وتعثَّر فيها. وتبع ذلك صرخةٌ أو شيءٌ من هذا القبيل. تبيَّن أنها صادرةٌ عن رجل ممدَّد على وجهه كان قد اجتذبَته تأوُّهاته منذ البداية.
انحنى السيد فريلينج على المسكين الذي يعاني، فعلم أن حادثًا وقع لهذا الرجل على السكة الحديدية، وأنه يحتاج إلى المساعدة الطبِّية والعناية.
كان للموقف وأحداثِه تأثيرٌ جيد على الرجل المخمور؛ فقد أُوقِظَت حواسه. وفي غضون خمسِ دقائق عادَ إلى حالته الطبيعية وأصبح متزنًا. ومِن ثَمَّ أبعدَ أطراف جسد الرجل بعنايةٍ عن نطاق الخطر المباشر، وركَض على طول مسار السكة الحديدية حتى وصلَ إلى المحطة، وهناك علم بتفاصيلِ الاصطدام؛ لكنه أُبلِغ بأن جميع الركَّاب قد أُسعِفوا، ومعظمهم، إن لم يكن جميعهم، في حالة جيدة بما يكفي لمواصلةِ رحلتهم إلى منازلهم. وأصرَّ على أنه لا بد أن يكون هناك استثناءٌ واحد على الأقل لهذه القاعدة، وأنَّ المسئولين في المحطة لم يلحَظوا وجود الرجل المصاب؛ وهكذا أقنعهم بالتوجُّه معه لإنقاذه.
سارَ الرجل ومعه اثنان من الحمَّالين ورجلان آخَران من أجل المساعدة، وهم يحملون الفوانيس ونقَّالة نقل المصابين، وتوجَّهوا مع صديقنا إلى المكان الذي عثر فيه على الرجل المصاب.
كان لا يزال مستلقيًا هناك، يئنُّ ويتأوَّه بقوةٍ أكبرَ من ذي قبل. فرُفِعَ بكل اللطف الذي استطاع الحمَّالون الأربعة القيامَ به، وحمَلوه فوق نقالة على طول الشريط مرةً أخرى إلى المحطة.
ومن حُسن الحظ أنه، بالقرب من هذه المحطة، كان هناك فندقٌ عبارة عن مبنًى صغيرٍ متواضع، لن يُفكر أحدٌ في اختياره للإقامة المؤقتة إذا كان لديه وسيلةٌ لدفع ثمن الترفيه والمرطِّبات في مكانٍ آخر. ومع ذلك، فقد اعتُبر أنه مناسب للتخفُّف من الأعباء تحت سقفِه. ونُقل الرجل المسكين إلى الفندق الصغير، ووُضِعَ على سريرٍ مريح، كان يُشكِّل الجزءَ الرئيسي من أثاث أفضلِ غرفة نوم.
وهكذا استعادَ بعضًا من عافيته الآن. فطلبَ تناولَ بعضٍ من شراب براندي، فأحضروا له شرابًا رديءَ النوع، لكنه يُباع بالتجزئة باعتباره أفضلَ أنواع الشراب.
ويبدو أن الشراب قد أحدث تأثيرًا جيدًا على المسافر الجريح. فبعد بضعِ دقائق من استعادته الوعيَ، استعاد القدرةَ على الكلام تحت التأثير المنعِش للشراب. ثم طلبَ من أحد الحاضرين أن يُخرِج محفظته من جيبه، وأن يُخرج منها خطابًا، يحتوي مظروفًا يتضمَّن عُنوانه:
السيد إفراهام سويتمان
١٩ … ستريت، بيمليكو.
وتمكَّن المسافر المصاب من إجراء محادثة قصيرة.
«هل هذا عُنوانك أيها الرجل الطيب؟»
ردَّ بضعف: «أجل!»
«هل أنت مصاب بشدة؟»
ردَّ مرة أخرى ببطءٍ وضعف: «أجل!»
سأله شخصٌ آخر: «هل هذا هو اسمُك وعنوانك؟» وأمسكَ السائل أمام عينَي الراكب الجريح مظروف الرسالة الذي أخرجه من جيبه.
وقَبِل الابتسامة كردٍّ بالإيجاب.
ثم قال أحد عمَّال السكك الحديدية لعاملٍ زراعي: «من الأفضل أن نُرسل في طلب الطبيب سكالبيل.»
فأظهر وجهُ المسكين علاماتِ استياءٍ واضح. وأسقطَ رأسَه كما لو كان سيفقد الوعي.
«يجب أن نستدعيَ الطبيب.»
سارع الرجل الجريح الراقد على الفراش بالقول: «لا!»
صاحَ رجلٌ آخر من المجموعة قائلًا: «ماذا نستطيع أن نفعل إذن؟»
هتفَ الرجل الجريح على عجَل ولكن بصوتٍ خافت: «استدعوا الطبيب جونز!»
«هل يُمكنك إخبارنا أين يعيش؟»
لم يردَّ على الفور؛ وحيث إن الرجل المسكين بدا غيرَ قادر على تحمُّل ثقل صدره ودماغه، وضَعوا رأسه على الوسادة.
ودخلَ الغرفة الآن رئيسُ المحطة، الذي أُوقظ من نومه الطبيعي؛ وبعد أن أُبلِغ بما حدث، سألَ عن كتيب دليل لندن، الذي كان، لحسن الحظ، جزءًا من أثاث الفندق. ومِن ثَمَّ اكتشف أنَّ في الشارع الذي علموا أن الرجل المسكين يسكن فيه، يوجد طبيب يُدعى «أنتوني جونز، عضو الكلية الملكية للجراحين»، ويسكن على بُعد نحو عشرين منزلًا من منزل مريضه.
وَفقًا لذلك، أُرسلت برقية إلى الدكتور جونز بخصوص مريضه؛ وأُبلغ بموعد انطلاق القطار التالي من لندن.
كان الدكتور جونز رجلًا يقظًا، وعند استلام الرسالة لم يُضِع وقتًا وتوجَّه على الفور إلى حيث أُودع جاره.
وعند وصوله كان المريض قد تحسَّنَ قليلًا، وعندما رأى وجهَ طبيبه تماسكَ بقدر كافٍ ليُشير إلى أن مصدر الألم عند ضلوعه.
أرادَ الجرَّاح مغادرة الرجال للحجرة، وطلب مساعدةَ امرأة حتى الصباح. ومرةً أخرى استخدم جهاز التلغراف المفيد. حيث أُرسلت برقيةٌ إلى لندن تطلب من السيدة برانديفيس، التي كانت تعيش في مكانٍ ما في بيمليكو، أن تأتيَ إلى فندق المحطة بي، وأُبلغت بموعد انطلاق القطار التالي من لندن في الصباح.
بعد إعطاء هذه التوجيهات، قُطعت ملابس المريض المسكين ومُزقت من حول جسده حتى لا يشعرَ بألم، ثم وُضع في الفراش، وحرَص الطبيب على جعله مرتاحًا قدرَ الإمكان؛ حيث أعطاه دواءً في كأسِ ماء من زجاجة يحملها في جيبه. ثم أخبر المرأة التي ساعدَته أن بإمكانها الاستراحةَ بعد تزويده ببعضٍ من الشراب المذكور سابقًا، لاستخدامه الخاصِّ أثناء الليل. وهكذا جلسَ الطبيبُ مع مريضه حتى وصلَت السيدة برانديفيس في الصباح، فسلَّمه إلى رعاية ممرضته واهتمامها.
في صباح اليوم التالي، وصلَ الدكتور أترابيليوس، كبير المسئولين الطبِّيين وأحد الجراحين المنتدبين لدى شركة السكك الحديدية، مستقلًّا القطارَ السريع ليرى ما يمكن أن يفعلَه في سبيل استعادة صحة المريض، وشفاءِ جروحه، والأهم من ذلك كلِّه عمل ترتيبٍ للتعويض من قِبَل الشركة، التي يعمل بها بصفته المزدوجةِ كطبيب ومفاوضِ تعويضات، عندما يتسبب إهمالُ موظَّفيهم في أي ضرر.
بالطبع أُدخل الدكتور أترابيليوس إلى حجرة المريض، مما أثار استياءً واضحًا من ممرضته المخلِصة. ومع ذلك، لم يكن لدى المريض ما يقوله له عندما أوضحَ أنه جاء نيابةً عن شركة السكك الحديدية. فأعلنَ المسكينُ أنه لا ينبغي لأحدٍ أن يُعالجه سوى طبيبِه أو جرَّاحه المعتاد. وحاول الدكتور أترابيليوس تقديمَ خدماته، لكن جهوده ذهبَت سُدًى. إذ أظهر الراكب المصاب نفورًا من استقبال خدماته؛ وقالت الممرضة إنها ترى أنه ليس من الصواب فرضُ نفسِه على الرجل الذي لا حول له ولا قوة عندما لا يرغب في تلقِّي خدماته، كما أن الدكتور جونز معروفٌ لدى جميع أهل بيمليكو، إن لم يكن للعالَم كله، كرجل بارع جدًّا.
أدَّى هذا المشهد إلى تعكير صفوِ المريض. وقد أدى غضبُ الممرضة، أو ربما تحامُلُها، إلى استياء الدكتور أترابيليوس، الذي طُرِد من الغرفة وسط سيلٍ من الإساءات لمحاولته قتل المصاب بوقاحة. فغادر الدكتور أترابيليوس المكان مستاءً، مع شعورٍ بالمهانة نظرًا إلى ازدرائه إلى أقصى حد وتجاهُل منصبه.
أرسلَ الدكتور جونز برقيةً في منتصف النهار تقريبًا ليُصرح أن ارتباطاتٍ مُلحةً لن تسمح له بالوصول إلى القرية مرةً أخرى حتى المساء؛ لكنه في هذه الأثناء سيُرسل — وقد أرسل بالفعل في القطار التالي — طردًا صغيرًا من الأدوية.
وقد تلقَّى المريض كلَّ رعاية ممكنة من قِبَل السيدة برانديفيس والدكتور جونز لعدة أيام، حتى جرى توفيرُ قطار خاصٍّ بناءً على طلب الشركة، به عربةٌ مجهَّزة جيدًا بكل ما يُمكن أن يُسهِّل على المسافر المصاب كي يُنقَل إلى لندن ويستقر في منزله.
وبعد مرور بعض الوقت، ربما نحو شهر، استعادَ المريضُ صحته بالقدر الذي يسمح له بممارسة عمله المعتاد، أيًّا كان ذلك. فأرسل محاميه خطابًا إلى الشركة يُطالب فيه بدفع مبلغٍ جيد كتعويض عن ثلاث أضلُعٍ مكسورة، وكدمات متفرِّقة، وما لحق بجسده من ضررٍ على وجه العموم، إضافةً إلى عجزِه عن العمل في الفترة الماضية والقادمة. وقدَّمت الشركة عرضًا بقيمة ٢٥ جنيهًا لتسوية الأمر، لكنه رُفض. وصدَر أمر قضائي من محكمة كوينز بنش. فدافعت الشركةُ عن الإجراءات التي اتُّخِذت، وتقرَّر تحويل القضية في النهاية إلى ساحة القضاء.
وفي ساحة القضاء، ترافعَ السيد كابوليت أتيك من مجلس مستشاري الملكة، بصفته المحاميَ الرئيسي للمدَّعي، وفي سياقِ خطابه الافتتاحي ذكَر بوضوحٍ الحقائقَ التي سُرِدَت بالفعل. حيث ركَّز بشكل كبير على إهمال موظَّفي الشركة، ليس فقط في السَّماح بوقوع الحادث، الذي قال إنه وقعَ نتيجةَ إهمالٍ جليٍّ وكبير، ولكن أيضًا، نظرًا إلى الإهمال الكبير الذي لا يُغتفَر في ترك مُوكله المسكين على الأرض لساعاتٍ عديدة دون محاولة إنقاذه. وأشار إلى ما تصادفَ من تأخر السيد فريلينج على مائدة العشاء الخاصة بصديقه، ورحلته إلى منزله عبر شريطِ السكة الحديدية، وهو الحدثُ الذي وصفه المحامي البليغُ بأنه تدخلٌ خاص من العناية الإلهية، والذي من دونه كان موكله المسكين، المدعي، على الأرجح قد مات من البرد والرطوبة والجوع. لقد وجَّه اللوم الشديد إلى الشركة لتوظيفها الدكتور أترابيليوس، ليس فقط كطبيب، من أجل تقديم الرعاية الطبيَّة للمدعي الجريحِ أو المصاب، ولكن أيضًا كمفاوضِ تعويضات، من أجل التوصُّل إلى حلٍّ وسط بين المدعي والشركة. وأدان كذلك، بعباراتٍ مريرة، عرضَ التسوية الرديء والسيئ الذي قدَّمه مجلسُ الإدارة من خلال محاميهم منذ أن جرى التهديدُ برفع القضية. وأخيرًا، ناشد هيئة المحلَّفين وكله ثقة أن تمنح مُوكله المكلومَ تعويضاتٍ كبيرةً نظيرَ الضرر البالغ الذي لحق به؛ ثم جلسَ مبتسمًا بثقةٍ إلى أعضاء هيئة المحلَّفين، وكأنه يتوقع الحصولَ على كل ما طلب.
ولا داعي للحديث عن الأدلة باستفاضة. فباعتباره رجلًا نزيهًا وجديرًا بالاحترام تمامًا، وصَفَ الرجلُ الذي عثَر على المدَّعي المسكين الحالةَ التي كان عليها عندما وجده. وكان استجوابُ هذا الشاهِد مسألةً شكلية تقريبًا. فكيف يمكن توقُّع أيِّ شيء منه لا يُعزِّز دعوى المدعي؟ لقد كان رجلًا نزيهًا وحياديًّا تمامًا. ومِن ثَمَّ، كان بالفعل شاهدَ إثباتٍ موثوقًا فيه. كما أدلى الطبيبُ والممرضة اللذان عالجا المدَّعيَ بشهادتهما بوضوح شديد، على الرغم من بذل بعض المحاولات لزعزعة شهادتهما، وإثبات أنَّ الإصابات لم تكن شديدةً كما يدَّعيان. ولكن لم يتمكَّن الدفاعُ من النجاح في ذلك، ويمكن القولُ إن المدعيَ قد أثبتَ دعواه.
وقدَّم محامي المدعى عليهم، السيد بومبوس بلاور، من مجلس مستشاري الملكة، دفاعًا حماسيًّا إلى المحكمة وهيئة المحلَّفين؛ ولكن ما الذي يمكن أن يُثبته نيابةً عنهم في مثل هذه القضية؟ كان أقصى ما يمكن أن يفعله هو التخلُّص من تهكُّم صديقه المخضرم السيد كابوليت أتيك، والإشادة من آنٍ لآخَر، بالأعمال الخيريَّة للشركة التي يُمثِّلها. كما دافعَ عن الدكتور أترابيليوس، أو على الأقل شجبَ إدانة ذلك الرجل صاحب العلم في غيابه. وأنكرَ المحامي المخضرمُ أن يكون الدكتور أترابيليوس قد وُظِّفَ ليقومَ بالمهمَّة التي يدَّعونها، وأكدَّ أنه لم يكن لدى الشركةِ أيُّ غرضٍ آخر، عندما أرسلَته من جانبها إلى المسافر المصاب، إلا لتخفيف آلامِه والقيام بأفضلِ ما في وُسعه لمعالجته. ومع ذلك لم يستدعِ محاميَ المدعى عليهم الدكتور أترابيليوس كشاهدٍ للدفاع، والمدعي بالطبع لم يكن يريده؛ لذا فإن الادِّعاء بأن الطبيب قد لعبَ في مناسَبات سابقة دورَ المفاوض في تسوية الدعاوى ضدَّ أصحاب شركته، لم يلقَ التناقضَ الذي كان من الممكن أن يلقاه، ولربما كان من المرغوب لهم تقديمُه.
لخَّص القاضي الأمرَ وقال إنها تبدو له كأنها قضيةٌ لا يمكن دحضُها؛ لكنه حثَّ هيئة المحلَّفين على ألا يتأثر حكمُهم بفصاحة السيد كابوليت أتيك، الذي كان، مع ذلك، يتصرفُ في جميع جوانب القضية بشكلٍ مناسب للغاية لصالح المدعي، في محاولة التأثير على المحكمة. وبدا أنَّ المدعيَ يحقُّ له، حالَ إقرار الشركة، الحصولُ على تعويضٍ عادل ومعقول؛ لكن هذا كان كلَّ شيء. إذ إن الثروة المفترَضة لشركة كبيرة مثل شركة السكك الحديدية هي حقيقةٌ يجب ألا تُعرِّضها للابتزاز، وقد اعتزمَ أن يُخبِر هيئةَ المحلَّفين أنَّ المبالغة في المطالبة بتعويضاتٍ قد تنطوي على ظلمٍ بقصدٍ أو من غير قصد.
ومِن ثَمَّ نهضَ المحلَّفون في مكان جلوسهم داخل القاعة، واستداروا وجهًا لوجه، وكان لديهم القليلُ ليقولوه بعضهم إلى بعض خلال دقيقتين أو ثلاث دقائق من المداوَلة، ثم اتخَذوا قرارًا لصالح المدعي، بتعويضٍ عن الأضرار مقدارُه ٥٠٠ ألف جنيه.
وقد فُوجئَت الشركة إلى حدٍّ ما بضخامةِ هذا التعويض. والحقيقة هي أن قضيتهم لم تُدرَس بصبرٍ وعناية كما ينبغي. حيث إن إجراء تحقيقٍ مناسب في سوابق المدعي ونمط حياته، من قِبَل أيِّ محامٍ متوسِّط الذكاء، كان سيُمكِّنه من عرض مثل هذه الحقائق أمام هيئة المحلَّفين كما كان من شأنه أن يخفض مطالبة التأمين إلى أقلَّ من خُمس المبلغ الذي حصل عليه المدعي، إن لم يكن هذا البحثُ قد يكشف للمحقِّق عن مسارٍ يُقوِّض دعوى المدعي بالكامل من أساسها.
قرر المدعى عليهم، كتجرِبة عشوائية، الانتقالَ إلى محاكمة جديدة في هذه القضية. حيث مُنح حكم مطلق لمحاكمة جديدة، بشرط أن يقدِّموا إلى المحكمة ما يكفي من المال من أجل إجراءات هذه المحاكمة الجديدة، أي لتغطية الأضرار والتكاليف. فلقد حصلَت شركةُ السكك الحديدية في السابق على مزايا هائلةٍ عن طريق التأخير والمماطلة، وكانت تأمُل في أن يجلب الوقتُ بعضَ المزايا في هذه القضية، مثلما حدثَ.
وقد أدَّى النجاح الذي حَظِيَت به تحقيقاتي في مناسباتٍ سابقة في قضية أو اثنتين مماثلتَين لهذه القضية؛ إلى الاستعانة بي من قِبَل الشركة للتحقيق في هذه القضية في الوقت الحالي.
ولم أجد صعوبةً كبيرة في تحقيق هدفي. حيث كان لديَّ العديدُ من القرائن فيما يخصُّ أطرافَ القضية. وكنتُ أشك، من خلال طبيعة القضية، أن الأمر ما هو إلا مؤامرةٌ للاحتيال على الشركة، وكنت مُحقًّا في شكوكي.
إذ لم يتعرَّض المدعي لأيِّ إصابة على الإطلاق. وقد وقعَ الاصطدامُ قبل وصوله للموقع بوقتٍ قصير. واتضحَ أن الحارس الرئيسي للقطار الذي وقع فيه التصادمُ مشاركٌ في عملية النصب. حيث اعترفَ أنه قد أرسَل برقيةً نيابة عن أحد الركَّاب؛ الذي تعرَّض لرضوض إلى حدٍّ ما، إلى صديق في لندن، وكان نصُّ الرسالة (من أجل إبعاد الشك) على النحو التالي: «الاصطدام عند المحطة بي. لم أُصَب بأذًى. كل شيء على ما يُرام.» بناءً على هذا التلميح، تواصلَ المدعي على عجَل مع واحد أو اثنين من رفاقه في مثلِ هذه العمليات الاحتيالية، وهُرِعَ إلى مكان الحادث في عرَبة صغيرة مستأجَرة من أحد الإسطبلات. حيث نزلَ منها على بُعد نحوِ ميل من مكانِ وقوع الحادث، الذي حُدِّد بدقة، في هذه الأثناء. بعد ذلك، قاد أحدُ زملائه العرَبةَ مبتعدًا، وتراجعَ المدعي إلى حافَة مسار السكة الحديدية، وانتظر فرصةً للتنهُّد والتأوُّه عندما يقترب أحدُ المارة.
وقد وفرَت عودة السيد فريلينج إلى منزله الفرصةَ التي أرادها، حيث رآه المحتالُ المترقِّب؛ وبِناءً عليه، أصدر المدعي الأصواتَ التي سبق وصفُها، والتي جذبَت انتباهَ ذلك الرجل. وبالطبع عَلم الوغدُ أن شركة السكك الحديدية ستُرسل طبيبها كالعادة. وقد استطاعَ أن يتغلَّب على هذه العقبة الصغيرة. حيث كان لديه حُلَفاء، وبمساعدتهم استطاعَ الاستفادة من التكتيكات العديمةِ الضمير للشركة في التعامُل مع الضحايا الحقيقيِّين لتصادم السكك الحديدية. ورأى أنه يُمكن أن يستفيد من زيارة الطبيب أترابيليوس وتحويلها إلى صالحه في القضية بإبلاغها للسيد كابوليت أتيك كنقطة يُمكن أن يستعرض بها في مرافعته. أما الدكتور جونز الذي أرسلَ في استدعائه، فهو شريكٌ في عملية الاحتيال. وينتمي إلى العصابة، وبالطبع كان سينال نصيبَه من الغنائم. والممرضة كانت أيضًا واحدةً منهم. وكان من المخطَّط له أن تحصل عند تقسيم الغنائم على مبلغٍ أكبرَ بكثير مما يُدفَع للممرضات مقابلَ خدماتهن. في الحقيقة كان الأمر برُمته مؤامرة.
ومِن ثَمَّ عرضتُ كلَّ هذه الملابسات أمام محامي الشركة في تقريري. ومع ذلك، فقد تقرَّر، حيث كان لدينا المجموعةُ الكاملة بوضوحٍ في متناول أيدينا، عدم إلقاء القبض عليهم على الفور، ولكن الانتظار ومراقبة سير الأحداث، ومعرفة ما إذا كان التجمُّع التالي للعصابة لغرضٍ مماثل سيكشف لنا عن المزيد من أعضائها. وهذا ما حدثَ بالفعل. فقد اكتشفتُ أنَّ الطبيب كان يُعالج أحد مُسافري السكة الحديدية المتضرِّرين في لانكشاير، بعد نحو شهرين من هذه الأحداث، وأنَّ المدعيَ في القضية الأولى، زار المدعيَ المقصود في القضية الثانية بصفته صديقًا له. وبمجرد أن أصبحت خُططنا جاهزةً للتنفيذ، سبقَتنا قواتُ الشرطة وألقت القبضَ على خمسةٍ من أعضاء هذه العصابة الخطيرة في قضيتَين كبيرتين؛ واحدة بتهمة التزوير، والأخرى تتعلق بسرقة كبرى في شركة السكك الحديدية، حيث أُبلِغَت الشرطة عنها فجأةً من قِبَل شخص حقير يتوق إلى الانتقام من زميلٍ في العصابة؛ لصراعهما على «سيدة» كان الواشي يعيش معها. وقد أُدينَ هؤلاء الرجال الذين أُلقي القبض عليهم، جميعًا بِناءً على أقوى شهادة من خلال الواشي الذي ساعدَ الضباطَ في وضع الفِخاخ عبر إرشاداته، والملابسات المحيطة التي ساعدهم فيها. بينما نجحَ أحدُ الأطراف على حدِّ علمي — وهو الطبيب — في الهروب. وأعتقد أنه ذهبَ إلى أمريكا.