يفرض تحليل روايات جُرْجي زيدان التاريخية من منظور النقد
الثقافي، بشكل منهجي، محاولة تحديد موقع رواياته في سياق تاريخي
أوسع يتعلق بمسار مشروع النهضة والحداثة المصرية؛ ولا سيما أن
زيدان بدأ في إصدار أولى رواياته التاريخية المملوك الشارد عام ١٨٩١م، وأصدر آخر رواياته
التاريخية شجرة الدر عام ١٩١٤م،
وهي رحلة إبداعية أشرفت على ربع قرن من الزمان جمعت بين نهاية
القرن التاسع عشر
وأوائل القرن العشرين؛ وذلك مع ضرورة الوضع في الحسبان أن روايات
جُرْجي زيدان التاريخية لم تكن نشاطًا مُنفصلًا عن تصوُّره لفكرة
النهضة والحداثة، عمومًا، وآليات تحقيقها التي اتخذت لديه أربعة
مسارات، لعله من المفيد ذكرها مرةً أخرى:
أولًا: محاولاته الرائدة في
فلسفة اللغة العربية وتأريخ آدابها، فقد نشر كتابه
الفلسفة اللغوية والألفاظ العربية في
عام ١٨٨٦م، ثم كتابه
تاريخ اللغة العربية
باعتبار أنها كائن حي في عام ١٩٠٤م، ثم نشر الجزء
الأول من كتابه
تاريخ آداب اللغة
العربية عام ١٩١١م، والجزء الثاني منه عام ١٩١٢م،
والجزء الثالث منه عام ١٩١٣م، والجزء الرابع منه عام ١٩١٤م.
ثانيًا: ريادته في كتابة الروايات التاريخية التي بدأها بنشر
المملوك الشارد عام ١٨٩١م
وختمها برواية
شجرة الدر عام
١٩١٤م.
ثالثًا: كتابة تاريخ
الحضارة العربية منذ عصر ما قبل الإسلام حتى لحظته الراهنة، فنشر
كتابه
تاريخ مصر الحديث من الفتح الإسلامي
إلى الآن مع فذلكة في تاريخ مصر القديم عام ١٨٩٩م،
ثم بدأ في نشر موسوعته
تاريخ التمدن
الإسلامي في خمسة أجزاء عام ١٩٠٢م وانتهى منها في
عام ١٩٠٦م، وأعقبها بنشر كتابه
العرب قبل
الإسلام عام ١٩٠٨م، وأخيرًا كتابه
مصر العثمانية أو تاريخ مصر في عهد الدولة
العثمانية من الفتح العثماني إلى الحملة الفرنسية
عام ١٩١١م.
رابعًا: المسار
الصحفي الذي اتخذ منه نافذة يبث من خلالها أفكاره النهْضوية
الحداثية، فأسسَ مجلةَ الهلال التي صدر العدد الأول منها في سبتمبر
عام ١٨٩٢م،
١ ولم تكن هذه النافذة بمَعزل عن مساراته الثلاثة
السابقة وبخاصة رواياته التاريخية التي كان ينشرها مسلسلةً أولًا
في مجلة الهلال، ثم يطبعها كاملة في مطبعة الهلال.
(١) مسار مشروع النهضة والحداثة المصرية
تنطوي قصة مشروع النهضة والحداثة المصرية على خلفية تاريخية
حضارية جوهرية بدأت أحداثها عند أول لحظة صدام بين حضارتين،
إحداهما آفلة بل رازحة تحت الفقر والجهل والتخلف، هي الحضارة
العربية وتُمثِّلها مصر في آخر عهد الحكم المملوكي، والأخرى
حضارة بازغة متطلِّعة وثابة، هي الحضارة الغربية وتُمثلها
فرنسا بقيادة نابليون بونابرت (١٧٦٩–١٨٢١م). وكانت لحظة الصدام
بين الحضارتين عسكرية، حين قدم نابليون بجيشه إلى مصر مُحتلًّا
يوم ١ يوليو ١٧٩٨م، وتَمكَّن من دخول الإسكندرية يوم ٣ يوليو
١٧٩٨م، إذ كانت الحضارة العربية في مصر «قد وصلت إلى درجة
كبيرة من التدهور الذي أخذ في الظهور أواخر العصر المملوكي
وساعد الغزو التركي على زيادة حدته ووطأته.»
٣
وكانت مصر نتيجة الإدارة العثمانية مقسَّمة إلى طبقتين:
الأولى، طبقة الحكام المكونة من الوالي التركي وقادة الجند
الأتراك المحتلين وبكوات المماليك، وقد استندت كل فئة من هذه
الفئات الثلاث إلى القوة العسكرية في حلِّ خلافاتها والحصول
على المكاسب؛ والطبقة الثانية هي عموم المصريين بلا أي قوة
عسكرية، وهم مُهدَّدون طوال الوقت
باستغلال الفئات الثلاث من
الطبقة الأولى لهم. فكان من نتيجة هذه السياسة التي اعتمدها
العثمانيون في إدارة مصر تدهور الحياة الاقتصادية، الزراعية
والصناعية والتجارية؛ واقتصار الثقافة على الجامع الأزهر
والتركيز على التعليم الديني ودراسة اللغة العربية بوصفها
وسيلة لفَهْم المتون الدينية، لا بوصفها وسيلة تعبير عن
الأفكار والطموحات، فابتعدت الدراسة في الأزهر عن كلِّ ما من
شأنه أن يصل المصري بواقع الحياة «حتى شاع القول بتحريم العلوم
التي تتصل من قريب أو بعيد بهذا الواقع كالرياضيات والجغرافيا
والتاريخ وغيرها، وانسحب إهمال العلوم التي تتصل بالنشاط
الإنساني على الأدب حتى أصبح العجز عن التعبير سمة بارزة
تتَّضح في مؤلَّفات كبار علماء العصر من أمثال الجبرتي وابن
إياس الذين فَشَت العاميةُ في كتاباتهم.»
٤ وقد أفرزت الثقافة الأزهرية بهذه الصيغة — بمرور
الوقت — دائرة من المثقَّفين الأزهريين «الذين تمتَّعوا بنوع
من النفوذ الديني والسياسي جعلهم في مركز الزعامة بين جماهير الشعب.»
٥
وفي مقابل هذا الوضع المتدني حضاريًّا وعلميًّا، جاء
نابليون بجيشه غازيًا وهو مُجهز تجهيزًا عسكريًّا وعلميًّا وفق
أحدث ما وصل إليه التنظيم العسكري للجيوش، ويَصحبُه علماءُ من
مختلَف المجالات العلمية، وفنَّانون أيضًا. ولكن المصريين
استقبلوا الحملة بوصفها «غزوًا مسيحيًّا عسكريًّا لأرض مسلمة»؛
٦ فلم تُخلف فيهم أثرًا من الناحية الحضارية
والعِلمية. ولكن الحملة الفرنسية — التي تَمكن المصريون من
إجلائها عن بلادهم بعد ثلاث سنوات فقط — تركت أثرًا قويًّا في
نفوس المصريين ونفوس حكامهم من نواحٍ أخرى: ففيما يتعلق
بالمصريين، كانت الحملة بمثابة إعلان واضح عن التحدِّي الغربي
لحضارتهم، الأمر الذي أيقظ فيهم الوعي بتردِّي واقعهم وأحوالهم
من ناحية؛ ولكنه جعلهم — من ناحية أخرى — يَستشعرون قوتهم
عندما أخذوا على عاتقهم عبء المقاومة الشعبية للفرنسيين بعد
تحطم قوة المماليك العسكرية من الجولة الأولى وهروبهم من
البلاد، فاستشعروا أنَّ فيهم قوة تجعلهم لا يقبلون بعد الآن أي
حاكم يفرضه عليهم العثمانيون؛ وأما أثر الحملة الفرنسية في
الطبقة المصرية الحاكمة، فيتمثَّل في إدراكها العميق بأن
الفنون العسكرية التقليدية لم تَعُد مجدية في ظل عمليات
التحديث العسكري الأوروبي.
٧
محمد علي باشا: النهضة من أجل الجيش
بعد جلاء الفرنسيين عن مصر، صارت البلاد ميدانًا
للصراعات بين الإنجليز، والأتراك، والمماليك العائدين
الطامعين في استعادة قوتهم ولكنهم انقسموا بين عثمان بك
البرديسي ومحمد بك الألفي؛ فانتشرَتِ الدسائس والمؤامَرات
والاغتيالات وسادَت البلاد فوضى سياسية وعسكرية. وظلَّ
محمد علي القائد العسكري الألباني — بجنوده الألبانيِّين —
يُراقبها عن بُعْدٍ، ويُشارك بمَكْرٍ في الدسائس وتأليب
الأطراف المتنازعة على بعضها البعض دون أن يَظهر في المشهد
بشكل مباشر، وإن شارك في قتال المماليك في بعض المعارك؛
وبقي الحال هكذا مدة أربع سنوات، حتى صعد إليه ذات عصرٍ —
وكان يوم ١٤ مايو ١٨٠٥م — القاضي ونقيب الأشراف وثلَّة من
علماء الأزهر يَطلُبون منه عَزْل الباشا عن حكم مصر
وتوليته مكانه، ولم يكن محمد علي حينئذٍ إلا قائدًا
لخمسمائة جندي ألباني فقط.
٨ وبعد مرور عام فقط على توليه حكم مصر قال لبعض
أخصائه: «أيظنون أن مصر دار حمام مفتوحة يدخلها مَن يشاء؟!
إني قد اكتسبتها بحدِّ حُسامي! ولن أتخلَّى عنها إلا
مكرهًا بقوة السلاح، أنا أعرف الأتراك؛ هم قوم يَبيعون
أنفسهم إذا وجدوا مَن يشتريها، فأنا سأشتريها، قد فزتُ
بالولاية العام الماضي وأنا على رأس خمسمائة جندي فقط
مُقلْقلي العزم، أفأتخلَّى عنها اليوم ولدي ألف وخمسمائة
بطل كلهم ولاء لي؟!»
٩
لقد استغلَّ محمد علي القوى الشعبية التي تولَّدت بين
المصريين أثناء مقاومتهم الفرنسيين حتى فرضته حاكمًا على
مصر، وما إن استتبَّ له الأمر حتى انقلب على مَن فرضوه
حاكمًا على المصريين، «فتخلَّصَ بالاغتيال من زعماء العامة
المحاربين من أمثال حجاج الخضري، وشَغَل علماءَ الأزهر
بالأراضي التي أقطعها لهم، فاشتركوا معه في ظلم الفلاحين،
ثمَّ استعان بهم على نفْي السيد عمر مكرم الذي ظلَّ صامدًا
في وجهه، وقبض بعد ذلك على زمام السلطة في يدَيه. وبدأ
يُكوِّن جيشه الجديد على الأنظمة الأوروبية.»
١٠ وقد استدعى تكوينُ جيش جديد على النظام
العسكري الأوروبي أولَ اتِّصال مباشر بأوروبا للإفادة منها
في تكوين ذلك الجيش الجديد.
ولا بدَّ، هنا، من تسجيل عدة ملاحظات على هذا الاتصال،
تُعدُّ نتيجة مباشِرة من نتائج الحملة الفرنسية على مصر:
أولًا: استهدف محمد
علي تكوين جيش قوي وَفق التنظيم العسكري الأوروبي الحديث
ليُحافظ به على تثبيت أركان حكمه لمصر، ويستعين به في
تحقيق طموحه الإمبراطوري.
ثانيًا: فَرَضَ عليه تأسيس هذا الجيش عدة
إصلاحات داخلية كان حجرُ الزاوية فيها تحقيقَ مَطالب تأسيس
الجيش الجديد.
ثالثًا:
لم يكن محمد علي يستهدف إطلاقًا تغيير أحوال المصريين
والنهوض بهم عمومًا.
رابعًا: ولكي يُحقِّق محمد علي ذلك، أو
بالتزامن مع ذلك، شَكَّلَ نظامَ حكم مركزي أقوى مما كان في
مصر سابقًا، الأمر الذي مَكنه من تركيز كل الإصلاحات في
يدَيه والإسراع بها.
١١
فمن أجل بناء جيش حديث، سعى محمد إلى إنشاء المدارس
الابتدائية والثانوية والعالية والخصوصية وأدخل في مناهجها
العلوم الأوروبية.
١٢ وقد خضعتْ جميعها لتلبية حاجات جيشه، إلى حد
يُمكن القول معه إن نظام التعليم في عهده «اتخذ شكل هرم
مقلوب قاعدته الكليات العسكرية والعملية كالهندسة والطب
وقمته المراحل الأولى للتعليم […]. كما أن عدد الطلبة في
مدارسِه كان محدودًا جدًّا وأغلبهم من غلمان الأتراك والشركس.»
١٣ كما أرسل بعثات عِلمية إلى أوروبا واستدعى من
الخارج أساتذة، ولكن تلك الجهود اقتصرَت على الميدانين
العسكري والعملي، وفي الحدود التي تُلبي احتياجات جيشه، بل
تمددَ ذلك الطابعُ العسكري والعمَلي إلى ميدان الترجمة من
اللغات الأوروبية إلى اللغة التركية التي تولاها المترجمون
السوريون، ثمَّ تحوَّلت إلى اللغة العربية بفضل طلبة
البعثات وخريجي مدرسة الألسن تحت إدارة رفاعة الطهطاوي
(١٨٠١–١٨٧٣م) وإشرافه، وكان من نتيجة ذلك أن مطبوعات مطبعة
بولاق التي أنشأها محمد علي قد غلب عليها الطابع العسكري
والعملي؛ ومع ظهور المطبعة ظهرت الصحافة التي اقتصرت على
جريدة الوقائع المصرية باللغتَين العربية والتركية، وهي
جريدة رسمية لم يتجاوَز عدد قرائها ستمائة قارئ.
١٤
وبطبيعة الحال، لم يترتَّب على كل تلك الإصلاحات آثارٌ
من الناحية الاجتماعية بالنسبة إلى المصريين سوى دخولهم
الجيش بوصفِهم جنودًا فيه وليس ضباطًا. وأما من الناحية
الفكرية فظهر بعض المثقفين، من أمثال رفاعة رافع الطهطاوي،
ممن استشعروا أن الثقافة الأزهرية لم تَعد كافية لتلبية
حاجات عصر جديد، وأنه مِن الضروري الأخذ عن العلوم
الأوروبية في النُّظم السياسية وبعض التقاليد والعادات.
١٥
لقد كانت النهضة في عهد محمد علي نهضةً من أجل الجيش،
ومن أجل تلبية طموح عسكري، فهي نهضة مقصورة على تلبية
مَطالب نظام مؤسَّسي مركزي صارم، فلم تمتدَّ إلى بقية
المجتمع. ويُلخِّص الشيخ محمد عبده (١٨٤٩–١٩٠٥م) سياسة
محمد علي تلخيصًا بارعًا في مقالٍ كتبه بمناسَبة الذكرى
المئوية لاعتلائه عرش مصر؛ فمن أجل سيطرته على مقاليد
الأمور سياسيًّا واجتماعيًّا «سحق رؤساء البيوت الرفيعة
والكِرام، وأخذ يرفع الأسافل ويُعليهم في البلاد والقرى …
ولم يَبْقَ في البلاد إلا آلات له يستعملها.»
١٦ ويُلخِّص ألبرت حوراني (١٩١٥–١٩٩٣م) وجهة نظر
الشيخ محمد عبده في محمد علي قائلًا: «لقد كان حكمه
قويًّا، ولا شك، لكنه لم يكن قائمًا على احترام القانون.
وقد أنشأ جيشًا، لكن بأساليب لم تخلق لدى الشعب المصري
الفضائل العسكرية. وهو لم يشجع على الزراعة إلا ليأخذ
الغلات لنفسه […] ولم يقم بأي عمل من أجل الدين، لا بل
جَردَ الجوامع والمدارس من أوقافها».
١٧
وأُصيب محمد علي في أواخر أيامه بالخَرَف حتى مات يوم ٢
أغسطس ١٨٤٩م في سراي رأس التين بالإسكندرية، وكان قد تولى
حكم مصر في حياته ابنه إبراهيم باشا (١٧٨٩–١٨٤٨م)، ولم
يستمرَّ في الحكم إلا ثلاثة شهور حتى وافتْه المنية في
حياة أبيه، فخلَفه في الحكم عباس حلمي الأول.
١٨
عباس وسعيد: انكسار مسار النهضة
بعد وفاة إبراهيم باشا، جاء عباس حلمي الأول
(١٨١٣–١٨٥٤م) حاكمًا ثالثًا لمصر في الفترة من ١٨٤٨م حتى
١٨٥٤م؛ وهو ابن طوسون باشا بن محمد علي. وكان على النقيض
من جده محمد علي في كل شيء؛ إذ كرهَ الأجانب كراهية انسحبت
على الحضارة الأوروبية ككل، وفي الوقت نفسه كان يكره
المصريين إلى حد اندفع معه إلى تَتْريك كل شيء، بعد أن كان
جدُّه محمد علي قد اتجه إلى التمصير. لذا، تميَّزت فترة
حكمه بالرجعية، فأغلق المؤسسات المتبقية من عهد جده، وأغلق
المدارس بما فيها مدرسة الألسن، «واستدعى أعضاء البعثات من
الخارج، واستغنى عن الموظفين الأجانب، ونفى رفاعة الطهطاوي
إلى السودان، وأمر بأن تقتصر الترجمة على اللغة التركية
وحدها قبل إلغاء قلم الترجمة نهائيًّا، واقتصر في إصدار
[جريدة] الوقائع [المصرية] على اللغة التركية وحصر توزيعها
في كبار قادة الجيش ثم استغنى عنها.»
١٩
وبعد وفاته، جاء محمد سعيد باشا (١٨٢٢–١٨٦٣م) حاكمًا
رابعًا لمصر في الفترة من ١٨٥٤م حتى ١٨٦٣م. وهو الابن
الرابع لمحمد علي باشا، تلقَّى تعليمه في باريس وكان ذا
نزعة غربية ساذجة، الأمر الذي جعله موضع كراهية الأتراك
والشركس، وقد امتلأ عهده بالمتناقضات وكثير من الغفلة. ومن
أمثلة المتناقِضات اتخاذه إجراءات تعمل على تقوية العناصر
الوطنية، وفي الوقت نفسه كان يعوقُها عن التطور؛ إذ أباح
للمصريِّين حق تملُّك الأراضي وأباح للجنود في الجيش حق
الترقي إلى رتبة الضابط، وقد لعب هؤلاء وأولئك دورًا
كبيرًا في التطور السياسي والاجتماعي على نحو ما تجلَّى
لاحقًا في أحداث الثورة العرابية، ولكنه في الوقت نفسه
ألغى ديوان المدارس وأوقف مطبعة بولاق، لإيمانه بأن الشعب
الجاهل أسلس قيادًا من الشعب المتعلِّم. ومن المفارقات أنه
بينما كان يغلق المدارس الحكومية كان يمنح المدارس
التبشيرية أموالًا، الأمر الذي جعلها تنتشر فكانت مهادًا
للتدخل الأجنبي لاحقًا. وتتجلَّى سذاجة سعيد باشا وغفلته
في أنه زَج بالجيش المصري في حرب المكسيك التي لا ناقة له
فيها ولا جمل، كما مهَّد الطريق أمام الدول الأوروبية
للتدخل في شئون مصر بخلقه مشكلة قناة السويس، فأصبحت مصر
ساحة للصراع الفرنسي البريطاني، ثم مشكلة الديون الناتجة
عن سياسته المالية التي فتحت البلاد. أما مغامرات رأس
المال الأجنبي الذي جاء إلى مصر بمشروعات وهمية فاشلة،
فكان سعيد باشا يتحمَّل التعويضات عن فشلها.
٢٠
الخديوي إسماعيل: استعادة المسار وتقويته
جاء الخديوي إسماعيل (١٨٣٠–١٨٩٥م) حاكمًا خامسًا لمصر في
الفترة من يوم ١٨ يناير ١٨٦٣م حتى خَلَعَه عن الحكم
السلطانُ عبد الحميد الثاني، بضغط من إنجلترا وفرنسا، في
يوم ٢٦ يونيو ١٨٧٩م. وهو الابن الأوسط بين ابنين لإبراهيم
باشا بن محمد علي.
تميَّز عهد الخديوي إسماعيل عن سابقَيْه بنوع من الطموح
الإمبراطوري كطموح جدِّه محمد علي. ولكنه وضع في حسبانه
العائقين اللذين قضيا على طموح جده: السلطان العثماني من
جهة، والدول الأوروبية من جهة أخرى. فأما السلطان العثماني
فكانت وسيلتُه معه إغداق الأموال عليه وعلى حاشيته، حتى
يُحقِّق لنفسه وضعًا مُستقلًّا إلى حدٍّ كبير؛ كذلك عدلَ
وجهة الطموح الإمبراطوري من بلاد الشام أيام جده إلى
أفريقيا جنوبًا حيث منابع النيل. وأما الدول الأوروبية
فكانت وسيلته معها قبول وساطة نابليون الثالث بينه وبين
شركة قناة السويس؛ فضلًا عن الاعتماد عليها في حلِّ أزماته
المالية الناتجة عن حملاته العسكرية الفاشلة على الحبشة،
فاستغلَّ الدائنون من الأجانب وضعه المالي المأزوم أسوأ استغلال.
٢١ وبوجهٍ عام، تَرتب على هذه السياسة عدة نتائج،
يُمكن استعراضها على النحو الآتي:
-
أولًا: نقَل الخديوي إسماعيل بعض مظاهر الحضارة
الأوروبية إلى مصر، فبنى القصور الفخمة،
ودارَ الأوبرا، وأنفق أموالًا ضخمة على
حفل افتتاح قناة السويس عام ١٨٦٩م، وافتتح
مجلسًا نيابيًّا أطلق عليه مجلس شورى
النواب، وعقد مع بريطانيا معاهَدة لإلغاء
تجارة الرقيق.
-
ثانيًا: مارست القوى الوطنية — التي بدأت
بذورها في عهد سعيد — حياتها بهدوء نسبي
في بداية عهد إسماعيل رغم عدم رضاها عنه
بالقدر الذي رضيَت به عن سعيد، وذلك
بالتوازي مع خضوع الضبَّاط المصريين في
الجيش لاضطهاد كبار الضباط الأتراك
والشراكسة والخبراء الأجانب.
-
ثالثًا: في أواخر عهد إسماعيل أعلنَت القوى
الوطنية بالتعاون مع ضباط مصريين في الجيش
غضبها منه، ومن تدخُّل إنجلترا وفرنسا
السافر في الشئون المصرية الداخلية، الأمر
الذي أدَّى في النهاية إلى أحداث الثورة
العرابية ثمَّ الاحتلال البريطاني لمصر.٢٢
وأما فيما يتعلَّق بمسار النهضة والحداثة المصرية فيمكن
القول إنه قد حدث فيها حراك نتيجة جهود الأفراد أكثر منه
نتيجة جهود المؤسسات الرسمية. ويُمكن التمييز في هذا
المسار بين مرحلتَين في عهد الخديوي إسماعيل؛ ففي المرحلة
الأولى من حكمه برز رائدان هما رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك
(١٨٢٣–١٨٩٣م) اللذان تلقيا تعليمًا أزهريًّا ولكنهما اتصلا
بأوروبا عن طريق البعثات، فاتجها إلى محاولة التوفيق بين
الثقافتين العربية والأوروبية من خلال تعليم المصريين
والعناية بالتعليمَين الابتدائي والثانوي جنبًا إلى جنب
التعليم العالي، فاعتدل الهرم المقلوب في نظام التعليم
السائد في عهد محمد علي من قبل، وهو ما ترتَّب عليه ظهور
فئة من أنصاف المثقفين سيكون لها دور كبير لاحقًا في
تطوُّر فن الرواية،
٢٣ وبخاصة الرواية التاريخية عند جُرْجي زيدان.
غير أن أبرز الدلائل على محاولة التوفيق بين الثقافتين
العربية والأوروبية تَمثل في إنشاء علي مبارك مدرسة جديدة
هي دار العلوم التي جمعت في مناهجها بين العلوم الأزهرية
والعلوم الطبيعية والرياضية والاجتماعية.
٢٤ ورغم تبلوُر جهود رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك
الفردية في مؤسسات تعليمية، فهي تظلُّ جهودًا فردية؛ بمعنى
أن مسار النهضة والحداثة هنا لم يكن مرتبطًا بالحاكم ولا
بمشروعه السياسي أو العسكري، كما كان حاصلًا أيام حكم محمد
علي باشا. ومن اللافت للنظر في هذا السياق، اتِّفاق مجموعة
من المثقَّفين على إنشاء ما يُسمى «جمعية المعارف» التي
تولت طبع عدد من أمهات الكتب العربية، غير أن قراءتها
اقتصرت على فئة محدودة من المثقفين القادرين ماديًّا على
اقتنائها، الأمر الذي نبَّه علي مبارك إلى إنشاء «كتبخانة
خديوية» لتيسير المطالعة على الراغبين. وكان من نتيجة تلك
الجهود الفردية أن أثمرت في المرحلة الثانية من عهد
إسماعيل عن المطالبة الصريحة بإصلاح التعليم.
٢٥ والأكثر من هذا أن الشيخ محمد عبده ساعد،
لاحقًا، «على تأسيس جمعية إسلامية خيرية كان هدفها إنشاء
المدارس الخاصة، كما ساعد على إدارة شئونها.»
٢٦
جناحا النهضة في عهد الخديوي إسماعيل
يُمكن التمييز بين جناحين للنهضة، برزا بقوة في أواخر
عهد الخديوي إسماعيل، هما: المثقفون المصريُّون المتأثرون
بتعاليم جمال الدين الأفغاني (١٨٣٨–١٨٩٧م) من ناحية؛
والمثقفون المهاجرون من مسيحيي الشام من ناحية أخرى.
-
أولًا: المثقفون المصريون المتأثِّرون
بتعاليم جمال الدين الأفغاني: آمنت هذه الفئة بفكرة الوحدة الإسلامية
لمواجهة التدخُّل الأوروبي، وفي الوقت
نفسه آمنَت بضرورة الإصلاح السياسي
التدريجي لأنظمة الحكم الاستبدادية عبر
تطهير الدين من الخرافات وتحرير العقول من
الاستبداد. وبرز في هذه الفئة الشيخ محمد
عبده، والسيد عبد الله النديم
(١٨٤٢–١٨٩٦م). آمن محمد عبده بضرورة
الإصلاح التدريجي٢٧ دون اللجوء إلى التمرُّد أو
الثورة بسبب عواقبها الوخيمة، بل آمن بأن
البلاد تحتاج إلى حاكم مُستبد عادل وأنها
غير مُستعدَّة بعد للحكم النيابي.٢٨ فكان من نتيجة إيمانه هذا،
اعتقاده بأنَّ الشعب المصري غير مهيأ
للثورة بصورة حقيقية، لذا لم يُساند عرابي
منذ البداية، ويقول حوراني: «ولم يكن محمد
عبده مُوافقًا، إذ ذاك، على آراء
العسكريين وأساليبهم، كما لم ينظر إلى
عرابي باشا نظرة إعجاب؛ إلا أنه لم
يتردَّد، عندما بدأ الهجوم البريطاني، في
التقرُّب منهم والقيام بما في وُسْعِه
لتنظيم المقاومة الشعبية.»٢٩ وأما عبد الله النديم فآمن
بفكرة الإصلاح التدريجي، ولكن لأنه كان
أكثر ارتباطًا بجماهير الشعب المصري فقد
ظلَّ مساندًا للثورة العرابية حتى النهاية.٣٠
-
ثانيًا: المثقَّفون المهاجرون من مسيحيي
الشام إلى مصر: بدأت هذه الفئة هجرتها إلى مصر في
أعقاب المذابح الدامية في بلاد الشام بين
المسيحيين والدروز عام ١٨٦٠م، وهربًا من
الاستبداد التركي. وتركزت أفكارهم
النهْضوية في معاداة الدولة العثمانية لما
تُمثلُه من ارتباط بالدين في أذهان
المسلمين، فلجئوا إلى التركيز على فكرة
الوطن بديلًا عن فكرة الوحدة الإسلامية،
واتخذوا من الأفكار الأوروبية، ولا سيما
مبادئ الثورة الفرنسية، سبيلًا إلى النهضة
والحداثة. وأخذوا من أفكار جمال الدين
الأفغاني كراهية الاستبداد والإيمان
بالحكم النيابي. ونتيجة لذلك، أيدوا
التدخُّل الأجنبي في مصر دون تصريح. وكان
مما ساعدهم على نشر أفكارهم أن أغلب الصحف
كانت في أيديهم؛٣١ فضلًا عن الاتجاه العام إلى
«محاولة التعرف على ما كتبه المؤرِّخون
الأوروبيون عن تاريخ بلادهم، أو على ما
كتبه المستشرقون عن التاريخ الإسلامي
والعربي أو عن الحضارة العربية الإسلامية.»٣٢ كما لجأ المثقفون الشوام
المسيحيُّون في توصيل أفكارهم إلى فنٍّ
مُستحدَث في مصر هو فن المسرح، مستعينين
في ذلك بتعريب الروايات واقتباسها
وتمصيرها، ولكن بعض مَن حاول منهم الخروج
على ذوق العصر لم يُقدَّر له الاستمرار.٣٣ ومن اللافت للنظر علاقة
المهاجِرين الشوام بالثورة العرابية، فقد
تحمَّسوا لها في البداية حماسًا شديدًا
رغبةً في التخلُّص من استبداد الخديوي
ودَعْم الحكم النيابي، ولكنَّهم سرعان ما
تخلَّوا عنها «بعد أن ظهرت الصبغة الدينية
على بعض مظاهر كفاح عرابي بتأثير الجماهير
الشعبية التي انضمت إليه، والتي ما زالت
تستمدُّ كفاحها من عاطفتها الدينية، وحين
ظهر العداء الصريح بين الثورة وبين
الأجانب وقف عرابي مع جماهير الشعب
البسيطة يُواجه كل هذه القوى التي تألبت
عليه في معركة غير متكافئة كان من نتيجتها
فشل الثورة وخضوع البلاد للاحتلال الإنجليزي.»٣٤
وقد لعب المثقَّفون الشوام دورًا كبيرًا في تقديم
الثقافة الأوروبية على المستوى العِلمي والفكري، بفضل
سيطرتهم على الصحافة والمجلات، ووصل هذا الدور، أحيانًا،
إلى حد التطرف غير المبالي بطبيعة الواقع المصري، كما نجد
في تقديم شبلي شميل (١٨٥٠–١٩١٧م) لنظرية التطور عند دارون،
وتقديم فرح أنطون (١٨٧٤–١٩٢٢م) للأفكار الاشتراكية
والشيوعية. وقد أساء القراء من المصريين الظن بهما
لسببَين، الأول موقفهما المتعاطف مع الاحتلال الإنجليزي،
والثاني استشعار القراء أن هذه الأفكار تنطوي على طعن في
الإسلام، ولا سيما بعد تصريح فرح أنطون في مقالاته بأن
المسيحية تُتيح للبحث العِلمي أفقًا أوسع مما يتيحه له
الإسلام، الأمر الذي دفع الشيخ محمد عبده إلى مساجلته
لإثبات فساد رأيه. وبالتزامن مع دور المهاجرين الشوام في
تقديم نظريات علمية وأفكار أوروبية، استمروا في تقديم فنون
جديدة كالمسرح والرواية. وفي تقديمهم فن الرواية، مال فريق
منهم إلى جَعْلها وعاء لنقل الأفكار الأوروبية، باستثناء
جُرْجي زيدان الذي جعل منها وسيلة لتعليم التاريخ
الإسلامي. ومال فريق آخر إلى تقليد الروايات الغربية
واختيار ما يتلاءم منها مع جماهير القراء غير المثقفين أو
أنصاف المتعلِّمين.
٣٥
قاسم أمين وتغليب الجناح الثاني للنهضة
يستقصي ألبرت حوراني طبيعة التحدِّي الذي طرحه مسار
النهضة المصرية على الشيخ محمد عبده، والذي يتمثَّل في
إثبات عدم وجود تناقُض بين جوهر الإسلام والمدنية
الأوروبية الحديثة الحقيقية، ومنهج محمد عبده في التعامل معه.
٣٦ ولكن محمد عبده «لم يعتقد يومًا أن بين
الاثنين توافقًا مُطلقًا، أي إن الإسلام يرضى عن كل ما
يرضى عنه العالم الحديث، بل كان يَعلم بوضوح لأيٍّ منهما
الأولوية عند نشوء خلاف حقيقي بينهما […] بَيْد أن التوتر
بين الإسلام والمدنية الحديثة كان بحد ذاته توترًا دقيقًا،
وكان من الصعب […] تعيين الحدود بين طرفيه.»
٣٧
وقد ترتَّب على ذلك التوتر بين الطرفين، ظهور فريقين من
أتباعه، ركز أولهما على جوهر الإسلام الثابت ومتطلباته
المطلقة فيما يبدو اتجاهًا سلفيًّا، على حين ركز الفريق
الثاني على اعتراف محمد عبده بشرعية التغيير وفق مقتضيات
المدنية الحديثة، فقام بوضع أساس عملية «فصل الدين عن
المجتمع والاعتراف لكلٍّ منهما بقواعد خاصة.»
٣٨ وإلى هذا الفريق الثاني يَنتمي قاسم أمين
(١٨٦٣–١٩٠٨م).
يَنتمي إسهام قاسم أمين الفكري إلى مجال الإصلاح
الاجتماعي في مسار النهضة المصرية، ومحوره المرأة في
المجتمع الحديث، وذلك من خلال كتابَين صدرا على التوالي
هما:
تحرير المرأة عام
١٨٩٩م، و
المرأة الجديدة
عام ١٩٠٠م. اقتفى قاسم أمين في الكتاب الأول منهج أستاذه
الشيخ محمد عبده في معالجة قضية المرأة، حيث يبدو حرصه
الواضح على التوفيق بين متطلَّبات العصر الحديث في النظر
إلى المرأة وبين ما يَعده التفسيرَ الصحيح لآيات القرآن أو
الحديث النبوي. وقد أثار كتابه رغم تحفُّظه عاصفةً من
الهجوم عليه.
٣٩ ولكن منهج بحثه في النظر إلى المرأة تحول
تحولًا كاملًا في كتابه التالي
المرأة الجديدة، يقول ألبرت حوراني:
فكأنما انهارت تحت صدمة الغضب واجهةُ البنيان
الإسلامي، فظهر من ورائها بنيان فكري مختلف تمام
الاختلاف عنها. لم يَعد قاسم أمين هنا يستند إلى
نصوص القرآن والشريعة مع تفسيرها بما يَعتبره
التفسير الصحيح، بل إنه أصبح يستند إلى العلوم
والفكر الاجتماعي في الغرب الحديث […] وهكذا أصبحت
الآن مقاييس الحكم على الأشياء مبادئ القرن التاسع
عشر الكبرى [في أوروبا]: الحرية والتقدُّم والمدنية.
٤٠
وهكذا، يتكشَّف منهج قاسم أمين في كتابه الثاني عن مَيْل
واضح إلى تصوُّرات وأفكار المهاجرين الشوام في نظرتهم إلى
مسألة النهضة والأخذ الكامل عن المدنية الأوروبية بوصفها
مثلًا أعلى، وإن احتفظ قاسم أمين برُكْن شخصي للإسلام؛
«وبذلك قطع قاسم أمين الصلة التي أقامها محمد عبده بين
الإسلام والمدنية. ومع احترامه للإسلام احترامًا كليًّا،
فقد أعطى المدنيةَ الحق في أن تبني قواعدها الخاصة بها
وتعمل على ضوئها.»
٤١
(٢) موقع جُرْجي زيدان
في ظل هذا السياق التاريخي العام لمسار النهْضة والحداثة
المصرية، ظهر مشروع جُرْجي زيدان الثقافي. ولكن ينبغي دائمًا
الوضع في الحسبان أن مسار النهضة والحداثة المصرية عمومًا
يَكتنفُه مسارٌ تاريخي أوسع يتعلَّق بوضع الإمبراطورية
العثمانية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، فقد أظهرت
عدةُ حوادث تاريخية حقيقةَ وَضْعِها الضعيف، منها مثلًا
الهزيمة العثمانية أمام روسيا عام ١٨٧٨م، واحتلال فرنسا لتونس
عام ١٨٨١م، واحتلال بريطانيا لمصر عام ١٨٨٢م؛ وهو ما ترتَّب
عليه — فيما يذهب ألبرت حوراني — أنْ:
تَحوَّل الفكرُ السياسي في الشرق الأدنى، من ذلك
الوقت، تحولًا جذريًّا. نعم كانت حسنات الوجود
الأوروبي، في نظر بعض نصارى الشرق الأدنى، تفُوق
سيئاته. إذ لم تكن السيطرة الأوروبية لتتعارَض مع
نظرتهم العامة في الحياة، ناهيك بما علَّقوا على هذه
السيطرة من آمال النفوذ والثقافة لطوائفهم والفلاح
لأنفسهم. أما المسلمون، أتراكًا كانوا أم عربًا؛ فقد
بدا لهم إمكان استيلاء أوروبا على دفة الحكم تهديدًا
لكيان مُجتمعِهم. إذ كانوا يعتقدون أن إحدى خصائص
الأمة كونها مجتمعًا سياسيًّا يعبر عن نفسه في جميع
مظاهر الحياة السياسية، وأن هذا المجتمع إنما يزول
بفقدان السلطة والسيادة. لذلك شغلت قضية الانحطاط
الداخلي عقولهم دومًا. أما الآن، فقد اقترنت بها قضية
جديدة، هي قضية البقاء، المطروحة على الشكل الآتي: كيف
يُمكن للدول الإسلامية مقاومة الخطر الخارجي الجديد؟
٤٢
من الواضح هنا — واستمرارًا لما سبق — أن هناك فئتَين من
مثقَّفي النهضة وفق ألبرت حوراني: المثقَّفون المسيحيون
الشوام، في مقابل المثقفين المسلمين سواء كانوا عربًا أو
أتراكًا أو مصريين، من أمثال رفاعة الطهطاوي وجمال الدين
الأفغاني ومحمد عبده. وعلى سبيل الاحتراس، لا بد من التنويه
هنا — تماشيًا مع المفكر الفلسطيني هشام شرابي (١٩٢٧–٢٠٠٥م) —
إلى أن كلمة «مسيحي» أو «مسلم»، «تُستعمَل هنا في معنى عريض
لتعني مزايا اجتماعية ونفسية وليس ارتباطًا دينيًّا باستثناء
أمثلة محدَّدة فقط حيث تحمل الكلمة دلالة دينية.»
٤٣ وهذا معناه أننا — مع جُرْجي زيدان المُنتمي إلى
فئة المهاجرين المسيحيِّين الشوام إلى مصر — بصدد رؤية عالم
مسيحية، أو بتعبير هشام شرابي نظرة عَقلية مميزة للمثقفين المسيحيين،
٤٤ التي يُخصص شرابي لإيضاح أصولها وسماتها الفصلين
الرابع والخامس من كتابه
المثقَّفون
العرب والغرب في عصر النهضة ١٨٧٥–١٩١٤م.
٤٥ ومن اللافت للنظر، على امتداد الفصلَين، كثرة
إحالة هشام شرابي إلى جُرْجي زيدان. وستُحاول الباحثة هنا تتبع
مسيرة جُرْجي زيدان حتى إصداره مجلة الهلال عام ١٨٩٢م، ففي هذه
المسيرة تتَّضح مشارب زيدان الثقافية والفكرية منذ الطفولة حتى
ذروة الشباب.
يذكر محمد عبد الغني حسن في ترجمتِه لجُرْجي زيدان أنه لما
بلغ خمس سنوات أرسله والده إلى مدرسة القسيس إلياس شفيق لتعلم
القراءة والكتابة والحساب حتى يُساعد والده في إدارة مطعم صغير
«كان يتردَّد عليه طائفة من رجال الأدب واللغة وطلاب الكلية
الأمريكية التي كانت في أول عهد إنشائها سنة ١٨٦٦م على يد
جماعة من المرسلين الأمريكيين.»
٤٦ ثم التحقَ بمدرسة الشوام لتعلم الفرنسية، ثم
بمدرسة مسعود الطويل لتعلم الإنجليزية. ونظرًا إلى إدمانه
قراءة الكتب والمجلات عرَفه أدباء بيروت وصحفيُّوها، الأمر
الذي يَسر له الانضمام إلى «جمعية شمس البر» التي تأسَّست في
بيروت عام ١٨٦٩م بوصفها فرعًا ﻟ «جمعية الشبان المسيحيين» في
إنجلترا، وكان رفاقه فيها أعلام الفكر والأدب في سورية ولبنان
من أمثال: يعقوب صروف (١٨٥٢–١٩٢٧م)، فارس نمر (١٨٥٦–١٩٥١م)،
سليم البستاني (١٨٤٨–١٨٨٤م)، بطرس البستاني (١٨١٩–١٨٨٣م)،
الشيخ يوسف الأسير (١٨١٧–١٨٨٩م). وفي عام ١٨٨١م التحق زيدان
بالكلية الأمريكية لدراسة الطب، وقضى فيها عامًا. وفي عام
١٨٨٣م، قرر الهجرة إلى مصر لدراسة الطب في قصر العيني، ولكنَّه
انصرف عن هذه الدراسة لطول مدَّتها وعَوَزِه، فاشتغل محررًا في
جريدة الزمان، الجريدة الوحيدة التي أبقى عليها الاحتلال
البريطاني لموالاتها له، حتى التحق بقلم المخابَرات البريطانية
مترجمًا مرافقًا لحملة إنقاذ غوردون عام ١٨٨٤م. وفي عام ١٨٨٥م،
سافر إلى بيروت، وانضم إلى عضوية المجمع العلمي الشرقي الذي
تأسَّس عام ١٨٨٢م تكريمًا له من مؤسسي المجمع. وأثناء إقامته
في بيروت تعلم العبرية والسريانية. وبسبب تأليفه كتاب
الفلسفة اللغوية أو
الألفاظ العربية والفلسفة
اللغوية التي صدرت طبعته الأولى في بيروت عام
١٨٨٦م، عَينه المجمع الآسيوي الملكي عضوًا عاملًا فيه. وفي
العام نفسه زار لندن، ولما عاد إلى مصر تولى إدارة مجلة
المُقتطف لمدة عام ونصف، ثم استقال عام ١٨٨٨م مُتفرِّغًا
للتأليف. والتحق مدرسًا بالمدرسة العُبيدية لصاحبها روفائيل
عبيد السوري لمدة عامين. وفي عام ١٨٩١م، أنشأ بالاشتراك مع
نجيب متري مطبعة التأليف، وبعد عام انفضت الشركة بينهما واحتفظ
زيدان بالمطبعة وأسماها مطبعة الهلال، أما نجيب متري فأنشأ
مطبعة مستقلَّة هي مطبعة المعارف. وفي عام ١٨٩٢م أصدر زيدان
مجلة الهلال.
٤٧
وقد تشكَّلت لدى مثقفي تلك الطبقة الاجتماعية — طبقة الشوام
المسيحيين — التي انتمى إليها جُرْجي زيدان — فيما يَذهب هشام
شرابي — نظرةٌ عقلية نتَجت عن التحوُّل في التعليم المسيحي
خلال القرن التاسع عشر في سورية التي كانت تشمل آنذاك لبنان
وفلسطين؛ فالمسيحيون هم أول مَن استقبلوا التعليم الحديث في
مدارس الإرساليات التي افتتحها الفرنسيون والإنجليز
والأمريكيون والروس. وقد سعَت هذه المدارس التي يُديرها أجانب
إلى اتباع أسلوب التعليم الغربي إلى جانب تغذية الروح الدينية؛
وهو أسلوب تميَّز بالنظرة العقلانية ومبادئ التفكير العلمي،
الأمر الذي أدَّى إلى «اليقظة المسيحية» — على حد تعبير هشام
شرابي — التي خفَّفت من نمط التفكير الديني التقليدي. وقد
«ارتبطت الطبقة الجديدة المتعلِّمة من المسيحيين بثلاثة موارد
تعليمية أعطت الحركة الفكرية المسيحية طبيعتها المُميزة، هي:
التمرس الكامل بالأدب العربي، إجادة لغة أوروبية، الإلمام
بالمعرفة العِلمية الحديثة.»
٤٨ ونتيجة هذا النظام العقلاني، تحوَّلت اللغة
العربية لدى مثقَّفي الشام المسيحيِّين إلى «أداة فعالة
للتخاطب الفكري. وكان أفراد الطبقة المسيحية المثقَّفة أول مَن
امتلك ناصية هذه اللغة العربية المجددة، وكانوا أول مَن
استعملوها في كتاباتهم في سورية.»
٤٩ فضلًا عن تركيز هذه المدارس على إجادة اللغات
الأوروبية، ولا سيما الفرنسية والإنجليزية، الأمر الذي أدَّى
إلى احتكاك مباشر بالثقافة والمعرفة الأوروبية، «فالأفكار
الجديدة طرحت أُطر تفكير جديد حتمًا.»
٥٠ فبدأت النظرة النقدية تحكم البحث الفِكري سواء في
العلوم الإنسانية أو النظريات العِلمية، ومن هنا نشأ التوجه
المسيحي العَلماني، فوجد المثقَّفون المسيحيون أنفسَهم «في
مواقع مُتعارضة مع تلك التي يحتلُّها دعاة الإصلاح الإسلامي.»
٥١
وهنا، يَبرُز بجلاء الأساس الأيديولوجي لدى مثقَّفي الشام
المسيحيِّين، ومنهم بالطبع جُرْجي زيدان: العلم والحضارة
الغربية الحديثة. فأوروبا عندهم ليست عامل تهديد وجودي كما
يراها الإصلاحيُّون المسلمون، بل هي مثال ونموذج يُحتذى. وقد
أدى تمسك المثقفين المسيحيين بالعقلانية والمنهج العلمي — كما
تَرسخَ في أوروبا — إلى مهاجمة الأصول التي تقوم عليها السلطة
السياسية والاجتماعية.
٥٢ وهو ما يتجلَّى بوضوح في رواية زيدان التاريخية
الانقلاب العثماني التي
تَنطوي على تدمير أصول السلطة السياسية للدولة العثمانية،
وتدمير الأساس الاجتماعي الذي يدعمها، ولا سيما نظام العائلة
الأبوية. كذلك نرى في رواية
أسير
المتمهدي تغليبًا واضحًا لنموذج الضابط
الإنجليزي شفيق، بوصفه انتصارًا للقيم الحضارية والأخلاقية
والعلمية الإنجليزية، كما يُمكن تفسير معاداة جُرْجي زيدان
للثورة المهدية ذات الأساس الديني انطلاقًا من هذا المنظور
الذي يَنتصِر للمدنية الغربية الحديثة، على نحو ما سيكشف
تحليلي للعملَين في الفصلين الثاني والثالث من هذا
الكتاب.
والأكثر من هذا، أنه يُمكن استكشاف الأساس الأيديولوجي
بفرعيه، العلم والمدنية الغربية الحديثة، الذي يتبنَّاه جُرْجي
زيدان، في كتابه رحلة جُرْجي زيدان إلى
أوروبا سنة ١٩١٢م الذي صدرت طبعته الأولى عن
إدارة الهلال بمصر عام ١٩٢٣م. قام زيدان بهذه الرحلة قبل وفاته
بعامَين، وقد اكتملَت أركان مشروعه الثقافي. لذا، أرى أن هذا
الكتاب يكاد يكون إعلان زيدان — الكاشف بشيء من التدقيق — عن
تصوره لمشروع النهضة والحداثة وطبيعة الأسئلة وإجاباتها. ففي
التمهيد الذي وضعه زيدان لهذه الرحلة، نجد منظورًا يتلبسُ
بلباس موضوعية صارمة؛ إذ يستغني عن الذات الراوية المميزة لأدب
الرحلة عمومًا، ويتبنَّى أسلوبًا في الكتابة يُشبه البحث
العلمي. يقول زيدان في تمهيده:
وتوخَّينا النظر على وجه الخصوص فيما يهم قراء
العربية من أحوال تلك المدنية التي أخذنا في تقليدها
منذ قرن كامل ونحن نتخبَّط في اختيار ما يلائم أحوالنا
منها. وسنَنشُر فيما يلي خلاصة ما بلغ إليه الإمكان من
ذلك الدرس […] وسنُغفل سياق الرحلة فلا نذكر رحيلنا أو
نزولنا وما لاقيناه أو كابدناه في أثناء ذلك على ما
جرت به عادة أهل الرحلة؛ إذ ليس غرضنا أن يكون ما
نكتبه دليلًا للراحلين في السفر والنزول ومعرفة الطرق
والمسافات والأجور. وإنما نُريد أن نمثِّل للقارئ ما
طبع في ذهننا أثناء هذه الرحلة بعد إعمال الفِكرة في
أحوال تلك الأمم. ولذلك نقسم الكلام إلى ثلاثة أقسام
باعتبار المَمالك التي زرناها على ترتيب تلك الزيارة
فنبدأ بفرنسا فإنجلترا فسويسرا.
٥٣
ولكن الفحص الدقيق لأسلوب المقارنة الذي يتبعه جُرْجي زيدان
بين الفرنسيين والمصريين وبين الإنجليز والمصريين يكشف عن
احتفائه بالمدنية الغربية الحديثة وأسسها الاجتماعية
والأخلاقية والروحية. وسأقتبس، هنا، بعض مقارناته التي يعقدها
تدليلًا على احتفائه بالمدنية الغربية الحديثة بوصفها النموذج
والمثال المُحتذَى. فمثلًا، بعد أن يَستقصي زيدان الحالة
العِلمية في فرنسا وبيان اهتمام الحكومة الفرنسية بالتعليم
وإنفاقها الأموال الطائلة عليه، وبعد أن يُعددَ أنواع التعليم
العالي فيها،
٥٤ يأتي إلى مقارنته بالتعليم في مصر فيقول:
والاطلاع على أسماء هذه المدارس يدلُّ وحده على
الفرق العظيم بين التعليم عندنا وفي تلك المملكة
الراقية فقد ذكرنا عشرات المدارس لا وجود لها عندنا
ولم نذكر غير المَدارس العالية. وقد أغفلنا المدارس
الابتدائية والثانوية التي عندنا مثلها. على أن
مدارسنا هذه أحط كثيرًا من أمثالها عند الفرنساويين
والابتدائية أقل كثيرًا من المدارس الابتدائية عندهم
والمدارس الثانوية كذلك. وحامل البكلورية المصرية أقل
معرفة من حامل البكالوريا الفرنساوية. فالتعليم عندنا
ضعيف جدًّا من كل وجه.
٥٥
وتجبُ ملاحظة أن هذا الرأي الذي يقوله زيدان عن التعليم في
مصر يتعلَّق بالتعليم بعد حركتي نهضة كبيرتين في مصر، أولاهما
في عهد محمد علي والثانية في عهد حفيده الخديوي
إسماعيل.
وفي حديثِه عن النظام الاجتماعي في فرنسا، الذي يَنقسِم في
كل أمة إلى طبقتَين هما الخاصة والعامة، نجد زيدان يحطُّ من
شأن التمدُّن الإسلامي القديم — وهو الذي يستند إليه فريق
النهضة المقابل: دعاة الإصلاح الإسلاميين — في مقابل التمدن
الغربي الحديث، قائلًا:
فالعامة في التمدُّن القديم كانوا كما قال الإمام
علي «همج رعاع أتباع كل ناعق»، وقال معاوية: «إنهم
أشباه البهائم إن جاعوا ساموا، وإن شبعوا ناموا.» وهم
نحو ذلك في الشرق إلى الآن إلا في بعض البلاد الراقية.
أما في الغرب فقد تغيَّرت أحوالهم حتى أوشكوا أن
يقلبوا نظام الاجتماع ولا سيما في البلاد الجمهورية
ومنها فرنسا وهو موضوع كلامنا في هذا الباب. [ثم
يُواصل قائلًا تحت باب «العامة في فرنسا»] إنَّ العامة
في فرنسا يختلفون عن عامتنا بأمور كثيرة: منها أنهم
أرقى تربية وأوسع تعلُّمًا فلا تجد فيهم مَن لا يحسن
القراءة والكتابة. وحيثما توجهت ترى البوابين وساقة
المركبات وصغار الباعة وخدم المنازل والقهوات حتى
مسَّاحي الأحذية يُطالعون الجرائد والكتب ويهتمُّون
بالشئون العامة ويبحثُون في السياسة ويتناقشون في
التعليم والأحزاب وينتقدون أعمال الحكومة.
٥٦
ويبدو أن زيدان لا يعتقِد هذا الاعتقاد نظريًّا فحسب، بل
يحاول تقديم نموذج عملي له في رواياته، فنجد خريستو خادم شيرين
في رواية الانقلاب العثماني
مهتمًّا بالشأن السياسي العام، وله رأي سياسي واضح مُناهِض
للسلطان عبد الحميد الثاني، بل له ميول تحرُّرية مُناصِرة
لجمعية الاتحاد والترقي، على نحو ما سنرى في الفصل
الثاني.
وبعد أن يتحدَّث جُرْجي زيدان عن اقتحام المرأة الفرنسية
ومزاحمتها الرجال في شتى أنواع العمل، يقول:
والسبب في نزول المرأة هذه المنزلة عندهم أن الفتاة
الفرنساوية تنشأ في منزل والديها كما ينشأ الغلام
ويُطلب منها أن تتكسَّب بالشغل كما يتكسب هو. وهي
تجالس الرجل وتحادثه وتباحثه في كل موضوع كأنها رجل
مثله وتُسافر للسياحة والاستكشاف وحدها لا ترى في ذلك
بأسًا أو غرابة مما لم نألفه في بلادنا. فإن فتاتنا
تتعلم أو لا تتعلَّم ثم تمكث في منزل والديها في
انتظار نصيبها للزواج وزينتها الحشمة والحياء ولا يخطر
لأهلها أن تعمل عملًا. فهي إما أن تتزوَّج أو تبقى
عانسًا في بيت أبيها ولا تشتغل إلا نادرًا. وأكثر
اشتغالها بالتعليم أو الخياطة ويندر أن تتعاطى عملًا
آخر. ومهما بلغ من حريتها فهي لا تُجالس غير معارفها
وذوي قرباها.
٥٧
والمبدأ الضمني الذي يُبرزه زيدان من خلال مقارنته هنا هو
مبدأ المساواة، وكأنَّ لسان حاله يقول إنَّ التمدن الإسلامي
القديم الذي يستند إليه فريق النهضة الآخر من دعاة الإصلاح
المسلمين لا يَصلُح أساسًا لأنه مُنحرِف عن مبدأ المساواة بين
البشر. ولكن زيدان يَعيب الحريةَ التي تُؤدِّي إلى تهتك النساء وعُهْرهن.
٥٨ وعند حديثه عن أخلاق الإنجليز يعقد المقارنة
الآتية:
للإنجليز أخلاق بارزة واضحة تختلف عما لسواهم من
الأمم يُمكن تلخيصها بكلمتين نعني (١) «أنهم يجنحون في
أعمالهم وشئونهم إلى الحقيقة المحسوسة دون الظواهر»
(٢) «أنهم ثابتون في مبادئهم وعاداتهم ومشاريعهم» فإذا
عرفت ذلك فيهم هان عليك تعليل أكثر ما يعرض لك من
أخلاقهم. والإنجليزي هادئ الخلق يَندُر أن تتغلَّب
عليه الحدة حتى تُخرجه عن طور إرادته ولذلك تجدُهم
يبحثون في أهم المسائل وأحرج المشاكل ويتجادَلون
ويَتناقَشون بهدوء وسكينة. ويَغلِب في أداتهم أن
تُبنَى على العقل أكثر مما على العواطف. ويظهر لك
الإنجليزي جامدًا وقد ترى في نفسك تفوقًا عليه بسرعة
الخاطر لكنك عند العمل تجده أثبت منك قدمًا وأصبر على
التعب وأقدر على المشاريع الكبرى. وترى فيه سكونًا
وطول أناة في موقف يستفز سواه ويهيج غضبه وليس ذلك من
بلادة في طبعه وإنما هو من قبيل ثباته في أعماله
وتعويله على الحقائق فلا يكترث بالصغائر بل يجعل همَّه
الغرض الذي يسعى إليه لا يبالي بما يقف في طريقه من
العقبات ولا سيما إذا كانت تلك العقَبات أمورًا وهمية
كالكلام في الصحف ونحوها إذا لم يكن مبنيًّا على حقائق
محسوسة — فهو يُهمُّه أن يصل حماره إلى العباسية ولا
يَلتفِت إلى شقشقة المكاري في أثناء الطريق.
٥٩
ومن الواضح، هنا، تغليب زيدان وانحيازه للنموذج الإنجليزي
الذي يهتمُّ بتحقيق الأهداف، دون اهتمام ﺑ «شقشقة المكاري» كما
نفعل نحن، فتضيع منا الأهداف. وهو الانحياز نفسه الذي يبلوره
زيدان روائيًّا في روايته التاريخية أسير المُتمهدي من خلال شخصية الضابط
الإنجليزي شفيق في مقابل شخصية الضابط المصري عزيز في جيش
عرابي. وثمة مقارنات أخرى يعقدها زيدان على امتداد كتابه، تؤكد
جميعها تبنِّيه نموذج التمدن الغربي بوصفه المثال المُحتذى غير
مبالٍ بخصوصية المجتمع المصري آنذاك، وذلك على نحوٍ يَكشِف
موقعه في مشروع النهضة والحداثة المصرية وأسئلتها وطرق إجابته
النظرية والعملية عنها.
(٣) تصور زيدان للرواية التاريخية
لا ينفصل اتجاه جُرْجي زيدان إلى كتابة الرواية التاريخية عن
مشروعه الثقافي النهْضوي، على نحو ما حددتُ موقعه ضمن مشروع
النهضة والحداثة المصرية عمومًا؛ فالرواية التاريخية عند زيدان
تُمثِّل البَلْورة الأدبية لمشروعه الفكري. ولكنها لا تنفصل —
من ناحية أخرى — عن سياق نوعي خاص بدأت بذوره منذ رفاعة رافع
الطهطاوي وعلي مبارك. فنحن «مدينون لرفاعة فيما يتَّصل بنشأة
الرواية التعليمية بروايته المترجمة
وقائع تليماك، أكثر مما نَدين له في كتاب
تخليص الإبريز، وتُعد
وقائع تليماك أول مظهر
من مظاهر النشاط الروائي في مصر في القرن التاسع عشر، والهدف
التعليمي واضح من المقدمة التي كتَبها رفاعة للرواية المترجمة،
وسماها ديباجة الكتاب.»
٦٠ وعنوان الرواية كاملًا هو
مواقع الأفلاك في وقائع تليماك من تأليف
فرانسوا فينيلون، وقد استهدف رفاعة من ترجمتها مهاجمة
الاستبداد ودعوة الرعية إلى الاتحاد، ولذا تكاد الراوية
تَفتقِر إلى عنصر التشويق «لأنَّ الهدف التعليمي يَطغى فيها
طغيانًا كبيرًا على الهدف الروائي، وبرغم أن الرواية ترتبط
بخيط ظاهري يتمثَّل في بحث تليماك عن والده، فإننا نكاد ننسى
هذا الهدف لرغبة المؤلِّف في تقديم تعاليمه الكثيرة التي تدفعه
إلى الانتقال بأبطاله إلى أماكن متعدِّدة وحشد أكبر عدد مُمكن
من الشخصيات التي لا يُحاول تحليلها بحيث أصبحت الرواية لذلك
أشبه بمجموعة من المقالات المُنفصِلة.»
٦١ بل إنَّ رفاعة يُحدِّد أهدافه التعليمية من ترجمته
الرواية «لما اشتملَت عليه من المعاني الحسنة، مما هو نصائح
للملوك والحكام، ومواعظ لتحسين سلوك عامة الناس، تارةً
بالتصريح والتوضيح وطورًا بالرمز والتلويح.»
٦٢ ونظرًا إلى حساسية موضوع الاستبداد السياسي الذي
تُعالجه الرواية، فضلًا عن أنَّ رفاعة ترجمها احتجاجًا على نفي
الخديوي عباس حلمي الأول له إلى السودان، فقد صدرت الطبعة
الأولى منها في بيروت عام ١٨٦٧م.
٦٣
ويُعدُّ علي مبارك شريكًا مهمًّا لرفاعة الطهطاوي في النهضة
التعليمية في عهد الخديوي إسماعيل؛ إذ أسهم في الرواية
التعليمية بروايته
علم الدين٦٤ التي صدرت طبعتها الأولى عام ١٨٨٢م. ولكن علي
مبارك يُصرح في مقدمة روايته بالهدف التعليمي تصريحًا واضحًا
مقصودًا، إذ يقول: «ولا شيء أنفع له (للوطن) وأجلب للخير
والبركة إليه من تعليم أبنائه، وبث المعارف والفنون النافعة
فيهم، حتى يعرفوا حقوقه ويكونوا يدًا واحدة في نفعه وخدمته
وإيصاله إلى غاية ما يُمكن أن يصل إليه من الغبطة والسعادة.»
٦٥ وقد رتَّب علي باشا مبارك روايته في ١٢٥ فصلًا
أسماها «مسامرات»، وهي عبارة عن مُحاورات تدور بين الشيخ
المصري عَلَم الدين وسائح إنجليزي في رحلتهما إلى أوروبا، ولا
سيما فرنسا. وتَشتمِل هذه المسامرات أو الفصول على «غرر
الفوائد المتفرِّقة في كثير من الكتب العربية والإفرنجية في
العلوم الشرعية والفنون الصناعية وغرائب المخلوقات وعجائب البر
والبحر […] لتأتي المقارنة بين الأحوال المشرقية والأوروبية.»
٦٦ وتدور الرواية عن الشيخ الأزهري عَلَم الدين الذي
يَلتقي بسائح إنجليزي يُريد تعلُّم اللغة
العربية وإتقانها ونشر نسخة
من معجم
لسان العرب، ثم
يتَّفقان على السفر إلى أوروبا وزيارة فرنسا، ويصطحب الشيخ معه
ابنه برهان الدين. ويبدو الشيخ الأزهري أثناء الرحلة متفتِّح
العقل نهمًا إلى معرفة كل جديد من العلوم والفنون الأوروبية،
وإن كان يرفض بعض عادات الأوروبيين مما لا يتَّفق مع عادات الشرقيين.
٦٧
وتَشترِك رواية
عَلَم
الدين لعلي مبارك مع كتاب
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
لرفاعة الطهطاوي في كونهما رحلة إلى خارج مصر، وإنْ تميَّزت
رواية
عَلَم الدين بأنَّ علي
مبارك جعل لها أشخاصًا آخرين سوى نفسه، هم: عَلَم الدين وابنه
برهان الدين والسائح الإنجليزي. ومع ذلك «فإن رواية
علم الدين تتَّفق مع كتاب
تخليص الإبريز في ضعف
العنصر الروائي ضعفًا كبيرًا أمام الهدف التعليمي.»
٦٨ فالشخصيات في رواية
عَلَم
الدين لا قيمة لها إلا بوصفِها أداة لعرض
معلومات علي مبارك، كما يَختفي تمامًا عنصر القصة الغرامية،
ولا يوجد اهتمام بإثارة التشويق لدى القارئ.
٦٩
ويتضح من هذين النموذجين — رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك —
طبيعة انشغال الجناح الإصلاحي من المثقَّفين المصريين المسلمين
بمحاولة تثقيف المصريين وتعليمهم، بتوظيف قالب الرحلة، دون
اهتمام بالشَّكل الروائي؛ وذلك في إطار عملية إصلاح اجتماعي من
خلال التعليم ضمنَ انشغالهم بمشروع النهضة المصرية.
وفي المقابل، انشغل المثقَّفون المسيحيون من المهاجرين
الشوام — ومنهم جُرْجي زيدان — بنقل الفن الروائي الغربي، وقد
أعانهم في ذلك سيطرتهم على المجلات ﮐ «المقتطف» و«الهلال»،
وعلى الجرائد ﮐ «الأهرام» و«المقطم»؛ ﻓ «اتَّجه أصحاب المجلات
والصحف إلى اجتذاب جماهير القراء من أنصاف المثقَّفين الذين
تكاثَرُوا منذ عهد إسماعيل وفي عهد الاحتلال، وبدءوا يقدمون
لهم الروايات التي تتلاءم مع أذواقهم ومُيولهم.»
٧٠
ويُعدُّ جُرْجي زيدان سابقًا إلى نقل الشكل الروائي الغربي،
ولكنه وضع في حسبانه أن يأتي مُوافِقًا لمتطلبات واقعه الراهن،
ومُتماشيًا مع مشروعه الثقافي النهْضوي كما يتصوره؛ فاعتنى
بالعنصر القصصي قدر عنايته بالعنصر التعليمي، وإن كان لا يزال
العنصر القصصي خادمًا للعنصر التعليمي.
٧١ ومن المُمكن الوقوف على تصوُّر زيدان لفن الرواية
التاريخية من مقدمته لروايته التاريخية
الحجاج بن يوسف الثقفي،
حيث يقول:
«وقد رأينا بالاختبار أن نشر التاريخ على أسلوب
الرواية أفضل وسيلة لترغيب الناس في مُطالعته،
والاستزادة منه، وخصوصًا لأننا نتوخَّى جهدنا في أن
يكون التاريخ، حاكمًا على الرواية لا هي عليه كما فعل
بعض كَتَبة الإفرنج، وفيهم مَن جعل غرضه الأول تأليف
الرواية، وإنما جاء بالحقائق التاريخية لإلباس الرواية
ثوب الحقيقة، فجرَّه ذلك إلى التساهل في سرد الحوادث
التاريخية بما يُضلُّ القراء. وأما نحن فالعمدة في
روايتنا على التاريخ، وإنما نأتي بحوادث الرواية
تشويقًا للمُطالِعين، فتبقى الحوادث التاريخية على
حالها وندمج فيها قصة غرامية تُشوق المطالعَ إلى
استتمام قراءتها، فيُصبح الاعتماد على ما يجيء في هذه
الروايات من حوادث التاريخ مثل الاعتماد على أيِّ كتاب
من كتب التاريخ من حيث الزمان والمكان والأشخاص، إلا
ما تَقتضيه القصة من التوسُّع في الوصف مما لا تأثير
له على الحقيقة، بل هو يَزيد بيانًا ووضوحًا بما
يتخلَّله من وصف العادات والأخلاق.»
٧٢
وتنطوي هذه الفقرة على عدة أفكار يُمكن صياغتها على النحو
الآتي:
أولًا: الدمج بين غرض
التعليم والقصة الغرامية الشائقة داخل إطار الرواية التاريخية.
ثانيًا: مخالفة زيدان
للكاتبيْن الفرنسيين ألكسندر دوماس الأب
Alexandre Dumas
(١٨٠٢–١٨٧٠م)، والإنجليزي
والترسكوت
Walter Scott
(١٧٧١–١٨٣٢م)، في تصورهما للرواية التاريخية؛ إذ جعلا من
التاريخ خادمًا لإحساسهما القومي الذي هيمَنَ بتأثير الفترة
الرومانتيكية في الأدب الغربي، فغلبا الجانبَ الخيالي على
الجانب التاريخي.
٧٣ وأما زيدان فيجعل الجانبَ الخيالي الذي يتَّخذ شكل
قصة غرامية شائقة في خدمة الحقائق التاريخية، على نحو جعله
يقتصر — فيما يقول عبد المحسن طه بدر — على «أن يكون معلمًا
للتاريخ، وأن يهتمَّ بالحقيقة التاريخية أولًا ويجعل الاهتمام
بالعناصر الروائية في المرتبة الثانية.»
٧٤ ثالثًا: حِرْص زيدان على أن تأتي الحوادث
التاريخية في الرواية مطابقة لما وَرَدَ في المصادر التاريخية،
إلى حدٍّ يُمكن معه الاستناد إلى الرواية التاريخية كالاستناد
إلى أي كتاب من كتب التاريخ — فيما يتصوَّر زيدان عن أعماله
الروائية.
وهذا التصور الذي يقدمه زيدان للرواية التاريخية، والذي جاءت
أعماله مطابقة له من وجهة نظره، يُمثِّل تطورًا مهمًّا داخل
السياق النوعي الذي بدأه رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك، والذي
أطلق عليه عبد المحسن طه بدر «فن الرواية التعليمية»؛ إذ يَصف
روايات زيدان التاريخية بأنها تحتلُّ موقعًا وسطًا بين التعليم والتسلية.
٧٥ولكن الرواية التاريخية عند زيدان لا تنفصل — في
حقيقة أمرها — عن مشروع النهضة والحداثة المصرية ولا عن
تصوُّره الخاص لموقعه داخل هذا المشروع؛ وذلك لأن اهتمام زيدان
بتعليم التاريخ يَنبثق في الأصل من اهتمام مثقَّفي النهضة منذ
عهد إسماعيل بالتاريخ العربي القديم ومحاولة نشره من ناحية،
والاهتمام بمعرفة ما يكتبه المُستشرقون عن هذا التاريخ من
ناحية أخرى، وذلك بالتوازي مع الاهتمام بتاريخ الأوروبيين
للوقوف على سرِّ تفوُّقهم. وهي اهتمامات سعى جُرْجي زيدان إلى
تحقيقها، فاهتم بدراسة التاريخ العربي والإسلامي مُستندًا إلى
المصادِر العربية والاستشراقية معًا، فقدم كتبًا من تأليفه؛
كما اهتم أيضًا بتاريخ الغرب والكتابة فيه.
٧٦
ويُؤكِّد زيدان وعيه القصدي بالجانب التعليمي في رواياته
التاريخية، ودورها في تصوُّره الخاص بمشروع النهضة والحداثة،
في مقدمة الجزء الأول من كتابه تاريخ
التمدُّن الإسلامي، حيث يقول:
وأخذنا نهيئ أذهان القراء على اختلاف طبقاتهم وتفاوت
معارفهم ومداركهم، لمطالعة هذا التاريخ بما ننشره من
الروايات التاريخية الإسلامية تباعًا في «الهلال»؛ لأن
مطالعة التاريخ الصرف تُثقِل على جمهور القراء وخصوصًا
في بلادنا، والعلم لا يزال عندنا في دور الطفولة، فلا
بدَّ لنا من الاحتيال في نشر العلم بينَنا بما يُرغب
الناسَ في القراءة، والروايات أفضل وسيلة
لهذه الغاية.
٧٧
ويتضح من قوله اضطلاعه بدور «المثقَّف العام» الذي يعرف
موقعه في المجتمع وموقع رواياته التاريخية ضمن تصوُّره الخاص
لمشروع النهضة والحداثة المصرية، ولا سيما إذا وضعنا في
الحسبان المقابلة الضِّمنية التي ينطوي عليها عنوان كتابه،
أيْ: «التمدن الإسلامي القديم» في مقابل «التمدن الغربي
الحديث».
السمات العامة للرواية التاريخية عند زيدان
قدم جُرْجي زيدان اثنتين وعشرين رواية تاريخية، تغطي كل
مراحل التاريخ العربي بدءًا من العصر الجاهلي حتى العصر
الحديث. وتميَّزت رواياته كلها باختيار فترات التاريخ
العربي والإسلامي والحديث التي تُجسِّد صراعًا سياسيًّا
بين اتجاهين أو جماعتين تتَنافَسان تنافُسًا عنيفًا على
السلطة أو النفوذ؛ الأمر الذي يَكشف عن أن جُرْجي زيدان لا
يتجه إلى تجسيد الحوادث التاريخية بدافع قومي يبرز أمجاد
هذا التاريخ. ولعلَّ اختياره للحظات التوتُّر والصراع
التاريخي تلك، يُسهلُ مهمَّته في حَبْك القصة الغرامية
الشائقة في عمله، لأن لحظات التوتُّر أو الصراع توفر له
زادًا من الحوادث المتنوِّعة والمغامرات، وتسمح له بتقديم
الشخصيات الخيرة والشريرة بشكل قاطع، على النحو الذي يحقق
له هدفيْ تعليم القارئ وتسليته في الوقت نفسه.
٧٨
وتأتي عناوين رواياته مُتوائمة مع هذين الهدفين، التعليم والتسلية؛
٧٩ إذ يُشير العنوان أحيانًا إلى الحادثة
التاريخية مثل روايته
١٧
رمضان أو
فتح
الأندلس أو
الانقلاب
العثماني؛ وفي أحيانٍ أخرى يُوحي العنوان
بالقصة الغرامية مثل
فتاة
غسان أو
عذراء
قريش أو
غادة
كربلاء … إلخ.
كما يحرص زيدان على إيراد ما أُسميه «التعليق الوصفي»
أسفل العنوان مباشرة، واصفًا الرواية بأنها «تاريخية
غرامية» أو «تاريخية أدبية»، متبوعًا بما أُسميه «التعليق
الوصفي الشارح» الذي يُلخِّص فيه زيدان محتويات روايته
ويجعله مقتصرًا على إيضاح محتواها التاريخي والحضاري،
متجاهلًا الجانب الغرامي للرواية، فيقول مثلًا في تعليقه
الوصفي الشارح لرواية الانقلاب
العثماني: «تتضمَّن وصف أحوال الأحرار
العثمانيين وجمعياتهم السرية، وما قاسُوه في طلب الدستور
مع وصف يلدز وقصورها وحدائقها وعبد الحميد وجواسيسه
وأعوانه وسائر أحواله إلى فَوْز جمعية الاتِّحاد والترقِّي
بنَيْل الدستور في ٢٣ يوليو سنة ١٩٠٨م.»
وأحيانًا، يُورِد زيدان ثبتًا بقائمة المصادِر التاريخية
التي استند إليها في صفحة مستقلَّة قبل متن الرواية، كما
فعل في روايته الحجاج بن
يوسف وفي متنها الروائي أسفل الصفحة؛ أو
يُثبت المصدر التاريخي أسفل صفحة المتن الروائي كما يفعل
في روايته الانقلاب
العثماني؛ الأمر الذي يكشف عن إلحاح زيدان
على تأكيد الثقة لدى القارئ في صحة الحوادث التاريخية التي
يعالجها في روايته وموثوقيتها.
ومن الواضح أن إلحاح جُرْجي زيدان على الجانب التعليمي
في رواياته التاريخية قد أثَّر في تطور الحدث والعقدة، وفي
رسم الشخصيات:
فالجانب الروائي في روايات جُرْجي زيدان يقوم
على علاقة غرامية بين بطل خَيِّر بصورة مطلقة يحب
بطلة خَيِّرة، وتقوم العقبات والدسائس والمؤامرات
بينهما وبين حبهما، وحين ينتهي جُرْجي زيدان من
أحداثه التاريخية يكون قد انتهى أيضًا من هذه
العلاقة الغرامية. وروايات جُرْجي زيدان على هذه
الصورة أقرب إلى النوع الذي يسميه النقاد بقصة
الحادثة، وهي الرواية التي تسجل حوادث غريبة
مُتتابعة وتتَّجه إلى فضول القارئ، والمؤلف لا
يهتم فيها بالشخصيات بقدرِ اهتمامه بالأحداث،
والأحداث لا ترتبط ارتباطًا صارمًا ببعضها البعض،
ولكنها ترضي القارئ بأن تقدم إليه العجيب والغريب.
٨٠
غير أن زيدان ينشغل — في المقام الأول — بتعليم قارئه
التاريخ، ويتوسَّل في ذلك بالقصة الغرامية الشائقة جلبًا
لاهتمام القارئ وضمان مُتابعته القراءة، ولا سيما أن
جمهوره من القراء هو أنصاف المثقفين.
٨١ وقد ترتَّب على ذلك تشابه العقدة في رواياته
التاريخية بل توشك أن تكون واحدة، وتستند في معظمها إلى
المصادفة والمغامرة. ويتحكَّم الجانب التاريخي لا في تطور
عقدة القصة الغرامية وبنائها فحسب، بل في نهايتها أيضًا،
«فإذا انتهى الحادث التاريخي بنكبة أصابت النكبةُ الأبطالَ
الخيرين أيضًا، كما حدث في رواية
العباسة أخت الرشيد التي قُتلت هي وحبيبها
جعفر. وإذا انتهت الأحداث التاريخية إلى نتيجة طيبة انتهى
الأبطال الخيرون إلى النهاية السعيدة كما يحدث في رواية
الانقلاب العثماني.»
٨٢ ودائمًا ما يقف اهتمام زيدان بالجانب التاريخي
حائلًا دون تسلسل الحدث الروائي وترابطه، فإذا دارت أحداث
الرواية في مدينتَين كما في رواية
الانقلاب العثماني التي تبدأ بوصف مدينة
سلانيك حيث يدور الحدث الروائي، نجده يقطع تسلسل الحدث
ليصف مدينة الآستانة وقصور يلدز عندما تنتقل الأحداث
إليها، فيستفيض في إيراد معلومات تاريخية وحضارية تتعلق
بمعمار المدينة وأحوال سكانها.
٨٣
وقد أثر تركيز زيدان على الجانب التاريخي واهتمامه
بالنزعة التعليمية في رسمه للشخصيات وتصويرها، فجاءت
الشخصيات مُتشابهة في كل رواياته، فالبطلان شخصيتان
مثاليتان، يتميزان دومًا بالفضائل، ويقوم بينهما حب عذري،
ويُحاول الحبيبان أثناء علاقة حبهما الدفاع عن مبدأ سامٍ
شريف، وثمة بطل شرير دومًا يُنافس البطل الخير في محبوبته،
ويسلك أحط الأساليب للتفريق بين الحبيبَين، على نحو ما
سيتَّضح تفصيلًا في الفصلين الثاني والثالث. «وإذا كانت
شخصيات جُرْجي زيدان تتشابه في خطوطها العريضة فإنها
تتشابه أيضًا في نفسياتها، فهي حين تعبر عن حبها أو قلقها
تعبر بصورة تكاد تكون متشابهة، فقلق الرشيد على عرشه هو
نفسه قلق السلطان عبد الحميد عليه، وحب كل بطلة هو نفسه حب
البطلة الأخرى، حتى إن مواقف الأبطال وتعبيرهم عن شعورهم
وانفعالهم إزاء الأحداث أو الطبيعة يتشابه في روايات
جُرْجي زيدان المختلفة.»
٨٤
وكما أثرت النزعة التعليمية في الحدث والعقدة وتصوير
الشخصيات وفق تنظيرات عبد المحسن طه بدر، أثرت أيضًا في
العلاقة بين السرد والحوار، إذ يميل زيدان إلى أسلوب سردي
مبسط لتوصيل المعلومات، فيقل الحوار ويتغلب عليه السرد
المبسط التوصيلي. وإذا اضطرَّ إلى الحوار نجد الشخصيات
تتخذ منه وسيلة لنقل المعلومات أيضًا، بدلًا من أن يكون
وسيلة للتعبير عن سيكولوجية الشخصيات وحركتها المتطورة.
وحين تقدم الشخصيات في الحوار شيئًا آخر سوى المعلومات
التاريخية نجدها تعبر عن أفكار المؤلِّف نفسه في صيغ عامة.
٨٥