تمثيلات الواقع في رواية «الانقلاب العثماني»
أولًا: عتبات النص
لم تكن العتبات تُثير الاهتمام قبل توسُّع مفهوم النص. ولم يتوسَّع مفهوم النص إلا بعد أن تمَّ الوعي والتقدم في التعرف على مختلف جزئياته وتفاصيله. ولقد أدى هذا إلى تبلور مفهوم التفاعُل النصي وتحقُّق الإمساك بمُجمَل العلاقات التي تصل النصوص بعضها البعض، والتي صارت تحتل حيزًا هامًّا في الفكر النقدي المعاصر.
(١) ثلاث عتبات في صفحة العنوان
-
العتبة الأولى: ينطوي عنوان العمل، دون ريب، على بعض المحددات
الدلالية التي لا يغيب عنها مقاصدُ المُرْسِل من
العمل، بل من المُمكن القول إن الباعث الأصلي على
هذه المحدَّدات الدلالية وتجليها إنما هو تلك المقاصد،٤ وعلى وجه التحديد «يكون العنوانُ صلةً
قائمةً بين مقاصد المُرسِل وتجلياتها الدلالية في العمل.»٥ والأكثر من هذا أن العنوان، في حقيقة
أمره، يُمثل «أعلى اقتصاد لغوي مُمكن».٦وينطوي العنوان — الانقلاب العثماني — بوصفِه إحدى عتبات النص على إيحاء بأعلى درجات التوتُّر، ذلك أن العلامة اللغوية، «الانقلاب»، تعني تغيرًا سريعًا غير مُنتظَر في الرأي أو الاتجاه، على نحو يُشير إشارة قوية واضحة إلى تحوُّل الأمور عن وجهها القائم المعمول به تحولًا يتَّسم بالجذرية أو الراديكالية. وذلك فضلًا عن أن كلمة «الانقلاب» تستدعي أصداءً دلاليةً أخرى إذا عُدنا بها إلى مادتها الأصلية، وهي الفعل الثلاثي «قَلَبَ»، وفي ذلك يذكر الفيروزابادي صاحب القاموس المحيط الآتي: «قَلَبَه يَقْلِبُه: حَوَّلَه عن وجهه […]، وقَلَبَ الشيءَ: حَولَه ظهرًا لبطن […]، وقَلَبَ اللهُ فلانًا إليه: توفاه، […]، وقَلَبَ النخْلَةَ: نزع قلبها […] والقليب: البئر […]، وشاةٌ قالِبُ لَوْن: على غير لَوْن أمها […] وما به قَلَبَةٌ، مُحركةً: داءٌ، وتَعَبٌ. وتقلب في الأمور: تصرفَ فيها كيف شاء […] والقُلَابُ […] داءٌ للقَلْب، وداءٌ للبعير يُميته من يومه.»٧ وكما يظهر، تتحرَّك العلامة اللغوية «الانقلاب» وسط مجال دلالي صاخب وشديد العنف، يتراوَح بين دلالة تحويل الأمور عن وجهها سواء أكانت صائبةً أم خاطئةً، ودلالة الوفاة وإنهاء الحياة، ودلالة المخالَفة والتغيُّر، ودلالة المرض، وأخيرًا دلالة التصرُّف في الأمور وفق المشيئة.ولكن العلامة اللغوية، «الانقلاب»، تتحرَّك وسط مجال دلالي آخر يُشير إليه المعجم الوسيط على النحو الآتي: «قَلبَ الأمورَ: نظر في عواقبها […] (انقلب) رجع وانصرف […] (الانقلاب): تحول الشيء عن وجهه. والانقلاب تغيير مفاجئ في نظام الحكم يقوم به في العادة بعض رجال الجيش.»٨ غير أنَّ هذه الدلالة اللغوية ذات الطابع السياسي تقتضي نوعًا من التدقيق الاصطلاحي، من خلال تتبع سريع وموجز لمعنى «الانقلاب» من الناحية السياسية.ظهر التعبير الفرنسي Coup d’État، الذي يُترجَم إلى «انقلاب»، بوصفه مُصطلحًا، في فرنسا القرن السابع عشر، للإشارة إلى ما يتَّخذه المَلِك من قراراتٍ مُفاجئةٍ مستهدفًا التخلصَ من كل العناصر المشتبه في أنها مُناوئة له. ولكن المصطلَح تطور في القرن التاسع عشر مكتسبًا دلالة عكسية على النحو الآتي:الانقلاب Coup d’État: محاوَلة ناجحة أو غير ناجحة للاستيلاء على السلطة أو إعادة صياغتها بطريقة غير دستورية أو غير شرعية، باستعمال القوة أو التهديد باستعمالها. ويقوم بالانقلاب عناصر تَنتمِي إلى الدولة، ويأخُذ صورًا مختلفة، منها: مبادرة مجموعة من الضباط كما حدث في ثورة القرنفل في البرتغال عام ١٩٧٤م، أو مبادرة الجيش كانقلاب عام ١٩٦٤م في البرازيل، أو مبادرة مسئول مدني كبير كانقلاب ديسمبر ١٨٥١م في فرنسا. ويُوجد شكل من الانقلابات هو الانقلاب السياسي الذي تقوم به هيئات عامة تابعة للدولة وَفق مخططٍ منهجيٍّ مُعَدٍّ سلفًا بغرض القلب العنيف للنظام القائم وتغيير الحُكام خارج الإجراءات الدستورية النافذة، وعندما يكون الجيش في أصل هذا العمل نكون أمام انقلاب عسكري. وقد يحدث أن تقوم بالانقلاب عناصر مدنية خارجة عن نطاق الدولة كانقلاب لينين في أكتوبر ١٩١٧م في روسيا. وتنطوي الانقلابات جميعها على استعمال العنف غير الشرعي وإن تفاوتت درجاته، فبعض الانقلابات شديدة العنف كانقلاب عام ١٩٣٤م في اليابان وانقلاب عام ١٩٣٦م في إسبانيا؛ وبعضها الآخر يتحقَّق بإشارة بسيطة بالتلويح بالقوة ضد رئيس الدولة القائم.٩
ومن ثم، يَفتح الاقتصادُ اللغوي الأعلى، الذي ينطوي عليه العنوان، عددًا من الاحتمالات الدلالية لكلمة «انقلاب» من الناحية السياسية، لن ينكشف ترجيح إحداها إلا بعد قراءة الداخل النصي؛ إذ يُعطينا الداخلُ النصي إفاداتٍ تُرجح أن جمعية الاتحاد والترقي — التي هي هيئة مدنية خارج مؤسسات الدولة العثمانية — لم تكن لتنجح لولا اتجاهها إلى ضمِّ عناصر عسكرية من الجيش الثالث العثماني، واتجاه هذه العناصر إلى تنفيذ عمليات اغتيال لقيادات عسكرية كبيرة تابعة للسلطان عبد الحميد الثاني؛ الأمر الذي يعني ترجيح دلالة الانقلاب العسكري الذي تمَّت أركانه يوم ٢٧ أبريل ١٩٠٩م بعزل السلطان عبد الحميد الثاني؛ وذلك بعد نهاية أحداث رواية «الانقلاب العثماني» — التي توقفت عند نَيْل الدستور في ٢٣ يوليو ١٩٠٨م على يد جمعية الاتحاد والترقِّي — بأقل من عام.
-
العتبة الثانية: وبالإضافة إلى العنوان، تُوجد عتبة ثانية أطلقتُ
عليها اسم «التعليق الوصفي»، وهو وصف المؤلف
لعنوان عمله الأدبي، أسفله مباشرة، بأنه «رواية
تاريخية»، الأمر الذي يُعطي انطباعًا قويًّا لدى
القارئ أنه بصدد عمل أدبي سيتولى عمليةَ تمثيلٍ
لواقعٍ ماضٍ في صورة روائية. ولكن سرعان ما يتضح
أن هذا الماضي بالنسبة إلى المؤلف هو جد قريب، بل
معاصر في حقيقة أمره، وأما بالنسبة إلى القارئ
الراهن فهو ماضٍ بعيد نسبيًّا يتجاوز القرن من
الزمان بعقد تقريبًا؛ وذلك لأن رواية الانقلاب العثماني
صدرت لأول مرة عام ١٩١١م، وتتناول أحداث الواقع
(التاريخي بالنِّسبة إلى القارئ الراهن) بدءًا من
أصيل يوم من أيام فصل الربيع سنة ١٩٠٧م،١٠ وتنتهي بنهاية يوم ٢٣ يوليو سنة
١٩٠٨م، كما تشير العتبة الثالثة — أيْ ما أطلقتُ
عليه اسم «التعليق الوصفي الشارح» — أسفل العنوان،
وكما تشير خواتيم الرواية؛ أيْ إنَّ الزمن الروائي
يشرف على العام أو يتجاوزه بقليل. ومن ذلك يمكن
استنتاج أن ما هو تاريخي بعيدٌ نسبيًّا بالنسبة
إلى القارئ الراهن هو بحد ذاته معاصر بالنسبة إلى
المؤلف. وربما تسمح تلك المُعاصَرة، لدى المؤلف،
بدرجة من التداخل بين ما هو سرد روائي تاريخي وما
هو سرد يتَّصل بما يُسمى أدب الشهادة
Testimonial
Literature. وهنا، من الممكن
إثارة تساؤل يكتسب مشروعية قوية: هل يُعد جُرْجي
زيدان (١٨٦١–١٩١٤م) — مؤلِّف الرواية — شاهدًا،
ومن ثم تُعد روايته منتمية إلى أدب الشهادة؟ أم
سنتعامل مع عمله الأدبي بوصفه «رواية تاريخية» كما
زَعَمَ في تعليقه الوصفي أسفل العنوان؟ ورغم
مشروعية السؤال وأهميته، سأُؤجلُ الإجابة عنه إلى
نهاية التحليل.
تُصوِّر الروايةُ التاريخيةُ كليةَ التاريخ؛١١ أيْ تعطي «صورةً أمينةً فنيًّا لعصر تاريخي محدَّد».١٢ وتَقتضي هذه الأمانة الفنية أن يستمد المؤلفُ فرديةَ شخصيات عمله من خصوصية عصرها التاريخية.١٣ وتكشف خصوصية العصر التاريخية عن طابع زمكاني للناس والظروف. ومِن المُمكن تلمس هذا الطابع الزمكاني في التعليق الوصفي الشارح أسفل عنوان الرواية بوصفِه العتبة الثالثة قبل الدخول إلى متن العمل أو داخله النصي.
- العتبة الثالثة: يقول التعليق الوصفي الشارح أسفل العنوان إن هذه الرواية التاريخية «تتضمَّن وصف أحوال الأحرار العثمانيين وجمعياتهم السرية، وما قاسوه في طلب الدستور … ووصف يَلدز وقصورها وحدائقها وعبد الحميد وجواسيسه وأعوانه، وسائر أحواله إلى فوز جمعية الاتحاد والترقِّي بنَيْل الدستور في ٢٣ يوليو سنة ١٩٠٨م» (الرواية، صفحة العنوان). فالنطاق المكاني الذي ستدور فيه أحداث الرواية هو نطاق الدولة العثمانية، وعلى وجه التحديد منطقة يلدز في الآستانة (القائمة حاليًّا ضمن حدود الدولة التركية)، بالإضافة إلى نطاقٍ مكاني آخر مُضمر في ذكر «جمعية الاتحاد والترقي»؛ إذ تَركزَ نشاطُ الجمعية الجديد الانقلابي، في ذلك التوقيت، في منطقة «سلانيك» بالنطق التركي، أو «سالونيك» بالنطق اليوناني (القائمة حاليًّا ضمن حدود الدولة اليونانية). وأما الزمان فهو الشهور السابقة على شهر يوليو من عام ١٩٠٨م، على نحو ما سلفت الإشارة.
ومن الممكن، أيضًا، العثور في هذا التعليق الوصفي الشارح المصاحب، الذي يعطي انطباعًا قويًّا بأجواء خلافية وصراعية، على مجموعة من الثنائيات المتعارضة التي تُوحي بها علامات لغوية صريحة من قبيل كلمة «الأحرار» في مقابل علامة لغوية مُضمَرة هي كلمة «العبيد»؛ و«الدستور» في مقابل علامة لغوية مضمرة هي «الحكم المطلق» أو «الاستبداد». ومن هنا، يتوقع القارئ — بفضل هذه العتبات الثلاث في صفحة العنوان — حين يذهب إلى قراءة العمل الأدبي أو متن الداخل النصي، أن هذا العمل سيضعه أمام صراع تاريخي واضح بين تلك الثنائيات المتعارضة في إطار زمكاني محدَّد.
(٢) الفصل الاستهلالي: حديقة البلدية والتناقض الحاد بين عهدين
وقد سلفت الإشارة إلى أنَّ التعليق الوصفي الشارح الذي وضعه المؤلِّف أسفل عنوان الرواية، في صفحة العنوان الداخلية، ينطوي على مجموعة من الثنائيات المُتعارضة، فهل ينطوي عليها الفصل الاستهلالي أيضًا؟
يأخُذ الفصل الاستهلالي عنوان «حديقة البلدية». وتأتي عبارتاه الأوليان على النحو الآتي: «سلانيك، أو سالونيك، من أكبر مدن المملكة العثمانية، وقد اشتهرت أخيرًا بنَيْل الدستور على يد أحرارها» (الرواية، ص٥). وتتكرر في هاتين العبارتين علامتان لغويتان ذُكِرتا من قبل في التعليق الوصفي الشارح أسفل عنوان الرواية في صفحة العنوان، كما سبقت الإشارة، وهما: علامة «الدستور» التي تستدعي نقيضَها المُضمر «الحكم المطلق» أو «الاستبداد»، وعلامة «الأحرار» التي تستدعي نقيضَها المضمر «العبيد». ولكن اللافت، هنا، أن البداية الأولى للفصل الاستهلالي تُعبر — في حقيقة أمرها — عن إقرار حقيقة واقعة تُمثل المحصلةَ النهائية لمتن العمل الأدبي. أيْ هي لحظة التتويج الأخير بعد صراع تاريخي بين الأحرار العثمانيين ومُمثلي الاستبداد أو الحكم المطلق، عبد الحميد وأعوانه في يلدز؛ ومن المفترض أن العمل سيَتناول هذا الصراع تناولًا روائيًّا.
في القرن الخامس عشر، أهدى تتار بلاد القرم السلطان سليمان القانوني فتاة يهودية روسية اسمها (روكزيلان) كانوا قد سبَوها في إحدى غزواتهم. ولشدَّة جمالها افتتن بها القانوني فاتخذها زوجةً له وسماها (خُرم سلطان)، وبفضل نفوذها في القصر زَوَّجتِ ابنتَها مهرماه من اللقيط الكرواتي رستم باشا، وتمكَّنت من قتل الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) إبراهيم باشا، ونَصْب صهرها رستم باشا مكانه. ولم تَكتفِ بهذا بل دبَّرت مؤامرة استطاعت فيها خنق ولي العهد مصطفى بن سليمان القانوني من زوجته الأولى للإطاحة بوالده، ونصبت ابنها سليمًا وليًّا للعهد.
•••
وفي الفقرة الثانية من الفصل الاستهلالي، يصف الراوي حديقة البلدية في سلانيك التي تُعد:
أحسن متنزَّه لتمضية الأوقات في المنادمة والمحادثة […] يأتيها طلاب التنزه أو اللهو نهارًا أو ليلًا، ولا سيما بعد الظهر إلى العشاء … فإنك تجدها غاصةً بهم، وفيهم الشاب، والشيخ، والصبية، والعجوز … أزواجًا أو ثلاثًا، أو جماعاتٍ، على اختلاف الأديان والأجناس، من الإفرنج، أو اليهود، أو الأتراك، على تباين عاداتهم وأخلاقهم … بعضهم يجلسون إلى الموائد يَتناولون المشروبات؛ والبعض الآخر يتمشون في طرقات الحديقة بين الأشجار … يتمتَّع الناس بالتفرج بعضهم على بعض، وقد اختلط الحابل بالنابل، وكل منهم في شاغل بنفسه أو بعائلته وأولاده، يراعيهم ويُهيئ لهم ما يطلبون أو يتحدَّثون بما يطيب لهم بغير مراقبة أو حذر … (الرواية، ص٥–٦).
وهكذا تبدأ الرواية بوصف مشهد الحديقة، وهي غاصة بزوارها على اختلاف أعمارهم وأجناسهم، وذلك بعد نَيْل الدستور وانتقال البلاد من الحكم المطلق إلى الحكم النيابي، ومن الاستبداد إلى نَيْل الدستور والحرية. ثم يلي هذا المشهدَ على الفور المشهدُ النقيضُ الذي يصور الحديقةَ وزوارها في عهد الاستبداد والحكم المطلق قبل نَيْل الدستور، حيث تبدأ أحداث الرواية في أصيل يوم من أيام فصل الربيع عام ١٩٠٧م، ولكن قبل إيراده يتدخل الراوي بتعليق شديد الأهمية على ما يُسمِّيه «عهد عبد الحميد»:
وأما في زمن الاستبداد على عهد عبد الحميد، فكان الناس إذا دخلوا الحديقة أو غيرها من أماكن الاجتماع تخاطبوا همسًا، خوفًا من جاسوس أو واشٍ يغتنم كلمةً يسمعها … فيعمل على نقلها إلى المابين وأصحابه، فيُعرض قائلَها للموت أو الخراب … وقد لا يكون لذلك القول غرض أو مغزًى. ولكن الجاسوسية في زمن ذلك الطاغية بلغت مبلغًا لم يكن له شبيه في زمن من الأزمان، ولا سيما في أواخر أيامه، إذ تبدأ روايتنا هذه … (الرواية، ص٦).
في زمن الاستبداد والطغيان يُصبِح القتل على الشبْهة فعلًا يوميًّا عاديًّا، ويُشيع الموت والخراب. وفي مقابل هذه الصورة المفزعة، يَنتقِل الراوي في الفقرة الأخيرة التالية مباشرةً لهذا التعليق إلى وصف حديقة البلدية التي ستَشهد اللقاء بين بطليْ الرواية، شيرين ورامز، المنتميَيْن إلى جمعية الاتحاد والترقي السرية، المناهضة للسلطان عبد الحميد:
ففي أصيل يوم من ربيع سنة ١٩٠٧م، كانت الحديقة المشار إليها في أبهى حُلَلِها، قد كستها الطبيعة حُلةً خضراءَ مزركشةً بالأزهار والرياحين … وصفا الجو وفاحت رائحة الزهور بأجمل ما يكون. وتقاطر الناس إليها على جاري العادة، وفيهم النساء أكثرهن بالزي الإفرنجي، وبعضهم [كذا] بالزي التركي … والتركيات إذا أتين الحديقةَ اخترن ناحية منها منفردة يجلسن إليها حتى لا يَكُن عُرْضةً لعيون المارة … هناك تحت شجرة من الكستناء غضة الأغصان، جلست امرأة متوسطة العمر على مقعد من مقاعد الحديقة، وإلى جانبها فتاة في مقتبل الشباب … ولو أتيح لك رؤيتهما، لرأيت ما يستوقف الخاطر من جمال وأدب وذكاء وكمال (الرواية، ص٦–٧).
يأتي الوصف مبهجًا؛ فالوقت أصيل، والفصل ربيع، والحديقة في أبهى حللها؛ والفتاة شيرين والمرأة المتوسطة العمر التي هي والدتها، على درجة كبيرة من الجمال والأدب والذكاء والكمال. وكأن حرية الطبيعة وجمالها يتجاوبان مع ما تعتنقه شيرين من إيمان بالحرية في مقابل استبداد عبد الحميد وطغيانه. وهكذا، ينطوي الفصل الاستهلالي أيضًا على مقابلة بين حالين مُتعارضين.
ويُمكن الخلوص، بعد تحليل العمليات السردية في الفصل الأول الاستهلالي، إلى النتيجة المهمة الآتية: إنَّ الثنائيات المتعارضة التي تتَّخذ طابعًا فكريًّا والتي انطوت عليها صفحة العنوان الداخلية بعتباتها الثلاث، تجد رَجْعَ صداها القوي في الفصل الاستهلالي الأول من خلال عمليات سردية تجسيدية.
ثانيًا: الأساس الاجتماعي ﻟ «الانقلاب العثماني»
(١) مفهوم النظام الأبوي
(٢) آليات توليد النظام الأبوي في الأسرة
وبالاستناد إلى الإيضاح السابق، من المُمكن استنتاج الآتي: كلما تَعَزَّزتْ سلطةُ الأب ورَسَخَتْ داخل الأسرة، تَعَززتْ سلطةُ الحاكم في الدولة ورَسَخَتْ. وفي المقابل، كلما تداعتْ سلطة الأب واضمحلتْ داخل الأسرة أو باتت في طريقها إلى التآكل، تداعتْ سلطة الحاكم في الدولة واضمحلَّت أو باتت في طريقها إلى التآكل.
(٣) بِنْية أُسْرة شيرين وتصدُّع سلطة الأب
تتكون أسرة شيرين التركية من ثلاثة أفراد: الأب طهماز، والأم توحيدة، والابنة شيرين التي هي فتاة في مُقتبَل الشباب. ويتصادف أن هذه الأسرة تعيش في فجر القرن العشرين لحظةً من لحظات التحول الاجتماعي على مستوى أعراف المجتمع وتقاليده. وتتكاتَف ظروف عديدة، موضوعية وشخصية، تجعل سلطةَ الأب تبدو متصدعة أو في طريقها إلى الانهيار. ومن الواضح أن الظروف الموضوعية تتعلق بما تُسميه الأم توحيدة «مُقتضى التمدن الحديث» (الرواية، ص٤٢) من انتشار التعليم وإتاحة المدارس أمام البنات، وازدهار الصحافة وحب المطالعة؛ فضلًا عن أن الأم توحيدة هي التي حملت زوجها «على التساهل في أمر الحجاب جَرْيًا على مقتضى التمدُّن الحديث … على أن الأتراك وخاصة في سلانيك كانوا قد خففوا الحجابَ على الإجمال؛ فالمرأة تُجالِسُ الرجالَ وهي مكسوة الرأس بالنقاب، أو الشال … ولم يكن طهماز يأذن لزوجته أن تلاقي سوى الأخصاء من معارفه مثل صديقه صائب» (الرواية، ص٤٢).
وإذن، تُوجد أسرة شيرين في ظرف موضوعي خارجي، يتعلق بطبيعة المجتمع الآخذ في تلك الفترة بأسباب التمدن الحديث والجَرْي على مقتضياته. أما عن الظرف الشخصي الداخلي المتعلِّق بأسرة شيرين نفسها، فمن المُمكن القول إن أسرة شيرين تقع في منطقة وسطى بين المحافَظة التقليدية والتمدُّن الحديث أو التحرُّر، فعلى سبيل المثال لم يكن الأب طهماز يسمح لزوجتِه أو ابنته إلا بمُلاقاة الأخصاء من معارفه، وليس أي أحد. وهو ما يكشف عن درجة من السيطرة أو الهيمنة الذكورية التي تُعد آلية أساسية من آليات النظام الأبوي، ولكنها — فيما يبدو — هيمنة مهتزة على نحو ما سيتَّضح من التحليل في الفقرات الآتية.
ينتهي الفصل الاستهلالي «حديقة البلدية» بظهور الأم توحيدة وابنتها شيرين، بمفردهما، في مكان عام هو حديقة البلدية؛ إذ يتحدَّث الراوي عن توافد الناس إلى الحديقة على جاري العادة في أصيل يوم من أيام فصل الربيع عام ١٩٠٧م:
وفيهم النساء أكثرهن بالزي الإفرنجي، وبعضهم [كذا] بالزي التركي … والتركيات إذا أتين الحديقة اخترن ناحيةً منها منفردةً يجلسن إليها حتى لا يكن عُرْضةً لعيون المارة … هناك تحت شجرة من الكستناء غضة الأغصان، جلست امرأة متوسطة العمر على مقعد من مقاعد الحديقة، وإلى جانبها فتاة في مقتبل الشباب … ولو أتيح لك رؤيتهما، لرأيت ما يستوقف الخاطر من جمال وأدب وذكاء وكمال» (الرواية، ص٦–٧).
يكشف تحليل العلامات اللغوية، وبخاصة المقابلة بين النساء ذوات الزي الإفرنجي والنساء التركيات بالزي التركي، عن أن المرأتين، الأم توحيدة وابنتها شيرين، تقعان في منطقة وسطى بين المحافَظة التقليدية والتمدن الحديث، أو بين التحجب والسفور؛ وذلك أن توحيدة وابنتها اختارتا ناحيةً في الحديقة شِبْه متوارية عن الأنظار، كما تفعل النساء التركيات؛ فالأم وابنتها، مع أنهما خارج المنزل في مكانٍ عام بعيدًا عن سلطة الرجل (الزوج والأب)، فهما مَستورتان نسبيًّا، ففضلًا عن أنهما تنتحيان جانبًا من الحديقة، نجدهما تجلسان تحت شجرة كستناء؛ ومعروف أن شجر الكستناء كثيف ظليل يساعد على التواري عن الأنظار. وأما فيما يتعلَّق بالزي، فنجد الحالة الوسطى نفسها بين التحجب والسفور، التي تُميِّز زي النساء التركيات الحديث في مقابل الزي الإفرنجي، يقول الراوي: «كان لباس المرأتين نموذجًا للزي التركي الحديث … لا يظهر منه إلا رداء بني اللون كالبرنُس، له أكمام … يكسو الجسم كله كالجبة الواسعة، وعلى الرأس خمار شفاف يكسوه كله إلا جانبًا من الوجه. وكان شعر المرأة الكهلة مضفورًا على النظام القديم … أما الفتاة فقد ضفرته على النمط الإفرنجي وغطته بالنقاب الشفاف» (الرواية، ص٧). ويتجاوب هذا الزي الحديث مع ما تتصف به المرأتان من «جمال وأدب وذكاء وكمال».
وكانت شيرين ذات جمال جذاب مهيب، وفي عينيها ماء لامع ينم على الذكاء وسرعة الخاطر، وعلى شدة عاطفة الحب … وكانت طويلة القامة مع اعتدال وتَناسُب، والصحة بادية في محياها وقوة الإرادة ظاهرة حول فمها … لا ينظر إليها ناظر إلا هابَها، وقد زادها العلم رونقًا وطلاوة؛ لأنها تثقفت أحسن ثقافة، وهي تجيد التركية، والفرنسية، والرومية، لغة تلك البلاد كلامًا وكتابة، والفضل في ذلك إلى والدتها … فقد كانت من فضليات النساء وأقواهنَّ عقلًا، وقد ربَّت ابنتها على الحرية وصدق اللهجة … فشبَّت شيرين كبيرة النفس، قوية العزيمة، تكره الظلم والظالمين. وقد أحبَّت رامزًا كاتب تلك المقالة وأحبَّها منذ الصغر […] فنشأت شيرين ورامز معًا وقد تحابَّا، وامتزجت روحاهما وتعاهَدا على الزواج … (الرواية، ص٨–٩).
وإذن، تتميَّز شيرين — ومن ثمَّ والدتها توحيدة — برجاحة العقل وقوته وبالثقافة الرفيعة، وبخاصة شيرين التي تتكلَّم ثلاث لغات هي التركية والفرنسية والرومية، يُضاف إلى ذلك دقة الشعور لدى شيرين إلى درجة التنبؤ «فلا يكاد جليسها يهم بالكلام حتى تفهم مرادَه» (الرواية، ص٣٥)، فضلًا عن أن المرأتَين تتميَّزان بدرجة عالية من الوعي السياسي جعلتهما مهتمتَين بالشئون العامة ولا سيما السياسية، وإن كانت شيرين تتفوَّق على أمها بقوة الإرادة وصلابتها. وإلى هذه الإرادة الصلبة، تتميَّز أيضًا بالاعتدال ورباطة الجأش على نحو كان يُمكنها من مناقشة رامز فيما يكتب من مقالات سياسية حماسية متطرِّفة، فكانت «تنتقده وتُباحِثه، فيلذ له الرجوع إلى رأيها …» (الرواية، ص١٠). ولكن تنبغي الإشارة، هنا، إلى أن ما تتميَّز به الأم توحيدة وابنتها شيرين من وعي ثقافي وسياسي، إنما هو — في حقيقة أمره — نتاج طبيعي للاهتمام بالتعليم وإنشاء المدارس وإتاحة الفرصة للبنات أن يتلقَّين حظًّا وافرًا من التعليم. والأكثر من هذا أن الأمَّ توحيدة تجيد القراءة كما يظهر من بعض المواضع في الرواية (انظر الرواية، ص٤٤).
ومن الواضح أيضًا أن العلاقة بين شيرين ووالدتها توحيدة علاقة قوية، على عكس علاقة شيرين بوالدها طهماز، يقول الراوي:
وكانت رابطة شيرين بوالدتها أشد من رابطة سائر البنات بأمهاتهن؛ لأنَّ شيرين كانت مستودع أسرار تلك الوالدة التعسة التي خانها الحظ وصارت زوجة لذلك الرجل الجاهل … فاحتملَت فظاظته وحماقته إكرامًا لابنتها، فربَّتْها أحسن تربية … وحينما كبرت اتخذتها صديقة تشتكي إليها همومها ومصائبها، وهي التي سهلت عليها الاجتماع برامز (الرواية، ص٦٦).
وفي مقابل الأم توحيدة وابنتها شيرين، يتميَّز الأب طهماز بأنه جاهل، و«ضعيف الإرادة بسيط القلب لا يُؤمَنُ معه أن يَستغويه بعض الجواسيس ويسرق منه خبرك … إنَّ طهماز قوي البدن ولكنه ضعيف الإرادة» (الرواية، ص١٤). ويقدمه الراوي عند ظهوره لأول مرة، في حديقة البلدية، بصفات جسدية ذكورية تتَّسم بالقوة، وأما من الناحية المعنوية أو النفسية فيقدمه على حال يقترب به من الدناءة، يقول الراوي:
فتَقدمَ والدُها طهماز وكان كبير الجسم عظيم العضل، كبير الرأس، واسع الفم، غليظ الشفتَين، معروفًا بين أهله ومعارفه بقوة الساعدَين. يلبس ثوبًا واسعًا أشبه بما يلبسه أهل الأناضول. يَرفع الرجلَ بيده الواحدة ويرميه إلى الأرض كأنه رغيف. وكان كثير الإعجاب بقوته وهي الهِبَة الوحيدة التي وهبته إياها الطبيعةُ، لأنه كان ضعيفًا فيما خلا ذلك … وكان جشعًا نهمًا، لا تكاد تراه إلا وفي فمه شيء يَمضغه من حلوى، أو ياميش، أو طعام. وكان ساعتئذٍ يأكل كعكة تناولها من أحد الباعة في الطريق … فلما دنا من زوجته وابنته، ألقى التحية ببرود ولم يُسلِّم عليهما إلا ليقدم لهما صديقه الفاضل الوجيه صائب بك (الرواية، ص١٥).
ومن الملاحظ أن وصف طهماز بضعف الإرادة الذي يقدح في الرجولة الحقة، يأتي على لسان زوجته توحيدة التي لا تُفوت موضعًا مناسبًا إلا وأظهرت جانبًا من شخصية زوجها «لعلمها أن زوجها لم يُعْطَ الثبات والحزم إلا في معاكستها … فهو ضعيف مع كل إنسان، كثير الإصغاء والإذعان لأهل الدسائس، يُدَار بكلمة ويُقَاد بشعرة إلا مع امرأته، فإنه عنيد معها لا يرجع عن قوله لأنه يَعد رجوعَه ضعفًا … فكيف وهو رجل البيت لا يكون كلامه نافذًا؟» (الرواية، ص٣٩). ومن ثم، لا يتمتع طهماز، بوصفه زوجًا وأبًا، بموقع مركزي في الأسرة إلا من الناحية الصورية، الأمر الذي يمكن معه الحديث عن هيمنة ذكورية شكلية ونظام أبوي مُهتز وغير ثابت، ولكن تلك الهيمنة الذكورية الشكلية والنظام الأبوي المهتز غير الثابت، وإن كانا ناتجين عن سمات طهماز الشخصية الدنيئة فهما ناتجان بالقدر نفسه عن لحظة تحول تاريخي يمر بها المجتمع التركي مع مطالع القرن العشرين، وهو ما يتَّضح من حوار بين طهماز وزوجته توحيدة بشأن طلب صائب بك أن يخطب شيرين لنفسه:
قالت توحيدة: «لا نستطيع أن نخطبها لأحد إلا بإرادتها». فهز رأسه، وقال: «إنَّ بنات هذا العصر مثل شبابه، لا يعملون إلا ما يخطر لهم … وكنا في زماننا نُلقي اتكالنا على آبائنا، وهذا هو سبب الشرور التي نراها تنتابنا من كل ناحية. لم يَعد يعجبنا العجب … نريد أن نتدخَّل في كل شيء ونعمل على هوانا حتى صرنا نطلب أن نُشارك سلطاننا في الحكم، وإذا أبى علينا ذلك نقمنا عليه وأردنا قتله … ما لنا ولذلك، فاذهبي الآن إلى شيرين وأقنعيها بوجه الحق وأفهميها مركز صائب وأهميته» (الرواية، ص٣٤).
يبدو طهماز هنا معبرًا عن الجيل القديم واستحكام مركزية الرجل/الزوج والأب فيه. وتبدو أسرة شيرين متصدعة ومشقوقة إلى جناحين متقابلَين: الأب بمنظوره الأبوي التقليدي القديم، والابنة شيرين بمنظورها التحرري الحديث، وتُساندُها أمها بكل ما أوتيت من قوة ومكر ودهاء. لكن المهم في هذا الشاهد أن طهماز نجح ببراعة في التعبير عن العلاقة التكافُلية بين النظام الأبوي في موطنه الأُسَري الأولي ورأس النظام السياسي للدولة. وذلك على النحو الذي يؤكد فرضية ذكرتُها سابقًا؛ ألا وهي: كلما تَعَززتْ سلطةُ الأب ورسخت داخل الأسرة، تَعَززتْ سلطةُ الحاكم في الدولة ورسخت؛ وفي المقابل، كلَّما تداعتْ سلطة الأب واضمحلتْ داخل الأسرة أو باتت في طريقها إلى التآكل، تداعتْ سلطة الحاكم في الدولة واضمحلَّت أو باتت في طريقها إلى التآكل. إنَّ اهتزاز مركز الأب في الأسرة أو عدم رسوخ النظام الأبوي في موطنه الأصلي — الأسرة — يُعرض النظامَ السياسي للاضطراب، ويغامر برأس الدولة: السلطان عبد الحميد بحكمه الفردي المطلق.
يُعبِّر طهماز، هنا، عن التحول الذي طرأ على الجيل الجديد من الشباب الأتراك فتيانًا وفتيات؛ أي التحول نحو الحرية، وبخاصة حرية الإرادة التي تَتنافى مع الهيمنة الذكورية أو مركزية الرجل/الزوج والأب على مستوى الأسرة، وعلى مستوى الدولة. فما إن تهتز مركزية الأب داخل الأسرة حتى تهتز مركزية الحاكم على المستوى السياسي. منظور الجيل الجديد من الشباب الأتراك الذي يدينه طهماز هو منظور ديمقراطي تشاركي يُناهِض الانفرادَ بالرأي والاستبدادَ سواء داخل الأسرة أو على مستوى الدولة.
وكانت شيرين قد تعبت من تكرار الرفض، وملَّت الجدال، وقد أخذ الهُزَال منها مأخذًا عظيمًا، وأيقنت بموت رامز وكرهت الحياة، فلما خاطبها والدها بهذه اللهجة سكتت، لكنها أعدت خنجرًا ماضيًا خبأته تحت أثوابها، وعزمت إذا لم تجد لها نجاةً أن تقتل صائبًا وتنتحر (الرواية، ص٣٤٧–٣٤٨).
ومن الملاحظ أيضًا أن الحديث عن شيرين، هنا، بهذه النظرة الدونية — على خلاف ما هي عليه في الحقيقة من حيث إرادتها الحرة التي تسعى جاهدةً إلى التعبير عنها سواء في حياتها العاطفية أو في المستوى السياسي بتأييدها مطالب جمعية الاتحاد والترقي — يقترن بانتقاد طهماز لشذوذ الرجال الذين يخرجون على الخليفة ويسعون إلى قلب نظام الحكم. ويؤكد هذا الاقترانُ المتكرر وجودَ رابطة قوية بين دَعْم النظام الأبوي وترسيخه على مستوى الأسرة وبين الحكم الفردي المطلق في نظام السلطان عبد الحميد الاستبدادي. ويختم طهماز كلامه بالتحسر على تغير الزمان وانقلاب أحواله، في إشارة قوية واضحة إلى سلطته الأبوية المهتزَّة غير الثابتة التي تتزامن مع حركات الخروج على نظام السلطان عبد الحميد وإرادة قلب نظام حكمه.
ولكننا إذا أنعمنا النظر في قول طهماز، سنكتشف حقيقة أخرى من حقائق الحكم المطلق، ألا وهي أن الاستبداد يؤكد قمعًا وقهرًا مُتسلسلًا هَرَميًّا، يبدأ من رأس نظام الحكم المطلق هابطًا إلى الأسفل، ويشمل الرجالَ والنساءَ على السواء. وذلك أن وصف الرجال الخارجين على السلطان عبد الحميد بالشذوذ، ينطوي ضمنًا على تأكيد نقيضهم؛ أي الرجال المنصاعين قهرًا لحكم السلطان، الرجال العاديين الذين يندرجون في شمولية الحكم المطلق دون الاعتراض عليه، والذين يقع عليهم القهر والقمع من رأس السلطة، فيمارسونه من ثم على مَن دونهم، أيْ على النساء، وذلك وفق عملية إنتاج للقهر والقمع تُعيد توليدَ نفسها تلقائيًّا وتتصف بالشمول.
(٤) الانقلاب الضمني في الأدوار: مركزية المرأة
إنَّ ترسيخ السلطة الأبوية واستدامتها، يَستندان دومًا إلى استمرار المرأة في إعادة إنتاج السلطة الأبوية عبر الاستجابة لها. فالنساء يَعملن، بقصد أو دون قصد، على إعادة إنتاج النظام الأبوي عبر الخضوع له، وبذلك يُعِدْنَ إنتاجَ القهر الذكوري المُمارَس عليهن. فعلى سبيل المثال، تعلم الزوجة توحيدة علم اليقين حقيقة زوجها وأنه لا يمارس رجولته إلا عليها، وأنه جاهل ناقص العقل، ويؤذيها باستمرار بعدم احترامه لها، ومع ذلك ضَحتْ بحريتها وإرادتها وعقلها في سبيل ابنتها شيرين التي ربتها أحسن تربية، وهي بتضحيتها ترضخ لقهره الذكوري وتعيد إنتاجه عبر الاستجابة للأعراف والتقاليد الداعِمة للقهر الذكوري، وذلك مع علمها المؤكَّد بأن سلطة زوجها الذكورية هي سلطة صورية بلا مضمون حقيقي. فمثلًا، رغم أن توحيدة هي التي بادرت إلى حَمْلِ زوجها على التساهل في أمر الحجاب جَرْيًا على مقتضى التمدن الحديث، نجدها تؤمن بضرورة الفصل بين الجنسين استجابة لتقاليد أبوية قديمة، وهو ما يتَّضح جليًّا حين جاء صائب بهَدية إلى شيرين لكي يستميلها إليه، واقترح الأب طهماز أن يدخل صائب إلى غرفة نوم شيرين ويتحدَّثان على انفراد حتى يقنعها بقبول الهدية، فنجد رد فعل توحيدة مناقضًا تمامًا لطلب طهماز، وهنا «ارتبكت توحيدة من هذا الاقتراح لأنه يُخالف العادة المألوفة» (الرواية، ص٥٢). ولكن توحيدة في موقف آخر مع زوجها طهماز ترفض طلب زوجها طرد خادمهما خريستو ذي الأصول الألبانية بسبب ميوله التحررية المناصِرة لجمعية الاتحاد والترقي؛ إذ يقول طهماز عقب اختفاء شيرين من البيت: «ستجدينها بعد قليل … ولكن يظهر من ذهابها مع خريستو أنها هربت، وكم من مرة أردت إخراج هذا اللعين من بيتنا وأنت ترفضين … إنه من جملة أسباب تمسك شيرين بعنادها ومتابعة أولئك المغرورين الذين يُسمُّون أنفسَهم أحرارًا — لأنه من أهل ذلك الجنون أيضًا» (الرواية، ص٧٠).
كذلك أيضًا تميل الزوجة توحيدة إلى اتباع أسلوب الحيلة والمكر وتجنُّب الصدام في بعض المواقف، ويُعد هذا الأسلوب نتيجة مباشرة لخضوعها للقهر الذكوري المُمارَس عليها من قبل زوجها طهماز. وهو ما يظهر واضحًا من محاولتها إغراء ابنتها شيرين على النوم كيلا تسمع ما يدور بين أبيها وصائب من حديث بشأن خطبتها له (انظر الرواية، ص٤٣). وبعد حوار طويل بين شيرين وصائب انتهجت فيه شيرين أسلوب الرفض والمواجهة الراديكالية، وانتهى بتهديد صائب لها بإبلاغ قصر المابين في يلدز عن علاقتها بجمعية الاتحاد الترقي، حاولت والدتها توحيدة بعد انصراف صائب إقناع ابنتها شيرين باتباع أساليب الحيلة والمكر بدلًا من المواجهة الصريحة، فتقبَل خطوبةَ صائب حتى تُخلص حبيبَها رامزًا من الموت على يد السلطان عبد الحميد. وبذلك تُريد توحيدة من ابنتها أن تستجيب لسلطة الأب الذي يريد مصاهرة الجاسوس صائب بك، حتى لو كانت استجابة شيرين تعني الاستجابة لسلطة الأب وفي الوقت نفسه الاستجابة لسلطة نظام الحكم المطلق المتمثلة — في هذا الموقف — في صائب بك. ولكن شيرين لا تُوافق على أسلوب التحايل والمكر، وتُفضل السير في طريق الاعتراض الجذري حتى لو كان الثمن هو موت حبيبها رامز وموتها معه (انظر الرواية، الفصل ٦٦ «شيرين ووالدتها»، ص٦٦–٦٧).
وبعد حوار أمها معها، اختفت شيرين التي فضلت السفرَ إلى يلدز حيث قصر المابين مقر حكم السلطان عبد الحميد، ومواجهته، أيْ: مواجهة رأس السلطة السياسية الأبوية المستبدَّة. إن هذا التصرف الراديكالي من شيرين لافت للنظر، ويفرض على القارئ إعادة النظر في شخصية شيرين نفسها ومحاولة الوقوف على طبيعة دورها في أحداث الرواية عمومًا، والتساؤل عما إذا كانت هي التي تُحرك الأحداث في العمل الأدبي وتدفعها إلى الأمام.
أولًا: لا بد من الإشارة إلى أن الرواية تبدأ بتقديم شيرين والحديث عن مواهبها سواء الخِلْقية أو الخُلُقية أو الثقافية أو العقلية، وصفاتها النفسية من حيث الصلابة وقوة الإرادة، مع الإشارة إلى وجود علاقة عاطفية بينها وبين رامز منذ الصغر. وواقع الحال أن رامزًا يندفع في انضمامه إلى «جمعية الاتحاد والترقي»، بل يستمر على ما هو عليه من الدعوة إلى التحرر والمطالبة بالدستور ومُناهَضة الحكم الفردي بمؤازرة قوية وتشجيع دائم من شيرين، بل يقترب موقعها في العلاقة من ما يمكن تسميته «المركزية الأنثوية» الجديدة في مقابل المركزية الأبوية القديمة التي يعتنقها والدها طهماز، فهي المحور الذي يدور حوله كل عمل رامز. يقول الراوي عن رامز أثناء ترحيله إلى سراي الحكومة مخفورًا، أيْ تحت الحراسة المشددة، بعد أن وَشَى به صائب بك، جاسوس السلطان:
فكان وهو في المركبة المقفلة مستغرقًا في تصوراته، وقد علم أنه مُساق إلى أشد الأخطار، فلم يُبَالِ بشيء منها، لولا شيرين … لأنها كانت مستقر آماله ومستودع مسراته. يَكفيه منها نظرة وُدٍّ، أو كلمة إعجاب بما يكتبه حتى يستفزه الطرب وتَهُب فيه الحماسة ويَنْشَطَ إلى مواصلة الأخذ بناصر الأحرار. وكانت هي التي زادته تمسكًا بأذيال الحرية والدفاع عنها بشدة، والطعن في الظالمين … حتى تَهورَ وألقى بنفسه في ذلك الخطر (الرواية، ص٧٦).
بل تتأكَّد مركزيةُ الأنثى في ذلك العصر الجديد، عصر التمدن الحديث وقتذاك، من خلال تعليق الراوي مستطردًا في الكلام عن دور المرأة بطريقة تعصف تمامًا بالنظام الأبوي وأعرافه ذات الهيمنة الذكورية المزعومة، يقول الراوي بعد الفقرة السابقة مباشرة:
وللمرأة رُوح تبثها في قلب الرجل، فتنبه عقله وتثير همته، ويصبح طوع إرادتها … يحب ما تحب، ويتفانى في سبيل ما يُرضيها. فإذا كانت قوية المبدأ، سامية الخلق، شريفة الإحساس، صعدت به إلى سماء المجد، وأصبح همه التخلُّق بتلك الأخلاق. وقد علمتَ أن شيرين كانت مفطورةً على حب الحرية تعشقها وتتغزَّل بها، فكيف لا يعشقها رامز ويتفانى في نصرتها … وكم من قائد يخوض ساحة الوغى ويعرض حياته للخطر … وهو لا يرجو من وراء ذلك إلا ابتسامة من حبيبته، أو كلمة إعجاب من شفتيها. وكم من عالم، أو كاتب، أو فنان، أو مصلح، إنما يشقى في جهاده التماسًا لرضى حبيبة عاقلة، فُطِرَتْ على حب هذه الفضائل … فيا لسعادة الأمة التي تسمو فيها أخلاق المرأة حتى تعشق الفضائل فتكون عونًا للرجل على المبرات، أو الحسنات، أو السعي في سبيل الحق والحرية … إذ تكون محرضة له تستنهض همته بنظرة أو كلمة … الأم تحفز ابنها، والحبيبةُ حبيبَها، والأختُ أخاها … وويلٌ للأمة التي انحطت فيها أخلاق المرأة، فاقتصر همها على الطعام والشراب، وانحصرت أحاديثها في الخرافات والأوهام (الرواية، ص٧٦–٧٧).
من الواضح، هنا، أن الراوي يتبنى منظورًا للمرأة بوصفها محور حياة الرجل، وليست تابعةً له. المرأة، هنا، ليست مهيضة الجناح، أو تحتل مرتبةً أدنى من الرجل، وإنما الرجل طَوْع إرادتها، وهو ما نجده متحققًا في علاقة شيرين برامز كما سلفت الإشارة. إن روح المرأة، فيما يُشير الراوي، تسري في حنايا الرجل إلى الحد الذي يُشكله تشكيلًا، وبها تسمو الأمم أو تنحط.
بل تتطرَّف شيرين في مطالبتها بالحرية وتغذية الأحرار من أعضاء جمعية الاتحاد والترقي بتحرُّكات راديكالية في سبيل تحقيق مطالبهم ونَيْل الدستور، من خلال التحريض على قتل السلطان عبد الحميد حتى يسقط نظام حكمه، ويظفر به أعضاء جمعية الاتحاد والترقي. ففي إحدى مكاتبات شيرين لرامز تقول له إن بقاء الذات الشاهانية — تقصد السلطان عبد الحميد — يُعد مصيبةً على الأمة (انظر الرواية، ص٥٧). وفي مكاتبة أخرى، تحرض الأحرارَ — أعضاء جمعية الاتحاد والترقي — على قتل السلطان صراحةً حين تقول إنها تستغرب «صبر الأحرار على بقاء هذا السلطان على قيد الحياة» (الرواية، ص٥٨).
وإذا كانت الفتاة الشابة شيرين تُحرِّك الأحداث بطريقة واعية مقصودة، إيجابيًّا، من خلال علاقتها بحبيبها رامز، بمناقشتها ما يكتبه في الجرائد من مقالات مُناهِضة لنظام حكم السلطان عبد الحميد الاستبدادي وتقوية عزيمته على النضال ضد الظلم والظالمين، فهي تُحركها بطريقة غير واعية وغير مقصودة، سلبيًّا، من خلال علاقتها بالجاسوس صائب بك المسئول عن تعقب أخبار أعضاء جمعية الاتحاد والترقي في سلانيك. إذ لما رآها صائب في حديقة البلدية وقع الإعجاب بها في قلبه، ولكنه أدرك على الفور نفورها منه وميلها الواضح إلى حبيبها رامز، فأخذته الغيرة والغيظ من رامز وكان يتعقَّب نشاطه السري في جمعية الاتحاد والترقي، فقرر صائب التعجيل بالوشاية به لدى السلطان حتى يخلو الطريق له أمام شيرين. وهكذا تبدأ أحداث الرواية، ومحورُها شيرين محركة الأحداث. فمن ناحية، أُلقي القبض على رامز، وجرى إرساله إلى يلدز حيث يقيم السلطان عبد الحميد من أجل التحقيق معه؛ ومن ناحية أخرى بدأ صائب بك في التقرب من والد شيرين واستمالته من خلال الإنعام عليه بلقب سلطاني، مُوقع من السلطان عبد الحميد نفسه، حتى يَسهل عليه طلب الزواج من شيرين. وبذلك تمضي الأحداث في خطين سرديَّين متجاورين ومتشابكين في الوقت نفسه، وكانت شيرين هي السبب في توليدهما، بل هي محورهما: الخط الأول هو القبض على رامز وإرساله إلى يلدز لكي يحقق معه السلطان عبد الحميد بنفسه ومعه كبار أعوانه وأهمهم رئيس جواسيس السلطان الملقب ﺑ «السر خفية». والخط الثاني هو الجاسوس صائب بك ومحاولاته المستميتة والمتعددة للزواج من شيرين، ومحاولاته إقناعها بالزواج منه واستمالتها على نحوٍ بدا معه ذليلًا لقاء نظرةِ رضًى منها.
ثالثًا: الأساس الأيديولوجي ﻟ «الانقلاب العثماني»
(١) التمدن الحديث خارج رواية «الانقلاب العثماني»
الحق إنَّ ثمة عوامل عديدة ساعدت على جريان ذلك التمدن الحديث في مختلف أنحاء البلاد التابعة للدولة العثمانية وقتذاك، يأتي على رأسها الاحتكاك بالثقافات الغربية وانتشار أنواع مختلفة من التعليم بخلاف التعليم الديني، فضلًا عن انتشار الصحف التي عملت على زيادة درجات الوعي العام ورَفْعه.
لا أكتمك اهتمامي بأمر العرب وخاصة أهل الشام … لا أعني أنهم يَقدرون على شيء … ولكنهم أصحاب أقلام، وفيهم همة، ولهم يدٌ في أوروبا، بما يعرفونه من اللغة الإفرنجية … وهل نسيتَ ما كانوا يكتبونه في الصحف الأوروبية من المقالات العصياينة. وسكت ينتظر ما يقوله السر خفية.
فقال السر خفية: لم أنس ما كان من ضوضائهم في أوروبا، ولكنهم غُلِبوا على أمرهم وسكتوا. فابتدره السلطان قائلًا: سكتوا … صحيح … ولكن حركتهم الأخيرة تختلف عن تلك … (الرواية، ص١٠٧).
في عام ١٨٩٣م، دُعِيَت الكاتبة اللبنانية الشابة هَنا كسباني كوراني للمشاركة في مؤتمر شيكاغو النسائي، ولم يكن عمرها يتجاوز ثلاثة وعشرين عامًا حينها. وفي المؤتمر ألقت خطابًا تحت عنوان «التمدن الحديث وتأثيره في الشرق»، وبعد اختتام فعاليات المؤتمر لم تَعد هَنا كوراني إلى قريتها كفر شيما التابعة لقضاء بَعَبْدا أحد أقضية جبل لبنان، القريبة من بيروت، ولكنها فضلت البقاء في الولايات المتحدة مدة ثلاث سنوات، ارتبطت أثناءها بعلاقة صداقة وطيدة مع السيدة الأمريكية ماي رايت سيوول.
وما إن عادت هَنا كوراني إلى قريتها كفر شيما حتى نُظمَتْ ندوةٌ في بيروت يوم ٢٦ مايو ١٨٩٦م، ألقت فيها محاضرة بعنوان «التمدن الحديث وتأثيره في الشرق»، هي نفسها المحاضرة التي كانت قد ألقتها في مؤتمر شيكاغو عام ١٨٩٣م.
وقد علمنا العلم الطبيعي بأنَّ الارتقاء من فطرة الوجود ومن أهم دعائمه، واستشهد أولياؤه في إثبات هذه الحقيقة ببراهين جلية لا يُمكن دحضها، […] فإذا كان الارتقاء — كما قد تَقررَ — واجبًا فطريًّا صار من العدل أن يقع التأديب على مَن تعدى هذا الواجب، كل بحسب نوعه وجِبلتِه، إنْ كان بالقهقرى أو بالآلام أو بالفناء.
وبعد حديث شائق عن فضل الإسلام على التمدُّن الحديث، تُبْدي كوراني ملاحظة مهمة في ماهية هذا التمدن وما يختلف به عن تمدن الأمس، أي التمدن العربي، فتقول:
ولا بد، هنا، من تسجيل ملاحظة سريعة لها أهميتها، وتتمثل في أن كوراني تُفضِّل «التمدن الأوروبي اليوم» على «التمدن العربي القديم»، بل تثبت تفوقه عليه، ومن ثمَّ فهو أولى بالاتباع ضرورةً، وَفْق نظرية التطور الارتقائية. وهو ما يَتجاوب مع تصور جُرْجي زيدان وجماعته من المهاجرين الشوام إلى مصر، على نحو ما سلفت الإشارة في الفصل الأول.
ثم تأخذ كوراني في استعراض الحجَّة البيولوجية التي يستند إليها الرجال في نظرتهم الدونية للمرأة وإيثار أنفسهم بالسيادة على النساء، وأنَّ ذواتهم تتَّصف بكمال العقل والحكمة والدرْبة:
وقد يُؤيِّدون دعواهم هذه بمجرد النطق بأن الطبيعة قد حَبَتْهم بهذه الامتيازات وفضلتهم بصلابة الجسم وقوة العقل على سائر مَن في الوجود؛ ولذلك فقد حُق لهم السلطة على المرأة الناقصة في الفَهْم والإدراك، ووَجَبَ عليها الرضوخ لإرادتهم، والامتثال لأمرهم. والاختبارُ علمَ المرأةَ صدق ما أصف به أسيادنا الرجال، ولا حاجة إلى إقناعها بحقيقة ما هم عليه من وحدة الملك والجبروت، فهل يكون من الرأي والحالة هذه بأن المرأة تتقاعَد عن النهضة في طلب حقوقها الطبيعية من تهذيب وتثقيف ومساواة؟ وهل تفعل حسنًا بعد إذ علمت من استبداد الرجل ما علمت بأن تَعتمد على قوته ليدفعها إلى التقدم ويفتح أمامها باب الفخر، ويكللها بتاج المجد والانتصار؟
- أولًا: تحديد مفهوم التمدن الأوروبي الحديث وشروطه، سواء على المستوى الفردي أو الجَمْعي، والقول إن التمدنَ نتيجةُ شروطه وليس سببًا لها.
- ثانيًا: التمييز بين التمدُّن في دلالته اللغوية، والتمدن في دلالته الاصطلاحية كما يفهمه الأوروبيون، التي مؤدَّاها أن التمدن هو الإنسان المرتقي في إنسانيته من حيث عقله وآدابه وأخلاقه بغضِّ النظر عن المسكن وحالته من الضعة أو الضخامة. فالتمدُّن هو ارتقاء الإنسان المعنوي علميًّا وخلقيًّا.
- ثالثًا: مفهوم التمدن، كما اصطلح عليه الأوروبيون، يندرج ضمن النموذج المعرفي الارتقائي الذي بَلْورَه تشارلز داروين Charles Darwin (١٨٠٩–١٨٨٢م)، بنظريته عن التطور حين نشر كتابه أصل الأنواع في عام ١٨٥٩م، الذي يُعدُّ تتويجًا لنظريته في الانتخاب الطبيعي التي بدأ العمل عليها منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر.
- رابعًا: التمييز بين نموذج التمدُّن الأوروبي الحديث ونموذج التمدن العربي القديم، وإيضاح جوانب تفوق النموذج الأوروبي الحديث على النموذج العربي القديم، ولذا فهو الأوْلَى بالاتباع.
- خامسًا: لا يَقتصِر حق المرأة على التعليم والتثقيف وحرية الإرادة وتقرير مصيرها، بل لها حق أصيل في مشاركة الرجل في الأمور السياسية أو شَغْل المناصب العامة.
- سادسًا: التصريح بأن التمدُّن لا يقوم إلا على أساس نوع من العدالة الاجتماعية، وهو ما يَنطوي ضمنًا على ضرورة تحقيق العدالة السياسية التي لا تتحقَّق بدونها عدالة اجتماعية.
- سابعًا: تأكيد مفهوم المشاركة بين الرجل والمرأة، ويَنطوي مفهوم المشاركة ضمنًا على تشكيك في كفاءة نظام الحكم المطلق الفردي أو جدواه.
(٢) التمدن الحديث داخل رواية «الانقلاب العثماني»
وليسَت شيرين وحيدة في نزوعها إلى مقاومة الاستبداد والرغبة في الحرية، ذلك أن لها صاحبات يشاركنها جهودَ تحقيق الرغبة في نَيْل الحرية والاعتراض على انفراد السلطان عبد الحميد بالحكم، فيَطْعَن في السلطان وأعوانه. يقول طهماز عقب علمه باختفاء ابنته شيرين من المنزل: «يَظهر أنها توجهت إلى إحدى صاحباتها اللواتي يُوافقنها على الحديث عن الحرية والطعن في السلطان وأعوانه … إنها سوف توقعنا في ورطة لا خلاص لنا منها» (الرواية، ص٦٩). وهو ما يُفيد بأن نزعة التحرُّر لدى الفتيات التركيات، ورغبتهن في المشاركة السياسية، قد باتت أمرًا واقعًا لا سبيل إلى إنكاره، وأنهنَّ يُشاركن الشبانَ الأتراك الحق في تغيير الاستبداد السياسي. بل تعدى هذا الحق السياسي الشابات والشبان الأتراك إلى الخدم. فها هي ذي والدتها توحيدة تجلس مُتفكِّرةً في أمر اختفاء ابنتها شيرين، يقول الراوي: «فتذكرت الخادم خريستو وهو ألباني الأصل متقدِّم في السن، وقد ربى شيرين في صغرها … وكان يَتفانى في سبيل مَرْضاتها. وهو نشيط هُمَام يحب الحرية ويكره أهل الاستبداد، وكان يزداد احترامًا لشيرين وتفانيًا في خدمتها كلما رآها تحب الأحرار وتخدم مصلحتهم، فتصوَّرت توحيدة أن خريستو أغرى شيرين على الفرار إلى بلده» (الرواية، ص٦٨). وهو ما يُؤكده أيضًا طهماز حين يقول في حواره مع زوجته توحيدة: «ستَجدينها بعد قليل … ولكن يظهر من ذهابها مع خريستو أنها هربت، وكم من مرةٍ أردت إخراج هذا اللعين من بيتنا وأنت ترفضين … إنه من جملة أسباب تمسك شيرين بعنادها ومتابعة أولئك المغرورين الذين يُسمُّون أنفسهم أحرارًا، لأنه من أهل ذلك الجنون أيضًا» (الرواية، ص٧٠). وهنا، يظهر جليًّا أن المطالبة بالحرية، وبخاصة الحرية السياسية وتقييد الحكم المطلق، قد عمت كل الطبقات أو الفئات الاجتماعية.
ويُعد الوعي بالحريات السياسية، والسعي في سبيل إحداث تغيير في نظام الحكم بالتخلُّص من الطغيان السياسي وتقييد حُكْم الفرد المطلق بالدستور والمؤسسات النيابية، يُعد أحد نتاجات زيادة الوعي الثقافي الذي نَتَجَ، بدوره، عن ارتفاع مستويات الوعي في مجالات عديدة، وهو ما أسمته الأم توحيدة — كما سلفت الإشارة — «مقتضى التمدن الحديث» (الرواية، ص٤٢) من انتشار التعليم وإتاحة المدارس للبنات وازدهار الصحافة وحب المطالَعة؛ الأمر الذي أدَّى تدريجيًّا إلى التساهل في أمر حجاب البنات والنساء (انظر الرواية، ص٤٢)، وانطلاق النساء خارج المنزل، إذ لم تَعد المرأة حبيسة الأسوار، وهو ما نفهمه بشكلٍ واضِح من الفصل الأول الاستهلالي وعنوانه «حديقة البلدية»، حيث نجد الأم توحيدة وابنتها الشابة شيرين ترتديان زيًّا تركيًّا حديثًا، وتتجاذبان أطراف الحديث في حديقة عامة، دون أن يجر ذلك أي نوع من الإدانة الأخلاقية للمرأة، بل يَستوقِف مشهدهما الخاطر لما يَشِع منهما من «جمال وأدب وذكاء وكمال» (الرواية، ص٧).
ومن علامات سريان التمدُّن الأوروبي الحديث داخل الرواية وتعبيرها عنه، المستوى التعليمي الذي تتميَّز به المرأتان، الأم توحيدة وابنتها الشابة شيرين، فإذا كانت توحيدة تجيد القراءة فإنَّ ابنتها شيرين تجيد لغات مختلفة قراءةً وكتابةً سوى اللغة التركية، كالفرنسية والرومية؛ إذ نراها تُطالع، وهي في الحديقة العامة، مقالًا سياسيًّا في إحدى الجرائد الفرنسية، وتتجاذَب أطراف الحديث مع أمِّها بشأنه (انظر الرواية، ص٧–٨). وهو ما يعكس درجة عالية من الوعي الثقافي الذي يمتد إلى مناقشة الشئون العامة، بين امرأتَين، في أخطر ألوانها حينذاك: الشأن السياسي. بل تُعبِّر الفتاة المثقَّفة شيرين، الواعية اجتماعيًّا وسياسيًّا، عن راديكالية سياسية عنيفة تصل إلى حد مطالبتها أعضاء جمعية الاتحاد والترقي بضرورة التخلُّص من السلطان عبد الحميد؛ لأن بقاءه في الحُكْم يُعدُّ مصيبةً على الأمة كلها (انظر الرواية، ص٥٧، ص٥٨).
وبالتوازي مع الوعي الثقافي والسياسي العالي لدى المرأة داخل الرواية، نجد وعيًا نِسويًّا يَعترف بحق المرأة في الإرادة المستقلَّة على المستوى الاجتماعي، بل لعلَّ هذا الوعيَ النسوي سابقٌ زمنيًّا بالضرورة على الوعي السياسي. وتعبر الأم توحيدة عن ذلك بقولها لزوجها عن شيرين حين تقدم ناظم بك لخطبتها: «لا نستطيع أن نخطبها لأحد إلا بإرادتها» (الرواية، ص٣٤)؛ وهو قول يكشف عن أن بنات ذلك العصر — فجر القرن العشرين — قد قطعن شوطًا هائلًا في تحقيق كيان مُستقِل وإرادة حرة اجتماعيًّا، وبدأن يجنين إحدى ثمار التمدن الأوروبي الحديث، الأمر الذي يفضي إلى استنتاج أن «التمدن الحديث» كان قد بدأ السير على الطريق منذ مدة طويلة؛ وذلك لأن جَنْيَ الثمار لا يكون في أول الطريق قطعًا.
وفي النهاية، لا يعني كل ما سبق، إطلاقًا، أنه لا توجد عقبات يعانيها «التمدن الحديث» أو مقتضياته؛ فثمة في المجتمع داخل الرواية — كما هو الحال في المجتمع خارج الرواية — نماذج تمثل تصورات اجتماعية تقليدية عتيقة عن المرأة ودورها، على نحو ما نجده في شخصية الأب طهماز؛ وثمة أيضًا نماذج تُمثِّل تصوُّرات سياسية بالية على نحو ما نجده في شخصية صائب بك الذي صار جاسوسًا للسلطان عبد الحميد في سلانيك، يتكسَّب من تصيد أخبار جمعية الاتحاد والترقي من أجل الكشف عن أعضائها وشبكتهم لحساب السلطان عبد الحميد. فالصراع في عالم البشر طبيعي مألوف، سواء داخل الرواية أو خارجها.
رابعًا: تمثيلات عبد الحميد الثاني والقراءة بالتوازي
ولعلَّ اقتصار جُرْجي زيدان على تناول تلك الفترة التاريخية من منتصف عام ١٩٠٧م تقريبًا حتى منتصف عام ١٩٠٨م تقريبًا، كان بهدف إقامة علاقة تعارض قصوى بين السلطان عبد الحميد الثاني بوصفه طاغية مستبدًّا ينفرد بالحكم، وأعضاء جمعية الاتحاد والترقي بوصفهم الأحرار العثمانيين الذي يُناهضُون الاستبداد والحكم المطلق، ويكافحون من أجل نَيْل الدستور والحرية السياسية بإجبار الطاغية عبد الحميد على الرضوخ لنوع من الحكم الديمقراطي الدستوري.
وإذن، من الواضح أن هناك مناخًا معرفيًّا وثقافيًّا يبزغ، وينزع نحو التحرر على جميع الأصعدة. ومن هنا، يبدو تصوير عبد الحميد الثاني في صورة الطاغية المستبد تصويرًا متناغمًا مع حالة نَهْضوية عامة ناشئة في جوانب عديدة. ومن المحتمل أن هناك عاملًا آخر يساعد على تقبُّل تصوير السلطان عبد الحميد الثاني بتلك الصورة. ولكنه عامل يتعلَّق بطبيعة نظام الحكم في الدولة العثمانية وما طرأ عليه من تغيُّرات أو إصلاحات.
وكانت حُجة مدحت باشا في ذلك أن إعلان الدستور وانتخاب مجلس النواب (وهو المسمى مجلس المبعوثان) سيضمن تهدئة الأوضاع، لأن هذه المناطق سيُمثلُ أهلُها في المجلس، وستكف الدول الأوروبية يدَها عن التدخل في شئون الدولة بحجة حماية المسيحيين والسلاف. ومع أن هذه الرؤية المحدودة في معالجة الشئون السياسية الداخلية وشئون السياسة الدولية قد ثبَت فشلها فيما بعد، فقد أعلن السلطان عبد الحميد الثاني العمل ﺑ «المشروطية الأولى» (أي الدستور) في ٢٣ ديسمبر ١٨٧٦م، وافتتح مجلس المبعوثان (أيْ مجلس النواب) لأول مرة في تاريخ الدولة العثمانية في ١٩ مارس ١٨٧٧م.
وقد مثَّلت تلك الأحداث التاريخية — جنبًا إلى جنب ذيوع مُقتضيات التمدن الأوروبي الحديث — مُفترَق طرق أدى إلى وجود تصويرين متناقضين لشخصية السلطان عبد الحميد الثاني، سواء على مستوى السرد التاريخي أو السرد الأدبي. وسأُحاولُ فيما يلي تحليل تمثيلات شخصية عبد الحميد الثاني عبر ما يُسمَّى «القراءة بالتوازي»، وهو إجراء أقصد به — في سياق الدراسة الحالية — محاولة المقارنة بين التمثيل الروائي والتمثيل التاريخي لشخصية عبد الحميد الثاني، وإظهار مدى تضارُب هذين التمثيلين أو توافُقهما، ومحاولة استكشاف أسبابه ودواعيه، رغم أن التمثيلَين الأدبي والتاريخي يصدران على السواء عن سياق اجتماعي وثقافي وسياسي مشترك.
(١) التمثيل التدنيسي في السرد الروائي النهْضوي
منظور رامز
وكان هو من أرباب الأقلام يكتب بالفرنسية، كما يكتب بلغته التركية … واشتهر بين معارفه بحب الحرية، فلم يجد سبيلًا للارتزاق من خدمة الحكومة كما جرت عادة أمثاله من الشباب المتخرِّجين من مدارس الحكومة، وربما سعى له بعض ذوي النفوذ في خدمة فلا يَلبث فيها أيامًا حتى يخرج منها، فجعل الارتزاق من قلمه بمُكاتبة الصحف التركية في الآستانة، والفرنسية في باريس … بتوقيع مُستعار، وأكثر ما يكتبه في تلك الصحف انتقاد للحكومة … (الرواية، ص٩).
في المشهد الافتتاحي الذي يشمل أربعة فصول متوالية، تبدأ بالفصل الأول «حديقة البلدية»، مرورًا بفصليْ «شيرين» و«رامز» وانتهاءً بفصل «طهماز وصائب»، في هذا المشهد الممتد يصادف القارئ — بالإضافة إلى تقديم الشخصيات الرئيسية — تمثيلًا لشخصية عبد الحميد الثاني في ثنايا حوار طويل بين شيرين ورامز، نقتطف منه الآتي:
في هذا الحوار بين رامز وشيرين، توصف يلدز بأنها ملعونة، وأن قصرها — حيث يُقيم السلطان عبد الحميد — جهنمي، ولا أحد من الأحرار يدخل مدينة يلدز ويرجع منها حيًّا؛ وذلك لأن عبد الحميد طاغية يسفك الدماء، ويزيد من طغيانه ما أصابه من رعب بسبب أن ضباط الجيش — والمقصود هنا ضباط الجيش الثالث في مقدونيا — بدءوا يَنتظمون في جمعية الاتحاد والترقِّي. إن تصوير عبد الحميد، هنا، بأنه طاغية ملعون يُقابله تصوير جمعية الاتحاد والترقي بأنها «مقدسة». وتأتي صورة القداسة، هنا، من أن خطة جمعية الاتحاد والترقي الجديدة التي استهدفت تجنيد ضباط الجيش بين صفوفها هي من ابتكار مدحت باشا الملقَّب بأبي الأحرار، حسب وصيته قبل أن يقتله عبد الحميد. والوصية بطبيعتها مقدسة؛ لأنها تحمل صوت الميت إلى الأحياء: فقالت شيرين: «لله در أبيك … إذ لولاه لم تَعْمَد الجمعية إلى هذه الخطة.» قال رامز: «بل لله در ذلك الثاوي في الطائف المقتول ظلمًا وعدوانًا … إنها وصيته قبل موته أودعها أذن والدي، فحملها إلى الأحرار، ولكن آه … أين أنت يا أبي؟ وأين باقي الوصية لعلها تنفعنا اليوم؟» (الرواية، ص١٤). ويقصد رامز ﺑ «الثاوي في الطائف المقتول ظلمًا وعدوانًا» مدحت باشا. ويلخص ألبرت حوراني العلاقة بين مدحت باشا والسلطان عبد الحميد على النحو الآتي، بما فيه من تلميح يكاد يكون تصريحًا بتورط عبد الحميد في قتل مدحت باشا:
وإذن، فنحن أمام تمثيل تدنيسي لشخصية عبد الحميد في مُقابل تمثيل تقديسي لشخصية مدحت باشا. هذا المنظور الصريح في تمثيل الشخصيتين تتبناه الفئة المثقفة أو فئة النخبة التي تأخذ على عاتقها مهمة مقاومة الاستبداد وتغيير نظام الحكم الفردي، والتي يُمثلها هنا أعضاء جمعية الاتحاد والترقي وكل المتعاونين معها. ولكن ثمة منظور ثانٍ يتبناه عامة الناس أو الرعية، ويُعبر عنه طهماز والد شيرين، وينطوي على تمثيل مختلف لشخصية عبد الحميد.
منظور طهماز وصائب بك
بعد إلقاء القبض على رامز، نتيجة وشاية صديقه الجاسوس صائب بك به، يدور حوار بين طهماز والد شيرين وصائب بك عن أعمال رامز الصبيانية التي استدعت القبض عليه، يقول طهماز، وكان فمه ممتلئًا بصدر دجاجة كاملة:
كثيرًا ما نصحته فلم ينتصح. إن شبان هذا الزمان لا يُعجبهم العجب … لا يعجبهم سلطاننا أيده الله مع أنه من أحسن سلاطين آل عثمان، هل كان عبد العزيز أحسن منه؟ … إنه لا يُفوت الصلاةَ مطلقًا، وفي الآستانة ألوف من الناس يعيشون من بقايا مطبخه، فلو أقفلت يلدز الآن لمات هؤلاء جوعًا … ثم هم كيف يستطيعون مقاومة خليفة الرسول؟! كان ينبغي أن يكون لهم عبرة بالذين تقدموهم من أمثالهم من الشبان المغرورين، كيف كانت عاقبة أمرهم؟ … ماذا ينالهم من هذا العناد غير العذاب؟ … ألا يرضون أن يعيشوا كما عاش آباؤهم وأجدادهم؟! …» وقد اختصر طهماز خطبته البليغة لئلا تضيع عليه لقمة وعاد إلى الأكل. فقال صائب: «أنا لا ألوم الأحرار على الشكوى من الخلل فإنه موجود … لكنَّني ألومهم لاستعمال العنف في مساعيهم كتدبير المكايد لقتل الخليفة أو أعوانه، والنقد اللاذع في الصحف الأجنبية … هذا لا يُفيد ولا بد من التؤدة (الرواية، ص٣١–٣٢).
يَنتمي طهماز إلى عموم الناس، أيْ إلى الرعية، فهو ليس رجلًا من رجال الدولة، وليس من أعوان السلطان، كَلا ولا هو حتى عالم من العلماء. إنه رجل عامي بسيط؛ ومِن ثم فهو يعبر عن وجهة النظر السائدة لدى الرعية عن عبد الحميد الثاني التي ترى فيه خليفةَ الرسول، بكل ما يحمله هذا التعبير من قداسة شائعة بين العامة، وهي قيمة يؤكدها رجل الدولة: الجاسوس صائب بك الذي سيحظى لاحقًا بترقية من عبد الحميد الثاني نفسه لجهوده العظيمة في الخدمة. وحتى تكتمل الهالة القدسية المحيطة بعبد الحميد الثاني لدى الرعية، نجد طهماز يقول بأنه لا يفوت الصلاةَ أبدًا. هكذا ينتسب عبد الحميد الثاني — من وجهة النظر العامية تلك، ولنقل الأصولية السلفية — إلى خلفاء الرسول. فما إن نسمع تعبير «خليفة الرسول» حتى تنصرف المخيلة على الفور إلى استدعاء صورة الخلفاء الراشدين، وعلى رأسهم أبو بكر وعمر، بكل ما يداعب تلك المخيلة من صور التقشف في الملبس والمأكل والعدالة بين الرعية. فهل اتَّصف عبد الحميد الثاني بذلك؟! في كلام طهماز نفسه ما يدحض ذلك من وجهين. الأول الإسراف والبذخ في الطعام، إلى درجة أن الألوف من قاطني الآستانة يعيشون من بقايا مطبخِه، فإذا قُتِل عبد الحميد أو خُلِعَ عن منصبه فسيَتضوَّر هؤلاء الألوف بل سيموتون جوعًا. وأما الوجه الثاني فهو أن معارضي عبد الحميد من الشباب لا يلقون من معارضتهم غير العَنَت والعذاب. ومن ثم، يمكن القول إننا أمام مفارقة ساخرة في تمثيل عبد الحميد الثاني، وتزداد هذه السخرية حدةً بسبب التشخيص السردي لطهماز، فإذ بينما يعبر طهماز بالكلام عن تلك الصورة، نرى التشخيص السردي يصور طهمازًا نفسَه بصورة مثيرة للضحك والسخرية بسبب نهمه الشديد للطعام، فهو يلتقط صدر دجاجة كاملة ويضعه في فمه، ويختصر الحديث حتى لا تفوته قضمة أو لقمة.
وبالتوازي، نرى رجل الدولة صائب بك، جاسوس عبد الحميد الثاني في سالونيك، وهو «شاب وجيه غني معروف عند رجال الدولة، وهو الآن صاحب النفوذ الأكبر» (الرواية، ص٣٦) — يقدم وجهة نظر النظام الحاكم، فهو يُقِرَّ ضمنًا بأن منصب عبد الحميد هو منصب «الخليفة»، ويعترف ضمنًا بأن معارضيه هم من الشباب «الأحرار»، ولكنه يلومهم على اللجوء إلى العنف وتدبير محاولات قتل «الخليفة»، وعلى نَقدهم اللاذع في «الصحف الأجنبية». ومن المهم هنا، ملاحظة أن كتابة الأحرار العثمانيين للمقالات النقدية العنيفة لنظام حكم عبد الحميد الثاني في الصحف الأجنبية، تنطوي ضمنًا على الإشارة إلى أن أعضاء جمعية الاتحاد والترقِّي يحظون بمساندة الدول الأوروبية لهم ولأفكارهم.
منظور توحيدة
وأما الزوجة توحيدة — والدة شيرين — فلا تعبر عن وجهة نظر عامية في عبد الحميد الثاني كزوجها طهماز. ومن ثم، نجد عند توحيدة تمثيلًا لعبد الحميد الثاني مناقضًا. تعتقد توحيدة أن عبد الحميد الثاني «طاغية سفاح». إذ بعد تلويح صائب بك بأن بين أوراق رامز ما يفيد بوجود امرأة قد تتعرض للاعتقال، فهمت توحيدة أن هذه المرأة هي ابنتها التي كانت تُراسل رامز بآرائها. يقول الراوي متحدثًا بلسان حال توحيدة:
أما توحيدة فلم يبقَ عندها شكٌّ في حرج مركزها […] خوفًا على شيرين من دناءة ذلك الجاسوس واستبداد والدها […] وهم في عهدٍ كل فعل فيه جائزٌ — عهد الجاسوسية، والظلم، وقد أصبحت الأرواح، والأعراض، والأموال، في أيدي الجواسيس يضعون مَن شاءوا، ويرفعون مَن شاءوا، لا يتكلَّفون في ذلك إلا كلمة يقولونها بتقرير يرفعونه إلى ذلك الطاغية السفاح … وقد عَرَفَتْ أناسًا ذهبوا غرقًا في البوسفور، أو قُتلوا بحد السيف أو بالسم، وهم أبرياء … (الرواية، ص٤٠–٤١).
تقرن توحيدة، هنا، بين التعبير الصريح عن «استبداد» زوجها طهماز وانفراده بالرأي في مسألة تزويج ابنته شيرين من صائب بك جاسوس عبد الحميد، دون رضاها، وبين صورة عبد الحميد الثاني «الطاغية السفاح»، والطغيان درجة أعلى من الاستبداد، أو هو الاستبداد الزائد عن الحد المقترن بظلم كبير لا يُمكن رده أو الحيلولة دون وقوعه. إن عبد الحميد الثاني في هذا التمثيل لا يتورَّع عن قتل معارضيه، بل قد يقتل على الشبهة ودون تحقق، لمجرَّد ورود تقارير الجاسوسية إليه، سواء أكانت معلوماتها صحيحة أم مُغرِضة.
وإذن، تعبر الزوجة توحيدة — التي ينطق نيابةً عنها الراوي — عن وجهة نظر الفئة المثقَّفة، فهي وإن لم تكن منتمية إلى جمعية الاتحاد والترقي فهي على الأقل شديدة التعاطف معها، وتؤازر ابنتَها شيرين الأعلى منها ثقافة في ذلك.
منظور الراوي وتهيئة العملية السردية لسيكولوجية الطاغية
وبذلك يُمكن القول، بالاستناد إلى عزام في مقاله وإلى جينيت في كتابه، إنَّ الحديث عن الراوي هو في الوقت نفسه حديث عن المؤلف. ويَقوى هذا القولُ وينطبق على أعمال جُرْجي زيدان الروائية بوجه خاص.
ومن ثم، لا يَقتصِر تمثيل شخصية عبد الحميد الثاني بالطريقة السابقة على شخصيات طهماز وتوحيدة وشيرين ورامز وصائب بك، بل إن الراوي — الذي هو قناع المؤلف — يعبر تعبيرًا صريحًا عن منظوره لشخصية عبد الحميد الثاني مؤكدًا تمثيلها السابق. ففي الفصل العشرين، وعنوانه «الآستانة»، نرى الراوي يفتتحه على النحو الآتي: «نترك أهل سلانيك ونذهب إلى الآستانة دار الخلافة ومصدر متاعب الأحرار ومرجع آمالهم … ونشرف على يلدز مدفن الأفكار الحرة وبؤرة الجواسيس ومسرح أهل المطامع والأغراض» (الرواية، ص٨٠–٨١). ثم يأخذ الراوي في سرد معلومات تفصيلية عن مدينة الآستانة وتاريخ تسميتها وموقعها الجغرافي وضواحيها الشمالية والجنوبية وهضابها وحدائقها، وضفاف البوسفور وغيرها من شواطئ الآستانة وواديها الخصيب وجبلها المكسو بالأشجار الكثيفة. ويلفت النظرَ أثناء ذلك مقارنةٌ يعقدها بين المناظر الطبيعية في الآستانة ومثيلتها في لبنان التي هي الموطن الأصلي لجُرْجي زيدان. يقول الراوي:
وإذا أوغلتَ في البَر وراءها [أي وراء ضفاف البوسفور] لا يقع نظرك إلا على وادٍ خصيب، أو غابة غضة، أو جبل مكسوٍّ بالأشجار الكثيفة، بينها ينابيع باردة مثل ينابيع لبنان تجري صافية كالزلال. وقد أُقيمت هناك أماكن للنزهة يقصدها الناس، يقضون عندها الساعات والأيام كما يفعل المصطافون بلبنان في خروجهم إلى الينابيع المشهورة … كعين الرمانة، وعين حمانا، ونبع العسل، ونبع اللبن، وغيرها (الرواية، ص٨٥).
وكأنَّ حِرْصَ الراوي على ذِكْر لبنان وأماكن الاصطياف فيها يَلفتنا إلى الموطن الأصلي للمؤلف؛ أو أن المؤلف لا يستطيع نسيان موطنه الأصلي ففوض الراوي بالحديث عنه ضمن ما فوَّضه به من مهام في السرد نيابةً عنه.
وبعد أن يُعرفَ الراوي قارئَه بالآستانة، يذهب به إلى يلدز في الفصل التالي، الحادي والعشرين، وعنوانه «يلدز». يقول الراوي: «أما وقد عرفت الآستانة، فتعالَ معي إلى يلدز … وإن كان ذهابنا إليها في زمن روايتنا خطرًا، فإني أطير بك إلى عالم الخيال، لأصف لك تلك السراي التي جرت أكثر وقائع هذه الرواية فيها» (الرواية، ص٨٦–٨٧). وينطوي قول الراوي إن الذهاب إلى يلدز يعني التعرض للخطر، على افتراضين في غاية الأهمية: الافتراض الأول أن الراوي يصادق على تمثيلات عبد الحميد الثاني التي أشرنا إليها عند رامز وشيرين ووالدتها توحيدة، وأما الافتراض الثاني الأهم فهو أن الراوي يفترض مسرودًا له — أيْ قارئًا — يؤمن بوجهة نظر رامز وشيرين وتوحيدة وكل أعضاء جمعية الاتحاد والترقي، بل يؤمن بالمنظور الأيديولوجي للراوي؛ ألا وهو أن عبد الحميد الثاني حاكم مُستبد، بل طاغية سفاح يقتل معارضيه إما بالإلقاء في البوسفور أو بدسِّ السم. والحق أن الراوي يلعب دورًا كبيرًا في دَعْم ذلك المنظور الأيديولوجي وتأكيده، على نحو ما سنرى. بل من المُمكن القول إن الراوي يحظى بموقع مُهيمن تقريبًا في كل ما يتعلَّق بتمثيلات عبد الحميد الثاني الروائية التي تقدمها الشخصيات في الرواية.
إنَّ تدخلات الراوي المباشرة وغير المباشرة لها مستويات عديدة ومُتفاوتة، ولكنها في النهاية تقدم تصويرًا لعهد عبد الحميد الثاني بوصفه حاكمًا مُستبدًّا وطاغية سفاحًا يسفك الدماء لمجرد الاشتباه في المعارضة. ومن ثم، يعبر الراوي عن أيديولوجيته المناهضة لحكم عبد الحميد بمستويات مختلفة على نحو يُقدم به تمثيلًا شيطانيًّا له، بل للسلاطين العثمانيين بوصفهم حكامًا ظالمين. ففي ختام الفصل العشرين، «الآستانة»، بعد انتهائه من وصف الآستانة وما وهبتها الطبيعة من مزايا، يقول:
صوت الراوي جد واضح هنا، وهو ينقل الاستبداد والطغيان من المستوى السياسي إلى نتائجه على المستوى الاجتماعي؛ فحكام آل عثمان وأعوانهم، ولا سيما عبد الحميد الثاني، يسرفون غاية الإسراف في العناية بمساكنهم وكل ما يتعلَّق بمنفعتهم الشخصية، ولا يُهمهم كل ما يتعلق ببقية السكان أو الرعية. وهذا هو الظلم الاجتماعي الذي يتنافى مع ما بدأ به الراوي وصف الآستانة بقوله «دار الخلافة»، الوصف الذي من المفترض أن يضفيَ نوعًا من الهالة أو القداسة على منصب السلطان العثماني.
وحين يأتي الراوي إلى وصف يلدز وقصورها، المدينة المغلقة على السلطان عبد الحميد الثاني وأعوانه، التي تنتشر على أبوابها وفي أرجائها حراسة مشددة، يقول: «وليس في وصف هذه القصور كثير مما يُدهش القارئ، ولكن العبرة بما هنالك من المُخبآت الغريبة التي تصادفها في أثناء حوادث روايتنا … وإليك تفصيل ذلك» (الرواية، ص٨٧). وحقيقة الأمر أن وصف القصور والحدائق والبحيرات التي تجري فيها السفن داخل مدينة يلدز يُقربها من كونها فردوسًا أرضيًّا (انظر الرواية، ص٨٧–٨٩). ولكن أهم ما يلفت النظر أثناء ذلك الوصف العبارات الآتية:
ولا شك في أن هذه العلاقة معروفة لقارئ جُرْجي زيدان آنذاك، ولا شك أيضًا في أن قارئه آنذاك كان على معرفة بأسماء أعضاء الوفد الرباعي المكلف بإبلاغ السلطان قرار خَلْعه، ودور رجال الاتحاد والترقي في تشكيل ذلك الوفد.
وكما سلَفَتِ الإشارة، يحرص الراوي على إظهار عبد الحميد الثاني بمظهر الحاكم الطاغية المستبد، بل يؤكده تأكيدًا قويًّا في فقرات طويلة، سواء حوارية أو سردية، تستبطن سيكولوجية الطاغية في شخصية عبد الحميد الثاني، وسنحاول تحليلها في الفقرات الآتية.
ولكن الراوي قبل أن يذهب إلى استبطان سيكولوجية الطاغية عبد الحميد، يُمهد لها تمهيدًا طويلًا نسبيًّا يشغل الفصل ٢٢ الذي يحمل عنوان «يلدز بعد نصف الليل». وكما يبدو من عنوان الفصل، سيكون القارئ أمام ظلمة الليل الدامسة، التي يقطعها ضوء القمر. وكان من المتوقع في الظروف العادية أن يُطالع القارئ تصويرًا لمشهد طبيعي رائع تتكون عناصره من حدائق يلدز، والليل، وضوء القمر الفضي، وريح طيبة تداعب العيون الساهرة أو حتى النائمة. ولكن الظروف غير عادية من منظور الراوي؛ لأن الآستانة وما فيها من ضواحٍ وسكَّان تعيش أسوأ عهود الاستبداد بسبب الطاغية عبد الحميد، يقول الراوي:
هكذا، يتحوَّل المنظر الطبيعي الليلي في الآستانة إلى منظر مرعب يجسد البشاعة بأعلى صورها ويشيع الهلع في النفوس. والسبب هو الطاغية عبد الحميد الثاني، رب يلدز، الذي لم تشهد العصور السالفة طغيانًا كطغيانه الذي تجاوز التحكم والتأثير في البشر إلى التحكم في الطبيعة والتأثير في بعض عناصرها، إلى درجة أن الريح أطاعته في هذه الليلة فلم تهب كالمعتاد. ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل إن «سطح البوسفور بدا هادئًا لا تتلاطم فيه أمواج، ولا يتحرَّك فيه ساكن» لأن الطاغية عبد الحميد أمر الناس «ألا يعكروا ماءه ليلًا وإلا أرسلهم إلى قاعه جثثًا هامدة». والأكثر من هذا، يُخفي سطح البوسفور — الذي يبدو هادئًا — جثثًا في جوفه أرسلها إليه عبد الحميد من قبل، ولا يزال، طغيانًا وظلمًا. ولعلَّ الناس لا يَخترقونه بقارب ولا يَمخرون فيه بسفينة هربًا مما قد يصيبهم من تقزز غير محتمَل، تُثيره فيهم رائحة الجثث النتنة التي يمتلئ بها جوفه، أكثر من خوفهم من غضب عبد الحميد رب يلدز. ومن الواضح أن الراوي يتعمد هنا إظهارًا بلاغيًّا لبشاعة الحكم المطلق والطغيان الذي يتجاوَز مفعوله البشر إلى بعض عناصر الطبيعة.
وفي الفقرة التالية مباشرةً للفقرة السابقة، ينتقل الراوي إلى إظهار آثار الاستبداد في الناس وبيان مدى وحشيته، حيث يقول ببلاغة مؤثرة في فقرة يفتتحها بتكرار بلاغي لعبارة «نام أهل الآستانة» التي بدأت بها الفقرة السابقة:
ويهدف تكرار عبارة «نام أهل الآستانة» في مطلع فقرتين متتاليتين إلى تأكيد تواصُل الطغيان والاستبداد، كما يهدف في الوقت نفسه إلى الربط البلاغي القوي بين آثار الاستبداد المتنوعة وتوغلها في الطبيعة والناس على حد سواء، وكأن الاستبداد حين يتطاوَل ويشتد بأسه يخرق سنن الطبيعة ويشوهها تشويهًا في اللحظة نفسها التي يشوه فيها البشر وحياتهم، وذلك إلى درجة أن السجين في مختلاه الإجباري العقابي ينتظر لحظة واحدة تغفل فيها العيون عنه حتى يُحرك شفتيه خلسةً داعيًا الله أن يَنتقِم له من الظالمين. بل إن طغيان عبد الحميد واستبداده قد بلغ من شدة الأثر حالًا تَمَثلَ معه للناس في أحلامهم على هيئة تنين أو ثعبان. وكأنَّ عبد الحميد لا يكتفي في طغيانه بالتأثير في الناس نهارًا، بل يسيطر على أحلامهم أثناء النوم. فبشاعة الطغيان لا تشبع، فلا تكتفي بالسيطرة على الناس في نهارهم، بل تَلْحَقُ آثارها حتى بالليل والأحلام. وذلك على النحو الذي يمكن معه القول إنَّ دائرة الاستبداد مغلقة على الناس يدورون فيها نهارًا وليلًا على حد سواء.
وتتواصَل بلاغة الراوي التصويرية فيما يتعلَّق بأهل يلدز، ويقصد هنا قصور يلدز وساكنيها التي تضم مقر حكم السلطان وحاشيته المقربة من أعوانه وكبار رجال الدولة، الذين يصفهم الراوي بأنهم «أعداء الإنسانية الذين تغمض عيونهم للنوم، ولا تنام أفكارهم عن نصب الحبائل» (الرواية، ص٩١).
ولكن عناصر الطبيعة كمياه البوسفور والريح القوية وأحلام الناس في النوم، وإن تأثَّرت بطغيان عبد الحميد واستبداده، فثمة عناصر طبيعية أخرى تفضح الطغيان وتكشفه لكل ذي بصر وبصيرة، يقول الراوي:
يمضي النهار بنوره، ويُقبل الليل بديجوره، وتتبدل مظاهر الوجود ولا يتغير ما في نفوسهم [يقصد أهل يلدز الظالمين] … إذا خَيمَ الظلام سكنت الطبيعة وتجلت هيبتها واتسع مجال الخيال، وانقشعت بَهْرَجة النور عن وجه الحقيقة … فيرى العقل من مساوئ النفس ما لا يراه في رابعة النهار … كالسكوت إذا استولى على المكان أسْمعَكَ أخفت الأصوات؛ فالليل بدَيجُوره يكشف لأهل الأرض سيئاتهم ويُجسم أعمالهم. إذا نظروا إلى السماء رأوا نجومها كالعيون المحدقة إليهم أو كالحارس يراقب أعمالهم … وكأن النوم يجرد النفوس من الأجساد، فتتقابل وتتعاقب لا فرق فيها بين الملك والصعلوك، والظالم والمظلوم، كأنها في حضرة الديان العظيم … إن الظلمة تكشف لأهل الظلم موبقاتهم، فيرونها مُكبرةً في ذلك السكوت المهيب، كأنَّ الطبيعة صامتة غضبًا من أعمالهم (الرواية، ص٩١).
بل يذهب الراوي في فقرة تنطوي على تأثير منطقي مقنع إلى مقارنة بين الحيوان والإنسان، يتضح منها فضل الحيوان على الإنسان؛ ذلك أن «الحيوان لا يؤذي أخاه إلا إذا جاع … فيتنازعان على الفريسة، فإذا شبعا تآلفا وتكاتفا. والإنسان كلما زاد شبعًا زاد طمعًا، وكلما زاد ثروةً زاد جشعًا … إذا شبع قتل أخاه الجائع، وقد يقتل المئات ليقال إنه قاتل. ويَستعبِد الألوفَ ليُسميَ نفسَه الحاكم. فيموت هو من التخمة وأخوه بجانبه يموت من الجوع» (الرواية، ص٩١).
ويَختِم الراوي فصله الذي يمهد به لاستبطان سيكولوجية الطاغية عبد الحميد في الفصل التالي مباشرةً، بالعودة مرة أخرى إلى أهل يلدز، فيصور نومهم ملء الجفون بعد تآمرهم وتجسسهم وتخادعهم وتواطئهم من أجل تخريب كل بيت أو تعذيب كل نفس أو ابتزاز كل المال، ويدلل على أنهم لو كانوا مطمئني النفوس هادئي الضمائر — كما يليق بمنصب خلافة المسلمين المزعومة! — لَمَا ركنوا إلى الأسوار العالية والأبواب الموصدة التي تَحول بينهم وبين الرعية أو عموم الناس، ولَمَا استجلبوا لحراسة يلدز وأسوارها سبعة آلاف رجل من الألبان والشراكسة (انظر الرواية، ص٩١–٩٢). يقول الراوي: «انظرْ إلى تلك القصور، وما أُنفق فيها من الأموال وما أُهرق في سبيل بنيانها وزخرفها من الدماء … وقد أُقيم على أبوابها وفي طرقاتها وحول أسوارها ألوف من الرجال الأشدَّاء بأسلحتهم، وأفراسهم، وعيونهم كالشهب، وقلوبهم كالرجم … وقد جردوا السيوفَ، وأغمدوا الضمائر، وباعوا الآخرة بالدنيا لحماية رجل واحد لا تقع العين عليه إلا بعد اختراق الأبواب، وتسلُّق الأسوار» (الرواية، ص٩٢).
وهنا، يصل الراوي إلى مبتغاه من هذه التهيئة السردية البلاغية الطويلة، فهذا الرجل هو الطاغية عبد الحميد الذي يتقوقَع في قوقعة بعيدة داخل أسوار يلدز نفسها، هي القوقعة الأصلب المسماة قصر يلدز الصغير، الذي تتضاعف حوله حراسة مشددة، تخطف أي شخص يقترب خطفًا ولا يمتلك كلمة سر المرور التي تتغيَّر كلَّ بضع ساعات.
لقد بدأ الراوي العليم علمًا مطلقًا، قبل الفصل ٢٢ «يلدز بعد نصف الليل» — الذي انتهيتُ من تحليله توًّا — في الفصلَين ٢٠ وعنوانه «الآستانة» والفصل ٢١ وعنوانه «يلدز»، على مدى الصفحات من ص٨٠ حتى ص٨٩، في وصف ما ينطويان عليه — الآستانة ويلدز — من روعة المناظر الطبيعية وفخامة المباني وبهاء الحدائق والطرقات المعتنى بها غاية الاعتناء، حتى لَيظن القارئ أنه سيُقدِمُ على مطالعة مظاهر الحياة الطيبة المُترَفة التي يعيشها الناس في هذين المكانين، فإذا بالراوي يفاجئ قارئه في الفصل ٢٢ «يلدز بعد نصف الليل»، بتصوير مظاهر الطغيان وآثاره التي تجاوزت الناس إلى الطبيعة، بل يَختمُه ختامًا يتأكد معه أن كل مناظر الطبيعة الرائعة وفخامة المباني وبهاء الحدائق والطرقات، هي بلا جدوى أو معنى. إذ ما نفعها أو جدواها ما دام ذلك الرجل الطاغية عبد الحميد:
محرومًا مما يتمتَّع به أحقر رعاياه مع مخاوفهم ومظالمهم … إنهم ينامون بلا حراس، وإذا خافوا نزحوا إلى بلاد الله واسعةً … وهو لا يستطيع نزوحًا؛ لأنه يخاف على حياته من الجميع … حتى من أعوانه وحراسه، ومِن أولاده ونسائه … يخاف من طعامه وشرابه … يخاف من فراشه ووِساده، لا يستقر به مضجع ولا يهدأ له بال … يقضي ليله ساهرًا حذرًا، وإذا غلبه النعاس توسدَ كرسيًّا … وكان نومه متقطعًا يتقلَّب على أشواك المخاوف (الرواية، ص٩٢–٩٣).
«عبد الحميد في ليله»: سيكولوجية الطاغية من منظور الراوي
النفْس الطاغية
ينطلق جُرْجي زيدان في تمثيله لسيكولوجية عبد الحميد الثاني — جاعلًا الراوي نائبًا عنه في ذلك — من فكرة سياسية سيكولوجية، عبر عنها إمام عبد الفتاح إمام مستندًا إلى نظرية أفلاطون عن حُكم الطاغية، تقول إن:
إن نفس الطاغية وضيعة فقيرة إلى أبعد حدٍّ، بل هي أفقر مما يظن الناس. وذلك لأن الشطط في السيادة له عواقب وخيمة كالخوف والقلق (انظر الرواية، ص٩٣)، هكذا يبدأ الراوي الفصل ٢٣ وعنوانه «عبد الحميد في ليله». ثم يأخُذ في تصوير ذلك الخوف والقلق على النحو الآتي:
ولو أُوتيت المعجزة، فلبسْتَ قبعةَ الإخفاء … ودخلْتَ ذلك القصر الفخم في غفلة من الحراس، وأقبلت على المابين الصغير مسكنه الخاص في الساعة الثالثة بعد نصف الليل، لعلمْتَ أن أهل تلك القصور قد استغرقُوا في نومهم حتى الحراس المكلَّفين بالسهر والحذر … حتى هؤلاء غلب عليهم النعاس فناموا ولم يبقَ أحد ساهرًا هناك، ولا الحشرات … حتى الأشجار أطبقت أزهارها تلتمس الراحة، إلا صاحب ذلك القصر وسيده الذي أُوصِدَت الأبواب لوقايته، وأُقيم الجند لحمايته … فإنه ظلَّ ساهرًا يتقلب على كرسي طويل توسده، وقد التف بملاءة من الصوف وأخذ يقرأ تقريرًا جاءه من بعض جواسيسه، فأقلق راحته وحرمه النوم. وقد غلب عليه التعب والأرق … وهو يطلب النوم ليُريح جسمه ويبعد مخاوفه فلا يجد إليه سبيلًا (الرواية، ص٩٣–٩٤).
ورغم ذلك التقرير الذي يُفيد بوجود أنباء عن إنشاء جمعية جديدة مُناهِضة للسلطان وحُكْمه، بخطة جديدة محورها ضم ضباط الجيش العثماني إليها (انظر الرواية، ص١٠٦–١٠٧)، فقد حاول عبد الحميد في تلك الليلة النوم، ولكنه لم يستطع إليه سبيلًا، بسبب الأحلام المزعجة التي تنتابه، ففضلَ اليقظةَ مُستغرقًا في أفكار متضاربة بدلًا من الذهاب فريسة تلك الأحلام المزعجة (انظر الرواية، ص٩٤). وظن عبد الحميد أن علَّة كَدَر النوم من الفراش:
فغادر الكرسي في غرفة المائدة إلى كرسي في غرفة البيانو … فلم يُجْدِه التغييرُ نفعًا، فرمى الورق من يده ومشى يطلب النوم في غرفة أخرى. ثم ندم فعاد والتقط تلك الأوراق المُتناثرة فجمعها ورتبها واحتفظ بها وضمها إلى صدره، وذهب إلى كرسي آخر في غرفة الكتابة وطفق يقرأ وهو لا يفهم ما يقرأ لفرط التعب، وغلبه النوم فنام حتى مطلع الفجر (الرواية، ص٩٤).
والأكثر من هذا، يذهب الراوي في تصوير حالة الفقر والوضاعة التي عليها نفس عبد الحميد في قلقِه وتوتره مذهبًا يجعل معه عبدَ الحميد في حالة تناقض صارخة مع بقية المخلوقات الحية من حوله كالأشجار والعصافير والحمام والأوز والطاووس … إلخ، مما امتلأت بها حديقة قصره. فبعد أن استيقظ من تلك الغفوة القصيرة التي لم تتجاوَز الساعة، يقول الراوي:
دخل الحديقة وهو مُلتفٌّ بالعباءة، وقد تأبط ذلك التقرير تحتها. وكانت الشمس قد أطلَّت من وراء جبال آسيا فأصابت أشعتها أطراف الأغصان، فاستيقظت العصافير وأخذت ترفرف وتزقزق. وابتسمت الأزهار وصفقت الأوراق وسرح الأَوِز في البحيرة حول القوارب. وتطاير الحمام في أبراجه وأخذ يتداعب، هذه تتمايَل، وتلك تهدر، وأخرى تحضن فراخها … وبسط الطاووس ذيله، وتبختر في قفصه مزهوًّا وتجاوبت الكراكي والحساسين، وصهلت الخيول … وأصبح كل حي في تلك الحديقة ضاحكًا مسرورًا إلا عبد الحميد، فإنه مشى في أكنافها مقطِّب الوجه، مُنقبض النفس في غفلة عن كل ذلك (الرواية، ص٩٥–٩٦).
ومن الواضح هنا أن سبب غفلته عن كل هذه المظاهر الطبيعية المُبهِجة هو وَضَاعَة نفس الطاغية وفقرها. والحق أن نفس الطاغية بما هي عليه من وضاعة وفقر ليست سوى نتاج طبيعي لما يُشيعه الطاغية من رعب وفزع فيمَن حوله، ولا سيما حاشيته المحيطة به، فها هي ذي مربية ابنه نور الدين أفندي يَختلج قلبها خوفًا من غضب السلطان «لئلا يظن بها سوءًا فيقتلها. وقد عَرَفتْ كثيرًا من أمثال هذه الفظائع في يلدز يُقتَلُ فيها الرجلُ أو المرأة بطلق ناري من يد عبد الحميد لمجرد التوهُّم أنه جاء بدسيسة … فظلت واقفةً في الخارج وودتْ لو أن الأرض تبتلعها وتخفيها، ولولا علمها أن عبد الحميد يكون في مثل ذلك الوقت منزويًا في مكتبه يقرأ التقارير ما رافقت الغلام إلى هناك» (الرواية، ص٩٧).
وفي حوارٍ بين عبد الحميد وابنه نور الدين أفندي الذي يبلغ من العمر سبع سنوات، أخذ يُداعبه قائلًا: «ألا تعطيني هذه الببغاء، وأعطيك هذه السبحة الجميلة …»، فردَّ الغلام على أبيه السلطان ردًّا دالًّا: «إن الببغاء لك أيضًا … ألسنا جميعًا ملكًا لك تفعل بنا ما تشاء …» (الرواية، ص١٠٠). وتُعد دلالة رد الابن على والده السلطان كاشفة عن واقع الحال الذي يعيشه عبد الحميد، فنفسه الطغيانية الخاوية تبحث عن امتلاك كل ما يقع خارجها إلى درجة أن ابنه يعلم ذلك ويحفظه. وليست الحجةُ التي قالها عبد الحميد لنفسه ردًّا على إجابة ابنه المفاجئة له بأن أمه «القادين» قد علَّمته هذا الكلام تفسيرًا لقول ابنه الغلام؛ بل هي واقع حقيقي يحرص عبد الحميد على إشاعته فيمن حوله، وذلك إلى درجة أنَّ السر خفية، أيْ رئيس الجواسيس، يصف علاقته بسلطانه عبد الحميد بأنها علاقة عبودية، فيقول السر خفية في حديثه مع سلطانه عبد الحميد: «إذا أذن لي مولاي البادشاه قلت ما يَخطر لي وهو ما تدعوني إليه عبوديتي» (الرواية، ص١٠٨). كذلك يصف السر خفية جاسوسَ السلطان في سلانيك، ناظم بك، موجهًا حديثه إلى السلطان قائلًا: «إنه في الحقيقة من العبيد المُخلِصين للسدَّة الشاهانية» (الرواية، ص١١٠). وكذلك يصف رئيسُ أغوات يلدز نادر أغا نفسَه بأنه عبد الذات السلطانية المقدَّسة (انظر الرواية، ص١٦١). وكانت هذه الطريقة في وصف العلاقة بين السلطان عبد الحميد وأعوانه مِن رجال الدولة مما يطرب له عبد الحميد.
ولعل ما يؤكد علاقةَ العبودية تلك ونظرةَ عبد الحميد إلى أعوانه، بل إلى رعيته، على أنهم عبيد إحسانه، موقفُه من الببغاء حين قلَّد صوته، ويورد الراوي هذا المشهد الحواري الآتي:
وأخذ عبد الحميد يهمُّ بالنهوض، وإذا هو يسمع صوتًا مثل صوته تمامًا يُنادي: «نادر أغا … نادر أغا.» وفيه نغمة الاستبداد مثله فأجفل، وما لبث أن رأى نادر أغا عائدًا ويكاد يتعثَّر بساقيه لطولهما فقال عبد الحميد: «مَن دعاك …؟» قال نادر: «ألم يدعُني مولاي؟ … لقد سمعتُ أمره بأذني.» وكان نور الدين أفندي واقفًا بإزاء قفص الببغاء وقد أغرب في الضحك فقال له أبوه: «وما يُضحكك … مَن نادى نادر أغا …؟» فأشار الغلام إلى الببغاء وقال: «هذه» قال ذلك وهو يتوقَّع أن يبدو سرور الإعجاب على وجه أبيه لإتقان الببغاء التقليد، ولكنه رأى عكس ذلك … فظهر الغضب في عيني عبد الحميد وصاح: «أخرجوا هذا الطير من قصري أو اقتلوه فإني لا أطيق أن أسمع صوتًا يأمر وينهى غير صوتي.» قال ذلك بلهجة الحنق والاستبداد حتى سمعه كل مَن في الحديقة من الحاشية والنساء والسُّياس، وتولاهم الرعب من شؤم ذلك النهار الذي ظهر غضب السلطان في أوله (الرواية، ص١٠١–١٠٢).
ظل الله على الأرض
وتتعاظَم الصورة الطغيانية في نفس عبد الحميد إلى حد أن الطرب قد استخفَّه في لقائه بالسر خفية لكي يتباحثا في شأن الجمعية السرية الجديدة المناهضة له، عندما قال له السر خفية: «إنَّ العمدة في الجند على العساكر، وهم السواد الأعظم، ونحن على ثِقة أنهم يتفانون في الدفاع عن أمير المؤمنين ظل الله على الأرض.» «فأثر ذلك الإطراء في نفس عبد الحميد» (الرواية، ص١٠٦–١٠٧).
ولكن ظل الله على الأرض يعيش حياةً تَعِسَةً؛ إذ يبدو في دخيلة نفسه أفقرَ الفقراء؛ لأنه يتوقع الاغتيال في أي لحظة، ومن أي أحد من أفراد حاشيته أو حرسه، وهو ما يبدو واضحًا حين مرَّ بين صفوف حرسه الألباني «وهم يُحيونه التحية العسكرية وهو يرمقهم خلسةً ويلاحظ حركاتهم ويده في جيبه تحت العباءة على المسدَّس لئلا يكون هناك مَن يترصَّد قتله، فيسبقه هو إلى القتل بالرصاص، وكان من أمهر الناس في إطلاقه» (الرواية، ص١٠٢). ولا يُفارقه ذلك المسدس حتى في نومه، فهو يضعه تحت الوسادة، «كأنه في الصحراء على موعد من هجوم أهل البادية عليه … ورغم ما يُظهره من الثقة بأعوانه ورجاله فهو يخشاهم جميعًا، وقد تَمكن في خاطره أن الإنسان خلق شريرًا، وأن أول أغراضه في هذه الحياة أن يغتال إخوانه ويَسلُبَهم مالَهم بأيَّة وسيلة كانت» (الرواية، ص١٢٠). وحتى عندما يتناول عبد الحميد طعامه، تسبقه إجراءات مشددة من حيث طريقة إعداده وتجهيزه وتقديمه إليه على المائدة؛ إذ تمرُّ هذه المراحل بإجراءات تأمينية خاصة تضمن سلامته من الاغتيال بالسم (انظر الرواية، ص١٣٣–١٣٤).
ويُلخِّص الراوي العوامل الحاكمة في نفس الطاغية تلخيصًا يفسر به سيكولوجيًّا ما آلَ إليه عبدُ الحميد على مستوى مشاعره الباطنة وسلوكه الخارجي، فيقول:
وقد نشأ عبد الحميد من صغره حَذِرًا سيئ الظن، ولما تولى السلطنة توالت عليه المخاوف، وخاصة لما شاهدَه بعينَيه من خلع عمه، ثم موته ومقتل عوني بجرأة حسن الشركسي، ثم خلع أخيه مراد. فرأى حياةَ السلطان ليسَت أكثر صيانة من حياة العامة، بل إنها أكثر تعرضًا للخطر منها. فزاد تعلقًا بالبقاء واشتدَّ خوفه على نفسه من المحيطين به حتى بلغ درجة الهوس والجنون … فأصبح لا يسمع حديثًا أو يرى مشهدًا أو يقول قولًا، أو يعمل عملًا إلا وهو ينظر من وراء ذلك إلى علاقته ببقائه (الرواية، ص١٢٠–١٢١).
سياسة عبد الحميد في الحُكْم: من منظور الراوي
في حوار شائق ودالٍّ بين السر خفية والسلطان عبد الحميد، يمتدُّ على طول الفصل ٢٧ وعنوانه «الدستور»، يجد القارئ تبرير عبد الحميد ورئيس جواسيسه لإلغاء الدستور وحل مجلس المبعوثان؛ وذلك أثناء تباحثهما بشأن الجمعية الجديدة التي تشكَّلت في سلانيك من ضباط الجيش، وهم يزعمون أنهم يجاهدون من أجل الدستور. وكشأن كل طاغية، أجفل السلطان من ذِكْر الدستور وتساءل مستنكرًا: «الدستور … لماذا يطلُبونه؟!» (الرواية، ص١١٢). وقد أعرب رئيس الجواسيس في رده عن أن سلطانه مِن أرغب الناس في منح الدستور «لرعاياه متى رأى فيهم الاستعداد له. ولكن متى كان أهل الشرق يُحكمون بالدستور، وقد تكرَّم جلالة البادشاه فمنحهم إياه فلم يُفلحوا، ولا عرفوا كيف يستخدمونه!» فرد عليه عبد الحميد مُصدِّقًا على كلام رئيس الجواسيس: «قد أعطيناهم الدستور فأفسدوه … إنهم لا يصلحون له» (الرواية، ص١١٣).
ولكن رئيس الجواسيس يقدم في حواره مع السلطان تبريرًا دينيًّا آخر لإلغاء الدستور مفاده أنه:
يخالف الشرع الشريف … أليس جلالة السلطان خليفة الرسول ﷺ، وينبغي أن يقتدي به … هل كان الخلفاء الراشدون يحكمون بالدستور؟ … إنه من بِدَع النصارى أهل أوروبا […] ولكن بعض المغرورين اللئام من رعايا جلالة السلطان فسدت طباعهم بمُعاشَرة الإفرنج، فأرادوا أن يُقلدوهم في نظام الحكم كما قلَّدوهم في الملابس والطعام والخمر والمقامرة … فأغفلُوا قواعد الدين الحنيف، وعصوا أوامر النبي ﷺ، ويُريدون أن يعصوا أوامر خليفته فخرجوا عليه (الرواية، ص١١٣).
هكذا يتحالَف التبريران؛ الأول المستنِد إلى التمركز الأبوي سياسيًّا، والثاني المستنِد إلى الفكر الديني الفقهي، من أجل رفض الدستور، وكذلك تقديم المسوغ للتخلص من أعضاء الجمعية الجديدة — جمعية الاتحاد والترقِّي في سلانيك — بالقتل؛ لأنهم من الخوارج الذين خرجوا بمطالبتهم بالدستور على أوامر خليفة الرسول، عبد الحميد الثاني.
ويقود هذا المنطق السياسي التبريري، الذي يقدمه عبد الحميد الثاني ورئيس جواسيسه، إلى فَهْم دعوة جمعية الاتحاد والترقِّي بوصفها نوعًا من الصراع الشعوبي، الذي ينبغي على السلطان مكافحته وإخماده في منشئه، فعبد الحميد يُصرح في حواره مع رئيس جواسيسه باهتمامه بأمر العرب، ولا سيَّما أهل الشام، الذين تبنوا في حركتهم الجديدة — التي جعلوا مقرها سلانيك — خطةً غير تقليدية، محورها إنشاء «جمعية يضمُّون إليها ضباط الجند، وهم مُسلمون، فيدعونهم باسم الأمة العربية … ويَزعُمون أنهم مادة الإسلام وأصله، وربما حدَّثتهم أنفسهم باسترجاع مجدهم … وقد يستطيعون خداع بعض ضباط جندنا بهذه الحيلة» (الرواية، ص١٠٧).
ومن ناحية أخرى، يعلق عبد الحميد — في مباحثة ثانية بينه وبين رئيس جواسيسه — على نشاط الجمعية الجديدة الهادف إلى الجمع والتوحيد بين القوميات والمذاهب المختلفة في أنحاء الدولة العثمانية، فيقول ضاحكًا: «إنهم يطلبون عبثًا … يُريدون أن يجمعوا النصارى والمسلمين ليتَّحِدوا على … خاب فألهم، إنَّ ذلك مستحيل عليهم … يُريدون أن يجمعوا بين البلغاري، والسربي [يقصد الصربي]، والمكدوني، والتركي، والعربي … كيف يجمعونهم وقد فرَّقْنا بينهم تفريقًا ومزَّقْنا جامعتهم تمزيقًا؟!» (الرواية، ص١٥٠). ويكشف هذا التعليق عن السياسة التي يتبعها عبد الحميد من حيث التفريق بين عناصر الأمة وملء «قلوب كل عنصر حقدًا على العناصر الأخرى» (الرواية، ص١٥٢). وفي هذه الجلسة نفسها، أيدَ السلطانُ خطةَ رئيس جواسيسه التي تستند إلى استخدام الدين، في حركة عكسية، من أجل إفشال مساعي جمعية الاتحاد والترقي في الجمع بين عناصر الأمة؛ حيث يقول رئيس الجواسيس:
إني أرى أن يكون الجزاء من جنس العمل، هم يحاربون الدولة بجمع العناصر ونحن نحاربهم بتفريقها … ولا وسيلة لذلك خير من الدين …» فقال السلطان وهو يحكُّ ذقنه بسبابته: «عفارم … هكذا … هكذا …». فقال السر خفية: «هم يشتكون لأوروبا أنهم جميعًا مظلومون ويسعَون في تفهيم الرعايا أن الوسيلة الوحيدة هي أن يجتمع المسلم والمسيحي، ونحن نُبيِّن للمسلمين أن هذه المساعي إنما يراد بها ضياع دينهم وإدخالهم في زمرة الكفار …» فقطع السلطان كلامه بقوله: «عفارم … إن شعبي من المؤمنين شديدو الغيرة على الإسلام. وأزيد على ذلك أن السَّير على هذه الضلالات والإصغاء إلى هذه الرجاسات يؤدي إلى خروج نساء المسلمين حاسرات الوجوه كنساء الإفرنج الكفار … أنا أعلم تمسك عامة المسلمين بالحجاب (الرواية، ص١٥٣).
وأما فيما يتعلَّق بسياسة عبد الحميد في التعامل مع أعوانه وأفراد حاشيته فهي تَعكس سياسته في التعامل مع عموم رعاياه على اختلاف قومياتهم وعناصرهم؛ إذ يَلجأ أيضًا إلى خلق الشقاق بين أعوانه وأفراد حاشيته المقرَّبين حتى لا يجتمعوا عليه، بأن يجعل بعضهم يتجسَّس على بعض، ويستعين في سبيل ذلك بقدرٍ كبير من المال يحتفظ به في خزانة سرية، لا يعلم أحد غيره شيئًا عنها. يقول عبد الحميد، مُحدثًا نفسَه، وهو واقف أمام خزانته السرية يتأمَّل ما فيها من ذهب وجواهر وأوراق مالية: «لولا هذا المال لكنتُم أنتم أصحاب السلطة [يقصد أعوانه من كبار رجال الدولة]… أنتم تخدعونني طمعًا في المال، وأنا أخدعكم ولا أُعطيكم إياه … هو سلاحي وبه حياتي» (الرواية، ص١٥٩). وقد انتهت هذه السياسة إلى أن يصرح الراوي بلا موارَبة واصفًا كبار رجال دولة عبد الحميد وأعوانه في يلدز بأنهم «قد باعد الشِّقاق بينهم فتراهم جميعًا وقلوبهم شتى» (الرواية، ص١٦٥).
وإذا كان عبد الحميد يبادر إلى قتل أحد رعاياه على الشبهة دون تحقيق، فإنه في الوقت نفسه يخشى من قتل الأجانب تجنُّبًا لغضب الدول الأوروبية عليه، يقول الراوي: «ولو لم يكن مدير هذه الفرقة أجنبيًّا لأمر بقتله، ولكنه كان يخشى قتل الأجانب» (الرواية، ص١٣٥).
ميكيافيلِّية عبد الحميد: الكذب والخداع والقتل
بعد ترحيل رامز من سلانيك مخفورًا إلى الآستانة، تعرض لأشكال مختلفة من الاستجواب والتحقيق، فمرةً استجوبه الباشكاتب في دائرته بقصر يلدز، بصورة غير مباشرة تنطوي على إظهار الشفقة عليه مما هو فيه، ولكنه لم يظفر بشيء منه عن أعضاء جمعية الاتحاد والترقي في سلانيك وأسمائهم (انظر الرواية، ص١٦٣–١٦٣، ص١٦٧–١٦٨). ومن دائرة الباشكاتب في يلدز، نقله الجنود إلى إحدى غرف قصر مالطة، في يلدز أيضًا، وهو محبس كبار رجال الدولة، وقد حُبِسَ فيه مدحت باشا أبو الأحرار أثناء محاكمته التي حُكِمَ عليه فيها بالنَّفي إلى الطائف حيث لقي حَتْفَه (انظر الرواية، ص١٦٨، ص١٦٩). وفي هذا القصر، تعرَّض رامز لاستجواب غير مباشر على يد السر خفية (رئيس الجواسيس) الذي جاءه ليلًا مُتنكِّرًا في صورة شخص ملثم (انظر الرواية، ص١٧٣)، تحت زَعْم أنه يقدم له نصيحة مُفادها أنه لا سبيل للنجاة أمامه بغير ذكر أسماء أعضاء الجمعية (انظر الرواية، ص١٧٠–١٧٢). ولما لم يظفر الباشكاتب ورئيس الجواسيس من رامز بشيء، كَلفَ السلطانُ باستجوابه عزت باشا، أحد كبار معاونيه السياسيين، والاستجواب يخرج عن دائرة عمله، ولكن السلطان كلفه به لذكائه المفرط وشدة دهائه (انظر الرواية، ص١٦٣). واستخدم عزت باشا كل وسائل التلطف والمكر والحيلة، فاتبع أسلوب المناقشة الفكرية حول إصلاح أحوال الدولة وسوء الإدارة، وانتهى منه بأنْ طلب رامز مقابلةَ السلطان ليبوح له بما عنده (انظر الرواية، ص١٧٨–١٨٥).
ثم تحققت مقابلة رامز للسلطان، فوقف السلطان على ما يتسم به رامز من صفاء النية والإخلاص لجمعيتِه وسرعة التصديق والرومانسية السياسية، فأظهر له لين الجانب وسهولة الإذعان للحق الذي يحاول رامز إقناعه به، وقد أدرك السلطان أنه لن يظفر منه بشي إلا حيلةً ومكرًا وخداعًا ودهاءً (انظر الرواية، ص١٩٣–١٩٧). وهنا، يقول الراوي:
تلك كانت مزية السلطان عبد الحميد التي كان يغلب بها أعداءه؛ فإن أحدهم مهما يكن من سوء ظنه به لا يلبث إذا جالسه وخاطبه أن يخرج من عنده، مقتنعًا راضيًا، حتى كبار رجال السياسة من الأجانب. وقد اعترف له كثيرون بهذه الموهبة. ولم يكن رامز من أهل الدهاء والحنكة، وإنما يغلب في طباعه حرية الضمير، واستقلال الفكر … لا يعرف الكذب، ولا يدرك الرياء والنفاق إلا بالسماع. فهو لذلك سريع التصديق لما يسمعه يؤمن به على ظواهره … فلما سمع كلام السلطان عبد الحميد تأكَّد أنه صادق فيما يقول، وحمد الله على وقوعه في تلك الورطة ليكون وسيلة التفاهم بين السلطان عبد الحميد والأحرار (الرواية، ص١٩٦).
وانتهت المقابلة بالاتفاق على أن يتكتَّم الاثنان ما دار بينهما من حديث، حتى يتدبر السلطان أمر لقائه سرًّا بكبار رجال جمعية الاتحاد والترقِّي بعيدًا عن أعين حاشية السلطان ورجاله اللصوص المنافقين الذين يهمهم توسيع الخرق بينه وبين رجال جمعية الاتحاد والترقِّي المخلصين في إصلاح إدارة الدولة (انظر الرواية، ص١٩٦–١٩٧). ثم نهض عبد الحميد «ونظر إلى رامز نظرة الاستئناس، وقال له بصوت منخفض: اكتم ما دار بيننا، وأنا سأكتمُه … وسأُعيدك إلى سجنك كالعادة، وأوصي الحراس أن يحتفظوا بك فلا تهتم بذلك …» (الرواية، ص١٩٧).
وهنا، يعقد الراوي مقابلةً حادة وصارخة بين شخصيتين: شخصية رامز الذي يتَّصف بحرية الضمير واستقلال الفكر وسلامة الطوية، والذي يرغب في إصلاح إدارة الدولة، من جهة؛ وفي الجهة المقابلة يقف الثعلب الماكر عبد الحميد المتَّصف بالمكر والخديعة وشدة الدهاء، والغدر والخيانة. ويؤكد الراوي صفات عبد الحميد تلك، بعد ذهاب رامز مباشرةً، تأكيدًا تشخيصيًّا على النحو الآتي:
لما خلا السلطان عبد الحميد بنفسه ومشى في الدهليز المؤدِّي إلى غرفة النوم، وقع نظره على الصورة التي مثَّلوا له بها مدحت ورجاله، فوقف عندها وهو يحدق فيها بعين الغدر، كأنه يرى مدحت بين يديه ويهمُّ أن يصفعه، ثم صَر على أسنانه وزمجر كالشبل الجريح، وهز رأسه وهو يتحول عن الصورة وقال: «ويل لكم من أشرار أغرار … تصدقون أن السلطان عبد الحميد يَصبر على وقاحتكم باسم الحرية؟ … أبمثل هذه الجسارة يُخاطَب السلطان عبد الحميد، سلطان البريْن، وخاقان البحرين؟ حتى هؤلاء الغلمان يَزعُمون أنهم ينصحون لي؟ … إن رجلًا يخاطبني بهذه الوقاحة لا ينبغي له أن يبقى على قيد الحياة» (الرواية، ص١٩٧–١٩٨).
وعلى مدى الفصلين رقم ٥٣ وعنوانه «باب السر»، ورقم ٥٤ وعنوانه «المهمة الكبرى» (ص٢١٤–٢٢٠)، يسرد الراوي سردًا تشخيصيًّا تفاصيل خطة عبد الحميد الماكرة في لقائه الثاني برامز سرًّا — بعد نقله من محبسه في قصر مالطة إلى محبس جديد في قصر جيت أحد قصور يلدز أيضًا — حيث ظهر له عبد الحميد من بابٍ سرِّي مُتنكرًا على هيئة «شبح ملتف بملاءة بيضاء كأنه خارج من القبر» (الرواية، ص٢١٥). وأساس خطته الماكرة إيهام رامز بأنه — أي عبد الحميد — محاط بحاشية من الأشرار الذين هم أصل المتاعب بينه وبين الأحرار العثمانيين، ولا يعرف كيف يتخلص منهم بسبب كثرة المراقبين والجواسيس عليه في كل آنٍ ومكان. وها هو ذا عبد الحميد يبدو في صورة طالب النصيحة من رامز، ويكاد صوته يختنق كأنه يُجهش بالبكاء حتى لم يبقَ عند رامز شك في صدق قوله (انظر الرواية، ص٢١٧). وأخذ عبد الحميد يستميل رامز إليه بأنه يُريد التخلص من المنافقين المحيطين به، ولكنه لا يستطيع ذلك قبل أن يلتقي برجال الاتحاد والترقِّي والتباحث معهم سرًّا للاتفاق على طريقة القضاء على حاشيته وكبار رجال دولته المنافقين الأشرار الذين يُكبِّلونه ويقيدون حركته، والتدبر في شئون الحكومة الجديدة من أجل إحياء الدولة واستعادة مجدها (انظر الرواية، ص٢١٧). ثم أخذ عبد الحميد يَستوثِق من مدى قوة رجال الاتحاد والترقي التي دللَ عليها رامز بأن الجمعية اجتذبت إليها ضباط الجيش في سلانيك «فإذا أرادوا عملًا حقَّقوه بالقوة ولا سيما إذا كانت إرادة الذات الشاهانية معهم. وكان السلطان عبد الحميد يسمع ذلك وقلبه يكاد يتميَّز غيظًا، لكنه تجلَّد على عادته وأظهر سروره، فانبسطت أساريره وظهر البِشْرُ على محياه، فاستأنس رامز بمنظرِه ورقص قلبه طربًا» (الرواية، ص٢١٨). واتفقا، في النهاية، على أن يُطلق السلطان رامز إلى سلانيك سرًّا — بحيث يبدو الأمر وكأنه فَر من مَحْبسه — كي يأتي بوفد رفيع المستوى من الاتحاد والترقي للتباحث سرًّا مع السلطان في يلدز، حتى تنتهيَ المشاكل «في جلسة واحدة تنتقل بها الدولة من حال إلى حال» (الرواية، ص٢١٩). بل وصل أمر استئناس رامز بالسلطان عبد الحميد وتصديقه له أنْ طلب منه خبر والده سعيد بك المُختفي منذ بضع عشرة سنة في أحد محابس قصور يلدز (انظر الرواية، ص٢٢٠–٢٢٢).
لقد انطلت خدعة السلطان على رامز، وما هذا الانطلاء سوى إدلال قوي على شدة دهاء السلطان ومكره. وثمة مشهد دال لرامز بعد انصراف السلطان عنه يُبين — ضمنًا — حدة التقابل بين الشخصيتين؛ السلطان الطاغية الماكر ورامز الثوري البريء براءة الأطفال الصغار:
وبقي رامز في مجلسه وقد تولَّته الدهشة، وأخذ يفرك عينَيه لئلا يكون في حلم، فتحققَ أنه في يقظة فقال في نفسه: «ما هذه الغرائب المُدهِشة؟ … السلطان عبد الحميد يطلب الدستور من تلقاء نفسه! … إذا تمَّ ذلك على يدي، فما أعظم سروري … هل أرى والدي الآن وأنجو به؟ رُب شر ينتج عنه خير … لو لم يَشِ بي عدوِّي ويُلقيني في هذه الورطة لم أُوَفق إلى ملاقاة والدي ولا إلى ما أرجوه من الانقلاب السياسي … لا أُصدِّق أني أصل إلى الجمعية وأقُص عليها أخباري …» (الرواية، ص٢٢٢).
ولما حكى رامز لوالده سعيد بك ما كان من شأن السلطان عبد الحميد واتفاقه معه، انطلى الخداع أيضًا عليه (انظر الرواية، ص٢٢٣–٢٢٤).
هكذا، يُورِدُ الراوي مناجاة عبد الحميد لنفسِه بعد اطمئنانه إلى اتِّفاق «المهمة الكبرى» مع الشاب الثوري رامز، على النحو الآتي:
ثم ناجى نفسَه قائلًا: «ظنَّ ذلك الشاب أني وثقت به وبوعده، ويزداد اعتقادًا بصدقي متى أطلقت سراح والده … وهو يرى ذلك ثقةً مني بهما … ومَن يثق بهما إلى هذا الحد … لكن بقاء رامز هنا لا فائدة منه لأنه مُصمِّم على الإنكار ولا فائدة لي من قتله إذا لم أقتل كبار تلك الجمعية الجهنمية. وزِدْ على ذلك أن شيرين هنا في قبضة يدي وهو لا يعلم، فإذا علم بعد ذلك أنها رَهْنٌ عندي حتى يُحقِّق وعده تفانى في الإنجاز … وقد أخبرني صائب بك أنه يتفانى في حبِّها، فإذا جاءني ولم يفعل، ولا هي اعترفت بأسماء أولئك الناس قتلتهما … ولكن حيلتي ستنطلي على مؤسِّسي تلك الجمعية ويرون من إطلاقي سراح أحدهم بعد أن قبضت عليه صدق نيتي في التماس آرائهم للإصلاح، فيأتيني كبارهم … ومتى أتوا أذيقهم الموت فيخاف رفاقهم وتضعف عزائمهم، وتذهب هذه الجمعية كما ذهب غيرها من قبل ونتخلَّص منها» (الرواية، ص٢٢٦–٢٢٧).
ثم اعتدل في مجلسه وزمجر كالشبل الجريح، ووقف بغتةً وقد أخذ الغضب منه مأخذًا عظيمًا وقال: تبًّا لكم من مغرورين جهلة … لن يبلغ كيدكم كيدي … سوف تذهبون طعامًا للأسماك، إني لا أزال أسفك وأقتل حتى تخلو الدنيا من المُعارضين لي … مهما يكن من ثقتهم بي فإني على رأي ماكيافيللي … لله دَر هذا الفيلسوف … صَدَقتَ يا ماكيافيللي، إن الرجل العظيم لا يستطيع أن يستقلَّ بحُكمه وينجو من الرقباء والحُساد إلا إذا أغضى عما يُسمونه الشرف، والأمانة، والوفاء في معاملة أعدائه … ولا بأس إذا ضحَّى بهذه الفضائل في سبيل المحافظة على الدولة أو الوطن، وأن يستبدلها بالمكر والدهاء، وهي ما يسميه الجهلاء خيانةً وغدرًا … ليست الخيانة أن أحتال على عدوي حتى أظفر به وأقتله، وإنما هو الدهاء … وما فائدة الوفاء إذا اضطرني إلى إطلاق سراح رجل أعرف أنه يريد قتلي … بُورِكَ فيك يا ماكيافيللي … نعم اقتُلْ ثم اقتُلْ مَن شككت فيه، أو مَن تخاف منه شرًّا، ولو على سبيل الشك. تلك هي سياسة كبار الرجال … وهي التي سار عليها كبار القواد في تأسيس الدول (الرواية، ص٢٢٧–٢٢٨).
(٢) التمثيل التقديسي (المثالي) في السرد التاريخي الاستعادي
سلفَتِ الإشارة، أثناء التحليل السابق، إلى أن طهماز وصائب بك جاسوس السلطان عبد الحميد الثاني في سالونيك، ينظران إلى مقام السلطان عبد الحميد الثاني بوصفه مقام خلافة؛ أيْ إن عبد الحميد الثاني هو خليفة المسلمين، بل خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن هذا المنظور التقديسي الذي ينظر إلى عبد الحميد الثاني بوصفه خليفة الرسول، يأتي في سياق أحداث روائية تُؤكِّد — على امتداد العملية السردية — منظورًا تدنيسيًّا يرى عبد الحميد طاغيةً يسفك دماء معارضيه ويلاحقهم في كل مكان، ويقتل على الشبْهة، بل إن يلدز حيث مقر حكم السلطان عبد الحميد صارت مدفن الأحرار. والأكثر من هذا أن الراوي يَعْمَدُ — ترتيبًا على تمثيل عبد الحميد بوصفه طاغية يسفك الدماء — إلى تصوير شخصية عبد الحميد من الناحية السيكولوجية بأنه حاكم خائف مرتعب طوال الوقت من أن يغتاله أحد، ولا سيما أعوانه من رجال دولته المقيمين معه في يلدز مقر الحكم وإدارة الدولة، وبأنه حاكم أناني محب لجمع المال كي يستخدمه في الإبقاء على حياته وحفظ سلطانه ومصالحه الشخصية بغض النظر عن المصلحة العامة التي لا يلقي لها بالًا على الإطلاق، حتى بدا السلطان في تمثيلاته الروائية أقرب إلى حالة الهوس والجنون.
وإذا كانت كل جماعة بشرية متحضِّرة لديها ذاكرة جَمْعية تحتفظ فيها بمجمل خبراتها وتجاربها التي تُعينها على التعلم من التجارب والخبرات السابقة، وعلى التقدم أيضًا، فمن الممكن القول إجمالًا إن جناحَي هذه الذاكرة الجَمْعية المستمرة هما فنون «الأدب» و«التاريخ». فما اصطلح عليه العصرُ الحديث بأنه «أدب» كان يتكون سابقًا من الأساطير والقصص والحكايات والملاحم والسِّيَر الشعبية التي تصوغ خبرات الجماعة وتجاربها ورؤيتها للعلاقات بين الناس والعلاقة بين البشر والكون في صياغة تخييلية سواء شفاهية أو مدونة. وما اصطلح عليه العصرُ الحديث أيضًا بأنه «تاريخ» يتكون، في حقيقة أمره، من مشاهدات ومعاينات وروايات منقولة لأحداث واقعية حقيقية، يجري ترتيبها وفق منطق ومنظور محدَّدين، في صياغة واقعية لما وقع من أحداث.
ولكن القاسم المشترك بين «الأدب» و«التاريخ» أمران على درجة كبيرة من الأهمية، يتمثَّل أولهما في اللغة، فكلاهما يستعمل اللغة بما تنطوي عليه كلماتها وتراكيبها وأساليبها من دلالات وإيحاءات متعدِّدة؛ ويتمثَّل ثانيهما في أن «الأدب» و«التاريخ» ليسا في جوهرهما سوى إعادة بناء وتمثيل للواقع وفق منظور محدد. ومع أن هذا القاسم المشترك على درجة كبيرة من الأهمية، فقد نُظِرَ — طوال الوقت — إلى «الأدب» بوصفه كتابة تخييلية لا تنطوي على حقيقة واقعية، وإلى «التاريخ» بوصفه كتابة حقيقية تنطوي بالضرورة على تقديم الحقيقة.
الشهادة التاريخية في مقابل السرد الأدبي
-
التمدن الحديث: يقول عبد الحميد الآتي: «ليس من الصواب
القول بأني ضد كل تجديد يأتي من أوروبا، لكن
العجلة من الشيطان ويقابل العجلةَ الهدوءُ
والاعتدالُ. يجب أن نضع نصب أعينِنا ما تَفضل
به الله علينا … ليس الإسلام ضد التقدم، لكن
الأمور القيمة يجب أن تكون طبيعية وأن تأتي من
الداخل وحسب الحاجة إليها، ولا يُمكن أن
يُكتَبَ لها النجاح إذا كانت على شكل تطعيم من الخارج.»١٠٥ وينطوي هذا القول على إطار عام
محدد في التعامل مع شعار «التمدن الحديث»
الرائج حينذاك، أساسه الإفادة من الغرب في
العلوم الحديثة، وعدم استجلاب القيم الأخلاقية
والاجتماعية والثقافية، فضلًا عن أن الإفادة
من الغرب في العلوم الحديثة لا بد أن تنشأ
بالتدريج وحسب الحاجة، لا دَفْعةً واحدة. وقد
حَقق هذا المفهومَ عمليًّا، فأنشأ المدارس
الصناعية والتجارية والزراعية، وكل ما يتعلَّق
بالبنية التحتية في عهده.١٠٦
وأما عن استجلاب الأفكار والقيم الغربية الاجتماعية والثقافية وزَرْعها في التربة الإسلامية، فيُحدِّد عبد الحميد الثاني دورَ الإنجليز الصريح في ذلك، واستجابة المصريين، بوجه خاص، لهذا النوع من التطعيم الضار، فيقول:
الإنجليز قد أفسدوا عقول المصريين، لأن بعض المصريين يعتقد أن سلامة مصر ستأتي من الإنجليز […] هذا البعض أصبح يقدم القومية على الدين. ويظن أنه يمكن مزج حضارة مصر بالحضارة الأوروبية، وإنجلترا تهدف من نشر الفكر القومي في البلاد الإسلامية إلى هزِّ عرشي … وأن الفكر القومي قد تقدَّم تقدمًا ملموسًا في مصر. والمثقفون المصريون أصبحوا من حيث لا يشعرون ألعوبةً في يد الإنجليز. إنهم بذلك يهزُّون اقتدار الدولة الإسلامية ويهزُّون معها اعتبار الخلافة.١٠٧هذا التحديد الأيديولوجي الذي يتبناه عبد الحميد لمفهوم «التمدن الحديث» على نحو ما يراه، جعل دعاةَ القومية العربية يَعدون عبد الحميد رمزًا للقبضة الديكتاتورية،١٠٨ والرجعية، وبخاصة بعد لجوئه إلى خطة بديلة في مواجهة أشكال التمدن الحديث التغريبية التي استشعر أنها بادرةٌ أولى من بوادر الاستعمار الغربي. وقد تَمثلت خطته فيما سُمي ﺑ «الجامعة الإسلامية»، التي تقوم على توحيد الشعوب الإسلامية في مواجهة الاستعمار الغربي. والتمسَ في سبيل تحقيقها أسبابًا كثيرة، منها تحريك كبار رجال الفكر الإسلامي كالشيخ جمال الدين الأفغاني.١٠٩ -
مسألة اليهود: أدرك عبد الحميد أنه إذا سمح لليهود
بالتوطُّن في فلسطين، فمن المُمكِن أن تشتدَّ
قوتهم، وفي هذه الحالة «نكون قد وَقَّعنا
قرارًا بالموت على إخواننا في الدين.»١١٠ ويُوضِّح وجهة نظره قائلًا: «لا
يريد الصهيونيون الاشتغال
بالزراعة
فقط في فلسطين، بل إنهم يُريدون إنشاء حكومة
لهم وانتخاب مُمثلين سياسيين لهم، وإني أفهم
جيدًا معنى تصوُّراتهم الطامعة هذه، وإنهم
لَسُذج إذا تصوَّروا أني سأقبل محاولاتهم هذه
… إن هرتزل يُريد أرضًا لإخوانه في دينه لكن
الذكاء ليس كافيًا لحلِّ كل شيء.»١١١وتَرتبَ على تلك الاتصالات بين هرتزل والسلطان عبد الحميد الثاني أنْ طلب السلطان من سُفرائه في واشنطن وبرلين وفيينا ولندن وباريس «تعقب الحركة الصهيوينة وإرسال تقاريرهم أولًا بأول إلى السلطان […] وإرسال مُخبرين عثمانيين مُتنكِّرين إلى الاجتماعات الصهيونية في أوروبا، وإرسال قصاصات الصحف والمجلات الأوروبية المتعلِّقة بنشاط اليهود في أوروبا.»١١٢ وفي شهرَيْ يونيو ويوليو من عام ١٨٩٠م أصدر عبد الحميد أوامره ﺑ «عدم قبول الصهاينة في الممالك الشاهانية [الأراضي العثمانية] وإعادتهم إلى الأماكن التي جاءوا منها.»١١٣ وكان من شأن تصرُّف السلطان على هذا النحو تجاه اليهود ومَطالبهم أنْ عمل هرتزل واليهود على تدعيم أعداء عبد الحميد، مثل تأييد الأرمن والحركة القومية الانفصالية في البلقان والحركة القومية الكردية، وبوجه عام تأييد كل حركة استقلال عن الدولة العثمانية، ودَفْع أعضاء جمعية الاتحاد والترقِّي إلى قلب الأوضاع السياسية في الدولة.١١٤
-
جمعية الاتحاد والترقي: يُشير الدكتور محمد حرب في تقديمه للطبعة
الثالثة، المزيدة والمنقَّحة، من مذكرات
السلطان عبد الحميد الثاني إلى أن جمعية
«الاتحاد والترقي» هي أول حزب سياسي في الدولة
العثمانية، وقد ظهرت بشكل سرِّي أولًا عام
١٨٩٠م، على هيئة خلايا من طلبة العسكرية
والطبية العسكرية. وتَنبغي هنا ملاحظة أن ظهور
«الاتحاد والترقِّي» حدث بعد فشل هرتزل في
تحقيق مطالبه لدى السلطان عبد الحميد الخاصة
بشراء أراضٍ لليهود في فلسطين. وكان تأسيس
الجمعية يهدف إلى تركيز معارضة حكم السلطان
عبد الحميد في شكل تنظيمي والتخلص منه.
واكتشفت مخابرات السلطان هذه الجمعية السرية
في عام ١٨٩٧م، أيْ
بعد سبعة
أعوام من التأسيس، فنَفَى السلطانُ العديدَ من
أعضائها، وتَمكن بعضُهم من الفرار إلى باريس.
وعلى إثر ذلك، أرسل السلطان مدير الأمن العام
حينذاك إلى باريس من أجل استمالة الأعضاء
الفارِّين هناك، ومَنْحهم مناصب كبيرة في
الدولة، إلا أنَّ بعضهم، وعلى رأسِهم أحمد رضا
بك، ظلُّوا على معارضتهم.١١٥ولكن الجمعية المفكَّكة بدأت تستعيد نشاطها مرة أخرى، وكانت البادرة الأولى لذلك أنْ عَقدَ أعضاؤها مُؤتمرًا للأحرار العثمانيين في باريس في الفترة من ٤ إلى ٩ فبراير ١٩٠٢م، حضرته كل العناصر المعارضة بدعوة وتنظيم من أعضاء الاتحاد والترقي. وكان من ضمن قرارات المؤتمرين تقسيم الدولة العثمانية إلى حكومات مُستقلَّة استقلالًا ذاتيًّا على أساس عِرْقي قومي. ولم يكن من المستغرب أن يطالب المؤتمرون الدولَ الأوروبية بالتدخُّل لإنهاء حكم السلطان عبد الحميد وإقصائه عن العرش.١١٦وعقب المؤتمر، زاد نشاط جمعية الاتحاد والترقِّي في مدينتي سلانيك ومانستر، فافتتحت فروعًا لها فيهما والتحق بها الضباط الشبان من رتبتيْ ملازم ويوزباشي ممَّن يخدمون في الجيش الثالث العثماني؛ ومدينتا سلانيك ومانستر هما المدينتان اللتان شهدتا الكثير من أحداث تحرك جمعية الاتحاد والترقِّي للثورة والمطالبة بالدستور في رواية الانقلاب العثماني؛ حيث زاد نشاط الجمعية في هاتَين المدينتَين حتى تردَّد أن الضباط من الرتب الكبيرة، بل كل ضباط الجيش العثماني الثالث في البلقان، قد انضمُّوا إلى الجمعية قبيل مُنتصَف عام ١٩٠٨م.١١٧ وفي ٢٣ يوليو ١٩٠٨م، اضطرَّ عبد الحميد، بسبب المظاهَرات والاغتيالات والفوضى في الشوارع إلى إعلان العمل بالدستور،١١٨ فتولَّت جمعية الاتحاد والترقي الحُكْم، وأعلنت تمثلها مبادئ الثورة الفرنسية: الحرية والعدالة والمساواة والإخاء.١١٩وبعد إعلان الدستور بأقل من ثلاثة أشهر، استقلَّت عن الدولة العثمانية بلغاريا وكريت، كما استقلت البوسنة والهرسك. وفي ١٣ أبريل ١٩٠٩م دبر ضباطٌ من الجيش العثماني بإيعاز من رجال الاتحاد والترقِّي حادثة عُرِفَتْ باسم ٣١ مارت،١٢٠ ونسبوها إلى السلطان عبد الحميد قائلين إن السلطان يستعين بعناصر رجعية من الجيش ضد رجال الاتحاد والترقي، فاتخذ الجيش هذه الحادثة ذريعةً للتحرك بهدف عزل السلطان، وندبوا لإبلاغه قرار العزل وفدًا من أربعة أشخاص لم يكن بينهم تركي أو عربي، ويترأسه اليهودي إيمانويل قراصو، الذي لعب دورًا كبيرًا في الاحتلال الإيطالي لليبيا لاحقًا.١٢١
تمثيلات السرد التاريخي لعبد الحميد الثاني
تتراوَح تمثيلات شخصية عبد الحميد الثاني في السرد التاريخي بين منظورين، أحدهما موضوعي حتى وإن كان المؤرخ من أنصار فكرة الخلافة الإسلامية ومُناهَضة أفكار «التمدن الحديث» على مستوى العادات والتقاليد والأخلاق؛ والمنظور الثاني أصولي يُحوِّل شخصية عبد الحميد الثاني إلى رمز إسلامي مثالي تاريخي.
خامسًا: الحامل السياسي لأيديولوجيا التحرر: جمعية الاتحاد والترقي
(١) جمعية الاتحاد والترقِّي في تمثيلها الروائي
العائد من الموت عبر الوصية، مدحت باشا
وثمة تمثيلان متناقضان لشخصية مدحت باشا، أو على الأصح طيفه الميت. التمثيل الأول لطَيْفه العائد من الموت، يأتي عبر لوحة زيتية معلَّقة في الدهليز المؤدي إلى غرفة نوم السلطان عبد الحميد، يردُ في الفصل رقم ٢٨ وعنوانه «مناجاة!» (الرواية، ص١١٦–١١٩)، وعلى وجه التحديد في الصفحتين ١١٨ و١١٩، وقد أهداها للسلطان أحد الرسامين المتملِّقين بعد موت مدحت باشا وانتصار السلطان عليه وعلى أعوانه ثم انفراده بالحكم. وأما التمثيل الثاني لطَيْفه العائد من الموت فيأتي عبر وصيته المكتوبة.
تُصور اللوحة الزيتية مدحت باشا وأعوانه من المطالبين بالدستور والحكم النيابي، على هيئة عشر رجال يرتدون ملابس سوداء تجعلُهم أقرب إلى الرهبان اليسوعيين، وفي أيديهم آلات موسيقية يَلعبون عليها وهم يتمايَلُون بتأثير الخمر، وحولهم عشر نساء عاريات في أوضاع جنسية مُثيرة. ومع أن المقصود من هذا التصوير تحقير دعوى مدحت ورجاله المطالبين بالدستور، وبيان أنهم يتظاهَرُون بطلب الحرية والدستور، وهم في الحقيقة يريدون الخروج عن الآداب الدينية والاقتداء بالنصارى في خلاعتهم وفجورهم (انظر الرواية، ص١١٨–١١٩)، وهو ما يُهوِّن من شأنهم وشأن دعواهم في نظر السلطان عبد الحميد، فإن السلطان كلما وقع نظره على هذه اللوحة يغتاظ وتنتابه حالة جنون فيأخذ في مخاطبة صورة مدحت الزيتية وكأنه حي أمامه قائلًا:
مدحت … تطلب الدستور … ما هو الدستور … أردتَ أن تقيد إرادتي ليُسْمَع في الدولة صوتٌ غير صوتي … لا … لا ينبغي أن يُسْمَع غير هذا الصوت. هكذا كان عمي وأبي وهكذا ينبغي أن أكون أنا … غَركَ ما تَمكنت منه أنت وأعوانك حتى خلعتم عمي رغبةً في الدستور … الدستور … ما الدستور … أنا الدستور وإرادتي هي الشريعة وقد نِلْتَ جزاء غرورك. مت واشبع موتًا … آه لو أستطيع أن أُميتكَ ثانيةً. وهكذا سأفعل بمن يقولُون قولك ويسعون سعيك … سأسحقُهم سحقًا وأقتلهم قتلًا (الرواية، ص١١٩).
وهذه المخاطبة المعبِّرة عن حالة من الهذيان في الحديث إلى الموتى إنما تؤكد قوة أثر مدحت باشا حتى وهو ميت، الأمر الذي يتَّضح من طيفه العائد من الموت عبر الوصية وضوحًا جليًّا.
ويخصص جُرْجي زيدان الفصل رقم ٦٢، وعنوانه «وصية مدحت» (الرواية، ص٢٤٨–٢٥٣)، لمشهد تلاوة الوصية على أعضاء جمعية الاتحاد والترقِّي المؤتمرين في اجتماع سري. وقد جاءت الوصية في مقدمة قصيرة وسبع فقرات قصيرة، وتَقطعت تلاوتُها بسبب تدخُّل المُؤتمِرين بالتعليق والاستحسان لكل ما وَرَدَ فيها. وتأتي وصية مدحت باشا متتابعةً على النحو الآتي:
- (١)
علِّموا الأمة … رَقُّوا العامة، إن الجهل سبب كل عِلة. ولا أعني التعليم المدرسي كدروس الصرف، والنحو، والحساب، ولا الطب، ولا الهندسة، أو القضاء. وإنما أعني تربية الشبان وتدريبهم على الحرية الشخصية، واستقلال الفكر، وبثِّ روح الوطن في نفوسهم حتى يدركوا ما هو، وهذا يقتضي تعليم المرأة فإنها روح الأمة، فإذا ارتقت وتثقَّفت نشأ أبناؤها على مثالها أهلًا للحرية، ولو لم يتعلَّموا … فإن القصد التربية، وهذه لا تَثبُت إلا إذا غُرست في الصغر. فأُولى وصاياي ترقية الشعب وتدريبه على رُوح الحرية. ولو كان لهذه الأمة التعِسَة شيء من ذلك الآن لما رضيَتْ بحلِّ مجلس (المبعوثان) وقتل الدستور وأنصاره وهي نائمة لا تَرفع صوتًا ولا تُجرد سيفًا.
- (٢)
احذروا الشِّقاق بين العناصر والأديان. إن الدستور العثماني يحتاج إلى هذه الوصية أكثر من سائر الوصايا؛ وذلك لاختلاف العناصر والمذاهب في بلادنا. دعوا التعصب الجنسي أو المذهبي واتحدوا في العثمانية: لا تذكروا الإسلام والنصرانية واليهودية، ولا التركي والعربي والرومي والبلغاري والألباني، غُضُّوا الطرفَ عن هذه الاختلافات؛ لأنها أكبر سلاح يحاربكم به أعداء الحرية الظالمون. هم يُفرقون بين العناصر والمذاهب ليستتبَّ الأمر لاستبدادهم ويأمنوا اجتماع الأيدي على مقاومتهم. كلكم مظلوم وكلكم مَوتور، إن الظلم لا يخص طائفةً دون أخرى ولا مذهبًا دون آخر، فاتحدوا.
- (٣)
اجعلوا مُعَوَّلَكم في الدفاع على الجندية. ألِّفُوا الجمعيات السرية وأَدْخِلُوا الجندَ فيها. الجند هم الأمة، وبأسيافهم يُحمى الدستور وتستقر الحرية. إن لم يكن الجند معكم فسعيُكم في سبيل الحرية يذهب عبثًا. بالجند حاربنا هذا الطاغية، ولو كانت الجندية معنا لفعلنا كما نشاء. لا تُفلح أمةٌ في طلب حق من حكومتها إن لم يكن الجند نصيرها، ويشترط أن يكون مُتعلِّمًا مثقفًا. عَوِّلوا على الضباط. فإن العساكر يجعلهم الجهل أتباعًا لكلِّ ناعق. أما الضابط المتعلِّم ذو الفضيلة فإنه سيف قاطع. اجعلوا مُعَوَّلَكم على الضباط المتعلمين فهم وحدهم يُدركون معنى الحرية وهم وحدهم يحمونها بأسيافهم.
- (٤)
وهذه وصية خاصة أحرضكم على العمل بها فقد كلَّفتْني حياتي وحياة كثيرين أمثالي من الأحرار. إنَّ الحر الصادق سريعُ التصديق كثير الوثوق، وقد يجرُّه وثوقه إلى الخطر؛ لأنَّ الناس حوله على غير ذلك، ولا سيما عبد الحميد. إذا وصلتْ وصيتي إليكم وهو حي فأُوصيكم أن لا تثقُوا بأقواله ولو أقسم فإنه كاذب. احذروا الوثوق به، فإن الوثوق جَرني إلى الموت لا تُصدِّقوه ولو أقسم وظهرت علامات الصدق في وجهه، فإن ذلك الوجه لا مثيل له من حيث التلوُّن. إن فيه شيئًا لا أعرفه في سائر الوجوه يوهمك منظره أنه صادق وما هو كذلك. له قدرة غريبة على إقناع مُخاطِبه، وقد يتظاهر بالبكاء ندمًا وأسفًا وهو ينوي غير ما يقول فاحذروه.
- (٥)
بقيَت وصية ربما تعجبون منها لعلمِكم بالقواعد التي تقتضيها الحرية. إن الحرية تقتضي العدل والرفق وحقن الدماء، ولكنها لا تُنال إلا بسفك الدماء … أعني الفتك بالأفراد الذين يقفُون في سبيل أغراضكم؛ لأنَّ رجلًا واحدًا شريرًا، قد يكون سببًا في فناء أمة، أو ضياع حقوقها. فإذا كان الحق لا يقضي بقتلِه، فالسياسة تقتضيه … افتكوا بالأشرار واقتلوهم. وإذا كانت الجندية معكم فليس أهون عليكم من ذلك … كل مَن تأكَّدتم سعيه ضد الحرية والدستور اقتلوه، وأنا المسئول عن ذنبكم بقتله، إنكم إذا قتلتُم شخصًا أحييتم أمة … لو أُتيح لي أن أعرف ذلك قبل الآن لكنتم رافلين الآن في بَحْبوحة الدستور، ولكن تلك سُنة الله في خلقه، يستفيد الأبناء من اختبار الآباء …
- (٦)
إذا أُتيح لكم الفوز بالدستور احذروا أن تُبقوا هذا الطاغية على كرسيِّ السلطنة، وإن أظهر لكم أنه تاب ورجع فإنه يُظهِر غير ما يُضمر …
- (٧)
لي وصية أخرى، هي آخر الوصايا تتعلَّق بتوارث الملك في الدولة العثمانية … إن طريقة التوارُث المعمول بها الآن لا تخلو من الخطر على الدولة، إذ يكون وليُّ العهد شخصًا معينًا هو أكبر أبناء السلاطين سنًّا؛ فقد يتَّفق أن يكون غير كفء لإدارة أمور الدولة، فإذا أُعلن الدستور وصارت الحكومة العثمانية دستورية أصبحت مقاليدها في أيدي النواب، فينبغي أن ينظروا في توارُث الملك … إنه عظيم الأهمية، فإنَّ لم يكن ذلك ساعة الانقلاب، فبعده عند سنوح الفرصة … والذي أراه أن يبقى حق السيادة في آل عثمان يتوارثُونها بشرط أن يكون كل بالغ من أبنائهم مرشحًا لولاية العهد، وإنما يكون للأمة أو مجلس نوابها أن يختار منهم مَن يجد فيه الكفاءة لهذا المنصب …
لستُ أنكر ما يَعترض هذه الوصية من العقبات … ولكنها لازمة …
وأخيرًا أستودعكم الله، وأنا ذاهب للموت في سبيل الدستور …
وإذا كان طيف مدحت باشا الميت فاعلًا بقوة — على نحو إيجابي — في رجال جمعية الاتحاد والترقي، سواء بصورته المرفوعة دومًا في اجتماعاتهم وإسدائهم التحية لروحه قبل بدء الاجتماع، وأخيرًا بوصيته المصيرية؛ فهو فاعل بقوة أيضًا، ولكن سلبيًّا بالطبع، في نفس السلطان عبد الحميد الثاني. ففي الدهليز المؤدي إلى غرفة نوم السلطان توجد صورة زيتية لمدحت باشا ورجاله تُمثِّلهم وهم يقلدون حركات المسيحيين ويشربون الخمر ويجالسون النساء ويفعلون كل محرم (انظر الرواية، ص١٥٣–١٥٤)، وكلَّما مر بها السلطان «يحدق فيها بعين الغدر، كأنه يرى مدحت بين يديه ويهم أن يصفعه» (الرواية، ص١٩٧). وكلما ذُكِرَ أمامه اسم مدحت باشا يقشعر بدنه (انظر الرواية، ص١٥٤).
إنَّ طيف الميت يعود باستمرار، وعودته مختلفة في كل مرة. وقد حدثت أخطر عوداته من خلال الوصية التي استجاب لها رجال الاتحاد والترقِّي استجابةً حاسمة، أدَّت في النهاية إلى خَلْع السلطان عبد الحميد الثاني عن عرشه لاحقًا، على يد رجال الاتحاد والترقِّي، عام ١٩٠٩م.
بناء جمعية «الاتحاد والترقي» وهيكلها التنظيمي وعلاقاتها
يُعد مدحت باشا — كما بيَّن التحليل توًّا — ركيزةً روحية جوهرية لجمعية «الاتحاد والترقي» في مراحلها كافةً، ولا سيما في مرحلتها الجديدة التي بدأت تُعول فيها على اتباع أسلوب القتل والاغتيال السياسي طلبًا للدستور وتخلصًا من الطغيان والاستبداد السياسي المستحكم.
ويُخصِّص جُرْجي زيدان، أو راويه النائب عنه في السرد الروائي، الفصل رقم ٥٨ وعنوانه «جمعية الاتحاد والترقي» (ص٢٣٣–٢٣٧) للحديث عن بنائها وهيكلها التنظيمي وطريقة عملها وأسلوب الوصول إلى مكان اجتماعاتها السرية. فيذهب إلى أنها مؤلَّفة من عدد محدود، حوالي ١٢ عضوًا يمثلون «لجنة الإدارة المركزية»، ويختارون منهم رئيسًا يُسمونه «المُرَخص» تحاشيًا لأي تراتب هَرَمي سلطوي. ويَعرف هؤلاء الأعضاءُ بعضهم بعضًا معرفة وثيقة، «ويجتمعون غير متنكِّرين للبحث في أعمال الجمعية وإصدار الأوامر إلى الفروع» (الرواية، ص٢٣٣). وأما الأفراد الذين ينضمون حديثًا إلى الجمعية فينبغي ألا يَعرفوا أعضاء لجنة الإدارة المركزية بل يَعرف الفردُ المستجد الشخصَ الذي أدخله إلى العضوية. ويكون دخوله فيها مُتدرجًا؛ إذ تجري مخاطبة لجنة الإدارة المركزية أولًا بشأن انضمامه، وإذا وافقت اللجنة أعطته رقمًا كوديًّا يُعرف به في سجلاتها. وأما طريقة حَلْفه اليمين فهي طقس غريب يُشبه طقوس القبول التي تسلكها التنظيمات السرية حول العالم. إذ يحضر في جلسة سرية، يتواجد فيها أعضاء لجنة الإدارة المركزية متنكرين، وبينهم وبينه طاولة عليها إنجيل وقرآن ومسدس، يقسم عليها اليمين. «وهذا العضو الجديد إذا رأى صديقًا له استحسن ضمه إلى الجمعية قدم طلبه على يد العضو الذي قدَّمه قبلًا، وإذا قُبِلَ يأتي الطالب الجديد للجلسة السرية ويقسم اليمين ويخرج، وهو لا يعرف سوى صديقه الذي أدخله. وأما هذا فصار يعرف اثنين: واحدًا أمامه، والآخر وراءه. وإذا أَدْخَل اثنين أو ثلاثة أو أربعة، فإنه يعرفهم وهم يعرفونه» (الرواية، ص٢٣٤).
وتسري هذه العلاقة على المستوى الهيكلي الأكبر في علاقة اللجنة المركزية لإدارة الجمعية بفروعها في البلدان المختلفة، فهي شُعَبٌ في المدن الكبرى.
وللشعبة فروع يُقال لها قولات (مفردها قول)، وكل شعبة أو قول مُؤلف من لجنة إدارية لها رئيس وأعضاء، مثل الجمعية المركزية. ومؤسسو الشعَب أصلهم من الجمعية المركزية؛ وذلك أن أحد هؤلاء الأعضاء إذا رأى في نفسه الكفاءة لإنشاء شُعْبة في بلدٍ من البلاد عَرَضَ مشروعه على اللجنة، فتُخول له إنشاءها … فينتقل إلى ذلك البلد ويجتمع بأُناس يثق في حريتهم وصدقهم، ويؤلف معهم لجنة يخبرهم أنها فرع للجمعية المركزية، ولكنه لا يصرح لهم بأسماء أعضائها. ومتى تَألفت الشعْبة تعمل على ضم الأعضاء بالطريقة التي نظمتها الجمعية المركزية … وهذه اللجنة لا تعرف من أعضاء الجمعية المركزية إلا الذي أسس الشعْبة. وهكذا يقال في إنشاء الفروع الصغرى (القولات)، فإن أحد أعضاء لجنة من لجان الشُّعَب يأخذ على عاتقه إنشاء فرع للشعْبة، ويخرج للقرية، ويؤلف لجنة من أهل ثقته لا يعرفون من أعضاء الشعْبة سواه … وقِسْ على ذلك (الرواية، ص٢٣٤–٢٣٥).
وتتبع لجنة الإدارة المركزية في اجتماعاتها أسلوبًا معقَّدًا للوصول إلى مكان الاجتماع، وهو ما نراه فيما يسردُه الراوي من طريقة وصول رامز — وهو عضو في لجنة الإدارة المركزية — إلى مكان الاجتماع، الذي يمر عبر منزلٍ صاحِبُه أجنبي، بكلمة سر، وجواسيس السلطان لا يتجاسَرُون على اقتحام منزل أحد رعايا دولة أجنبية، ولهذا المنزل باب سري يفضي إلى شارع ضيق آخر. وتتغير طريقة الوصول إلى مقر الاجتماع في كل مرة (انظر الرواية، ص٢٣٦). ويُشير المؤلف في هامش أسفل الصفحة ٢٣٦ إلى أن مصدرَه في ذلك مذكرات نيازي بك، أحد ضباط الجيش العثماني الثالث في سلانيك، وهو شخصية حقيقية، وهو في الرواية أحد أصدقاء رامز. ويتضح للقارئ أن غرفة الاجتماع هي إحدى غرف محفل ماسوني في تلك الليلة (انظر الرواية، ص٢٣٦). وفي ذلك إشارة عابرة إلى وجود علاقة بين جمعية «الاتحاد والترقي» والماسونية.
كذلك ثمة علاقة واتصالات قوية بين جمعية «الاتحاد والترقي» والدول الأوروبية، فهم يشتكون لأوروبا مما يعانونه من ظلمٍ واضطهاد (انظر الرواية، ص١٥٣). بل إن رئيس جواسيس السلطان تَمكن من العثور على عريضة باللغة الفرنسية رفعها أعضاء جمعية «الاتحاد والترقي» إلى وكلاء الدول الأوروبية، يَشرحُون فيها أن طغيان عبد الحميد واستبداده يشمل كل العناصر العِرْقية والمذاهب الدينية على اختلافها، ويطلبون مساعدتها في التخلُّص منه (انظر الرواية، ص١٥٠–١٥١).
(٢) جمعية الاتحاد والترقِّي في تمثيلها التاريخي
علاقة الاتحاد والترقي بالماسونية
•••
وانظر أيضًا: علي محمد الصلابي: الدولة العثمانية: عوامل النهوض وأسباب السقوط (القاهرة: دار التوزيع والنشر الإسلامية، ٢٠٠١م)، ص٤٥٨.