التمثيلات الثقافية الاستعمارية في رواية «أسير المُتمهْدي»
أولًا: عتبات النص
(١) صفحة العنوان
وقد لفت نظري اختلافُ صفحة العنوان في الطبعة الأولى عنها في تلك الطبعة اللاحقة. فالطبعة الأولى تتضمَّن تسعة أسطر مستقلة، تمثل الأربعة الأولى منها العتبات الثلاث، وهي: العنوان «رواية أسير المتمهدي» في سطرين مستقلين، يليهما تعليق وصفي هو «تاريخية غرامية» في سطر ثالث مستقل، يليه التعليق الوصفي الشارح: «تتضمن الحوادث المصرية الأخيرة» في سطر رابع مستقل. وقد تمكنتُ من قراءة السطرين الثالث والرابع وإكمال الناقص من حروف كلماتهما المتآكلة. ثم يتلو ذلك سطران مستقلان لم أتمكن من قراءة كلماتهما أو حتى تخمينها، ويليهما اسم المؤلف، ويأتي السطر الثامن المستقل على النحو الآتي: «حقوق الطبع والترجمة محفوظة للمؤلِّف.» وتنتهي صفحة العنوان بسطر تاسع مُستقل تظهر الكلمات الأخيرة منه وهي: «… مصر سنة ١٨٩٢م»، وأما الكلمات في بداية السطر التي تُحدِّد اسم المطبعة التي طُبِعَتْ فيها الرواية فمتآكلة الحروف على نحو لم أتمكَّن معه من قراءتها أو حتى تخمينها.
وأما الطبعة الورقية اللاحقة التي لا تَنطوي على أي إشارة زمنية تُفيد سنة الطبع فهي تتضمَّن العتبات الثلاث الآتية: العنوان «أسير المتمهدي» في سطر مستقل، يليه سطر ثانٍ مستقل يتضمن التعليق الوصفي: «رواية تاريخية»، ويليه تعليق وصفي شارح في ثلاثة أسطر متصلة: «تتضمن وصف مصر والسودان في الربع الأخير من القرن الماضي ودسائس الدول الأجنبية التي أدَّت إلى الثورة العرابية في مصر والثورة المهدية في السودان، والاحتلال البريطاني لوادي النيل.» ويليه سطر يحمل اسم المؤلف، ثم السطر الأخير الذي يحمل اسم «دار الهلال».
-
العتبة الأولى: كما ذكرتُ، في بداية الفصل السابق، يمثل
العنوان أعلى اقتصادٍ لغوي مُمكن، وعلى وجه
التحديد ينطوي العنوان على عَقْد صلة بين مقاصد
المُرسِل، أي المؤلِّف، وتجليات مقاصده الدلالية
في العمل الأدبي.٢ وهذا معناه في المقام الأول أن
العنوان يَنطوي داخل اقتصاده اللغوي المكثَّف على
بعض المحددات الدلالية.٣يأتي العنوان تركيبًا إضافيًّا من كلمتين هما «أسير المتمهدي». والأسير هو «المأخوذ في الحرب»، من مادة «أَسَرَ» التي تفيد معنى قيده وأخذه أسيرًا.٤ وهي الدلالة التي يؤكدها القاموس المحيط قائلًا إن الأسير هو «الأَخيذ، والمقيد، والمسجون».٥ وأما «المُتَمَهْدي» فهي كلمة غريبة الوَقْع على الأذن للوهلة الأولى، ومن المحتمل أن يَحارَ القارئ المعاصر في معناها والمقصود منها. والكلمة على وزن «مُتَمَفْعِل»، من كلمة «مَهْدي» على وزن «مَفْعِل»، من الفعل «هَدَى» الذي يفيد معنى الإرشاد والإدلال على الطريق: «هَدَى فلانًا: أرشده ودَله. وفي التنزيل العزيز: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى. وهَدَى فلانًا الطريق […]: عَرَّفه وبَيَّنه له.»٦ و«الهُدَى، بضمِّ الهاء وفتح الدال: الرشاد.»٧ والهِدَاية عند الصوفية، كما يشير الجرجاني، هي «الدلالة على ما يُوصل إلى المطلوب، وقد يقال: هي سلوك طريق يُوصل إلى المطلوب.»٨ ويُستفاد من جملة الدلالات المعجمية للكلمة أن المَهْدي هو المُنْقاد إلى الخير، ومَن هداه الله إلى طريق الحق والرشاد. تلك هي الدلالات اللغوية المُعتادة التي تُثيرها كلمة «المَهْدي». ولكن ثمَّة دلالة أخرى اصطلاحية ارتقت بالكلمة — على مرِّ تاريخ البشر — إلى منزلة الاعتقاد؛ إذ هناك اعتقاد سائد لدى البشر، سواء في الملل التوحيدية الثلاث أو غيرها، يتمحوَر حول كلمة «المَهْدي» التي يَنضاف إليها على سبيل الوصف كلمة «المُنْتظَر». إن «المَهْدي المُنْتظَر» هو إمام مُنْتظَر؛ فمَن هو المَهْدي المُنْتظَر الذي ينقاد إلى الخير وقد هداه الله إلى طريق الرشاد والحق، ويكون هو نفسه هاديًا ومُرشدًا غيرَه من الناس؟ وما علاقته بعنوان الرواية «أسير المُتمهدي»؟يَذهب أحمد أمين في كُتيِّبه المَهْدي والمَهْدوية إلى أن فكرة «المَهْدي» تتمحوَر حول تَوق الناس في كل زمان إلى «حاكم عادل تتحقَّق فيه العدالة بجميع أشكالها.»٩ وقد تَوسَّل الناس بوسيلتين في هذا الصدد؛ الأولى هي اللجوء إلى الخيال وتأليف اليوتوبيا أو المدن الفاضلة التي يتحقَّق فيها نظام عادل بلا أي ظلم أو جَوْر؛ والثانية هي النزوع إلى الثورة بهدف «رفع المظالم أو تحقيق العدالة الاجتماعية في الدنيا الواقعة.»١٠ ولما عجزوا عن تحقيق ذلك، تحولت الفكرة إلى رجاء وأمل، وإذا جاء الأمل والرجاء عن طريق الدين كان الناس أكثر حماسًا وغَيْرةً واعتقادًا، «فوجدوا في فكرة المهدي ما يُحقِّق أملهم؛ ولذلك كثرت هذه الفكرة في الأديان المختلفة من يهودية ونصرانية وإسلام؛ فاعتقد اليهود رجوع إيليا واعتقد المسيحيون والمسلمون رجوع عيسى قبل يوم القيامة يملأ الأرض عدلًا كما مُلئت ظلمًا.»١١ ولأنَّ الدنيا مملوءة ظلمًا في الشرق والغرب على السواء، فقد أراد الناس إزالة هذا الظلم عنهم حتى يحظَوا بالعدل والحياة الطيبة، «فلما لم يُفلحوا أَملوا فكان من أملهم إمام عادل، إنْ لم يأتِ اليوم فسيأتي غدًا، وسيَملأ الأرض عدلًا.»١٢ وقد تناول هذه الفكرةَ بالتفصيل أحدُ الباحثين المدقِّقين، فتتبعها منذ أقدم العصور حتى اليوم على المستوى العَقَدي والسياسي والأدبي.١٣وإذن، عند هذا المستوى من التتبع الدلالي والاصطلاحي، يُمكن القول إن عنوان الرواية ينطوي على دلالتَين مُتناقضتَين: الدلالة الأولى الإيجابية أن «المَهْدي» هو الشخص المنقاد إلى الخير وقد هداه الله إلى طريق الرشاد، وهو أيضًا الإمام العادل المُنْتظَر الذي يملأ الأرض عدلًا بعد أن مُلِئت ظلمًا؛ والدلالة الثانية السلبية أن «المُتَمَهْدي» هو الشخص الذي ينتحل لنفسه ما ليس له؛ أيْ هو الدعي الكذاب. وهكذا، نفهم من العنوان أن هناك شخصًا يَدَّعي أنه المهدي وهو ليس كذلك، بل هو كذاب، وأن هذا المتمهدي المُدعي يأسِر شخصًا آخر في معركة حربية؛ ومن ثم يُمكن القول إن العنوان يَنطوي على حكم قيمي وتحيز يتبنَّاه المؤلف قبل أن تبدأ أحداث الرواية. ولكنه ينطوي، من ناحية أخرى، على إمكان أن يدخل القارئ في علاقتين مع المؤلف؛ الأولى إما أن يستسلم لحُكْم المؤلف القيَمي وتحيُّزه مستجيبًا له، وإما أن يناقش حُكْمه وموقفه المتحيِّز ويُفنده، وذلك طبقًا لقراءة فاحصة Close Reading للداخل النصي أولًا، ثم قراءة بالتوازي من حيث علاقته بالتاريخ، ما دام التعليق الوصفي أسفل العنوان مباشرة — أي العتبة الثانية في صفحة العنوان — يقول إن «رواية أسير المتهمدي»: «تاريخية غرامية.»
-
العتبة الثانية: في الطبعة الأولى المصورة بصيغة
Pdf يأتي
التعليق الوصفي: «تاريخية غرامية.» ويُفيد هذا
التعليقُ إشارة المؤلف إلى أن الأحداث التي
سيطالعها القارئ تستند إلى السرد التاريخي أو
تستلهمه، وأن ثمة حكاية عاطفية جارفة ستُغلف عملية
الاستلهام الروائي لأحداث التاريخ أو الاستناد إلى
التاريخ. إن «الغرام» ليس مجرد قصة حب عادية أو
مألوفة. الغرام حب جارف ملتاع. ولكن المجال
الدلالي الذي تَنطوي عليه الكلمة متعدد على نحو
يستوجب وضع هذا التعدد في الحسبان: ﻓ «الغرام
الولوع والشر الدائم، والهلاك، والعذاب. والمُغرَم
[…] أسير الحُب والديْن، والمُولَعُ بالشيء.»١٤ و«غَرِمَ في التجارة: خَسِرَ […]
والغرام: التعلُّق بالشيء تعلقًا لا يُستطاع
التخلص منه. والغرام العذاب الدائم الملازم. وفي
التنزيل العزيز: إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا.»١٥ وهكذا، تستدعي كلمة «غرامية» الواردة
في التعليق الوصفي دلالات عدة تتراوَح بين شدة
التعلُّق بالشيء وملازمته، أي الوقوع في أسْر
الحب، وفي الوقت نفسه تُشير إلى الخسارة والشر،
وإلى هلاك وعذاب دائم. وذلك على نحو يُمكن معه
القول إن ثمة تماسًّا دلاليًّا من نوع ما بين
«المتمهدي» الدعي الكذاب والغرام بما هو الخسارة
والشر الذي يَستوجب الهلاك والعذاب الدائم.
وكما سبقت الإشارة، يتغيَّر التعليق الوصفي أسفل العنوان، «تاريخية غرامية» في الطبعة الأولى المصوَّرة بصيغة Pdf إلى «رواية تاريخية» في طبعة لاحقة للرواية صادرة عن دار الهلال أيضًا. ولكني لا أستطيع الجزم بخصوص ما إذا كان هذا التغيير قد حدث بمعرفة المؤلف في حياته أم دون معرفته بعد موته.
-
العتبة الثالثة: في الطبعة الأولى للرواية الصادرة عام ١٨٩٢م،
يَرِدُ التعليق الوصفي الشارح مقتضبًا بما يفيد أن
«رواية أسير المتمهدي»: «تتضمن الحوادث المصرية
الأخيرة.» وبطبيعة الحال سيتوقع القارئ، استنادًا
إلى تحليل العتبتين الأولى والثانية في صفحة
العنوان، أنَّ الرواية ستتناول أحداثًا تتعلق
بشخصٍ دَعيٍّ كذَّاب يزعم أنه المهدي المنتظَر،
ويدخل في معارك حربية، ويقع في أسره شخص من الطرف
الآخر، وأن هذه الأحداث قد حصلت في مصر مؤخَّرًا.
وكلمة «مؤخرًا» تفيد دلالة الزمن بالنِّسبة إلى
المؤلف الذي نشر روايته عام ١٨٩٢م وبالنسبة إلى
قرائه حينذاك، وليس بالنسبة إلى القارئ الحالي؛
بمعنى أن الرواية ستتناول أحداثًا وقعت في مصر
أواخر القرن التاسع عشر. ولكن التعليق الوصفي
الشارح بهذه الطريقة لا يزال مُبهمًا؛ فالقارئ لا
يعرف ما إذا كان هناك شخص مصري قد ادَّعى أنه
المهدي وخاض معارك في سبيل ذلك، وهل هذا حقيقي أم
مُتخيَّل كله. ولكننا إذا انتقلنا إلى التعليق
الوصفي الشارح الوارد في صفحة العنوان في الطبعة
اللاحقة للرواية، فسنجده أوضح وأكثر تفصيلًا على
نحو يُزيل إبهام التعليق الوصفي الشارح الأول في
الطبعة الأولى؛ إذ يَرِدُ التعليق الوصفي الشارح
على نحو يفيد أن رواية أسير
المتمهدي: «تتضمَّن وصف مصر
والسودان في الربع الأخير من القرن الماضي، ودسائس
الدول الأجنبية التي أدَّت إلى الثورة العرابية في
مصر والثورة المهدية في السودان، والاحتلال
البريطاني لوادي النيل.»
وإذن، يتَّضح للقارئ الآن أن الرواية ستتناول أحداثًا وطنية في المسيرة التاريخية لبلدَين هما مصر والسودان، وأنها ستَكشف عن دسائس الدول الأجنبية التي أدَّت إلى ثورتين، العرابية في مصر والمَهْدية في السودان، وأن هذه الدول حاكت مؤامرات حتى تشتعل الثورتان في البلدين فتتذرع بريطانيا العُظمى لاحتلالهما. ويلفت النظر، هنا، أن التعليق الوصفي الشارح لا يتعامل مع مصر والسودان بوصفهما دولتَين مُنفصلتَين أدَّت المؤامرات إلى احتلالهما، بل يتعامل معهما بوصفهما وحدة جغرافية واحدة أسماها «وادي النيل» الذي يضمُّ مصر والسودان في وحدة واحدة معًا. هكذا، سيتوقَّع القارئ أن الرواية ستتناول أحداثًا تاريخية وطنية في إطار قصة عاطفية جارفة أو حب عارم ملتهب بين رجل وامرأة أثناء مسيرة كفاح وطني ضد الظلم، وللقارئ أن يتوقَّع أيضًا أن هذا الظلم سببه الحُكْم التركي أو تبعية الحاكمين في كلا البلدَين للدولة العثمانية أو الباب العالي في إستانبول، ولكن مسيرة الكفاح الوطني هذه تعرضت لدسائس أدت بمسيرة الكفاح إلى كارثة وطنية أشد وأسوأ هي الاحتلال البريطاني للبلدين.
غير أن توقُّعات القارئ سيُصيبها الاضطراب حتمًا حين يتأمل العتبات الثلاث في صفحة العنوان مجتمعةً معًا؛ ذلك أن دلالة كلمة «المُتمهدي» الواردة في عنوان الرواية، ستفيد في السياق الدلالي الجديد — بعد تحليل العتبة الثالثة — أن الزعيم الديني والسياسي الذي قاد الثورة المهدية في السودان، محمد بن عبد الله (١٨٤٣–١٨٨٥م) الملقَّب بالمهدي،١٦ والذي يعود نسبه من جهة الأب إلى الحسن بن علي بن أبي طالب، ومن جهة الأم إلى العباس بن عبد المطلب١٧ هو دَعيٌّ كذاب! وإذا تركنا قضية النسب وصحة رجوعه إلى آل بيت النبي محمد صلى الله عليه وسلم، تبقى قضية النضال السياسي الذي تولاه المهدي في السودان أواخر القرن التاسع عشر، فهل نضاله من قبيل الافتراء الباطل والبَغي بغير حق؟إنَّ صياغة عنوان الرواية — «أسير المتمهدي» على هذا النحو — تجعل المؤلفَ يميل منذ اللحظات الأولى، وقبل أن تبدأ أحداث الرواية، إلى اتخاذ موقفٍ مُعادٍ للثورة أو الحركة المهدية في السودان أواخر القرن التاسع عشر، بل تَنطوي الصياغة على انحياز استعماري مبدئي لصالح الإنجليز؛ وذلك لأن غوردون باشا١٨ Charles George Gordon (١٨٣٣–١٨٨٥م) كان أولَ مَن استعمل كلمة «المتمهدي» في وصف قائد الثورة المهدية في السودان محمد أحمد عبد الله الملقَّب بالمهدي، للتحقير من شأنه وبيان كذبه وافترائه، في ردِّه على رسالة أرسلها له المهدي، وهذا نصها:من غوردون باشا والي السودان إلى محمد أحمد المتمهدي: وصلني كتابك الركيك العبارة، العاري عن المعنى، الدالُّ على سوء نيتك وخبث طويتك، وعن قريبٍ ستُبْلَى بجيوش لا طاقة لك بها وتكون أنت المسئول أمام الله عما يُسْفَك من الدماء، كما أنك أنت المسئول الآن عمَّن أعميت قلوبهم وغَشيتَ بصائرهم ويَتَّمْتَ أطفالهم وخربت ديارهم، وكنتُ لا أرى حاجة إلى مخاطبة رجل مثلك جاحد النعمة عادم الذمة، لكني تعلَّقت بأذيال الأمل، راجيًا من الله عزَّ وجلَّ أن يتجلى على فكرتك الحامدة [كذا] فتلقى النصيحة بيد القبول وتعلو متن سلطنة مكَّنتك منها وكان دون نَيْلها خرْط القتاد، وها أنا مستعدٌّ لقدومك ومعي رجال أقطع بهم أنفاسك والعاقل مَن تدبر والسلام.١٩وقد كتب غوردون ردَّه ذاك على المهدي بعد أن استشار هيئة من علماء الخرطوم بشأن دعوى محمد أحمد عبد الله بأنه المهدي المنتظر، فأجابوه ببطلان دعواه شرعًا وحكموا بتكذيبه.٢٠ وهكذا، تُصبح صفة «المتمهدي» علامة لغوية استعمارية.ومن ثم، يخلص تحليل العتبات الثلاث في صفحة العنوان إلى نتيجة مُفادها أن محمد أحمد عبد الله الملقب بالمهدي، الذي قاد الثورة أو الحركة المهدية في السودان ضد الحكم التركي المصري للسودان، هو شخص دَعي كذاب اقترف من الأفعال ما ليس حقًّا له.
(٢) مقدمة المؤلف للطبعة الأولى: تفكيك ثنائية التاريخ/الأدب
بعد صفحة العنوان في الطبعة الأولى الصادرة عام ١٨٩٢م، ينتقل القارئ إلى الصفحة الثالثة، ولها عنوان يشغل سطرين مُستقلَّين؛ الأول فيه كلمة «المقدمة»، والثاني فيه عبارة «بسم الله الحي الأزلي». وتحتل المقدمة الصفحتين الثالثة والرابعة. وأما في الطبعة اللاحقة للرواية فيكتشف القارئ أن الفصل الأول في الطبعة الأولى، وعنوانه «القاهرة»، قد تحول إلى مقدمة للطبعة اللاحقة بعنوان «فذلكة تاريخية» بعد تعديله بالاختصار؛ أيْ حَذَفَ المؤلف — أو مُحرِّرو الهلال — مقدمة الطبعة الأولى من الطبعة اللاحقة التي يبدأ فصلها الأول بعنوان «شفيق وفدوى». وقد ترتَّب على ذلك التعديل اختلافٌ في الطبعة اللاحقة على مستوى عناوين الفصول عن الطبعة الأولى، ومن الواضح أيضًا أن المؤلف — أو مُحررو الهلال — تدخلَ بالتغيير في صياغة العبارات لتتناسب مع التعديل الجديد. ونظرًا إلى أهمية مقدمة الطبعة الأولى المحذوفة من الطبعة اللاحقة، فسأستند في تحليلها إلى الطبعة الأولى.
وإنما عرفته باختباري الشخصي منذ وطئتُ تلك الأقطار سنة ١٨٨٤م واختلطتُ بأهلها وحضرت مجتمعاتهم ومواقع قتالهم وتمرنتُ في لغتهم واستطلعت سائر أحوالهم. وإما نقلًا عمن فروا مؤخرًا من حوزة الدراويش بعد أن قضوا في أَسْرهم السنين الطوال وقد عرفوا عوائدهم وأخلاقهم وسائر أحوالهم. فكل ما سأذكره عنهم حقيقي يُرْكَنُ إليه ويُعتمَد عليه اعتمادًا لا يقل عن اعتماد كتب التاريخ بشيء (الرواية، ص٣–٤).
(٣) جُرْجي زيدان والاستخبارات البريطانية
يُشير محمد عبد الغني حسن في ترجمته لجُرْجي زيدان إلى أن زيدان اعتزم الهجرة إلى مصر في عام ١٨٨٣م ليستكمل فيها دراسة الطب، ولم يكن معه من المال ما يكفي لنفقات السفر فأقرضه أحد جيرانه في بيروت ستة جنيهات إلى حين ميسرة، ووصلت به الباخرة إلى الإسكندرية في أحد أيام شهر أكتوبر من عام ١٨٨٣م:
لكن أثناء عمل جُرْجي في جريدة الزمان، قرر الإنجليز إرسال حملة إلى السودان لإنقاذ كوردون باشا الإنجليزي من الحركة القومية السودانية وثورة المهدي وأتباعه الذين وصفهم جُرْجي زيدان بالعصاة والأعداء!
وكان رئيس هذه الحملة هو اللورد وِلْسلي، وكان تعدادها سبعة آلاف جندي أكثر قوادها من طبقة الأشراف والنبلاء الإنجليز. وقد اختير جُرْجي زيدان مرافقًا لهذه الحملة ضمن جهاز المخابرات البريطانية، وكان ذلك عام ١٨٨٤م.
وفي سنة ١٨٨١م خطر له درس الطب فدرس العلوم الإعدادية بنحو شهرين ونصف وتقدمَ للامتحان فحاز قصب السبق وانخرط في القسم الطبي من المدرسة الطبية فكان في السنة الأولى ممتازًا على أقرانه رغمًا عن معاطاته أشغالًا خصوصية تُساعده على النفقات.
وتلفت النظرَ علاقةُ جُرْجي زيدان السريعة والمبكرة بالاحتلال البريطاني في مصر ومرافقته حملة إنقاذ غوردون من براثن الثورة المهدية التي اشتعلت على مدى السنوات من ١٨٨١م إلى ١٨٩٩م بقيادة محمد أحمد عبد الله الملقب بالمهدي (١٨٤٤–١٨٨٥م) ثم خليفته عبد الله التعايشي (١٨٤٦–١٨٩٩م)؛ الأمر الذي يثير قدرًا من إعمال الفكر في طبيعة المنظور التأريخي الذي يتبناه جُرْجي زيدان في روايته لكل ما سيذكره من أحوال الثورة المهدية وقائدها السوداني: هل سيطابق منظورُه للأحداث المنظورَ الاستعماري؟! أم لا؟! سأؤجلُ الإجابة عن هذا السؤال الشائك إلى حين الذهاب إلى تحليل الداخل النصي.
•••
على أني لم أختر هذا الموضوع إلا إجابةً لاقتراح بعض الأصدقاء فلبيتُ الدعوة راجيًا أن تقع خدمتي لديهم موقع الاستحسان. ولا ألتمس إغضاءهم عما يُلاقونه فيها من الزلل بل أتقدَّم إليهم أن يوازروني [كذا] بما عودوني من النصائح والملاحظات. ولا حاجة إلى تكرار إقراري بالعجز ولا سيما في فن الروايات التاريخية لوعرة [كذا] مَسْلكها وكثرة عقباتها وتطفُّلي على خوض عُبَابها فقد طالَما أقررت بذلك فيما كتبته قبل الآن ولكني أكرر الرجاء لحضرات الأدباء وذوي الفضل من المطلعين أن يُمدُّوني بآرائهم ويُتْحفوني بإرشادهم توصلًا إلى كتابة ما تروق لهم مطالعته لأني إنما أكتب لهم ولا غرض لي إلا ارتياحهم لما أرجو أن يقوم لديهم مقام بعض الواجب على نحوهم مما تلذُّ لهم مطالعته ساعات الفراغ. آملًا أن تكون هذه الرواية أقل نقصًا وأقرب إلى رضائهم من تلك فإذا تَحقَّق لديَّ ذلك نشطت إلى مواصلة الكتابة في هذا الفن وبذلت الجهد حتى تكون الرواية الثالثة أقل خطاءً [كذا] من الاثنتَين والله الموفَّق إلى الصواب وهو حسبي ونعم الوكيل» (الرواية، ص٤).
ويلفت النظرَ أيضًا في هذه الفقرة تصورُ زيدان لوظيفة الرواية التاريخية، أو الأدب عمومًا، التي تتمثل في «المطالعة ساعات الفراغ»، أيْ إن الوظيفة هنا هي التسلية والترفيه بقراءة الحوادث التاريخية في صورة تخييل أدبي، وهي أدعى إلى تعلم التاريخ.
(٤) الفصل الاستهلالي: ثنائية القديم والحديث
ويَمتلئ هذا الوصف التأريخي لمدينة «القاهرة عاصمة الديار المصرية» بالعلامات اللغوية المؤشِّرة على علاقة تعارض واضح بين القاهرة القديمة والقاهرة الحديثة. فالقاهرة القديمة تضم حي الجمالية والجامع الأزهر وما يجاورهما من جوامع قديمة؛ وذلك في مقابل القاهرة الحديثة التي تضمُّ أحياء الإسماعيلية والفجالة والعباسية وشبرا وغيرها. القاهرة القديمة بناها الخلفاء الفاطميُّون الذين يتمتَّعون بمنزلة في السرد التاريخي الديني، إذا وضعنا في الحسبان ما يمثله الجامع الأزهر من رمزية دينية، سواء على امتداد التاريخ الإسلامي القديم أو حتى في العصر الحديث، والمعاصر. وأما القاهرة الحديثة فبناها الخديوي إسماعيل، أحد أبناء أسرة محمد علي، وتتمتع بمنزلة في سرود النهضة والحداثة المصرية. ولكن من المهم ملاحظة أن محمد علي باشا، مؤسس الأسرة العلوية التي حكمت مصر حتى عام ١٩٥٢م، يمثل بشكل واضح رمزًا على الانفصال عن سلطة الدولة العثمانية. فصحيح أن مصر ظلت ولاية تابعة للدولة العثمانية، ولكنها تبعية اسمية شكلية. وليس أدل على ذلك من المغامرات العسكرية التي خاضها محمد علي وابنه إبراهيم باشا ضد مقر الحكم في الآستانة.
وإذن، يُمكن القول إن القاهرة الحديثة تمثل رمزًا للتمرُّد على سلطة الدولة العثمانية التي كانت تُعدُّ سلطةً دينية بمعنى من المعاني، في مُقابل القاهرة القديمة التي تكتسب بحكم التأسيس منزلة رمزية دينية.
القاهرة القديمة التي يُطلق عليها الراوي وصف «المدينة الأصلية» (الرواية، ص٥) هي ذات شوارع ضيقة وغير منتظمة وحواريها مُتسِخة ضيقة، لا يدخلها نور الشمس، يقول الراوي: «أما المدينة الأصلية فبعكس كل ذلك إذ لا يزال مُعظَم أسواقها على النمط القديم من الضيق وعدم الانتظام وأما حاراتها فلم تنجح فيها وسائل التنظيف مع ما أراده الخديوي من الترتيب وما تحداه من التنظيم فهي لا تزال ضيقة الطريق معوجة الدروب وكأن الأقدمين أرادوا بتضييق الطرق استجلاب البرودة بحجب أشعة الشمس عنها» (الرواية، ص٥).
وأما القاهرة الحديثة فهي جيدة التنظيم ذات شوارع واسعة تصطفُّ على جانبَيها الأشجار، يدخلها نور الشمس المختلط بظلال الأشجار، فشوارعها مُنيرة نهارًا ومضاءة ليلًا بمصابيح الغاز، فليلها كنهارها؛ والأكثر من هذا أنها تتميَّز بالحدائق والمنازل الفخمة والقصور العالية، فضلًا عن الفضاءات العمومية التي يجتمع فيها الناس للتسلية واللهو والترويح عن النفس، كحديقة الأزبكية التي صارت سُرة القاهرة الحديثة بسبب تكاثر العمران (انظر الرواية، ص٥). من الجلي، هنا، أن القاهرة الحديثة مصمَّمة على الطراز الغربي الحديث. وقد انتهى بذخ الخديوي إسماعيل وإسرافه بسبب وَلَعِه بتقليد المدنية الغربية الحديثة، في الإنشاء والعمارة، إلى تحميل خزينة الدولة المصرية ديونًا طائلة، صارت إحدى ذرائع التدخل الأجنبي المباشر في الشئون المصرية، وسببًا غير مباشر من أسباب الاحتلال الإنجليزي لمصر. فهل يمكن القول إن القاهرة الحديثة — قاهرة الخديوي إسماعيل — تُمثِّل علامةً استعمارية بكل ما ينطوي عليه ذلك من معانٍ مادية ومعنوية؟ سأؤجلُ الإجابة عن هذا التساؤل إلى نهاية التحليل.
وفضلًا عن كل ما سبق، صارت القاهرة الحديثة مدينة عالَمية أو كوزموبوليتانية، وذلك في مقابل القاهرة القديمة الأحادية العتيقة. يقول الراوي واصفًا حديقة الأزبكية التي أحاطها الخديوي إسماعيل بسور حديدي شبكي تُحدق به الأنوار الغازية، وخصص لها فرقة موسيقية عسكرية تعزف مساءً بالقرب من بحيرتها المستديرة، يقول الراوي:
فإذا دخلت الحديقة في المساء وأتيت الدكة المستديرة المزينة بالأنوار الغازية حيث تعزف الموسيقى ترى الناس مُحدِّقين بها أفواجًا على اختلاف أجناسهم ونزعاتهم ومراتبهم ولغاتهم وألوانهم من القوقاسي [كذا] الأبيض الناصع إلى الزنجي الأسود الحالك وترى في اختلاف لباسهم من العمامة العربية والطربوش العثماني والقاووق الفارسي والبُرْنيطة الإفرنجية والخمار المغربي والحبرة المصرية والإزار والبنطلون والقفطان والسراويل وغير ذلك (الرواية، ص٦).
والمغزى الواضح، هنا، أن القاهرة الحديثة عالَمية، كوزموبوليتانية، ذات تعدد وتنوع عِرْقي وثقافي واجتماعي، وَفْقَ أحدث ما كانت عليه عواصم عالمية أخرى، وقتئذٍ، كباريس ولندن؛ وذلك في مقابل القاهرة القديمة التاريخية الدينية المظلمة غير المنيرة سواء بالنهار أو الليل.
القاهرتان: علامتان ثقافيتان
وترتيبًا على ما سبق، أرى أن القاهرتين، القديمة والحديثة، كما عبرَ عنهما تمثيليًّا جُرْجي زيدان، تمثلان علامتين ثقافيتَين تتمحور حول كل منهما شبكة علامات ثقافية. فالقاهرة القديمة علامة ثقافية تتمحور حولها شبكة علامات دينية ورمزية تجعلها تمثيلًا لكل نظام القيم القديم، في مقابل القاهرة الحديثة التي تتمحور حولها شبكة علامات دنيوية ورمزية تجعلها تمثيلًا لكل نظام القيم الحديث ذي المرجعية الغربية الاستعمارية. ومن ثم، أَخْلُصُ إلى وجود شبكتيْ علامات ثقافية تتمحوَران حول القاهرة، فتقسمانها إلى قاهرة قديمة تاريخية دينية ضيقة الشوارع متسخة مظلمة نهارًا وليلًا، ليست مصدر لهو أو سرور؛ في مقابل قاهرة حديثة واسعة الشوارع، مزدانة بالأشجار والحدائق، منيرة نهارًا وليلًا على السواء، وهي مصدر كل متعة وسرور وحياة طيبة رغدة؛ لأنها في الأساس مصمَّمة على الطراز الغربي. ومن الواضح أن الراوي في الفصل الاستهلالي ينطلق من منظور تمثيلي محدد للقاهرة، من المحتمل أن يكون هو المنظور المهيمن، وهو ما سأُحاول استكشاف معالمه في الأقسام اللاحقة من هذا الفصل.
ثانيًا: الراوي والمنظور الثقافي الاستعماري
وسأُحاولُ من خلال التحليل التالي استكشاف ملامح منظور الراوي في روايته الأحداث.
(١) أسرة في القاهرة الحديثة وشبكة علاماتها الثقافية
ولا يَتوانى الراوي عن تأكيد علاقة التعارض بين القاهرة القديمة والقاهرة الحديثة حتى على مُستوى الأوصاف الظاهرية، وذلك حين يُبْرِز في وصفه بيت أسرة شفيق ما يتميز به من النظافة والترتيب: «والبيت مُؤلف من غرف قليلة مفروشة بالأثاث البسيط غير الثمين ولكنه في غاية النظافة والترتيب» (الرواية، ص٧)، في إشارة مُضمَرة إلى نقيضه من البيوت في القاهرة القديمة المتسخة الفوضوية. وأما والد شفيق، واسمه إبراهيم، فعمره بين الأربعين والخمسين «عليه لباس إفرنجي وليس على رأسه شيء على أنه لم يكن إفرنجي النزعة» (الرواية، ص٧)، ويجلس في غرفته إلى طاولة عليها بعض الكتب في إشارة واضحة إلى مُستواه الثقافي، بل إن غرفة الوالد إبراهيم على بساطة أثاثها تحتوي على أثمن شيء في البيت؛ ألا وهو «خزانتان ملآنتان كتبًا في لغات مختلفة» (الرواية، ص٧). وإذن؛ فالأب وعائل الأسرة رجل مثقَّف ثقافة رفيعة ويُطالع بلغات مختلفة.
وأما زوجته سُعْدَى، والدة شفيق، فهي أصغر سنًّا من زوجها إبراهيم، وقد جاءت إلى غرفته بناء على طلبه، «ولباسها على الزي التركي وفي يدها مجلَّة المقتطف العلمية كانت تطالع فيها في غرفتها» (الرواية، ص٨). وأثناء حوار يدور بين الزوجين عن تأخُّر ابنهما شفيق في الرجوع إلى المنزل، نراهما يَطرُدان القلق الذي انتابهما بسبب تأخُّره في الرجوع، وكانت الساعة هي السابعة مساءً، بأن قال إبراهيم لزوجته سُعْدَى، على سبيل طمأنتها، «قد أحضرتُ له عدة جرائد إفرنجية ومقالات عِلمية ليطالعها»، وقالت زوجته سُعْدَى مطمئنةً نفسَها: «وأنا أيضًا عولتُ أن أطلعه على مقالة في هذه المجلة شاقني معناها» (الرواية، ص٩). فالزوجة سُعْدَى مثقَّفة أيضًا كزوجها، وتَقضي الأوقات في المطالعة، وكذلك الابن شفيق الذي تأخُّر عن المنزل تأخرًا استوجب قلق والديه عليه، هو أيضًا مثقَّف يُطالع بالعربية وبلغات أخرى غيرها.
الابن الشاب شفيق: مصادَفة الحب في القاهرة الحديثة
يبدأ ظهور شفيق في الفصل الرابع، وعنوانه «شفيق وعزيز». شفيق شاب في التاسعة عشرة من عمره «رُبي في بيت أبيه تربية حسنة جدًّا فشب كريم العنصر طيب السريرة لا يعرف أبواب المكر ولا أساليب الناس في الخداع وكان مع ذلك ذكيًّا نبيهًا حاذقًا فأدخله والده المدرسة التجهيزية الأميرية ليتمَّ دروسه على نفقة الحكومة لأنه لم يكن في سعة كبيرة من العيش على نية أن يَعلمه مهنة الطب أو المحاماة لما رأى فيه من الذكاء» (الرواية، ص١٣–١٤). وثياب شفيق في غاية البساطة، سترة وبنطلون وطربوش عزيزي. ومع صغر سنِّه يكتسي وجهه بمهابة كبار الرجال، «فكان لذلك كثير الهيبة لدى كلِّ معارفه وكان على صِغَر سنه يخاطب كلًّا حسب مقامه وعلى مقتضى المقام وقلما كنتَ تراه في مجلس أولاد أو مَعْرض لَهْوٍ ولذلك كان أساتذة المدرسة وتلامذتها يحبونه ويَعتبرونه كثيرًا وكان لفرط ذكائه لا يعاني تعبًا في الدرس ولم يكن أبناء صفه يطالعون دروسهم إلا إذا جاء شفيق فيشرح لهم الدرس كأنهم تلامذة وهو أستاذهم» (الرواية، ص١٤).
وعلى النقيض من شخصية شفيق المتميزة بخصال الحميدة، تأتي شخصية صديقه عزيز، فهو سيئ الطوية، ويَحسُد شفيقًا على ما يَحظى به من منزلة رفيعة بين التلامذة والأساتذة والمعارف على السواء. وقد آلَتْ إلى عزيز ثروة كبيرة من والده بالإرث، فلم يتعَب فيها أو يَجتهِد في تحصيلها، ويحب التفرنج والتباهي بثروته، ومن عادته أن يمسك «في يده اليُمنى عصا غليظة معكوفة الرأس وفي اليُسرى سلسلة ساعته الذهبية الغليظة يُلاعب بها أصابعه وفي فمه السيكارة الإفرنجية الضخمة. ومن شر أخلاقه الادِّعاء والحسد والرياء وحب الرفعة من غير استحقاق» (الرواية، ص١٥). ورغم هذا التناقُض بين شخصيتي شفيق وعزيز فإن الجامع بينهما هو رُفْقة المدرسة، ولا يحرص شفيق على مرافقة عزيز لما يعرفه من سوء خصاله، ولكن عزيزًا يحرص على التظاهر أمام شفيق «بما يرضيه استبقاءً لصداقته لأنه كان يحتاج إليه بأشياء كثيرة أخصها مراجعة الدروس معًا ولا يخفى أيضًا أن الغنى والترف يكسبان المرءَ مظهرًا يقربه من رضاء الجمهور» (الرواية، ص١٥). ومن الملاحظ في العبارة الأخيرة بروز صوت الراوي العليم بكل شيء في روايات جُرْجي زيدان، فهو يتدخل بالتعليق، وأحيانًا الإيضاح السَّردي مُؤكِّدًا تَدني شخصية عزيز الساقطة في كل شيء، في مقابل شخصية شفيق الفاضلة في كل شيء، فيقول: «وكان من عادة الخديوي إسماعيل باشا أن يختار أنجب تلامذة هذه المدرسة فيبعثهم إلى أوروبا لدرس الطب أو الحقوق أو ما شاكل، وكان جميع التلامذة تلك السنة يتوقَّعون ذلك الفخر لشفيق لامتيازه عنهم في كل شيء كما تقدم» (الرواية، ص١٥).
وهكذا، أخذ الراوي يضع المسرود له أمام قصة غرام جارفة بين شفيق وفدوى، وفي الوسط بينهما المنافس الشرير، عزيز، الذي بدأ يَنتقِل من مَكيدة إلى مكيدة، ومن مؤامَرة إلى مؤامرة للتفريق بينهما حتى يظفر بفدوى. وأثناء هذا كله يُعَمق الراوي التناقض بين شخصيتي شفيق وعزيز. يقول الراوي عن عزيز: «فأخذ يُفكِّر في شَرَك يُوقِع فيه شفيقًا ويجعل لنفسه الحق في الصنع الجميل الذي حملته الفتاة لعلَّه يستطيع به التوصُّل إليها» (الرواية، ص٢٤). ولتحقيق ذلك استعان بدليلة الدلالة العجوز الشمطاء لرسم الخطط والمؤامرات (انظر الرواية، ص٣٧–٣٩). وكل ذلك يحدث في ليلة واحدة هي ليلة إغراء عزيز لشفيق بحضور احتفال فتح الخليج، حيث ذهبا خلالها إلى تناول الطعام، ودخلا أحد أماكن اللهو (انظر الرواية، ص٢٤) وحضرا حفلةَ تشخيص في الأوبرا (انظر الرواية، فصل «الأوبرا الخديوية» ص٢٨–٣٠)، وقابل شفيق أثناء ذلك فدوى مرة أخرى (انظر الرواية، ص٣٠–٣٥).
ويُلخِّص الراوي طبيعة شخصيتي شفيق وعزيز تلخيصًا بارعًا، حين يكشف عن تناقُضهما الصارخ، أثناء تواجُدهما معًا هذه الليلة، فيقول: «وكلاهما تائه في عالم هواجسِه، هذا يصعد بأفكاره إلى العفاف والحب الطاهر، وذاك يَهبط بها إلى الدناءة والخيانة. والعجيب أن أفكارهما مع تناقُضها تنتهي بهما إلى نقطة واحدة هي فدوى» (الرواية، ص٤٦).
لقد اجتاحت الفتاةُ بارعة الجمال، فدوى، روحَ شفيق وعقله ووجدانه ومشاعره، إلى الحد الذي شكلت معه مصيره بطريقة إيجابية، وفي الوقت نفسه مصيرَ عزيز بطريقة سلبية؛ وذلك من منظور الراوي. وحين عاد شفيق مُتأخِّرًا ليلًا إلى منزله، دار حوار بينه وبين والدته سُعْدى عما صادفه تلك الليلة، أقتطف منه الجزء الآتي:
فقالت له: وكيف أحببتَها لأول نظرة وأنت لا تعرف عنها شيئًا؟ قال: أعترف لك أني أجهل السبب ولكني أعلم أني شعرت نحوها بما لم أشعر به نحو أحد في هذا العالم بعد، ولا أُخفي عليك أيضًا أني شاهدت من محبتها لي ما لا يقلُّ عن ذلك ولكن آه يا أماه (وكاد يَشْرَقُ بالطعام) فبادرتْه قائلةً: لا بأس عليك يا ولداه. مما تشكُو. فترقرقت عيناه بالدموع وقال: اعذريني، اعذريني يا أماه؛ لأني لا أملك حواسي. [فقالت]: مالك يا حبيبي خَفِّضْ من اضطرابك ولا تُخْفِ عني ما بك. قال: أحبها يا أماه، نعم أحبها حبًّا مفرطًا ولم يتمالَك عن البكاء … (الرواية، ص٥٢).
فرَق قلبُ والدته سُعْدَى له وغلب عليها الحنو، ولكنها أوضحت له المصاعب التي تعترض طريق حبِّه واقترانه بفدوى حين قالت له إنها تَعرف الفتاة، وتعرف أنها من عائلة «عريقة في الحسب والنَّسب وذات ثروة عظيمة، فاجتهدْ أن تكون رجلًا عظيمًا فتستحقها، ولا يأخذ اليأس منك مأخذه، فطالما كنتَ ذكيًّا مهذبًا صادق اللهجة صحيح المبادئ مقدامًا، لا يمنعك مانع من الارتقاء ودَوْس كل ما يعترضك من المصاعب» (الرواية، ص٥٣). وبعد حديث شفيق مع أمه، استقرَّ في نفسه أنه لا بد له من «السعْي إلى العلاء» حتى يظفر بحبيبته فدوى. فكيف سيكون اجتهاد شفيق لكي يكون «رجلًا عظيمًا» فيستحق فدوى؟ وما سبيل «السعْي إلى العلاء» الذي استقر في نفسه؟
(٢) شبكة العلامات الثقافية والمنظور الاستعماري
في الفصل السادس، وعنوانه «التفرنج الحديث»، أقنع عزيزٌ شفيقًا بدخول الملهى الذي أنشأه الخديوي إسماعيل وافتتحه يوم ١ نوفمبر ١٨٦٩م، ويقصد بذلك «دار الأوبرا المصرية»؛ لأن الوقت لا يزال مُبكرًا على احتفال فتح الخليج، وبخاصة أن الأوبرا من أجمل الملاهي «والتشخيص فيه الليلة باللغة الفرنسوية» (الرواية، ص٢٦). فدخلا معًا. يقول الراوي:
وكان شفيق لم يُشاهِد زمانه تشخيص الروايات لا في هذا الملهى ولا في غيره، فقال لصاحبه إني أُحسن فَهْم اللغة الفرنسوية ولكني لا أرتاح إلى حديثها كالعربية، فضحك منه حتى فحص [كذا] الأرض برجليه، ثم قال وهو يعدل وضع نظاراته: يا للعجب منك يا صاح، فإني لم أعرف لك مراسًا، أراك من جهة شابًّا ذكيًّا عاقلًا ومن جهة أخرى (اسمح لي أن أقول لك) مغفلًا. أيليق بك ونحن في عصر التمدن أن تقول مثل هذا القول، وأعجبُ لقولك إنك لا ترتاح إلى التكلُّم باللغة الفرنساوية وجميع أصدقائنا المتمدِّنين لا يتكلَّمون إلا بها حتى إنهم أهملوا اللغة العربية لتعقُّدها وصعوبة التلفُّظ بها فلا يتكلَّم بها الآن إلا البسطاء الذين لم يَلِجوا المدارس.
فبُهِتَ شفيق لخطابه ونظر إليه نظرة مملوَّة من الرزانة والكمال مُتبسمًا تبسُّمًا خفيفًا وقال (مسندًا يده إلى قائمة القنديل الغازي أمام باب الملهى): إني لأعجبُ من رسوخ ذلك في اعتقادك فكأني بك تحسب التمسك بالأخلاق الشرقية حِطةً لمقامك حتى أنكرتَ اللغة التي رُبيتَ فيها وصرتَ تفضل الرطانة عليها زاعمًا أنها لغة عامة الناس وأسافل السُّوقة، فما معنى مخاطبتك رجلًا عربيًّا بلغة أعجمية إلا التفنُّن بمُبتدعاتك الفرنجية المؤدِّية إلى سوء المصير. أرني واحدًا ممن تَتَقَلدُهم من الفرنجة ولو مَهما أتقن العربية يُخاطب ابن لغته بها فكيف تَسير على خطواتهم إلا فيما يوافق مصلحة بلادك منها. فأنت مقرٌّ بصنيعك هذا أن أحط الناس في عينيك إنما هم والداك وسائر أعمامك وأخوالك وغيرهم من ذوي قرباك وأصدقائك؛ لأنهم لا يعرفون الرطانة ولا يُهملون لغتهم.
فضحك عزيز ضحكة يُمازجها الخجل، وقال: إن قولك لأشبه بما نسمعُه من عجائز بلادنا لأنهم لم يخالطوا الفرنجة ولا تعلَّموا التمدن (الرواية، ص٢٦–٢٧).
إنَّ عدم ارتياح شفيق إلى التحدث باللغة الفرنسية، رغم أنه يحسن فَهْمها، يعبر عن موقف محدَّد داخل ما يُسمَّى «عصر التمدن»، فاللغة من وجهة نظره حاملة «الأخلاق الشرقية»، ومن المحتمل أنه يقصد بهذا التعبير مجمل التراث الشرقي الذي يشمل العادات والتقاليد والفكر والثقافة التي تتَّسع لتشمل بيئة التربية التي يتربى فيها صاحب اللغة من خلال اللغة. ولكنه في الوقت نفسه يُحدِّد العلاقة ﺑ «الفرنجة»، ويَقصرها على اتباع خطواتهم فيما يُفيد مصلحة البلاد، ومن المحتمل أنه يقصد بذلك التقدم العلمي والاقتصادي والصناعي. وليس معنى اتباع خطواتهم في ذلك التنازل عن اللغة المحدَّدة، في حقيقة الأمر، لهُوية الناطق بها.
وفي مقابل نظرة شفيق لما يُسمَّى «عصر التمدن»، يأتي موقف عزيز الذي يصف شفيقًا بأنه مُغفَّل؛ لأنه من غير اللائق في عصر التمدُّن أن يتحدث المصري باللغة العربية التي لا تُناسب إلا الدهْماء والسوقة ممَّن لم يدخلوا المدارس أو لم يتثقَّفوا، ولا سيما أن كل أصدقائهما لا يتكلَّمون إلا الفرنسية، وقد أهملوا العربية لصعوبتها وتعقُّد ألفاظها. وهكذا، يُعبر عزيز عن استسلام كامل للآخر الأوروبي إلى حدِّ التنازل عن اللغة الوطنية التي هي حاملة الهُوية. ومن ثم يُوصَف عزيز بأنه «متفرنج بالكامل» ويُعد موقفه ذاك علامة على «التفرنج الحديث» الذي يجتاح كل شيء في طريقه، بما فيه اللغة والهُوية.
ولكن من المُهم في هذا السياق الإشارة إلى المصير المعكوس الذي ستئول إليه الشخصيتان، عزيز وشفيق: سيُصبح عزيز ضابطًا في جيش عرابي الوطني، وسيُصبح شفيق ضابطًا في جيش الاحتلال البريطاني.
عزيز: ضابط وطني في جيش عرابي
يعود أصل عزيز إلى عائلة جندب المغربية (انظر الرواية، ص٤٠). وفي حوار عزيز مع عرابي باشا بمناسبة طلبه الانضمام إلى الجيش، قال له: «إنَّ جدي رحمه الله جاء من بلاد المغرب للخدمة في جيش محمد علي باشا فأقام في مصر واتخذها وطنًا له وأنا أَعُد نفسي وطنيا» (الرواية، ص٩٠). وقد سلفت الإشارة إلى خصال عزيز الرديئة، فهو سيئ الطوية، حسود، يحب التفرنُج والتباهي بثروته، ومن أسوأ أخلاقه الادعاء والرياء وحب الرفعة دون استحقاق، ويعيش وحيدًا مُستمتعًا بثروة طائلة آلَتْ إليه بعد وفاة والده. وسوء طويته يكشف عن خُبْث أصله. إنَّ وضعية عزيز أقرب إلى وضعية اللقيط.
وبالإضافة إلى كل ما سبق، فهو يتصف بالخِسة والنذالة واللؤم، فلا يسرع إلى نجدة المُستغيث، بل يُدبر المكائد للإيقاع بفدوى في حبه (انظر الرواية، ص١٧–١٨). ولما بادر شفيق إلى إنقاذ فدوى، وعزيز ماكث في عربتِه لا يُحرك ساكنًا، نظر إليه شفيق «نظرة الاحتقار» (الرواية، ص١٩). وعزيز أيضًا يُدمن الخمر (انظر ص٢٤–٢٥). وتأكيدًا لتفرنُجِه وحبِّه الفرنسية وأهلها، يسافر كل عام إلى باريس لقضاء فصل الصيف (انظر الرواية، ص٤٠). وهو يتصف بصفات دنيئة كاستراق النظر إلى السيدات في خلواتهن (انظر الرواية، ص٢٩). وتأتي صورة عزيز طول الوقت بهيئة الضعيف الساقط (انظر الرواية ص٤٩) الذي يلجأ إلى الحيلة للإيقاع بشفيق وكأنه الحية الخبيثة. يقول الراوي عن عزيز عقب حواره مع شفيقٍ بشأن فدوى: «فلما رأى عزيز ما يتخلَّل كلام شفيق من الغيرة الشديدة على صحة أدب فدوى تَلَوَّى تَلوِّيَ الحية وقد اشتعل فؤاده حسدًا إذ لم يرَ من الإيقاع بها إلا إثارة عواطف شفيق للدفاع عنها فكظمَ غيظه وخاف إذا اختلق عليها أكذوبة أخرى أن يقع في شرِّ أعماله فينكشف أمره وتُحبَط مساعيه» (الرواية، ص٤٨–٤٩).
كما أنَّ طموحه بعد التخرُّج طموح سلبي، إذ ينوي إنشاء «جريدة سياسية ليس بقصد الربح ولكن لأجل المقام وخدمة ذوي المناصب والأعيان» (الرواية، ص٤٠–٤١)، فهو لا يهتم بأي قضية وطنية، في وقتٍ كانت فيه البلاد والضباط المصريون يغلون بسبب سوء المعاملة والاحتقار:
ففي مساء الأربعاء الواقع في ٢٥ يونيو (حزيران) سنة ١٨٧٩م، كانت الناس في القاهرة تتحدَّث باضطراب السياسة المصرية لحقد دولتَي إنكلترا وفرنسا على الخديوي حتى خشي الناس تنازله. فتمنى عزيز حصول ذلك ظنًّا منه أن هذا الأمر إذا تمَّ عاد على شفيق بالفشل إذ ربما يترتب عليه إلغاء الأمر الصادر بشأن إرساله إلى لندن فصار كله أذنًا تَسمع وأعينًا تُبصر استطلاعًا للأخبار الجديدة وسار في ذلك الليل إلى الباشا ليرى رأيه في تلك الإشاعات (الرواية، ص٧٩).
وفي الصباح التالي أفاق عزيز من أصوات المدافع المؤذنة بتنازل إسماعيل باشا وتولية ابنه محمد توفيق باشا مكانه، فلبث يَنتظر ما يكون من التغيير وما يظهر من أعمال الخديوي الجديد فإذا به أميرٌ محبٌّ لرعيته راغب في مصلحتهم ساعٍ إلى ترقية شأن بلادهم فخابَ أمله وحبط سعيه لأن ذلك التغيير لم يُغير شيئًا من حظ شفيق فإنه ما زال يدرس المحاماة في إنكلترا وكل يوم في نجاح (الرواية، ص٨١).
فلا تزال نوازعه الدنيئة تتغلَّب عليه، مُنتظرًا أي فرصة مهما كانت، للتقليل من حظِّ غريمه شفيق. ومن الواضح أن الراوي والمؤلِّف يتضافَران بسُبُل شتى على تقديم هذه الصورة لشخص سيُصبِح ضابطًا في جيش عرابي.
وأثناء تحرُّك عرابي ورفاقه للمطالبة بالعدالة في المعاملة داخل الجيش، كان عزيز يتابع الأحداث لا بدافع الوطنية، وإنما بدافع استكشاف منابع القوة والنفوذ في الحياة العامة. فذات يوم قرأ عزيز في جريدة «الطائف» أن احتفالًا كبيرًا سيقام في قصر النيل بسبب ما أنعم به الجناب العالي من زيادة رواتب الضباط والعساكر، وإجراء تعديل في بعض القوانين العسكرية، وسيحضره الضباط المصريون ومنهم أحمد عرابي، فسارع عزيز إلى التواجُد هناك، وأثاره للغاية ما يحظى به عرابي من إعجاب الناس وحبِّهم، فقرر الانتظام في سلك رجال الجهادية حتى يحظى بالنفوذ العسكري الذي يحظى به عرابي ورفاقه، وأنه بمساعدة أمواله من الممكن أن يترقى في مدة قصيرة ليصير ضابطًا كبيرًا ذا مهابة ونفوذ، فينال الحظوة في عيني فدوى ووالدها (انظر الرواية، ص٨٣–٨٤). واستقر عزمه فعليًّا على الانتظام في الجهادية، بعد ما عاينه من حادثة عابدين، ومشاهدته المحادثة القوية التي دارت بين الخديوي وعرابي، ثم بين عرابي والقنصل الإنجليزي، وما اتَّسمَ به عرابي من جرأة وجسارة فرضها نفوذه العسكري (انظر الرواية، ص٨٥–٨٦). يقول الراوي: «فلما رأى عزيز ما ناله جماعة الجهادية من نفوذ الكلمة ازداد شوقًا للانتظام بتلك الخدمة ولكنه رغب في استطلاع خاطر فدوى وميلها للجهادية فإذا كانت تميل إليها يتيسر له التقرب منها فذهب إلى صديقتِه الدهياء [يقصد دليلة الدلالة] وأطلعها على مُرادِه» (الرواية، ص٨٧).
وفي حواره مع الباشا المورالي، والد فدوى، مُستطلعًا رأيه بشأنِ مَيله إلى رجال الجهادية: «قال الباشا إن الخدمة العسكرية من أشرف الخدمات ولكنَّها محفوفة بالمخاطر. قال عزيز: لا خطر فيها إلا أيام الحرب. قال الباشا: ولكنَّك غني عن هذه الخدمة لما أنت فيه من الثروة، فإذا كانت حربٌ ماذا تفعل؟ قال: أقوم بما تَقترفُه عليَّ مصلحتي، ولا بد دون الشهد من إبر النحل» (الرواية، ٨٩). وعندئذٍ، يعلق الراوي شارحًا وموضحًا: «أراد التظاهُر بالبسالة وقد أضمر في نفسه الفرار إذا نشبت حربٌ» (الرواية، ص٨٩).
ولما انتظم عزيز في الجيش بعد توصية من الباشا المورالي والد فدوى لكي يقابل عرابي (انظر الرواية، ص٨٩)، ثم بعد توصية من عرابي لناظر الجهادية لكي يُعينَ عزيزًا في رتبة ملازم (انظر الرواية، ص٩٠)، أخذ يستغلُّ الزي العسكري بطريقة وقحة تُخِل بالشرف العسكري، فتعرضَ لعربة فدوى في الطريق، إلى درجة أن خادمها بخيت دخل معه في حوار يُنبهه فيه إلى ضرورة الحفاظ على شرف الزي العسكري (انظر الرواية، ص٩١–٩٣).
ولما حدثت «مذبحة الإسكندرية في ١١ يونيو سنة ١٨٨٢م التي ذُبِحَ فيها قسم كبير من الإفرنج ونُهِبَتْ بيوتهم فصدرت الأوامر من الحكومات الأجنبية إلى رعاياها بمُهاجَرة القطر المصري حالًا في مراكب أُعِدتْ لذلك على نفقة الحكومات فكان ذلك موجبًا لسرور عزيز؛ لأنَّ تلك المنشورات تقضي بسفر والدَيْ شفيق لارتباطهما بقنصلاتو إنكلترا فتُحبَطَ آمال فدوى وتضطرُّ إلى القبول به» (الرواية، ص٩٥–٩٦)، إذ تظهر لا مُبالاته بما يترتَّب على ذلك من الإشارة إلى نية التدخل العسكري الأجنبي في بلده مصر.
ولم يقف الحال بالضابط عزيز عند هذا الحد، بل استغل رُتْبته العسكرية وقُرْبه من عرابي باشا، فدبَّر خطة لإبعاد الباشا المورالي والد فدوى عنها، حيث جرى استدعاؤه إلى الإسكندرية بأمرِ من عرابي: «فوَشَى به إلى عرابي أنه لا يُؤمَنُ من بقائه في القاهرة بعد سفر الجند إلى الإسكندرية لشدة رغبته في مخابرة الأجانب، فبعث إليه عرابي أن يسير حالًا إلى الإسكندرية» (الرواية، ص٩٩)، وفي الوقت نفسه بذل عزيز، باحتيالات كثيرة، قصارى جهده للبقاء في القاهرة طمعًا في اللقاء بفدوى، على حين كانت الأحداث في الإسكندرية مُضطربة تغلي بسبب تأهُّب الأسطولين الإنجليزي والفرنسي، وسفر عرابي إليها بكل جنده من القاهرة.
ولما عينَ العرابيُّون مفتشًا في مصلحة البوسطة «لفض الرسائل المرسلة من أعيان البلاد ورجال حكومتها والرسائل الواردة إليهم استطلاعًا لضمائرهم»، أوصى عزيزٌ المفتشَ سرًّا أنه «إذا عثر على كتاب مرسل إلى بلاد الإنكليز بعنوان كذا أن يطلعه عليه إلى أن قال إن عرابي باشا يريد ذلك وقد كان هذا المُفتِّش من الملكية ولم يقبل تلك المهمة إلا خوفًا من صولة الجهادية إذ ذاك» (الرواية، ص١١٢).
وإذن، لم تُحرِّك الأحداث التي تمر بها مصر، في تلك الظروف العصيبة، ساكنًا في الضابط الوطني عزيز، إذ لا هم له سوى الظفر بفدوى. وقد بذل كل المحاولات في هذا السبيل مُستغلًّا رُتْبتَه العسكرية في جيش عرابي الوطني وقُرْبه منه، وبخاصة بعد ترقيتِه إلى رتبة يوزباشي (انظر الرواية، ص٩٥)، «ولما لم ينلْ جدوى قَصَدَ صديقته دليلة وعرض لها الأمر وقال لا بدَّ من نَيْل هذه الفتاة على أي الطرق فالذين أخشاهم بعيدون عنها الآن وقد ساعدتني جميع الأحوال ولم يبقَ إلا رضاها فالحوادث العرابية قضت بإبعاد والديْ شفيق إلى أجل غير مسمًّى وقد سعيتُ إلى إبعاد والدها إلى الإسكندرية فظننتُ أنها تذلُّ بعد هذا وتخاف الجهادية» (الرواية، ص١١٢)، يقصد أنها تنحني أمام سطوة كونه ضابطًا في جيش عرابي. بل تَظهر صورتُه على أسوأ ما يكون، بوصفه ضابطًا في جيش عرابي، أثناء لقائه بصديقته دليلة الدلالة، وهما يُدبِّران خطة جديد للإيقاع بفدوى، حين تسأله دليلة:
فقالت وهل إذا جاءتك الأوامر العسكرية بالسفر إلى الإسكندرية تُسافر وأنت عالم أن ذلك الثغر في خطر عظيم تَتهددُه دوارع [كذا] دولتيْ إنكلترا وفرنسا الواقفة بالمرصاد، وزِدْ على ذلك أن ذهابك هذا يُعرقل مساعي من جهة فدوى؟ قال «وما كل ما يتمنَّى المرء يدركه» فكنتُ عولتُ منذ انتظامي في سلك العسكرية أني حالما أعلم باقتراب الحرب أستعفي من الخدمة ولكني رأيت من الجهة الواحدة أني ارتقيتُ وصرتُ عظيمًا في أعيُن الناس، ومن الجهة الأخرى علمتُ أن القوانين العسكرية لا تُجيز الاستعفاء وقت الحرب فلا بد لي من البقاء في الجيش على كل حال ويجب عليَّ إطاعة الأوامر أما إذا ذهبت إلى حرب فلا أعرض بنفسي إلى مكان الهلاك لأنها عزيزة عليَّ ومتى انتهت مهمَّتي أعود إلى القاهرة وأسعى إلى ما أتطلبه (الرواية، ص١١٤).
وتَكتمِل صورة الضابط في جيش عرابي الوطني سوءًا، حين يُطلَب من اليوزباشي عزيز ما لم يكن يرغبه، وكان يبذل كل وسيلة لإبعاد نفسه عنه. إذ بينما هو مُنهمِك بكل خواطره مع صديقته العجوز دليلة الدلالة في تدبير مكيدة أخرى جديدة للإيقاع بفَدوى ونَيْلها، أتاه خادمه برسالة من أركان حرب عرابي: «يطلبون إليه به أن يُعِد عددًا من الخيل ومقدارًا من المئونة مساعدةً للجيش ويقدمها بأقرب ما يمكن من الوقت وبعد ذلك يطلُبون إليه السفر إلى الإسكندرية. فلما قرأ الكتاب تغيرت ملامح وجهه فقطب جبينه وجلس إلى مُتكاءٍ [كذا] أمامه واستلقى رأسه بيدِه كأنه وقع في أمر عظيم» (الرواية، ص١١٥–١١٦).
شفيق: ضابط إنجليزي في جيش الاحتلال البريطاني
من المُهم، هنا، ملاحظة التكوين الأُسَري الذي يندرج فيه شفيق، فهو يعيش في كنف والديه، ولم ينشأ يتيمًا. وأسرته مصرية متوسِّطة الحال، مكافحة، ومثقفة ثقافة رفيعة سواء عربية أو أوروبية، ورغم أن والده إبراهيم يرتدي الزي الإفرنجي فهو ليس مُتفرنجًا، وكذلك نشأ شفيق الذي يعرف الفرنسية ويُتقن الإنجليزية، ولكنه لا يتحدَّث إلا بالعربية لأنها لغة أهله وأبناء بلده. ومع أن والده إبراهيم يعمل موظفًا في القنصلية الإنجليزية فإن كبار مساعدي الخديوي إسماعيل يَعتبرون إبراهيم من مُحبي الحكومة المصرية، تقول سُعْدى لابنها شفيق في حوار معه عن سبب تغيُّب والده إبراهيم خارج المنزل ليلًا: «فقالت: لا يَخفى عليك يا ولدي أن والدك من مستخدمي قنصلاتو إنكلترا وأنت تعلَم ما تسعى إليه هذه الدولة مع فرنسا بشأن مصر حتى أصبح مركز الخديوي في خطر، وبما أنَّ والدك من محبي الحكومة المصرية بعثتْ إليه المَعية السنية للسؤال عن بعض تلك الشئون، وقد فعلت مثل ذلك قبل الآن» (الرواية، ص٥٥). وهذه العلاقة بين والده إبراهيم والمعية السَّنية، رغم عمله موظفًا في القنصلية الإنجليزية، تُشير إلى رُوح وطنية تتلبسُ شخصية الوالد، وقد نقلها إلى ابنه شفيق.
وبالإضافة إلى هذا الحسِّ الوطني المصري الذي يتمتع به الشاب شفيق وأسرته، فهو كريم العنصر، طيب السريرة، رباه والده إبراهيم فأحسن تربيته، ذكي نبيه، على وجهه مهابة الرجال، يَشرح لزملائه الدروس كأنهم تلامذة وهو أستاذ لهم (انظر الرواية، ص١٤). وتُمْلِي كل هذه الصفات على شخصية شفيق أن يكون شهمًا شريفًا نبيلًا، رغم عيشتِه المتوسِّطة، فهو يُسرع إلى نجدة المحتاج أو المستغيث وإن لم يَستغِث به، كما حدث في موقف تعرفه الأول إلى الفتاة بارعة الجمال فدوى ابنة الباشا المورالي (انظر الرواية، ص١٨). بل إنَّ فدوى تصفُ شفيقًا بأنه «الرجل السماوي» (الرواية، ص١٩)؛ لأنه ظهر لها فجأةً مُنقذًا من محاولة الاعتداء عليها في الطريق، كأنه هبط من السماء، وتصفُه بالشهامة والمروءة (انظر الرواية، ص٢١). وعلاوة على كل تلك الصفات المعنوية النبيلة فإنَّ شفيقًا يتَّصف أيضًا بقوة البنيان (انظر الرواية، ص٤٩)، ورغم قوته الجسدية فهو دائمًا ما «يصعد بأفكاره إلى العفاف والحب الطاهر» في مقابل عزيز الضعيف الساقط الذي «يَهبط بها إلى الدناءة والخيانة» (الرواية، ص٤٦).
والأكثر من هذا أن فِطنة شفيق وذكاءه، وما يغشاهما من رزانة وكمال، قد بلغت جميعًا حدا لَفَتَ انتباه الخديوي إسماعيل أثناء الامتحان العمومي السنوي الذي يحرص الخديوي على حضوره، يقول الراوي:
فأُعجِبَ الخديوي بذكائه وفطنته وما يُزينهما من الرزانة والكمال فاستدعاه إليه على مشهد من الحضور. فلما مثل بين يديه وقف مُتأدبًا، فقال له: ما اسمك؟ قال: عبدُ سموِّكم شفيق إبراهيم. فالتفت الخديوي إلى سرِّ ياورانه يسأله إذا كان يعرف والده، فقال إنه من مُستخدمي قنصلاتو إنكلترا فأظهر أنه يعرفه، ثم التفت إلى شفيق قائلًا «عفاريم أوغلم عفاريم» يعني «أحسنت يا بني أحسنت». وصرفه فعاد إلى مكانه فرحًا لما لاقاه مِن استحسان ولي النعم والناس تُصفِّق له تهنئةً بما نال (الرواية، ص٥٨).
والتفات الخديوي إلى شفيق ثم استدعاؤه، معناه أن شفيق حظيَ بالسفر إلى أوروبا لدراسة المحاماة على نفقة الحكومة، نظرًا إلى شدة ذكائه وما يُغلِّفه من رزانة وكمال. وفي المقابل، كان عزيز يمتلئ حسدًا وغيظًا وحقدًا بسبب اختيار الخديوي شفيقًا للسفر.
ومع كل ما يَتلبس به شفيق من صفات حميدة؛ فهو لا يَميل إلى الادِّعاء والتظاهُر المؤدِّي إلى كوارث أو مصائب، بل يحب التواضُع في أفعاله وسلوكه، وفيما يخص الحياة العامة أيضًا، وهو ما يظهر ضمنًا في المرة التي دخل فيها إلى الأوبرا الخديوية؛ حيث يظهر اندهاشُه واستغرابه من فخامة البناء البديع وتأثيثه وفَرْشه، فيقول لرفيقه عزيز:
إني أفكر في هذا الملهى البديع وما اقتضى لبنائه وفَرْشه من الزمن والمال. فقال [عزيز] … ألا تعجب إذا أخبرتك أنَّ أفندينا إسماعيل باشا بناه وفَرَشَه في خمسة أشهر. فتعجَّب شفيق وقال إنه بالحقيقة لأمر غريب، ولكن ما الذي حمله على هذه السرعة. قال: حمله على ذلك قدوم ملوك أوروبا لحضور الاحتفال الذي أعدَّه سموُّه لفتح قنال السويس فبنى هذا الملهى إتمامًا لدواعي الاحتفاء بهم وقد دخل فيه بسبب ذلك نفقات طائلة» (الرواية، ص٢٨–٢٩).
ومن المعروف تاريخيًّا ما جره إسرافُ الخديوي إسماعيل وبذخه من تدخُّل إنجلترا وفرنسا في شئون البلاد بسبب الديون، إلى حدِّ الضغط على السلطان العثماني من أجل إزاحته عن العرش، وما ترتَّب على ذلك لاحقًا، ولأسباب عديدة، من الاحتلال البريطاني لمصر.
وهكذا، نجد تمثيلًا لشخصية شفيق الذي سيُصبح ضابطًا في الجيش البريطاني الاستعماري، يجعله شخصًا يتمتَّع بكل صفات الكمال والرزانة والوقار والنبالة والوطنية والقوة البدنية؛ في مُقابل تمثيل شخصية عزيز الذي سيُصبح ضابطًا في جيش عرابي الوطني، والذي يتمتَّع بكل صفات الخسة والندالة وضعف البُنيان واللؤم والمكر والدناءة والخيانة.
(٣) التبرير الاستعماري وإدانة الثورة العرابية
حدث ما كان يخشاه الضابط عزيز؛ إذ استدعاه عرابي ليلحق به وبجُندِه في كفر الدوار بعد انسحاب عرابي إليها عقب احتلال الإنجليز الإسكندرية، وطلب منه تجهيز مئونة على نفقتِه (انظر الرواية، ص١١٥–١١٦)، إسهامًا منه في الاستعداد لقتال الإنجليز الذين دخلوا الإسكندرية بالفعل. فذهب عزيز وقد ركبه الخوف من الموت عند التحام الجيشَين العرابي والإنجليزي، «فصورَ له حسدُه أن يَبحث عن مكان والد فدوى ويرسل إليه الكتاب» (الرواية، ص١١٦)، الذي يُفيد بأنَّ فدوى على علاقة غرامية بشفيق في لندن، ليُثيره عليها، فلما ذهب إليه هالَه مشهدُ الخراب والدمار الذي تعرَّضت له الإسكندرية وانتهز فرصة تكوين لجنة من أعيان القاهرة تذهب إلى الإسكندرية لإخبار الخديوي توفيق بالعزم على مُواصَلة الأعمال الحربية، ومرَّت اللجنة في طريقها بكفر الدوار لإخبار عرابي:
فاغتنم عزيز هذه الفرصة وطلب إلى رئيسِه أن يَسمح له بمُرافقة هذا الوفد إلى الإسكندرية فأذن له ولما وصلوا المدينة انفرد عزيز ليفتِّش عن بيت الباشا فاستولى عليه الذهول لما حل بتلك المدينة العظيمة من الدمار إثر الحريق الذي ذهَب بأعظم مَبانيها وأصبحت المنشية آكامًا من الأتربة والأحجار وكان الدخان لا يزال يتصاعَد منها وحوانيتها العظيمة التي كانت ملأى بالأقمشة والملابس على أنواعِها والحلي والمجوهرات ذهبت طعامًا للنار فصارت آكامًا خربة وأطلالًا بالية ينعق فيها البوم بعد أن كانت تزهو بهاءً وجلالًا وبعد أن كان الأمن مخيمًا فيها والناس في الشوارع زرافات ووحدانًا يترنَّحون بخمرة الزهو والعز بأزياء مختلفة وعوائد متنوعة وعربات مُتباينة الشكل بين مُتَّشح بالثياب الفاخرة ومتأنق بركوب العربات الباهرة ومُباهٍ بكثرة الخدم والحشم ومفاخر بالزهو والبذخ. هذه البلاد بعد عزِّها وزهوها هجرها أهلوها وغشيها البلى والدمار وما لم تأكله النار من مبانيها ذهب فريسة النهب. فتعجب عزيز لهذا الانقلاب السريع وكان لا يشاهد أثناء مسيره من المارة إلا أزواجًا من الشرطة بزيِّ الإنكليز بعضهم خيالة وبعضهم مشاة وكلهم بالسلاح الكامل يطوفون بالبلد حفظًا للأمن وقلَّما شاهد مارَّة في الشوارع من غير الشرطة فخاف أن تقع فيه شبهة ويُساق بتُهمة فيعود ذلك بالوبال عليه (الرواية، ص١١٧–١١٨).
لم يعبأ الضابط المصري عزيز بكل هذا الخراب الذي حاق بالمدينة، وواصل طريقه إلى سكن الباشا المورالي والد فدوى لكي يُتمِّم مَكيدته. ولما وصل إلى سكن الباشا، تصادف وصول مجموعة من الجنود الإنجليز للقبض على الباشا، فقبضوا عليهما معًا. ثم يظهر فجأةً في الطريق ضابطٌ إنجليزي أنقذهما من يد الجنود الإنجليز وأخذهما إلى سكنٍ آمن، واتضح أنه شفيق (انظر الرواية، ص١١٨–١١٩).
وهنا، يُوضِّح شفيق لعزيز سبب تطوعه في الجيش الإنجليزي أثناء إقامته في لندن لدراسة المحاماة: «قال شفيق إنني لما سمعت بالثورة العرابية وما أصاب الديار المصرية من اختلال الأحوال أشفقت على فدوى أن ينالها سوء فدخلت متطوعًا في الجندية الإنجليزية لمُرافقة هذه الحملة فأشاهد الأهل والأحباب لَعلِّي أقوى على غَوثهم وخصوصًا فدوى لأن حبها شغل كل جوارحي حتى منعني من الافتكار بسواها» (الرواية، ص١٢١–١٢٢). من الضروري هنا ملاحظة لا مبالاة شفيق — وقد صار ضابطًا في جيش الاحتلال الإنجليزي — بما أصاب الإسكندرية مِن دمار وقتل وتشريد، فكلُّ ما يَعنيه هو حبيبته فدوى التي مَلَكَتْ عليه نفسَه فلم يَعد يفكر في سواها. كذلك من الضروري ملاحظة الاقتران في حديثه بين الثورة العرابية واختلال الأحوال واضطرابها في مصر، وهو اقتران يَكشِف عن وجهة نظر سلبية في الثورة العرابية، وكأنَّ جيش الاحتلال الإنجليزي جاء للغَوْث وإعادة الانضباط إلى الأحوال المختلة. ومن الواضح أن وجهة النظر هذه راسخة في نفس شفيق، فهو لا يكتفي بالتطوُّع في الجيش الإنجليزي للمَجيء إلى مصر فقط، بل يريد الحصول على تعيين في جيش الاحتلال، يقول شفيق لعزيز: «ولا يخفى عليك أيضًا أن انتظامي في الجندية الإنجليزية كان من رابع المُستحيلات لو لم أستخدم وسائط كثيرة وأكون ممَّن يعرفون اللغتين العربية والإنكليزية فأقوم أحيانًا مقام المترجم ولي أمل عظيم إذا نِلْتُ حظوةً في عيني رئيسي أن أحصل على التعيين النهائي في الجيش فأغفل مهنة المحاماة» (الرواية، ص١٢٢). إن شفيق يتحوَّل فعليًّا، وعن رغبة راسخة في نفسه، إلى ضابط إنجليزي في جيش الاحتلال.
هكذا، يجد القارئُ نفسَه أمام عملية تبرير استعماري هائلة، وإدانة ضمنية للثورة العرابية. وفي موضع لاحق من الأحداث، وبعد دخول الإنجليز إلى القاهرة، يقول الضابط شفيق للباشا المورالي وابنته فدوى — حبيبة شفيق — في إشادة واضحة بأن احتلال الإنجليز لمصر هو فوز يحرص شفيق، بوصفه ضابطًا في الجيش الإنجليزي، على نَيْل الترقيات العسكرية عنه:
إني آسف لعدم إمكاني البقاء الآن لأزداد شرفًا ومُؤانَسة برؤيتكم ومحاضرتكم؛ إذ ربما يترتَّب على تغيبي عن الجيش [الإنجليزي] وقتًا طويلًا سوء ظنٍّ بي؛ لأنهم لم يَسمحُوا بانخراطي في جندهم متطوعًا إلا بعد السعي الكثير؛ فإني لستُ إنكليزيَّ الأصل، وقد ساعدني كون والدي من موظَّفي هذه الحكومة [الإنكليزية] في هذا القُطر وله فيها خدمات صادِقة، فلا بد لي من أن أبرهن لهم على صدق خدمتي حتى يثقُوا بي فأنال المكافآت الجهادية التي لا بدَّ منها بعد هذا الفوز في حربنا (الرواية، ص١٤٧).
وسرعان ما تتحوَّل هذه الإدانة الضمنية للثورة العرابية إلى إدانة صريحة واتِّهام بالعصيان، في الفصل ٣١؛ وذلك في حوار طويل بين الباشا المورالي، والد فدوى، والضابط الوطني عزيز. ونظرًا إلى أهمية هذا الحوار فسأَقتبسُه رغم طوله:
- أولًا: لا بدَّ من ملاحظة أن الطرف المُدافع عن الثورة العرابية وإيضاح حقيقة موقفها هو الضابط عزيز الذي لن يُحسن بحال من الأحوال إيضاح وجهة نظر عرابي ورفاقه، نظرًا إلى كلِّ ما يتَّصف به من سمات شخصية ونفسية وبدنية سلبية سبقت الإشارة إليها. فهو لا يَصلُح منذ البدء أن يكون لسان حال الثورة العرابية المعبِّر عنها. ولذلك، يُمكن القول إن صوت عرابي وثورته غائب تمامًا في هذا الحوار. وكأنَّ المجيء بالضابط عزيز طرفًا نائبًا عن عرابي في هذا الحوار يَنطوي على إشارة ضمنية إلى إدانة عرابي والثورة العرابية.
- ثانيًا: يظهر العرابيون من منظور الباشا المورالي، والد فدوى، بأنهم يُسيئون التصرف، وأن ثورة عرابي ورفاقه حركة استبدادية في جوهرها، لا تكشف إلا عن أغراض نفسية خبيثة لا تفيد الوطن بل تضرُّه. ومن الواضح أن الباشا يريد هنا وصفها ﺑ «الانقلاب السياسي الخبيث».
- ثالثًا: على فرض أن مَطالب العرابيين عادلة، فإن غباءهم يتَّضح من إصرارهم على تنفيذها فورًا وفي الحال، الأمر الذي يكشف عن أنهم لا يُحسنون السياسة ولا يفهمونها، بل لا يفهمون سُنة الله في خَلْقه.
- رابعًا: يَعقِد الباشا المورالي مقابلة صريحة بين الخديوي توفيق المُخلِص لرعيته الساهر على مصلحتِهم، وبين العرابيين العُصاة اللئام الذين قابلوا إحسان الخديوي عليهم وإخلاصه للمصلحة العامة بالعصيان والعقوق.
- خامسًا: العرابيُّون متَّهمُون بخذلان الخديوي؛ لأنَّ قوتهم العسكرية من المفترض أن تكون سندًا له ضد أي تدخُّل أجنبي، ولكنهم ثاروا عليه عصيانًا وتمردًا، بما يُشبه الانقلاب السياسي الذي جر على البلاد نتائج وخيمة.
- سادسًا: عِنادُ عرابي في حديثه مع القنصل الإنجليزي، يوم حادثة عابدين، هو السبب فيما آلَتْ إليه الأحوال لاحقًا، الأمر الذي يكشف عن غباء سياسي.
- سابعًا: في مقابل عرابي ورفاقه، يظهر الإنجليز بمظهر الأمناء الذين أوضحوا لعرابي عواقب أفعاله، فهم لم يخدعوه في شيء؛ ولأنه يتسم بالغباء السياسي فلم يفقه لقولهم معنى ولم يُحسن التصرف. وغرض الإنجليز الأساسي في مصر هو حفظ الأمن الذي أخلَّ به عرابي ورفاقه.
- ثامنًا: مصلحة مصر واستتباب الأمن فيها من مصلحة الإنجليز؛ لأنَّ لهم ديونًا فيها يُريدون تحصيلها، ولذا فوجودهم لا يُسبِّب إخلالًا بمصلحة مصر والمصريين، بل سيكونون حريصين عليها غاية الحرص، لا كعُرابي ورفاقه الذين يقامرون بمصلحة البلاد لأغراض شخصية.
- تاسعًا: لا يَقتصر الأمر على وصف عرابي بالعناد والغباء السياسي، بل هو عاصٍ ويجب تأديبه.
- عاشرًا: إنَّ لجوء الخديوي توفيق إلى الاستنجاد بإنجلترا قد حدث رغمًا عنه، ومبرره الوحيد إعادة الأمن والنظام إلى مصر؛ أيْ هدفه، كهدف الإنجليز، مصلحة مصر والمصريين، بإنقاذها من الفوضى.
- أحد عشر: إنَّ انقلاب الجيش بزعامة عرابي على الخديوي هو انقلاب سياسي له أغراض خبيثة.
- ثاني عشر: العرابيون مُتَّهمون بأنهم الذين أحرقوا الإسكندرية أثناء انسحابهم منها إلى كفر الدوار،٤٥ وأما مَدافع الأسطول الإنجليزي فبريئة ممَّا لحقها من دمار وخراب وإتلاف على نحو ما سبق في وصف حالها (انظر الرواية، ص١١٧–١١٨).
حيث يظهر عرابي ورفاقه بمظهر سوء الطوية؛ فباطنهم نار خامدة لأغراض دفينة في نفوسهم لم يحركها أو يساعد على اشتعالها إلا الحرية التي وهبها الخديوي لرعيتِه فأساءت استعمالها، «وكادت تقود إلى الدمار» — فيما يُصرِّح الراوي — لولا تدخل الإنجليز واحتلالهم البلاد بغرض استتباب الأمن فيها وتحقيق مصلحتها ومصلحة المصريين. بل يظهر الإنجليز بمظهر النبلاء الذين لا يتأخَّرون عن إسعاف المستنجد بهم، وهو هنا الخديوي توفيق، مهما كلفهم ذلك من تضحيات؛ وتأتي هذه الصورة النبيلة على لسان سُعْدَى والدة شفيق في حوار لها مع فدوى التي جاءتها للاستفسار عن سفرها هي وزوجها إبراهيم إلى لندن، حيث تُشير قائلةً: «إن الأسطولين الإنكليزي والفرنساوي في ميناء الإسكندرية منذ أيام وهما لا يُجاهران بالعدوان إلا إذا رأيا من خطر على حياة الخديوي فيستخدمان حينئذٍ القوة ولو كلفهما ذلك ثغر الإسكندرية وخراب سائر القطر لأنهما دولتان قويتان» (الرواية، ص٩٧)، وكأنَّ الدافع الوحيد لوجود الأسطولين في ميناء الإسكندرية هو الحفاظ على حياة الصديق المستنجد بهما من العرابيِّين: الخديوي توفيق.
ويُواصِل الراوي تصوير إيحاءات كلمة «المخالب» الوحشية الهمجية، عندما يتحدَّث عن فرار العرابيين من الإسكندرية بعد قصف الإنجليز لحصونها إلى كفر الدوار، وفرار بعضهم إلى القاهرة:
فالعرابيون هم الذين أحرقوا الإسكندرية ونهبوها أثناء فرارهم منها، ومَن جاء منهم إلى القاهرة كانوا يتحرَّشون بالأجانب ويُؤذونهم، بل تحرشوا بأهل القاهرة من السكان المحليين حتى ضجوا بالشَّكوى لضابط العاصمة.
وفي مقابل انعدام الأمن في القاهرة بسبب جنود عرابي وفوضاهم في الشوارع، تقول فدوى مطمئنةً أمها على والدها أثناء الأحداث المُلتهبة في الإسكندرية إنَّ الإنجليز دخلوا الإسكندرية، «وأن الجميع في سلام وطمأنينة» (الرواية، ص١١٠)، بسبب دخول الإنجليز إليها. وفي موقف آخر، تقول والدة فدوى بعد أن اطمأنت: «إنَّ الإسكندرية هذه الأيام آمَنُ مِن كل أنحاء القطر» (الرواية، ص١٣٠)؛ فالإنجليز باحتلالهم الإسكندرية، وفرار العرابيين عنها، صارت أكثر أنحاء مصر أمنًا.
وبينما كان الإنجليز على وشك الدخول إلى القاهرة، أرسل عرابي رسائل إلى جميع أمراء العسكرية والملكية وأعيان البلاد في يوم ١٣ سبتمبر سنة ١٨٨٢م، تُفيد بضرورة حضورهم للتباحث بشأن الاستعداد لمنع الإنجليز من دخول القاهرة (انظر نص الرسالة: الرواية، ص١٣٩). ولما اجتمعوا، اتَّفق معظمهم على أن العرابيين عصاة، ويَلْزَمُهم «وجوب التماس العفو من مولاهم» (الرواية، ص١٣٩)، وألفوا لجنةً تذهب بهذا الالتماس وطلب العفو من الخديوي توفيق المقيم في الإسكندرية تحت حماية الإنجليز، ولم يُقبَل الالتماس (انظر الرواية، ص١٣٩–١٤٠)، «وبعد مسير الوفد من القاهرة أصرَّ البعض على وجود الدفاع وأقروا على إنشاء خطوط نارية في ضواحي المحروسة فذهب عرابي لتنفيذ ذلك في العباسية وكانت العاصمة آنذاك في اختلاط ولغطٍ خوفًا من حدوث ما حصل في الإسكندرية من حريق وخراب» (الرواية، ص١٤٠).
ومن المهم الإشارة إلى أن الفصل الذي ترد فيه الأحداث السابقة هو الفصل رقم ٣٥، وعنوانه «على الباغي تدور الدوائر» (انظر الرواية، ص١٣٩–١٤٢)، حيث يبدأ الفصل بقرب نهاية عرابي وجنوده؛ فالجيش الإنجليزي على وشك دخول القاهرة؛ ثم ينتهي الفصل بدخول الضابط الإنجليزي شفيق بيت فدوى وإنقاذها وخسارة عزيز وانكشاف مكائده وخيانتِه، في إشارة واضحة إلى دخول الإنجليز القاهرة وخسارة عرابي. لقد دارت الدائرة على الباغي الضابط عزيز، وكذلك على عرابي في الوقت نفسه.
وفي النهاية، يمكن القول إن منظور الراوي الاستعماري منتشر ومتشعب في كل أنحاء العملية السردية، بل تكاد تمثيلات عرابي وثورته تتطابق — على امتداد العملية السردية — مع صورة الضابط عزيز: فها هو ذا عزيز بعد انكشاف كل مكائده واحتيالاته وخيانته المعبرة عن أغراض نفسية خبيثة، يلتمس الصفح والعفو من الضابط الإنجليزي شفيق، فيصفح عنه ويعفو عن خيانته له (انظر الروايةص١٤٢)؛ وكأن لسان حال الراوي يريد أن يقول: عرابي خائن والضابط عزيز خائن، في مقابل الإنجليز — المتوارين خلف الخديوي — الذين صفحوا عن عرابي فخففوا الحكم عليه من الإعدام إلى النفي (انظر الرواية، ص١٥٠)؛ وكذلك الضابط شفيق الذي تطوع في جيش احتلال بلاده ويسعى جاهدًا إلى الحصول على رتبة عسكرية ثابتة فيه، قد عفا وصفح عن صديقه الخائن عزيز وأبقى على حياته.
وأما الضابط الإنجليزي شفيق فعاد إلى معسكره في العباسية، حيث وجد عرابي ورفاقه مقبوضًا عليهم؛ إذ «أخذت الجنود الإنكليزية من ذلك الحين تُلقي القبض على زعماء الثورة للمحاكمة فحُكِمَ على سبعة منهم وفيهم أحمد عرابي زعيم الثورة بالإعدام فتكرمَ الجناب الخديوي بالعفو عنهم وإبعادهم إلى جزيرة سيلان وبعد إبعادهم أخذت الأحوال في السكون رويدًا رويدًا» (الرواية، ص١٥٠).
ثالثًا: الراوي نائب المؤلف: موقف ثقافي استعماري
بعد إشارة الراوي إلى عَزْل عزيز من خدمة الجيش المصري بمقتضى أمر الخديوي توفيق بحلِّ الجيش القديم الذي قاده عرابي في ثورته، وتنظيم جيش جديد (انظر الرواية، ص١٥٥)، يقوم على تدريبه عددٌ من الضباط الإنجليز من بينهم شفيق، يبدأ الراوي في سرد الأحداث السودانية، والمقصود بها أحداث الثورة المهدية في السودان، وذلك عندما جاء الضابط الإنجليزي شفيق إلى بيت الباشا المورالي، والد حبيبته فدوى، في يوم من أيام شهر فبراير (شباط) سنة ١٨٨٣م، لإخبارهما بأنه سيُرافق حملة هيكس المتجهة إلى السودان (انظر الرواية، الفصل ٤٠، ص١٥٥–١٥٩). ويحكي شفيق في حواره مع الباشا دوافع إرسال هذه الحملة فيقول:
وبدءًا من الفصل ٤٢، وعنوانه «الجاسوس إلى المُتمهدي»، يشرع الراوي في سرد كل ما يتعلق بالحوادث السودانية، وينتقل في بعض الفصول الأخرى أحيانًا إلى متابعة شأن فدوى ووالدها الباشا المورالي الطامع في الاستيلاء على ثروة عزيز، وعزيز نفسه الذي لم يكف عن الخيانة وحكاية ما كان من شأن صندوق إبراهيم والد شفيق، ولكن ما يُهمني الفصول المتعلقة بالحوادث السودانية التي تبدأ من الفصل ٤٢، حيث يأخذ الراوي في سرد ما كان من شأن حملة هيكس التي يرافقها شفيق، وهزيمتها على يد المهدي وخلفائه من الأمراء المقربين منه وأتباعه الدراويش، ونجاة شفيق الذي وقع من قبل في قبضة المهدي بعد اكتشاف تجسُّسه عليهم لصالح هيكس، ثم إرسال غوردون باشا وهروب شفيق إليه، ثم مقتل غوردون، حتى إرسال حملة وِلْسلي لإنقاذ غوردون ولكنها وصلت متأخِّرة، وانضمام شفيق إلى حملة وِلْسلي، ثم التماس شفيق الأعذار من أجل تَرْك حملة وِلْسلي التي صدرت لها الأوامر من الحكومة الإنجليزية للبقاء طول الصيف، على أن تُواصل أعمالها في فصل الشتاء. ولكن شفيقًا أخذ يتحرَّى تَرْك الحملة من أجل البحث عن حبيبته فدوى ووالده ووالدته.
وأثناء إدارة الراوي للعملية السردية التي تشمل كل هذه الأحداث، يُمكن الوقوف على شبكة العلامات الثقافية التي تعمل باستمرار على دَعْم أيديولوجيته الاستعمارية ونشرها بحيث تتخلَّل كل شيء في السرد.
(١) شفيق والحوادث السودانية: تمثيل ذات المؤلف روائيًّا
يُمكننا أن نستنتج بوضوح من التحليلات السابقة أن شخصية شفيق، المتخيَّلة حتى الآن، هي علامة ثقافية ثانية ضمن شبكة العلامات التي يُؤسِّسها الراوي بغرض دَعْم أيديولوجيته الاستعمارية. ولكن بالاستناد إلى سيرة حياة جُرْجي زيدان يمكن إثارة التساؤل الآتي: هل شخصية شفيق مجرَّد شخصية روائية مُتخيلة على إطلاقها، أم أن الراوي — الذي فوَّضه المؤلف تفويضًا كاملًا في إدارة العملية السردية — يصوغ شخصية شفيق صياغة تجعله تمثيلًا لذات المؤلف في جانب من جوانبها؟ سأحاولُ — تحت هذا العنوان — استكشاف ملامح إجابة عن هذا التساؤل.
•••
ولأن جواسيس هيكس الذين أرسلهم لاستطلاع أخبار المهديين والتجسُّس عليهم، أتوا بأخبار مُختلفة متناقضة، عَرَضَ شفيق على هيكس أن يذهب بنفسه للتجسُّس، على ما في هذا من مخاطرة كبيرة بحياته، فقال هيكس: «إنك أقدر الناس على ذلك لمعرفتك العربية ولاطِّلاعك على عوائد هذه البلاد وإذا فعلت فإني أذكرك لدى نظارة الحربية فتنال مكافأة عظيمة ولكن الأحسن أن لا تلقي بنفسك إلى التهلكة. قال إني لم آتِ إلى هذه الديار إلا للقتال، ومن كانت مَنيتُه بأرض/فليس يموت في أرض سواها. وإنما أسألك أن تكتم أمر ذهابي عن كل أحد» (الرواية، ص١٦٧). وهنا، تظهر بسالة شفيق التي يحرص الراوي على إظهارها في العديد من المَواقف، كما يظهر استحقاقُه الشرف العسكري. وقد خرج شفيق من الخرطوم متنكرًا في لباس المغاربة، للاستطلاع والتجسس في أوائل سبتمبر ١٨٨٣م (انظر الرواية، ص١٦٧).
منظور الضابط الإنجليزي شفيق
سبقت الإشارة إلى أنَّ الضابط الإنجليزي شفيق يُعد تمثيلًا لذات المؤلف في جانب من جوانبها. وسأسعى هنا إلى محاولة الوقوف على منظور الضابط شفيق.
في البداية، لا بد من الإشارة إلى أن جُرْجي زيدان قد استند في إنشائه الأدبي لقصة تنكر شفيق في زي الدراويش والاندساس بينهم للاستطلاع والتجسس على المهديين — إلى واقعة تاريخية حقيقية يُورِدُها نعوم بك شقير في تأريخه للسودان الحديث، حيث يقول شقير:
وقد تعرَّض شفيق في رحلة تجسسه على المهدي وأتباعه لمواقف خَطِرة كثيرة كادت أن تُودي بحياته عدة مرات، أولها عندما وشى به دليله فقُبِض عليه فجأةً، وحُبِس، تمهيدًا لعرضه على المهدي نفسه، فيدور بينه وبين المهدي حوار يجعل المهدي يُعْجَب بلباقته وحُسْن ردوده، وهي أحداث يخصص لها الراوي الفصل ٤٥، وعنوانه «أسير المتمهدي»، في تكرار دال لعنوان الرواية نفسها (انظر الرواية، ص١٧٧–١٨٠)، الأمر الذي يكشف عن إرادة قوية مِلْحاحة تريد إبراز الجانب الديني السَّلبي في المهدي بوصفه دَعيًّا كذابًا، في مقابل الضابط شفيق الذي يقاسي الأهوال بكل جسارة وشرف عسكري غير عابئ بالخطر، ولا سيما خطر الموت، أثناء مقاومته هؤلاء العُصاة الخارجين على السُّلطة الاستعمارية.
ويُخصِّص الراوي فصلًا مؤثرًا، هو الفصل ٤٩، وعنوانه «مذبحة هيكس وجيشه» (الرواية، ص١٨٧–١٨٩)، يظهر فيه شفيق مفكرًا كل لحظة في أي وسيلة يحتال بها لإنقاذ حملة هيكس، أو حتى إغاثة هيكس نفسه: «فأراد شفيق أن يسير إلى هيكس لعله يستطيع إغاثته فلم يدركه إلا مقتولًا بسيف الخليفة محمد الشريف» (الرواية، ص١٨٩). وأما الأسرى من حملة هيكس بيد المهديين، فقد بايعوا المهدي على السمع والطاعة، مُردِّدين ما أسماه الراوي «سورة المبايعة»، ولا تُوجد في القرآن ولا في غيره سورة باسم «سورة المبايعة»، وهذا نصُّها: «بسم الله الرحمن الرحيم بايعنا الله ورسوله ومهديه بِعْنا أرواحنا وأموالنا وعيالنا في سبيل الله فلا نهرب من الجهاد ولا نزني ولا نسرق ولا نشرب الخمر ولا نعصيه في معروف» (الرواية، ص١٩٠).
ومع بدايات عام ١٨٨٤م، صار معظم السودان تحت سيطرة المهدي، وأهله «يقومون لقيامه ويقعدون لقعوده» (الرواية، ص١٩٢)، فاضطرب شفيق لذلك، «ومما زاد اضطراب شفيق أنه سمع من أخبار الجواسيس أن الحكومة الإنجليزية أشارت على الحكومة المصرية أن تُخليَ السودان وتسحبَ حاميَتها منه» (الرواية، ص١٩٢).
وعلى امتداد الفصل ٥٢، وعنوانه «غوردون والمُتمهدي» (الرواية، ص١٩٣–١٩٧)، يدور حوار طويل بين شفيق وحسن، يظهر منه جليًّا المنظور الثقافي الاستعماري تجاه الحوادث السودانية. ويُمكن استخلاص مؤشرات ذلك المنظور الاستعماري على النحو الآتي:
- أولًا: يستند شفيق وحسن، كلاهما، إلى مرجعية استعمارية، هي الحكومة الإنجليزية التي قرَّرت إرسال غوردون باشا — بعد هلاك حملة هيكس — لإخماد «الثورة»، وتأتي كلمة «الثورة» على لسان حسن وليس شفيق (انظر الرواية، ص١٩٣).
- ثانيًا: إدراك شفيق أن هلاك حملة هيكس «لم يكن إلا تنشيطًا لمشروع هذا المُتمهدي» (الرواية، ص١٩٤). ويؤشر استعمال شفيق لفظة «المُتمهدي» في وصف قائد الثورة السودانية على منظور استعماري واضح، يتوافَق فيه مع منظور الراوي ومنظور المؤلف، منظور يعمل على تغطية الأهداف السياسية والاجتماعية والاقتصادية للثورة المهدية، بل يتَّهم شفيق المهدي صراحةً بأنه صاحب مشروع توسعي استعماري مضاد للتوسع الاستعماري البريطاني، حين يقول: «كيف يُمكن تلافي الأحوال وقد آمَن بالمهدي أهل السودان كافةً وهو لا يقبل أمرًا إلا إذا مُنِحَ مطالبه ونَيْل تلك المطالب يقضي بزوال السلطة المصرية فإنَّ الرجل طامح بكرسي مصر بل بكرسي الآستانة وإن شئتَ فقل إنه لا يقنع إلا بفتح العالم ولا سيما بعد أن ساعدته التقادير في عدة وقائع» (الرواية، ص١٩٤).
- ثالثًا: يُدرك شفيق، بحكم خبرته العسكرية، أن المهدي لن يستجيب لغوردون باشا، وبخاصة بعد إحكام سيطرته على مُعظم السودان (انظر الرواية، ص١٩٤–١٩٥)؛ إذ يظهر هنا الوعي بمنطق القوة العسكرية والوعي بمنطق اللحمة القومية وتأثيرها، وهو ما يعمل الاستعمار على تفتيته.
- رابعًا: يذهب حسن في تفسير سيطرة المهدي وانتشار دعوته في معظم السودان إلى استخفاف الحكومة المصرية به وبدعوته من أول الأمر (انظر الرواية، ص١٩٥)؛ الأمر الذي يعني ضمنًا إغفالًا متعمدًا للعوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي رَزَحَ تحت قسوتها أهلُ السودان في ظل الحكم الاستعماري.
- خامسًا: يثق حسن في المرجعية الاستعمارية ثقة مطلقة تصل إلى حدِّ إيمانه بنجاح غوردون باشا في مهمته؛ «لأنه تولى حكمدارية السودان مرةً وأظهر من العدل والحنوِّ والرأفة واللطف والدعَة ما حببَ الناس إليه حبًّا يَقْرُب من العبادة فهو الذي حررهم من الاسترقاق فمنَع بيع الرقيق وبَيَّن لهم المساواة بين بني الإنسان فأنا أثق أنه إذا جاء الآن فلا يعجز عن تلافي مسألة المهدي بوجهٍ من الوجوه» (الرواية، ص١٩٦)، ومن اللافت هنا حديثُ حسن عن صفات غوردون بطريقة أشبه بالمنطق الديني نفسه الذي يستعمله المهدي في دعوته. كما يلفت النظر بشكل واضح أن حسن لا يستعمل كلمة «المُتمهدي» في وصف المهدي أثناء حواره، ويستعمل كلمة «ثورة» لوصف الحوادث السودانية كما سلفت الإشارة.
- سادسًا: يتبنَّى شفيق في ردِّه على حسن — بخصوص مسألة منع الاسترقاق — منطق الوصاية الاستعمارية، فيذهب إلى عدم استحقاق أهل السودان الحرية لأنها تضرُّهم كما أضرت من قبل أشباههم من العرابيين، حين مُنِحوها. يقول شفيق لحسن: «آه يا أخي إنك ذكرتني في حديثك هذا بمسألة عرابي وحزبه فإن قيام هؤلاء الأجناد كان على طريقةٍ تُشبه قيام المهدي تقريبًا لأنَّ مَنْح الحرية لجماعة قبل أوانها تضرُّ بهم ضررًا لا يأتي به الاسترقاق» (الرواية، ص١٩٦).
- سابعًا: يتبنَّى شفيق منطق القوة العسكرية الحاسمة للقضاء على المهدي وأتباعه؛ لأنه يُدرك — بخلاف حسن — أن الصراع في حقيقته صراع استعماري، يقول شفيق: «على أني لأعجب غاية العجب من إرسال هذا الرجل وحده في هذه المهمَّة التي قصرت دون حلها الجيوش الجائشة أتعجز الحكومة المصرية عن قهر هذا الرجل بالسيف على يد جند منظَّم مُخلِص لحكومته لا كجيش هيكس باشا الذي كان معظمه من الجيوش العرابية» (الرواية، ص١٩٦). ويتَّضح هنا أمران يؤمن بهما شفيق؛ أولهما منطق القوة العسكرية الصارمة هو الحل؛ وثانيهما اتهام العرابيين بالخيانة وعدم الإخلاص، فهُمُ السبب في هزيمة حملة هيكس لأن مُعظم أجنادها منهم.
وفي حوار آخر بين شفيق وحسن في الفصل ٧٤، وعنوانه «حصار الخرطوم ومجيء الإنكليز»، عندما علم شفيق بأن الحكومة الإنجليزية أعدَّت حملة لإنقاذ غوردون باشا المحاصر في الخرطوم، أراد شفيق الفرار إلى الخرطوم لانتظار حملة الإنقاذ الإنجليزية هناك، فلم يُوافقه حسن الذي كان أدرى منه حينها بطبيعة الموقف، فقال شفيق: «أنخاف بعد الآن والإنكليز قادمون لإنقاذنا ونحن نعلم أن المهدي نفسه يُقِر بعدم استطاعته التغلب على الخرطوم إذا وصلها الإنكليز» (الرواية، ص٢٦٤)، حيث يظهر هنا الاعتداد بقوة الإنجليز الذي يصل إلى حد الفخر والثقة العمياء.
(٢) تمثيلات الثورة المَهْدية
المنظور الحديث الاستعلائي في مقابل القديم المتدني
لما أصبح شفيق ودليله قريبين من الأُبيِّض، طلب منه دليله أن يلبس لباس الدراويش حتى لا يثير الريبة، والدراويش هم أتباع المهدي المؤمنون بدعوته، وقد تَصادف أنهم يستعدون في ذلك النهار لقدوم المهدي عليهم خطيبًا، فأحبَّ شفيق مشاهَدة الموكب فوقف بين الناس وهو بلباس الدراويش. ويصف الراوي الموكب على النحو الآتي:
إن المنظور السردي الذي يحكم وصف الدراويش هنا منظور استعلائي، ويضع الدراويش بهرولتهم غير المنظمة في نطاق الشيء الغريب بالنِّسبة إلى شفيق الضابط الإنجليزي الحديث، فهم غير مُنظَّمين، وملابسهم هَزْلية أقرب إلى أناس يحجُّون إلى ضريح منهم إلى أناس ينتظمون خلف دعوة المهدي في تمرُّده وثورته على الحكم التركي المصري، وهم حفاة، ومَن ينتعل أحذية منهم فهي من القش، وحول أعناقهم سبحات مدلَّاة على صدورهم. ولم يَعْجَبْ شفيق من الموكب، لا لأنه شيء مُعتاد بالنسبة له؛ بل لأن لديه فكرة سابقة عن دراويش المهدي وملابسهم. يَنتمي موكب الدراويش — بالنِّسبة إلى الراوي وبالنِّسبة إلى شفيق — إلى العالم الديني القديم، ولا يمتُّ بصلة إلى العالم الحديث. ولا بد، هنا، من التنويه إلى ثنائية القديم والحديث التي سبقَ إيضاحها عند تحليل الفصل الاستهلالي الأول وعنوانه «القاهرة»، فمن الواضح أن الثنائية مستحكمة ومنتشرة عبر فصول الرواية المختلفة.
وليس أدلَّ على ذلك من حرص الراوي على إيراد الشعارات الدينية المعبرة عن الانتماء إلى العالم الديني القديم؛ وذلك من منظور الضابط الإنجليزي شفيق، يقول الراوي: «فنظر إلى هؤلاء الجماهير فإذا بهم حطوا رحالهم حالما وصلوا ونصبوا بيارقهم بين حمر وبيض وزرق وشاهد على بعضها كتابة عربية فقرأها فإذا هي «لا إله إلا الله محمد رسول الله والإمام المهدي خليفة رسول الله» وشاهد على البعض الآخر كتابة تختلف عن هذه لفظًا وتتَّفق معنى» (الرواية، ص١٧٠). ولا شكَّ في أن إيراد الشعار بهذه الصيغة يَستوجِب نفور القارئ والتشكيك في السلامة العقلية لرجل يقرن الاعترافَ به بنطق الشهادتين، وهو أمر لم يَحدُث على مرِّ التاريخ الإسلامي فيما أعرف. كذلك هناك حرص واضح على إبراز الصبغة الدينية للثورة المهدية بغرض التغطية على أهدافها السياسية، وذلك حين يقول الراوي: «وسمع شفيق الجميع يُنادون أثناء قدومهم بصوت واحد «في سبيل الله قتل الكفار» (الرواية، ص١٧١).
التراتب الاجتماعي التمييزي
وفي الوقت نفسه، يَحرص الراوي على إيراد وصف لجنود المهدي ينطوي على إبراز التراتب الاجتماعي التمييزي في المقام الأول وليس التراتب العسكري، حيث يقول الراوي:
ونظر شفيق نظرًا عامًّا إلى تلك الجنود فإذا هي مؤلَّفة من ثلاثة أشكال الأول الدراويش وهم اللابسون المرقعيات وألوانهم سمراء وليس سودًا والثاني الجهادية وهم حملة البنادق وفيهم السود والسمر وهم حامية الأُبيِّض الأصليون والثالث العبيد وهم خدم الدراويش أو عبيدهم يلبسون شملة من قماش أصله أبيض من نسيج السودان يسترون بها عوراتهم وبعض صدورهم وهؤلاء جميعهم سود وقد يلبسون المرقعية. أما الأمراء فكانوا يُميزون بركوبهم الخيول النفيسة وبما يحدق بهم من الخدم» (الرواية، ص١٧٠).
فشفيق يرصد بعينيه ثلاث فئات متراتبة تراتبًا اجتماعيًّا تمييزيًّا واضحًا، باستثناء الفئة الثانية، فئة الجهادية؛ لأن تنظيمهم الأصلي تنظيم عسكري في المقام الأول تمَّ بمعرفة الحكومة المصرية، ولما استولى المهدي على الأُبيِّض، انضمت حاميتها إليه.
التغطية السردية على الأهداف السياسية والاجتماعية
وحقيقة الأمر يلعب الراوي، ومِن ثم شفيق، دورًا كبيرًا يقترب من درجة التعمُّد الواضح، فيما يخص التغطية على الأهداف السياسية والاجتماعية للثورة المهدية؛ وذلك عن طريق إبراز صبغتها الدينية بشكل متعمد، حيث يحرص الراوي على إيراد نص منشور الإمام المهدي كاملًا، يتلوه على الأتباع أحدُ خلفائه الأربع، وهو الخليفة محمد الشريف الذي ضج الناس لما ظهر قائلين عنه «إنه والله لأشبه بالإمام عليٍّ عليه السلام» (الرواية، ص١٧١)، وعندئذٍ علم شفيق «أنه أحد خلفاء الخليفة [المهدي] الأربعة» (الرواية، ص١٧١). ويشغل المنشورُ منتصفَ الصفحة ١٧١ حتى نهاية الفصل ٤٣، المعنون ﺑ «الدراوايش»، في الصفحة ١٧٣، وسأكتفي منه باقتباس مفتتحه وجزء يسير مما يلي المفتتح:
ويستمر المنشور حتى نهاية الفصل ٤٣، مُعددًا الحالات التي تستوجب إقامة الحد بالجلد بالسياط، وهي حدود كما هو واضح من اختراع المهدي ولا تمضي على قاعدة شرعية مألوفة بين فقهاء المسلمين الرائجين بين العامة، الأمر الذي يجعل قارئ المنشور أقرب إلى النفور من المهدي وثورته وتعاليمه الشرعية المُخترعة التي تستحدث في الإسلام ما ليس منه. فضلًا عن أن قوله بفرض الجهاد على القواعد من النساء اللواتي انقطع منهنَّ أرب الرجال يثير العَجَبَ والاستغراب في نفس القارئ الحديث؛ فالنساء في هذا السن لا يقوين على شيء، في مُقابل الصغيرات من النساء اللواتي فرض عليهن المكوث في البيوت وعدم الكلام.
فلماذا تَقلق أوروبا ويقع في مجالسها الشقاق؟!
يُخصص الراوي الفصل ٤٤ وعنوانه «موكب المُتمهدي وخطابه» (الرواية، ص١٧٣–١٧٦) لسرد ظهور المهدي على الناس في موكبه وخطابه إليهم، حيث يجري تمثيله من منظور الراوي، وفي الوقت نفسه من منظور الضابط الإنجليزي شفيق. ولا بد، أولًا، من ملاحظة استعمال الراوي في عنوان الفصل أو في سرده لكلمة «المُتمهدي»، وهي الكلمة التي سبق إيضاح أنها علامة لغوية استعمارية. ولا بد أيضًا من ملاحظة الصبغة الدينية الواضحة التي تحملها الكلمة؛ فهي تؤكد أولًا أننا بصدد زعيم ديني، وليس سياسيًّا، وتؤكد ثانيًا أنه على المستوى الديني رجل دعي كذاب.
ويأتي وصف موكب المهدي مؤكدًا الصبغة الدينية ومشددًا عليها في كل موضع، حيث يقول الراوي:
ويَزيد الراوي في تأكيد الصبغة الدينية للمهدي من خلال وصف وقوف المهدي للصلاة، حيث «بدأت الصلاة والتوحيد فصلى شفيق ووحَّد معهم ومما زاد اضطرابه أنه شاهد من نفوذ هذا الرجل في جماعته ما يجعل أنفُس الناس في تقديره لا تُساوي لفظًا فخُيلَ له أن المُتمهدي حالما يراه ويعرفه لا يتكلف غير إشارة القتل فيُقتَل» (الرواية، ص١٧٤). ومن الواضح، هنا، حرص الراوي الشديد على تجسيد القوة الروحية الدينية، إلى الحد الذي يصور المهدي بصورة نبي يعلم بواطن الشخص ما إن ينظر إليه، وهذا سبب ما أحس به شفيق من رعب واضطراب. هذا الإبراز والتجسيد المتعمد للجوانب الروحية الدينية يقوم — في حقيقة الأمر — بدور التغطية والتعمية على الأهداف السياسية والاجتماعية للثورة. ويُواصل الراوي سرده مباشرةً فيقول:
مُناهَضة المَهْدية للاستعمار في مقابل الإدانة السردية للثورة
تنطوي هذه الخطبة على أمرٍ بقتال ما أسماهم «الكفرة» القادمين من الخرطوم، ويقصد بذلك حملة هيكس. ومن المهم، هنا، ملاحظة التمييز بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر، وإيضاح المهدي أنَّ الجهاد فرض، بدليل أن الله لو شاء أن يبيد أهل الكفر لأبادهم من غير قتال. لكن من المهم، أيضًا، الإشارة إلى أن مُعسكر الإيمان هو أهل السودان من أتباع المهدي، الذين عانوا ظلمًا استعماريًّا لا تخطئه العين، وأن معسكر الكفر هو المستعمرون سواء كانوا أتراكًا وأعوانهم من المصريين أو إنجليزًا. ويصحُّ هذا التفسير إذا وضعنا في الحسبان السياق السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي كان يُعانيه السودانيون، ولماذا استجابوا لدعوة المهدي بوصفها طوق نجاة لهم، ولماذا استمرَّت المهدية تُحرز النجاح تلو النجاح حوالي العقد من الزمان. ولعلَّ ما يكشف عن أيديولوجية الراوي الساعية إلى التغطية على المضمون المُناهِض للاستعمار تجاهُله لخطب أخرى ألقاها المهدي على أتباعه.
بسم الله الرحمن الرحيم، وبعد:
فمِن عبد ربه محمد المهدي ابن السيد عبد الله، إلى كافة الأحباب في الله:
أيها الأحباب، إن الأمر كله لله وإليه المرجع والمآب، وإن النبي ﷺ لما أجلسني على كرسي المهدية، قد أمَرني بجهاد الترك، وقال لي إن الترك كافرون، بل هم أشد الناس كفرًا ونفاقًا؛ […].
أما ترونهم يَسحبونكم في الحديد والسلاسل لأجل أخذ أموالكم، لا يُوقِّرون كبيركم ولا يرحمون صغيركم، ويُحمِّلونكم المشاق القوية؟ لا تتركوهم حتى يُسلِّموكم الأسلحة والأموال، فإن فعلوا ذلك فلا تَسْترِقُّوا أولادهم ونساءهم، بل أقِروهم على حالهم، وهم إخوانكم في الدين وأحسنوا إليهم […].
وقال لي سيد الوجود ﷺ: من أنكر مهديتك فقد كفر! وإن أرواح الترك اشتكت إليَّ وقالوا: يا إلهنا (؟) وخالقنا، إن الإمام المهدي قتلنا من غير إنذار، فقلتُ: يا إلهي أنذرتهم وخالفوني وصالوا عليَّ، وسيد الوجود شاهد علينا، وقال سيد الوجود صلى الله عليه وسلم ذنبُكم عليكم وأنكم خالفتم وصُلْتُم فقُتِلتُم …؟! […]؟
وهنا، تتَّجه عملية الوصف التي يقوم بها الراوي إلى بيان سوء حال أهل الخرطوم من عامة الناس ونقمتهم على المهدي، وإبراز هذه النقمة والاتهام الضمني بأن المهديَّ دَعيٌّ كذاب، في مقابل سكوت الراوي المطلق عن وصف حال أهل السودان تحت الحكم الاستعماري. والأكثر من هذا أن الضابط الاستعماري شفيق يكاد قلبه يَنفطِر مما عاينه من أحوال الناس في ظل حصار المهدي لهم. بل يبدو المهدي وأتباعه من الدراويش ذئابًا، في مقابل الاستعماريين من أمثال غوردون باشا ورجاله والضابط شفيق الذين يُوصفون بأنهم حملان؛ يقول غوردون لمَن حوله عند دخول شفيق عليه بزي الدراويش: «لا تعجبوا لهذا الرجل ولباسه، فإنه حَمَلٌ في ثياب الذئاب» (الرواية، ص٢٧١).
والأكثر من هذا أن الراوي يجتهد في تأكيد ذِئْبية دراويش المهدي، حين يصف وصفًا دقيقًا مشهد سقوط الخرطوم على يد جيش المهدي، ومصرع غوردون باشا على يد جنوده، وفرار الضابط شفيق ناجيًا بنفسه تاركًا غوردون باشا غارقًا في دمائه مقطوع الرأس:
«وشاهد [شفيق] بعد قليل جماهير العُصاة [يقصد جيش المهدي] وقد دخلوا السور من باب المسلمية وامتلأت الساحة منهم وما زال غوردون يطلق القنابل عليهم من السطوح مقدار ساعة حتى اقتربوا كثيرًا […] فأسرع إلى بدلة الدراويش وجعلها عليه بعد أن تحقق أن الدفاع لا يَنفعه شيئًا ونزل من السراي فشاهد جماهير العصاة عند باب السراي يُريدون الدخول ثم تقدم أربعة منهم ودخلوها فالتقوا بغوردون عند رأس السلم وقد لبس ثيابه وتقلَّد سيفه وحمل الروفلفر بيده، فهجم عليه أحدهم ونادى بأعلى صوته «آه يا ملعون، اليوم يومك!» وطعنه طعنة بحربة ألقته صريعًا، وعملوا [كذا] رفاقه مثل عمله أما هو فلم يُبْدِ أقل مدافَعة، وكان ذلك قبل شروق الشمس فسقط غوردون صريعًا يخبط بدماه فلم يستطع شفيق النظر إليه فترك السراي ونزل إلى الشوارع كأنه واحد من الدراويش ينادي بندائهم ويَتظاهر بمظاهرهم […] وبعد أن نزل من السراي بقليل رأى درويشًا حاملًا رأس غوردون يُريد إيصاله إلى المهدي […] ودامت المذبحة ست ساعات، ولم يكفَّ الدراويش عن القتل حتى أمرهم المهدي فَكفوا» (الرواية، ص٢٧٩–٢٨٠).
ويجد وصفُ غوردون للمهدي وأتباعه من الدراويش بأنهم «الذئاب»، تجسيدَه القوي في هذا المشهد؛ وذلك في مقابل غوردون الحمَل الوديع الذي يتكشَّف عن بسالة في موته.
كما يتواتر على امتداد سرد ما أسماه المؤلف في صفحة العنوان «الحوادث السودانية»، وصفُ المهدي وأتباعه من الدراويش بأنهم كاذبون وعُصاة؛ إذ لا يكتفي الراوي — النائب عن المؤلف — بأن يكون هو المصدر المباشر للوصف، بل ثمة شخصيات عديدة سواء رئيسية أو هامشية تتبنى هذا المنظور السلبي. ومن الشخصيات الهامشية مثلًا:
- منظور عبود: ظهرت هذه الشخصية في فندق بسُّول في بيروت، يعمل طباخًا، أثناء رحلة فدوى ووالدها الباشا المورالي إلى بيروت بغرض أن تسترد فدوى صحتها وتسلو شفيقًا الذي انقطعت أخباره مع هلاك حملة هيكس على يد المهديين. وقد تعرَّف إليه بخيت خادم فدوى، ويُخصِّص الراوي لظهور عبود الفصل ٦٣ بعنوان «الطباخ» (الرواية، ص٢٢٤–٢٢٨)؛ حيث يأخذ عبود في قصِّ حكايته على بخيت، وأثناء ذلك يتضح لبخيت أنه كان مرافقًا للضابط شفيق في حملة هيكس؛ حيث يقول عبود: «فسمعت بمسير حملة هيكس باشا لمحاربة المُتمهدي الملعون فوفَّق الله لي أحد ضباط تلك الحملة لأسير معه خادمًا» (الرواية، ص٢٢٧). ويتكرَّر وصف عبود للمهديين بأنهم عصاة في أكثر من موضع (انظر الرواية، ص٢٣٠، ص٢٣٣). بل إنَّ عبودًا يقابل في أسواق دنقلا تاجرًا سوريًّا يستطلع منه الأخبار والطريق إلى الخرطوم، بحثًا عن سيده شفيق بعد هلاك حملة هيكس، «فقال له التاجر: وما غرضك من الخرطوم؟ قال: إني أفتِّش عن سيدي هناك. قال: لا يمكنك الوصول إليه كما هي ولا سيما إذا لم تَفُزْ رجالنا بقتال العصاة» (الرواية، ص٢٥٦–٢٥٧).
- منظور توفيق بك: هو محافظ سنكات، ويظهر من خلال حكاية عبود لبخيت عما جرى له في السودان بعد ذهاب شفيق في مهمَّته الاستطلاعية وهلاك حملة هيكس. ويُخصِّص له الراوي جزءًا من الفصل ٦٥ الذي عنوانه «بطل سنكات». وقد تعجَّب عبود من إخلاص توفيق بك لحكومته المصرية وشهامته، فيروي لبخيت ما قاله توفيق بك عن حصار المهديِّين له: «ها إن العصاة قد أحاطوا بنا من كل ناحية والحكومة بعثت إلى نجدتنا حملة لم تصلنا والبلد في جوع مدقع […] فإذا قُتِلنا عن آخرنا فذلك خير لنا من التسليم لقوم طغاة يَكذبون على الله ورسوله ويَدَّعون المهدوية زورًا» (الرواية، ٢٣٢).
لقد سعيتُ، في هذا الفصل، إلى تحديد طبيعة المنظور الثقافي الاستعماري الذي يتبناه المؤلف؛ كما كشفتُ عن الآليات التي اتبعها الراوي في استثماره هذا المنظور وتوسيعه، سواء من خلال طريقة تقديمه الشخصيات أو من خلال تدخله بالتعليق والشرح. كذلك كشفتُ عن جوانب التشابه بين شخصية شفيق الضابط الاستعماري ومؤلف الرواية جُرْجي زيدان، وقد جاء ذلك على نحو يمكن معه القول إن شفيق الضابط الاستعماري، ومن قبله الراوي، ينطقان بلسان حال المؤلف وأيديولوجيته الاستعمارية الصريحة في هذه الرواية. واتبعتُ في تحليلي للمنظور الثقافي الاستعماري في الرواية ما يسمح به منظور النقد الثقافي من الموالفة بين أدوات تحليلية من نظرية العلامة والسميولوجيا والتفكيك ودراسات ما بعد الاستعمار، واللجوء أحيانًا إلى منظور التاريخية الجديدة في تصورها للسرد التاريخي بوصفه نتاج عمليات تأويلية في المقام الأول. وكانت الركيزة الأساسية في كل ذلك ما يُسمى «شبكة العلامات الثقافية».