المغامرة … سرية جدًّا!
أنهى رقم «صفر» كلامه بقوله: إنَّ القضية هنا هي قضية الثقة العربية … لقد وضعت الدولة ثقتها في هذا الرجل فخدَعها، واتضح أنه جاسوس، لقد باع أسرارًا كثيرة لدول أجنبية. صحيح أنَّ كل هذه الأسرار، قد تغيَّرت الآن، بعد أن ظهرت الحقيقة، لكن يبقى أنَّ هذا الرجل «بل موري» لا بد أن ينال جزاءه …
صمت قليلًا ثم أضاف: إن هذه المسألة سرية للغاية، و«بل موري» يجب أن ينال عقابه في قضية أخرى غير قضية التجسُّس، لمعَت لمبة حمراء جعلت رقم «صفر» لا يُكمل كلامه فقال: هناك كلمات قليلة أخيرة سوف أقولها لكم! … وأخذت أقدامه تَبتعِد حتى اختفت …
نظر الشياطين إلى بعضهم، دون أن يَنطِق أحدهم بكلمة، مَرَّت دقيقة، ثم أضيئت الخريطة الإلكترونية التي لم تظهر منذ بداية الاجتماع الطارئ، أخذ الشياطين يتأمَّلونها … كانت الخريطة للمحيط الهادي، حيث تتناثر مجموعات الجزر؛ مجموعة جزر «بولينيزيا»، مجموعة «مكرونزيا»، جزر «ماركيساس»، جزيرة «بالميرا»، جزيرة «جونستن»، مجموعة جزر «هاواي»، وعشرات الجُزر التي تَتناثر في المحيط، لكن مجموعة جزر «هاواي»، كانت هي المجموعة الهامَّة، وبالذات جزيرة «هاواي»، وهي أكبر المجموعة، والتي تُسمَّى باسمها إنَّ جزيرة «هاواي» هي أرض المُغامرة الجديدة، حيث يُقيم الجاسوس «بل موري»، بينما كانت دائرة حمراء، قد خرجت من قلب مياه المُحيط، ثم دارتْ حول الجزيرة لتُحَدِّدها تمامًا.
مرَّت دقائق، ثم بدأت أصوات أقدام رقم «صفر» تقترب، حتى توقفت، وجاء صوته يقول: رسالة وصلت الآن من عميلنا في أمريكا، تحمل معلومات سوف تُفيدكم، بل إنَّ خطتكم سوف تقوم عليها … صمت لحظة في الوقت الذي كان الشياطين يُركِّزون انتباههم إلى كلماته …! قال: إنَّ «بل موري»، لا يضع أمواله في أي بنك من بنوك العالم، إنه يحتفظ بها داخل خزانة ضخمة في القصر الذي اشتراه في الجزيرة، سكت قليلًا، وكأنه يُعطي فرصة للشياطين حتى يفكروا. قال بعد قليل: إنَّ وجود أمواله في الخزانة، يُعطيكم فرصة أن تُوقعوا به في قضية تزييف العملات، فما دام يمتلك كل رصيده، فهذا يعني أنه يتعامل بالمال السائل وليس بالشيكات؛ لأنه لا يملك رصيدًا في بنك، وعلى هذا فيُمكن إيقاعه في جريمة تزوير الدولارات مثلًا … صمت قليلًا ثم أضاف: الآن، أتمنى لكم التوفيق، فقط أضيف ما كنتُ سأقول لكم قبل الرسالة: إنَّ هذه مسألة سرِّية تَمامًا، ويجبُ أن تنتهي بأسرع ما يُمكن، سكت قليلًا ثم أضاف: هل هناك أسئلة؟ … انتظر لحظة … غير أن أحدًا لم يسأل أي سؤال، فقال: أتمنى لكم التوفيق، إلى اللقاء!
أخذت أصوات أقدامه تَبتعِد، في نفس اللحظة التي اختفت فيها خريطة جزر «هاواي» … كما بدأت الإضاءة تختفي، وكان على الشياطين، أن يبدءوا الانصراف، تَقَدَّم «أحمد» خارجًا فتبعَه الشياطين، وعندما أصبح كلٌّ منهم في حجرته، كانت تعليمات رقم «صفر» قد سبقتْهم، كانت التعليمات تُحَدِّد مجموعة الشياطين الذين سيقومون بالمُغامرة، وهم: «أحمد» و«باسم» و«خالد»، «قيس» و«ريما»، وفي دقائق، كانوا قد تحدَّثوا مع بعضهم تليفونيًّا، واتَّفقوا على اللقاء بعد رُبع ساعة.
نظر «أحمد» في ساعة يده، وكانت تُشير إلى الواحدة ظهرًا، قال في نفسه: إننا نستطيع أن نبيت الليلة في «نيويورك»، وغدًا نكون في «هاواي»، ألقى نظرة سريعة على الحجرة، وهو يَستعيدُ كل ما يُمكن أن يحتاجه في المُغامرة، وما جَهَّزَ به حقيبته السِّرِّية، وفي دقائق، كان يأخذ طريقه إلى الخارج، حيث توجد السيارة التي سيستقلُّونها إلى خارج المقرِّ السري.
هناك كانت تنتظر بقية المجموعة، وكان «خالد» يَجلسُ إلى عجلة القيادة، وما إن جلس «أحمد» وأغلق الباب، حتى انطلقت السَّيَّارة في سرعة مُتَّجِهة إلى البوابات الصخرية، التي انفتحَت من تلقاء نفسها، فما إن ضغط «خالد» مفتاح الإنارة التي فرشت الطريق أمامهم، واصطدمت بجدار البوابة الصخرية حتى انفتحت … فهذه البوابات تفتح إليكترونيًّا بتأثير الإضاءة، انطلقت السيارة في سُرعة، فانغلقت البوابة في صوت مكتوم لم يسمعه الشياطين في السيارة، وإنْ كان بقية الشياطين قد سمعوه وهم يُشاهدُون انطلاق المجموعة على شاشة تلفزيونية صغيرة. كانت الحرارة مُرتفعة لكنَّ السيارة كانت محكمة الإغلاق، وكانت أجهزة التكييف الخاصَّة بها تعمل عند درجة حرارة مُرتفعة، فجعلت داخل السيارة باردًا، ولم يكن يلوح في الأفق شيءٌ، اللهم إلا بعض النباتات الصحراوية التي كانت تتناثر على الطريق، أو شجرة صبار تقف تحت حرارة الشمس.
قالت «ريما»: كنتُ أودُّ أن أسأل الزعيم، سؤالًا، لكنَّني تردَّدت!
نظر لها الشياطين، فابتسمتْ قائلة: إنني أعرف أننا نعمل كمجموعة واحدة، ويُمكن أن أطرح عليكم السؤال، فقد فهمتُ أنَّ رقم «صفر» يُريد أن نَنصرِف بسرعة حتى تبدأ المغامرة.
سكتَت، وكان الشياطين لا يزالون ينظرون إليها، قالت بعد لحظة: لماذا لا يُعاقَب «بل موري» على جريمة التجسس، وخيانة الدولة العربية؟ أليست هذه جريمة كافية لأن يُعاقب عليها!
لم يرد أحد من الشياطين مباشرة، فقال «أحمد»: إنَّ عقاب «بل موري» على جريمة التجسس سوف يكشف القضية. لقد قال رقم «صفر» إنَّها مسألة سِرِّية تمامًا، وهذا يعني أنه لا يجوز أن نكشفها، لكن عندما يقبض على «بل موري» ويُحاكَم بتهمة تزييف النقود فإنَّ ذلك لا يكشف القضية من جهة، ومن جهة أخرى، فإنَّه يجعل الأسرار والمعلومات التي نقلها، مشكوكًا فيها، إنَّ التزييف سوف يَنسحِب على كل شيء يفعله، وهنا يفقد قيمته، وينال جزاءه في وقت واحد.
لمعت عينا «ريما» دهشة وقالت: لقد فاتتني هذه المسألة، وهي فكرة جهنمية فعلًا!
أكمل «أحمد»: إنَّ «بل موري» عندما يُقبض عليه، فسوف يكون ذلك بواسطة الجهات الرَّسمية المسئولة هناك، وهذا يعني أنه نال جزاءه بطريقة رسمِيَّة أيضًا، وسوف لا تنفعه أمواله، ولا المعلومات التي باعها، كذلك فإنه يُعتبر الآن عميلًا من الدرجة الثالثة، ما دامت قد ظهرت جاسوسيته …
كان الشياطين ينظرون إلى «أحمد» الذي كان يشرح ﻟ «ريما» كل ما يقصده رقم «صفر» … ابتسم ثم قال: ومن يدري، فقد تكون «ريما» هي صاحبة الدور الأكبر في المغامرة!
ضحكت «ريما» وهي تقول: أتمنى ذلك. إنَّ «بل موري» سوف يكون جائزة بالنسبة لي، إذا استطعتُ فعلًا أن أكون الطريق إليه.
سأل «باسم»: هل نبيت الليلة في اليونان ثم نرحل غدًا إلى أمريكا؟
قال «أحمد»: بل نبيتُ الليلة في أمريكا نفسها؛ لنكون غدًا في «هاواي»!
ابتسم «قيس» وقال: إنها إجازة طيبة، بجوار أنها مُغامرة، إنَّ جزيرة «هاواي» وهي الجزيرة الكبرى في مجموعة الجزر، تتميَّز بطبيعة أَخَّاذة، وما دام صاحبنا «بل موري» يعيش في قصر هناك، فسوف نستمتع معه … أليس كذلك؟
قال «خالد»: هذه حقيقة؛ فجزيرة «هاواي» مشهورة بطبيعتها، بجوار أن «بل موري» يريد أن يعيش كالأثرياء، فجزيرة «هاواي» يذهب إليها رجال الأعمال الكبار، للراحة! …
ضحكت «ريما» وهي تُضيف: إننا أيضًا من رجال الأعمال!
ضحك الشياطين، بينما كانت السيارة تنطلق كالصاروخ، فبعد أن حدد «أحمد» مكان المبيت الليلة، كان عليهم أن يصلوا بسرعة إلى المطار، حيثُ حُجزت تذاكر السفر إلى أمريكا … وعندما كانت الساعة تعلن الرَّابعة عصرًا، كان الشياطين يغادرون السيارة، التي تركوها أمام المطار، وأخذوا طريقهم إلى داخله، وما هي إلا لحظات حتى كان صوت مذيعة المطار الداخلي يتردد في صالة المطار الفسيحة، تُنَبِّه المسافرين إلى أمريكا إلى أنَّ الطائرة قد وصلت وأن عليهم أن يتوجهوا إليها … نظر الشياطين إلى بعضهم، فها هي الأمور تسير بشكل طيب.
قالت «ريما»: سوف أحصل على بعض المجلات والجرائد، ثم اتجهت إلى مكان لبيع المجلات والجرائد والكتب، وانتقت مجموعة منها، ثم تبعت الشياطين الذين كانوا يأخذون طريقهم إلى البوابة الداخلية للمطار، حيث يمرُّون منها، إلى مكان الطائرة، وعند الباب توقفوا، حتى تلحق بهم «ريما»، التي وصلت بسرعة، ثم تجاوزت البوابة، وهم يشكرون رجال المطار، الذين كانوا يُسيِّرون حركة المطار في سهولة.
أخذوا أماكنهم في سيارة الأوتوبيس التي ستُقلُّ المُسافرين إلى أمريكا، حتى باب الطائرة، وهناك كان السُّلم المُتحرك، يقترب من الطائرة، ليلتحم بها، وبسُرعة كانوا يصعدون في نشاط، ثم أخذ كل منهم مكانه، هذه المَرَّة لم يكونوا مُتباعدين داخل الطائرة، فقد كانوا يجلسون متجاورين، إنَّ القاعدة التي يعرفها الشياطين، والتي تقول إنَّ السفر يصنع الصداقات، والصداقة مصدر جيد للمعلومات، هذه القاعدة لم تكن مُهِمَّة هذه المَرَّة؛ فهم يعرفون مهمتهم الآن بشكل محدَّد، وهي مهمة لا تحتاج لأحد هنا، إنَّها تحتاج فقط «بل موري»، ولأن «بل موري» يحيا في «هاواي»، وقد يكون الآن راقدًا تحت شمسيته على شاطئ المحيط الهادي، فإنه ليس من الضروري أن يبحثوا عن معلومات جديدة، خصوصًا وأن «أحمد» يحمل ملفًّا، يضم المزيد من المعلومات عن «بل موري».
لم ينتظر الشياطين طويلًا؛ فلم تَكدْ تمضي دقائق، حتى جاء صوت مذيعة الطائرة، يتمنَّى للمسافرين رحلة طيبة ويطلب منهم ربط الأحزمة لأنَّ الطائرة تستعد للإقلاع، مرَّت دقائق قليلة، ثم أخذت الطائرة حركتها على أرض المطار.
كانت «ريما» تجلس بجوار النافذة، فأخذت تُراقب المطار وما به من طائرات في انتظار موعد طيرانها، كانت الأشياء تتحرك بسرعة نظرًا لحركة الطائرة، ثم بدأت تأخذ طريقها إلى الفضاء أكثر فأكثر، حتى استوت في مسارها، وبدأت المُذيعة مرة أخرى تُعلن أنه يُمكن فك الأحزمة. انسابت موسيقى هادئة تملأ فراغ الطائرة، وبدأ المسافرون يُعِدُّون أنفسهم لرحلة طويلة، وانشغل الشياطين بالأحاديث، إلا «أحمد» الذي أخرج ملفًّا متوسِّط الحجم أخذ يقرأ فيه. كان الملف أخضر اللون، وعندما فتحه، كانت أول صفحة فيه تحمل اسم «بل موري».
طوى أول صفحة، وبدأ يقرأ ما فيها، كان الملف يضم عشرين ورقة فولسكاب، بها حياة «بل موري» منذ صغره حتى جريمة الجاسوسية، كانت الدهشة تظهر على وجهه كثيرًا؛ فقد كانت حياة «بل موري» حياة غريبة؛ فقد عمل في عدة أعمال في التجارة، ثم في الشرطة، واشتغل رَسَّامًا وصحفيًّا، أعمال كثيرة عملها، لكن الدهشة استولت على «أحمد» عندما قرأ عددًا من الأسماء كانت كلها له؛ فمرة كان اسمه «بيكر»، ومرة أخرى كان اسمه «جون كول». ولم يكن «بل موري» اسمه الحقيقي، إنَّ اسمه كان «جان جليم كول».
وكما تقول البيانات عنه: في نحو الأربعين، متوسط الطول، أشقر، عيناه خضراوان، نحيف القوام، يبدو الذكاء على ملامحه، يُجيد عددًا من اللغات … من بينها العربية … اشتغل وسيطًا في عدة أعمال كان آخرها تجارة البترول، وهذا ما جعله يتجه إلى الدول العربية، حيث استطاع أن يعقد عدة صفقات ضخمة، واستطاع أيضًا أن يعقد صداقات استفاد منها كثيرًا، وعن طريقها استطاع الحصول على المعلومات التي تاجر فيها، كتجارته في البترول، غير أنه انكشف أخيرًا، لكن بعد أن حقَّق ثروة لا بأس بها، ثم اختفى فجأة.
لم يكن «أحمد» يقرأ باستمرار، لقد كان يَحفر في ذاكرته كل ما يقرؤه … ولذلك قضى الساعات كلها مُستغرقًا في قراءة الملف، ولم يقطع الشياطين عليه استغراقه فقد تركوه يقرأ.
لكن فجأة، قالت «ريما»: انظر! …
ونظر إلى حيث أشارت، ثم ابتسم ابتسامة عريضة؛ فقد بدأت المُغامرة.