«ريما» … تصبح الآنسة «جولي»!
كان مطار «نيويورك» يلمع كمسبحة مُضيئة الحَبَّات؛ ممر الطائرات الطويل، ومبنى الإدارة المُتوَهِّج، في حين تناثرت عدة طائرات، في انتظار الإقلاع. أغلق «أحمد» الملف الأخضر، وظلَّ يتأمل المطار الضخم المضيء. كانت الطائرة تدور حوله، حتى تأتيها إشارة النزول. دارت الطائرة دورة كاملة، ثم بدأت تأخُذ طريقها إلى الأرض، بين صفَّين من المصابيح المضيئة، وكأنَّها حرس الشرف.
لحظات، ثم اهتزت الطائرة بتأثير اصطدام عجلاتها بأرض المطار. وبعد نصف دورة، أخذت حركتها تُبطئ، حتى توقفت تمامًا. أسرع الشياطين ينزلون، وفي دقائق كانوا يُغادرون مطار «نيويورك» المُزدحم في هذه الساعة من بداية الليل، وخارج المطار، كانت هناك ساحة واسعة مزدحمة بالسيارات، وفي سرعة، أخذ الشياطين طريقهم إلى سَيَّارة «كاديلاك» بُنِّية اللون.
أخرج «خالد» مفاتيح خاصَّة، ثم عالج بها الباب فانفتح. إنَّ هناك رقمًا موحدًا لسيارات رقم «صفر» في جميع أنحاء العالم، وهو رقم سري لا يعرف أحد أنه يتبع رقم «صفر» سوى الشياطين وعملاء رقم «صفر» في أنحاء العالم، ولهذا فإنَّ الشياطين يتجهون إلى السيارة التي تحمل الرقم؛ لأنَّها دائمًا تكون في انتظارهم.
عندما استقروا داخلها، أدار «خالد» محرِّك السيارة، وبدأ يُغادر السَّاحة، في نفس الوقت فتح «أحمد» تابلوه السيارة، فوجَد رسالة خطية، قرأها بسرعة، كانت الرِّسالة من عميل رقم «صفر» في «نيويورك»، تُحدد الفندق الذي سينزلون فيه، كان الفندق هو «جورج واشنطن».
عندما قال «أحمد» اسم الفندق، قالت «ريما»: أليس هذا هو زعيم أمريكا الذي حرَّر العبيد؟ …
قال «قيس»: نعم، إنه هو، وهو أيضًا يُعتبر واحدًا من أشهر الرؤساء الأمريكيين، حتى إنَّ العاصمة الأمريكية قد سُمِّيت باسمه …
انطلقت السيارة في سرعة وسط الشَّوارع المُزدحمة، في عاصمة المال والتِّجارة، وبعد حوالي الساعة كانت تقف أمام الفندق الضخم. نزل الشياطين بسرعة، واتجهوا إلى الداخل، فأخذ «باسم» طريقه إلى استعلامات الفندق، حيث أخذ مفاتيح الحجرات، وكانت حجراتهم تقع في الطابق الستين؛ ولذلك فقد اتجهوا إلى منطقة المصاعد، حيث يقف اثنا عشر مصعدًا … انتظروا قليلًا ثم ركبوا المصاعد إلى الطابق الستين، كان المصعد يرتفع بسرعة عالية، لكن برغم ذلك لم يكن له أي تأثير يمكن أن يشعر به الراكب كانت لوحة الطوابق تَلمع بالرقم الذي يُضاء، وعندما ظهر الرقم ستون توقَّف المصعد في هدوء، فنزلوا بسرعة.
كانت الحجرات فردية الأرقام، وتقع في الجهة اليُسرى من المصعد. اتجهوا إليها بسرعة، وما إن دخلوها حتى كان «أحمد» يُفكِّر في عقد اجتماع سريع لترتيب حركة الغد.
رفع سَمَّاعة التليفون، ثم تحدَّث إلى «قيس» الذي رَدَّ: سوف نجتمع عندك بعد ربع ساعة!
أسرع «أحمد» بالاغتسال، ثم جلس في انتظارهم. بسط أمامه خريطة وأخذ يُحدد الأماكن التي سوف ينزلون بها. فكَّر قليلًا، ثم قال في نفسه: ينبغي أن أتصل بعميل رقم «صفر» حتى يحجز لنا إحدى الطائرات إلى «هاواي» … لكنه لم يفعل ذلك مباشرة؛ فقد انتظر قليلًا في نفس الوقت الذي دخل فيه الشياطين الواحد بعد الآخر، جلسوا في نصف دائرة …
قال «أحمد»: يَنبغي أن نضع برنامج تحرُّكات الغد.
قال «خالد»: سوف نرحل غدًا إن شاء الله إلى «هاواي»، وهذا يحتاج أن نحجز تذاكر سفر إلى هناك … في نفس الوقت، يجب أن نحجز في أحد الفنادق، في الجزيرة …
كان الشياطين ينظرون إلى «أحمد» الذي لم يَرُد؛ فقد كان ينتظر آراءهم جميعًا، قال «باسم» بعد لحظة: أعتقد أنه ليس أمامنا، سوى هذه الخطوات التي حدَّدها «خالد»، أما حركتنا هناك فسوف تتحدَّد عندما نصل إلى الجزيرة!
وقالت «ريما» وهي تَبتسم: أظنُّ أنَّ التصرُّف يجب أن يكون غير ذلك، إنَّ حركتنا هناك يجب أن تكون مرسومة مُقدمًا، فهل سنَنزل معًا، أو سوف ننقسم إلى مجموعتين مثلًا، وكيف سنصل إلى مقر «بل موري»، وما هي الخطة التي ندخل بها القصر؛ كل هذه خطوات يجب أن تكون محسوبة مقدمًا.
أضاف «قيس»: إنني موافق على رأي «ريما»، فلا يُمكن أن نترك حركتنا للظروف، هناك أيضًا حكاية الدولارات المزيفة، كيف تكون؟ وهل ستكون معنا، أو أننا سوف نطلبها فيما بعد؟
كان «أحمد» يُتابع أحاديثهم، وقد اتسعت ابتسامةٌ على وجهه؛ فقد طرحوا كل ما فكَّر فيه تمامًا، وإن كان هو قد اتخذ قرارات فيها، فقد قال بعد قليل: الحقيقة أنَّ «ريما» قد بدأت حديثًا طيبًا، وقد أضاف «قيس» أهم خطوات المُغامرة، والآن … صمت قليلًا ثم قال: سوف أطرح أمامكم أفكاري لنُناقشها، فإذا اتفقنا عليها، فسوف نَلتزم بتنفيذها، وإذا كانت هناك تعديلات أو إضافات فلنتَّفق عليها … توقف عن الكلام قليلًا، وعندما بدأ مواصَلة حديثه، كان جهاز الاستقبال يُعطي إشارات.
أسرع «أحمد» إليه، وبدأ يتلقَّى الرسالة. كانت رسالة شفرية كالآتي: ««٢٤–٢٥» وقفة «١٠–٢١–٢٤» وقفة «١٤–٢٠–١٠» وقفة «١–٢٣–٢٨» وقفة «٢٥–١٤–٢٠» وقفة «٢٤–٢٣–٢٨–٢٧–٢٥» وقفة «٢٤–٢٣–٢٨–٢٧–٢٥» وقفة «٨–٢٧–٢٣–١–٢٠» وقفة «٥–١–٢٦–١١–٢٦» وقفة «١٨–٢٥–٨» وقفة «١٨–٢٤–٢٨– ٢٣–٢٥–١» وقفة «٢٠–٢٨» وقفة «٢٥–٢٨–٢٧–٢٨–٢٧–١٠–٢٢» انتهى.»
وكانت ترجمتها: من رقم «صفر» إلى «ش»، نصف مليون دولار جاهزة عند عميلنا في نيويورك!
قرأ «أحمد» الرسالة أمام الشياطين، ثم قال: لقد اختصر لنا رقم «صفر» ما كان يُمكن أن نطلبه من عميله في نيويورك، والآن … توقف لحظة، ثم قال: إنني أقترح أن يَنتظِر أحدنا هنا، حتى يستعد الباقون هناك؛ فمن الضروري أن نعرف كيف يُمكن أن نصل إلى داخل القصر … ثم إلى الخزينة التي يضع فيها «بل موري» أمواله، ونحن لا نستطيع أن نحمل نصف مليون دولار مُزيفة معنا؛ فقد نتعرَّض لأي شيء يجعلنا نقع تحت طائلة القانون من جهة، ويفلت «بل موري» منَّا من جهة أخرى! سكتَ قليلًا في الوقت الذي كان الشياطين يستمعون إليه باهتمام، وقال: هل تُوافقون على هذه الخطوة؟ …
مرَّت لحظة، قبل أن يُعلن الشياطين موافقتهم عليها، غير أنَّ «خالد» أضاف: ومن يبقى منا؟ …
قال «أحمد»: هذه ليست مسألة هامَّة الآن، دعونا نرى ماذا سوف نفعل.
دقَّ جرس التليفون فأسرع إليه «باسم»، أخذ يستمع باهتمام، جعل الشياطين يُسرعون إليه، وعندما وضع السماعة، قال لهم: إنَّ «بل موري» موجود في نيويورك الآن … وهو يسهر الليلة في أحد الملاهي ويُدعى ملهى «الليل الفضي»، ويقع في الشارع الثاني والثلاثين.
كانت هذه المعلومات الجديدة مُثيرة بما يكفي، غير أنَّ أحدًا من الشياطين لم يُعلِّق عليها …
نظروا إلى «أحمد» الذي قال: نحن لا يهمنا «بل موري» الآن، نحن يهمنا هناك، وهو في قصره، وإن كان ذلك يُمكن أن يُعطينا فكرة واقعية عنه. سكت لحظة ثم أضاف: يمكن أن نذهب إلى ملهى «الليل الفضي» حتى نرى «بل موري» على الطبيعة.
مرَّت لحظة صمت، ثم قالت «ريما»: إنَّ «بل موري» يمكن أن يذهب إلى أي مكان، ولا تنسوا أنه رجل ثري يملك الملايين، ولا أظن أنه سوف يكون في قصره في انتظارنا …
قال «قيس»: هذا صحيح …
أضافت «ريما»: وما دام هناك فهذه فرصتنا الآن لأن نكون خلفه.
نظر «أحمد» في ساعة يده، ثم قال: إنني أُوافق «ريما» تمامًا …
تحرَّك بسرعة إلى حقيبته ثم أخرج منها صورة قَدَّمها للشياطين. كانت صورة «بل موري». ظل الشياطين ينظرون إليها، ثم قال «باسم»: الآن علينا أن نَنطلِق …
في دقائق كان الشياطين قد استعدُّوا للخروج، وقد حملوا معهم ما يلزم لأي صراع؛ فهم لا يدرون إن كانوا سوف يعودون الليلة إلى الفندق، أم أنهم سوف يُطارِدون «بل موري» إلى أي مكان. في دقائق كانوا خارج الفندق، حيث توجد السيارة «الكاديلاك». ركبوا بسرعة، وانطلق «خالد» الذي جلس إلى عجلة القيادة إلى ملهى «الليل الفضِّي» في الشارع الثاني والثلاثين.
كانت مدينة «نيويورك» قد بدأت تنام، وأصبحت الشوارع نصف خالية، فلم يكن فيها من الأمريكيين سوى القليل، أما السواح فقد كانوا كثيرين خصوصًا في الشارع الثاني والثلاثين حيث يوجد ملهى «الليل الفضي» …
توقفت السيارة «الكاديلاك» بعيدًا عن الملهى، وقال «أحمد»: ينبغي أن يذهب ثلاثة منا فقط، ويبقى الآخران في السيارة …
مرت لحظة صمت، قالت «ريما» بعدها: إنني أفكر في خدعة، يمكن أن تثمر … فنظر لها الشياطين، ابتسمت قائلة: ما رأيكم لو عملت في الملهى الليلة؟
لمعت الفكرة في ذهن «أحمد» وقال: إنها فكرة رائعة، لقد قلت لكم من البداية، إنَّ «ريما» رُبما تكون الطريق إلى «بل موري».
ولم يَنتظِر لحظة؛ فقد رفع سماعة تليفون السيارة، وتحدَّث إلى عميل رقم «صفر». كان الشياطين ينظرون إليه، ونظر في ساعة يده، ثم أجاب: تمامًا، بعد عشر دقائق … ثم وضع السماعة، وقال: سوف نذهب بعد عشر دقائق، وسوف يكون السيد «داني» في انتظارنا.
كانت أضواء الملهى تلمع أمامهم في الليل. أخذوا يتحدثون قطعا الوقت، حتى مضَت الدقائق العشر، فقال «قيس»: ينبغي أن نَنصرِف الآن!
نزلوا في هدوء واتجهوا ناحية الملهى، وكان هناك أحد الحُرَّاس، اقترب منه «باسم» وسأل عن السيد «داني» أشار الحارس إلى حُجْرة قريبة من باب الدخول فاتجهوا إليها، كانت هناك لافتة صغيرة مكتوب عليها: «المدير» … تقدم «أحمد» ودخل، كان هناك رجل ضخم يتحدث في التليفون، انتظر «أحمد»، قليلًا حتى انتهى الرَّجل من مُكالمته، ثم سأل: السيد داني؟ …
ابتسم الرجال وقال: نعم. أين بقية الأصدقاء؟ …
أشار «أحمد» إلى الخارج، فسأل «داني»: وأين الآنسة «جولي» التي ستعمل معنا هنا؟ …
أدرك «أحمد» بسُرعة أن «ريما» قد أصبح اسمها «جولي» فقال: إنها في الخارج، ثم تراجع خطوة ونادى «ريما» التي دخلت مُبتسمة، فقال «أحمد» بسرعة: «جولي».
ظهرت الدهشة على وجه «ريما» لكنها هي الأخرى أدركت الموقف، فقالت: نعم يا سيدي …
قال «داني»: هناك مكان محجوز لكم في الصالة، أمَّا الآنسة «جولي» فاتركوها لي.
شكره «أحمد»، ثم انصرف، وترك «ريما»، وانضم إلى بقية الشياطين، وبلغتهم، شرح لهم ما حدث، في نفس اللحظة، كان أحد الرجال قد تقدم منهم في أدب شديد، وقال: تفضَّلوا!
تبعه الشياطين، ساروا في ممر طويل نصف مظلم، بدأت أصوات الصالة، والموسيقى تصل إليهم، ثم تقترب أكثر فأكثر، كلما تقدموا خلف الرجل، الذي وقف عند أحد الأبواب، ثم دفعه قليلًا وقال: تفضلوا!
ما إن خطوا خطوة إلى الداخل، حتى تقدم منهم آخر، في أدب شديد، وأشار إليهم فتبعوه، وعند منضدة خالية، توقف وأشار إليها، ثم انحنى على «أحمد» وسأله: هل تشربون شيئًا؟ …
قال «أحمد» مُبتسمًا: نعم، عصير أناناس …
انصرف الرجل، وجلس الشياطين، كانت أعينهم تمسح المكان بحثًا عن «بل موري»، لكنهم لم يستطيعوا أن يروه، فجأة ظهرت «ريما» في ملابس عاملات الملهى، دارت بين الزبائن بسرعة، حتى اقتربت منهم، وقفت أمامهم، ثم نظرت في اتجاه شاحب الضوء وقالت: انظروا … جيدًا!
ركز الشياطين أنظارهم في نفس الاتجاه، وعلتْ وجوهَهم ابتسامَةٌ، وهمس «باسم»: إنه «بل موري» …