١

فتحت النافذة طالعتني الحديقة الصغيرة كأني أراها للمرة الأولى، احتلت السيارات معظم مساحتها، وأحيطت بسياج من الشجيرات المقلمة المتلاصقة. في المواجهة، محطة الأوتوبيس، وقضبان المترو، وأشجار الظل، والسور الحديدي الطويل لنادي الشمس، يداخله سيرك الحلو ومجمَّع الاسكواش والمقاهي ومحال بيع الأطعمة، تخلو حدائقه إلا من بنايات قصيرة، متباعدة، وتلوح في أفقه بنايات جسر السويس. الصخب يصنعه تلاحق السيارات — على الناحيتين — بشارع عبد الحميد بدوي، وتلاصق العمائر وارتفاعاتها — في أقصى اليمين — يشي بما صار إليه الحي.

أعبر الحديقة — كل صباح — نحو السيارة أمام الباب الخارجي. يشغلني التحدث إلى موظفي المكتب، في مسافة السير على الممر الضيق المبلط بالحجارة، يحيط بي، يزاحمهم ثلاثة، أو أربعة، من الحراس الشخصيين، يتوقعون ملاحظاتي، وما أريد فعله. أستكمل كلماتي من وراء النافذة، قبل أن أومئ برأسي إلى السائق جاب الله. ينطلق بالسيارة، يجري المعاونون والحراس، وتليفونات المحمول تهتز في أيديهم. يتشكل الموكب — في انحناءة الطريق إلى وسط البلد — من أربع سيارات. يعبر الحديقة — في ظلمة الليل — عائدًا إلى الفيلَّا، ألقي آخر ملاحظاتي وتعليماتي.

مع أني كنت أعرف الموعد باليوم، وتهيأت لأعوام الإقامة في البيت. تحدثت مع إجلال عن الأماكن التي أنوي زيارتها، الكتب التي أُهديت لي، وأحتفظ بها لأقرأها بعد أن تنتهي مشاغل الوظيفة، الوعد بدراسة مشروعات أقلِّب بها صفحات جديدة. تحدثت عن الراحة، ومراجعة النفس، والتأمل.

لم يكن الخبر مفاجئًا.

كنت قد أعددت نفسي لتلقيه منذ بدأت الأبواب تُغلق أمامي، والمذكرات تُرد بالرفض، والمكالمات التليفونية تعتذر بالانشغال.

تلاحقت التطورات، فتوقعت زيارة مهمة، من لا أعرفه تمامًا، لكن الزيارة وضعت نقطة الختام.

أعددت نفسي لسحب السيارة والسائق جاب الله، اشتريت سيارة بي إم دبليو، السيارة نفسها التي أستقلها في العمل، أزمعت أن أقودها بنفسي.

ما حدث بدا لي مفاجأة كاملة.

قالت إجلال: غلطة الشاطر بألف.

بدا في صوتها ما أثار قلقي.

أنا لم أخطئ فأدفع الثمن. حتى في القعدات الخاصة، أبتعد عن أحاديث السياسة، لا أسأل، ولا أرد إن سئلْت. أكتم مشاعري في نفسي، لا إيماءة موافقة أو رفض، ولا حزن ولا أسى ولا شماتة أو إعجاب. دردشات تخص الآخرين ولا تعنيني، أُهمل محاولات جرِّي إليها. ربما تعمدت أن أتجه بالمناقشة بعيدًا عن قضايا السياسة: فيلم شاهدته، خبر قرأته في جريدة، أسعار العملات، أحوال الجو، دوري كرة القدم … ما يساعدني على الأخذ والرد، دون خشية من المساءلة.

طالت السهرة في الفيلَّا المطلة على هضبة الأهرام. صحبت أحمد أنيس، وجلست إلى من ألتقي بهم للمرة الأولى. شربت للمجاملة، ثم دفعني الإلحاح إلى الشرب مرة ثانية، وثالثة. تعودت أن أشرب كأسًا صغيرًا من النبيذ، أحاذر فلا أجاوز السكر الخفيف، لا يثيرني تباهي أحمد أنيس أنه يقوى على ابتلاع بِرميل.

قاومت اختلاط المرئيات، وإن اضطرني إلحاح الأسئلة إلى التحدث فيما لا أذكره.

لو أني اعتذرت عن الشرب — وقتها — لم تكن الأمور تنتهي إلى ما انتهت إليه.

كان الأمل يراودني في أن أظل في المنصب، يُمَد لي في رئاسة الهيئة سنوات هي من حقي، لولا المؤامرات المتوالية التي لا أدري مصدرها.

أمر الرجل بإغلاق الحجرة. لم يغادر مكتبه في مواجهتي. ألقى أسئلة كثيرة، عانيت ارتباكًا، نظرت — بتلقائية — ناحية الباب، كأني أتوقع أحمد أنيس، يجيب عن كل الأسئلة.

زاد في ارتباكي أني لا أمتلك إجابة، لا أعرف ما يتحدث عنه، أغناني أحمد أنيس عن الوسائل، فاكتفيت بالنتائج، لا أعرف ما قبل، التفصيلات التي أثق أن أحمد أنيس يعرفها جيدًا.

قال الرجل: ما قلته تستحق عليه السجن، لكن أعوام خدمتك تشفعت لك!

وخرجت الكلمات من فمه بطيئة: لم يقرر المسئولون إقالتك، لكنهم يطلبون أن تقدم استقالتك!

ولوى شفته السفلى: يحرصون على صورتك أمام موظفيك!

صحت بالاستغراب: هل أقدم إجازة بدون مرتب؟

– أفضل أن تقدم استقالة.

– لم أخطئ بما يدفعني إلى الاستقالة.

لا أذكر أني ارتكبت خطأً ما، لا أذكر أني أخطأت على أي نحو. كل ما صدر من قرارات، قرأه أحمد أنيس، راجعه جيدًا قبل أن أوقع عليه.

أخطر ما يواجهني، تلك الحالات المتباعدة، المتقاربة، من الشكوك حول قضية ما. تغيب الحلول، فأتصور أنه لا يوجد حل، يحاصرني الضيق وفقدان الأمل واللاجدوى. تنقذني نصيحة أحمد أنيس.

وشى صوت الرجل بنبرة محذرة: إذا رفعنا الغطاء فستصدمك الرائحة الكريهة.

رويت للشيخ حسن الحامولي إمام جامع السيدة خديجة عن حلم في نومي. راعني التحول من هيئة الأنثى إلى هيئة الذكر، رأيت نفسي امرأة وليس رجلًا.

قال الشيخ في نبرة مشفقة: تفسير ما رأيت زوال السلطة من يدك.

– ما شأن السلطة بتحولي إلى امرأة؟!

– هذا هو تفسير الحلم.

ثم وهو يكوم مسبحته، ويدسها في جيب قفطانه: اقرأ ابن سيرين.

اقتحمني شعور بأني أهبط إلى أعماق الظلمة، دون أمل في النجاة.

صرخت بآخر ما عندي، وأنا أسقط في هوة الابتلاع.

قالت إجلال: لم تعتزل بالمعاش، ابتعدت وأنت في القمة.

– أُبْعدت ولم أبتعد.

– شكليات لا قيمة لها.

اهتز فنجان الشاي في يدي، أعدته إلى الطاولة: يشيعون جنازتي في حياتي.

وبلَّلت شفتي بطرف لساني: تثيرني كلمات المواساة والتعزية!

أردفت في نبرة متصعبة: مؤلم أن أتسلم شهادة وفاتي وأنا حي!

هزت إجلال رأسها: لم يحدث.

وفردت ذراعيها على اتساعهما: المستقبل أمامنا.

حدثتني إجلال عن الحياة بعيدًا عن الرسميات. الخضوع للإرادة الخاصة، لا لإرادة المنصب. لم يعد من المطلوب أن أذهب إلى مكان لا أحبه، ولا ألتقي بمن يضايقني رؤيتهم، ولا توقع من لا أريد استقباله، ولا الرد على مكالمة تليفونية في عز الليل، ولا الالتزام بمواعيد قد لا أحب الالتزام بها، ولا الحرص على ما أرتديه من ملابس حتى داخل البيت. أمشي حافيًا، أكتفي بثيابي الداخلية، أدندن بما أتذكره من أغنيات، أشم الهواء الذي يجب أن أتنفسه، النوم في الموعد الذي أختاره، الصحو دون منبه، الأكل دون رسميات، النظر من الشرفة، دعوة النفس على فنجان شاي، مشاهدة التليفزيون، سماع الراديو، قراءة الصحف، إعادة ترتيب المكتبة.

لماذا تقترن فكرة الاعتزال بالمكان الرومانسي: الفيلَّا على الخلاء، البيت الصغير في قلب الغيطان، الجلوس على المصطبة أمام الدار، اختلاط أصوات رفع الأذان، ووابور الطحين، ودوران الساقية، وزقزقة العصافير فوق الأشجار، قضاء الأوقات قرب ضريح الولي، الحياة داخل الصحراء التماسًا للهدوء.

ترامى هديل حمامة، أعرف أنها جعلت لنفسها عشًّا تحت إفريز النافذة المطلة على الشارع الجانبي.

– أنا لست أكبر أصدقائي، تصورت أن الحياة أمامي.

أشحت بوجهي إلى الناحية الأخرى، حتى لا ترى الدمع في عيني: إذا غاب كل أصدقائي، ربما أكون قد مت، أو أن حياتي لن تطول!

استعدت عبارات تلاحقت في وداعي: سنفتقد سيادتك … تعلمنا منك الكثير … ستظل لنا قدوة.

تكلم إيهاب شندي عما تحقق في عهدي، جعلت استكماله — على من يخلفني — صعبًا.

قال ماجد الحسيني: بل سيكون مستحيلًا، ما بُني لا يمكن أن تضاف إليه طوبة واحدة!

لم أصدق العبارة حين سمعتها: أعطانا عرض أكتافه.

هل أنا المقصود؟

لحقتها عبارة: أعطانا آخر قفاه، تردفها نظرة ذات معنًى.

أدركت أني المقصود بها.

لم أخف قلقي: هل يعرف حازم ما حدث؟

– ماذا حدث؟

– تركي العمل.

وهي تهز يدها في تهوين: حتى لو عرف، فستظل والده الذي يحبه.

تعرف حبي لحازم، أحبه لأنه ابننا الوحيد، ولأنه يشبهني في تكويني الظاهري: القامة الطويلة، البشرة القمحية، العينين البندقيتين، الأنف المستقيم، الشعر الأسود الغزير، وإن تغلب البياض في رأسي.

اتصل أحمد أنيس بمن أعرفه، ولا أعرفه، حتى تحققت رغبته في دخول كلية الفنون الجميلة. لا يحب الأرقام والإحصاءات ودراسة الجدوى وأسعار السلع والصادرات والواردات، كل ما أناقش فيه أحمد أنيس لما ألزم البيت. يخلو إلى نفسه في حجرته، يقرأ، يرسم اسكتشات، يدير تسجيلات لموسيقيين غربيين، نادرًا ما يجلس إلينا في الصالة، أو يشارك في أحاديثنا، حتى التليفزيون يقصر مشاهدته له في حجرته.

كنت أدرك أن يوم فراق الوظيفة سيأتي، لكنني لم أتصور أن يأتي بهذه السرعة، وبهذه الكيفية.

كنت كل شيء، أصدر الأوامر، أوزع المهام، أوقع القرارات، أصبحت — بالمفاجأة — لا شيء.

ما حدث كان يجب أن أتوقعه من سنوات.

أعددت جيدًا خطوات ما قبل الإحالة إلى المعاش، أخلف الوظيفة بعد أن أمتصها تمامًا، المدة الحقيقية بيني وبين نهاية الخدمة ثماني سنوات. شغلت فكري فيمن يتوسط كي أمد فترة خدمتي ثلاث سنوات. أعرف أن ذلك هو الحد الأقصى لمد فترة الخدمة. أعددت نفسي لمنصب مستشار الهيئة، منصب بالتعاقد لمدة عام قابل للتجديد، سنة، وسنوات تالية، لا أترك الهيئة.

إذا كانت الواسطة من أعلى فقد أتوق لمد خدمتي حتى أشبع. لم أتوقع أن تختفي التوقعات في لحظة لا أتوقعها، ولسبب يصعب أن يأتي في بالي: العداء للنظام.

لماذا يقضون بإعدامي على ثرثرات أملاها السُّكْر، ولا يقدِّرون دفاعي عن النظام، إلى حد الدخول في مشادات كلامية، كادت تتحول — أحيانًا — إلى معارك بالأيدي.

الحياة التي تنتظرني لا معنى لها. لم يعد لدي ما أفعله، ذلك ما عشته بعد أن تركت أحمد أنيس يفعل الصواب، ما يرى أنه الصواب: أستمع إلى الأغنيات حتى أملها، أرفع الأفلام التي أشاهدها في الفيديو فلا أعيدها، أفارق القلق والتوقع والتخمين.

أزمعت أن أفعل ما لم أكن أفعله من قبل. أسير في الشوارع، أتأمل الفاترينات، أقف في طوابير القطار وفواتير التليفون والسينما، أتردد على مقاهي وسط البلد، أقرأ صفحات الرياضة والفن والجريمة، أبدي الملاحظات، فأستمع لنفسي في متابعة المسلسلات ومباريات كرة القدم.

لاحظت في نفسي الميل إلى السير دون هدفٍ ما، أجول في الشوارع، لا أُعنَى بالنظر إلى ما حولي، ألفْتُ اختراق ميدان التحرير، أعبره إلى الأحياء المتصلة به، أسير في شوارع قصر العيني والتحرير وطلعت حرب وقصر النيل، لا أعرف أين، ولا متى أتوقف، يأخذني الزحام والمرئيات والتلفت.

كانت المرة الأولى التي دفعني ما لم أتبينه جيدًا: التعب، أو طلب المغايرة، أو فضول الفرجة، إلى الجلوس على مقعد في مواجهة تمثال عمر مكرم، من حولي زوار المجمع والمارة والباعة والمتناثرون بلا عمل، الجامع إلى اليسار، يمتد من أمامه الطريق إلى جاردن سيتي، يطل عليه مبنى المجمع بنوافذه المتقاربة، الموحدة الشكل، ومحطة مترو أنور السادات، وفي مدى النظر بنك الائتمان الزراعي، والجامعة الأمريكية، وبناية بحري، ولافتات هارديز، وماكدونالدز، وبيتزا هت، ولافتة كنتاكي في موضع أسترا الذي زال بلا سبب، وعمر أفندي، ومحالُّ البازار، وشركات السياحة، ومكاتب الصرافة، ومبنى الجامعة العربية، والمبنى القديم لوزارة الخارجية، وفندق هيلتون، والمتحف المصري، وميدان سيمون دي بوليفار، ومحطات المترو، والشوارع المفضية إلى أحياء القاهرة.

حين مالت الشمس ناحية الغروب، أخفقت في تذكر المكان الذي أقصده. عدت إلى موقف عبد المنعم رياض. اتجهت بسيارتي ناحية الميدان، صعِدت الكوبري عائدًا إلى مصر الجديدة.

صحوت — ذات ضحًى — على هزة قبضتها لكتفي، ونظراتها تشي بالخوف. استدرت إلى الناحية المقابلة: لا شيء أصحو من أجله.

تنبهت إلى السؤال: ألم تعد ترغب في رؤية أحد؟

أشحت بوجهي: لم أعد أرغب حتى في رؤية نفسي!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤