١٠

توقعت — رغبة في إذلالي — أن تؤخرني السكرتيرة قبل أن يأذن لي بدخول مكتبه، لكن السكرتيرة عادت من الداخل في ثوان، وأشارت إلى الباب المفتوح.

عدلت عن فكرة أن يكون حديثي له عبر التليفون. قد تعفيني المكالمة التليفونية من المواجهة.

ضايقتني الملاحظة: لا يوجد أحد لكل العصور!

ونقر بطرف القلم على المكتب: أنت تصر على الظهور في التليفزيون رغم انتهاء الإرسال!

تأملت المعنى فأثارني: أنت تبتزني!

قال أحمد أنيس: من يبتز من؟!

ونقر بقلمه على المكتب: أقرأ ما تنشره ضدي!

– تراني صحفيًّا؟

أهمل السؤال: لا صحف المعارضة ولا المستقلة ستفيدك!

بدا كأن دماءه تصاعدت إلى وجهه: كراستي بيضاء … لكنني أعرف عنك كل شيء!

وداخلت صوته ارتعاشة واضحة: الابتزاز يأتي بالاختلاق!

واتسعت عيناه بالغضب: أنت لا تملك إسكاتي!

ولوح بإصبعه في وجهي: لكنني آمرك بالسكوت!

توالت اتهاماته بأني كنت أسخِّر الآخرين لأهدافي، وأنسب ما يحققونه إلى نفسي. هذا هو التعبير الذي اختاره. ضغط على الكلمات وهو يتحدث عن الأنانية والسطو.

لو أني كنت أعرف العدوانية في داخله، كنت أستعد للمواجهة، أدافع عن نفسي. لم يكن في ملامحه ما يشي بعدوانية ولا تآمر، هو مجرد تابع، يتلقى الأوامر، يشغله تلبيتها.

ما أعرفه من حياته لم يكن هو كل ما في تلك الحياة. ثمة فجوات وظلال ومناطق منسية لم يُتَح لي أن أتعرف إليها. الهاجس — الذي ربما لم أدركه جيدًا — جعل حدودًا للعَلاقة، لا تتخطاها.

لم أسأله عن نفسه، طبيعتي ألا أسأل، ابتلع أحمد أنيس ما في داخلي من ميل إلى السؤال والحوار والأخذ والرد.

التقطت انفصال أمه عن أبيه، حين استأذن في زيارة أمه المريضة: خذ سيارة من الجراج.

– النقل العام تصل كفر العُلو.

وأضفى على صوته رنة حزن: الحاجَّة تقيم هناك.

حدثني — في يوم تالٍ — عن زيارته لأبيه في منوف. أقعد المرض العجوز فلا يقوى على ترك المدينة.

سألت بعفوية: أليس لك إخوة؟

– ثلاث بنات … الكبرى متزوجة … واثنتان مع الحاجة.

قال إنه يعتز بأنه قد جعل حياته كلها للعمل، لا يذكر أنه قد حصل على إجازة إلا إذا أخضعه المرض، ثم شكا من أن إدارة المؤسسة ترفض أن تحتسب له الشهادة العالية التي حصل عليها أثناء الخدمة.

أهملت التقارير التي ذكرت عمله في تقسيم الأراضي، وبيعها، وفي الصفقات، والمزايدات، والمناقصات، والعقود، والسندات، والحصص، والأسهم، والشقق، والأراضي، والودائع، والأرقام، وفروق العملة، والسمسرة، والمقاولات، والمضاربة في البورصة، والتوكيلات التجارية.

صار — بما في حوزته من معلومات — هو الأقوى، أخشاه، أتوقع تآمره وغدره.

الكلب!

ألِفتُ نُباحه ضد الآخرين، هذه المرة نباحه ضدي، لم يكتف بالنباح، لكنه عضني أيضًا.

زال الكرسي، فلا أهمية لشيء، لا توقعات بردود أفعال.

تكررت نصيحته أن أضع مسافة بيني وبين الآخرين. يؤلمني أنه وضع مسافة النصيحة بيني وبينه، بيت الشعر القديم يتحدث عن الذي تعلم الرماية، وكان رَميُ معلمه أولَ ما أقدَم عليه.

هل هذه محاولة لقتلي، فلا أصبح أمثل له ذكرى ينبغي محوها؟!

لم أتصور أن ذلك الرجل الذي له مظهر القط الوديع، سيتحول إلى كلب أصابه السعار، هو لا يفرق في أذية كل من يمرون في حياته. الستر لم يعد مطلبًا في ذاته، يشغله الفيلَّا المستقلة، السيارة، الحساب في البنك، العز والمكانة الاجتماعية.

عرَفت أنه لا يريد الرد على مكالماتي. يقرأ الرقم على لوحة تليفونه، فلا يرد، ألجأ إلى تليفون السكرتارية، أتلقى الإجابة التي كنت أتوقعها: لديه اجتماع، هذا ما كان يوصي به السكرتارية للرد على المكالمات التي تصلني.

جاء صوته حادًّا: تعال!

واجهني بنظرة غاضبة: ماذا تريد؟

اختنقت الكلمات في حلقي: لماذا وشيت بي؟

في لهجة متخابثة: هل فعلت ما يستحق الوشاية؟

وهز رأسه في فهم: أوافقك على أن الحياة أخذ وعطاء.

وواجهني بنظرة متسائلة: ماذا تملك لتعطيه؟!

وتقلصت ملامحه بالتأثر: لو أني انشغلت بالالتفات إلى نباح أي كلب، فلن أجد وقتًا لعملي.

استطرد في تأثره: مادام الفعل يقتصر على النباح، فلا بأس!

جاهدت لإظهار تماسكي، والرد عليه بما يستحقه، لكن صوته علا بلهجة مستهزئة: طالت قعدتك على الكرسي، صارت له رائحة!

أضاف في لهجة باترة: نحن في زمن بقاء الأنسب، والأنسب هو الأقوى.

ضغط على الديكتافون: سأخرج الآن، أبلغوا السائق.

عرفت أنه ينهي المقابلة.

قال وهو يمد يده بالمصافحة: لم تعد بركات الأولياء تكفي للحصول على ما نتمناه!

لاحظت توتر صوته بالعصبية: الطريق المستقيمة ليست — كما يقال — أقصر الطرق، الطرق الحقيقية قد يكون لها منحنيات.

وثبت على شفتيه بسمة استخفاف: على البر عوام!

ولوى شفتيه مستهزئًا: البحر يشغى بالمخلوقات المفترسة، وأنت لا تحسن السباحة!

وتعمد تجويف صوته: أعرف أني أرتكب أخطاء كثيرة، لكنني أثق في قدرتي على التصرف!

وسرت في صوته حشرجة: تصر أن تعيش على جهد الآخرين.

وأنا أغالب غضبي: لماذا تتكلم بهذه اللهجة؟

وضربت صدري بقبضتي: نسيت أني رئيسك؟

أطلق ضحكة متكلفة: ما أعرفه أني أنا رئيس الهيئة.

اختنق صوتي بالغضب: أنا صنعتك.

واستطردت في نبرة مهددة: وأنا سأدمرك!

كسا القلق جبهته، فتكرمشت.

– إذا عدت إلى الكتابة عن الهيئة، فسألجأ إلى نشر إعلان ينفي صلتك بالهيئة، ويحذر من التعامل معك.

أعرف أن أحمد أنيس نقل إلى زوجته وأولاده كل ما يملكه من عقارات ومحال وأموال مودعة في البنوك.

تناهى صوته وأنا أغلق ورائي باب المكتب: ابحث لنفسك عن حياة أخرى.

تعثرت بالارتباك. سقطت النظارة الشمسية من فوق أنفي، تلفت — بتلقائية — حولي، كأني أنتظر من يسبقني في التقاطها، ويعيدها لي. لم يتحرك الموظفون ولا السعاة المتناثرون في الصالة الواسعة. انحنيت، فالتقطت النظارة.

نظرت ناحية الباب المغلق، أتصوره يلاحقني: متى تتعلم إنجاز أعمالك بنفسك؟

دسست النظارة في جيب الجاكتة العلوي، واتجهت ناحية المصعد.

أحمد أنيس حشرة لا تكتفي باللدغ، لكنها تفرغ في البشرة سمها القاتل.

لكي أتقي أذاه، أفر من حصار مؤامراته، فإن ما يجب عليَّ أن أفعله هو أن أبتعد تمامًا، أتنحى عن طريقه، لا أتردد عليه، أحذف اسمه من قائمتي الهاتفية، أتناساه حتى أنساه، ذلك ما أتوقع أن يحدث من جانبه، ينتهي الأمر، لكن القوة التي لا أتبينها تسوقني إليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤