١١

لم أعرف على وجه التحديد ما يشغلني، فأسعى لتحقيقه، أليس مما يدعو الزوجة — قد لا تكون إجلال — إلى التساؤل، وربما إلى خيبة الأمل، أن الزوج لا تجاوز نظراته محيطها الجسدي، هو رجل، فلماذا لا يتصرف تصرفات الرجال؟ لماذا لا يتلفت، ويحدق، ويحاول الغواية، ويستجيب لها، ويحتفظ بالأسرار الشخصية، يحاذر أن تعرفها زوجته؟

يؤلمني انسحاب الرغبة من جسدي قبل الفعل، في اللحظة التي يكون كل منا قد بلغ ذروة توتره. يحدث الأمر فجأة، دون بواعث من أي نوع، أشد ما يؤلمني نظرة الإشفاق التي تلوح في عينيها.

لاحظت ارتخاء ذكورتي عند استيقاظي من النوم. لم أعد أنتصب، فأدركت أن القدرة تُعْوِزني.

كثر ترددي على شارع الأزهر والشوارع المتفرعة، أبحث عما يفيد الباه، ما أعانيه عارض، وإن توالت الأيام دون أن تسعفني قدراتي.

أرجعت الأمر إلى تعب أيام العمل. لما أخفقت إجلال في طمأنتي، قلت إنها تأثيرات أدوية الحساسية التي وصفها لي الطبيب.

طال الأمر، فساورني قلق. لاحظتْ إجلال ميل تصرفاتي إلى العصبية والنرفزة.

أشار الطبيب بدواء مهدئ، وفيتامين في الصباح، وبالامتناع عن تعاطي المشروبات الباردة والساخنة، عدا ثلاثة أكواب شاي طيلة النهار.

تسللت إلى ذهني — لا أدري متى؟ ولا لماذا؟ — فكرة العجز الجنسي. أتصور — عقب كل لقاء — أن هذه هي العَلاقة الأخيرة، ربما انتابتني الهواجس، حتى من قبل أن تنشأ العَلاقة، أخشى أن تظل على حدود الملامسة التي ما تلبث أن تبوخ.

تغيظني كراهيتها الزائدة للجنس، ترفض كل ما يتصل به، حتى الكلمات الموحية ترفضها، تبدل الكلام، تديره إلى وجهة أخرى.

جسدها ساكن في حضني، لا صوت ولا حركة. أحاول، لا أجد استجابة من أي نوع. لا أستشعر الحرارة، ولا حتى الدفء، في عناقها.

تظل ساكنة، مستسلمة، لا مبالية، ما أريده أفعله، فلا تبذل من ناحيتها أي شيء، لا تظهر تجاوبًا، ولا تحاول المجاراة، كأنها — في رقدتها الساكنة — قد رضخت لما تفرضه الظروف. نهاية استجابتها حين ترفع ذراعيها، لأعري صدرها، يظل جسدها مستسلمًا، وأنا أسحب قميص النوم من ساقيها. أتوقع، أتمنى، استجابتها في كل ما تصل إليه شفتاي من جسدها، وبتحسس راحتي، لا تفلتان موضعًا. يظل فمها مغلقًا، وعيناها متجهتان إلى الفراغ.

حنان تغمض عينيها، تستغرق في اللذة. أما هذه المرأة، فهي تسلم جسدها، كأنه لا يخصها. استجابتها متلاشية، عيناها مفتوحتان على اتساعهما، لا تطرفان، تصيبني بالارتباك.

آخر ليلة، تلامسنا كزوجين. واتتني قوة في عناقنا لم أعهدها في الفترة الماضية. حدَستُ أن الشمعة تهَبُ أكبر مساحة ضوء قبل أن يتلاشى الضوء تمامًا.

روت لي حنان ما أذهلها: دعاها أحمد أنيس إلى الجلوس على الكرسي المواجه لمكتبه، مكتبي. شابَ صوتَه تذللٌ وهو يطلب أن تكشف عن فخذيها، اتسع تقلُّص ملامحها المندهشة، ويده تفك أزرار البنطلون، وتخرج بالانتصاب، تلاحقت يده باللذة المحمومة، حتى تحققت الرجفة. ترافَقَ مدُّ يده إلى علبة المناديل الورقية، بإيماءة رأسه، أن تعيد إسدال الفستان على فخذيها.

أدركت أني في حاجة إلى إجلال أشد من أي وقت. ليست مجرد زوجة، لكنها صديقة أبوح لها بما أعانيه، تجيد الإنصات، وتبدي المشورة. ذلك هو الإطار الذي وضعت فيه عَلاقتنا. تمنيت أن تستمر فيه العَلاقة بيني وبينها.

– مضى على زواجنا أعوام طويلة، أخلص فيها كل منا للآخر بما يجعل من الشك مستحيلًا.

قالت دون أن يستوقفها المعنى: لم نعد زوجًا وزوجة، نحن أسرة، زوجان وأبناء.

وأنا أتحسس الكلمات: هل تجدين في إخلاصي لعَلاقتنا الزوجية شيئًا عاديًّا؟ ألا ترين أن المرء — حتى لو كان زوجًا صالحًا — يجب أن ينظر إلى النساء، يُعجَب بمن تستهويه، حتى لو كانت زوجته جميلة الجميلات.

وهي تدفع شعرها خلف رأسها: إذا أردت إجابة ترضي ما بنفسك، فلا تسألني.

أحسست أنها تركت الباب موارَبًا، كي أنفذ من الانفراجة الضيقة: أرفض الخيانة، لكنني أرفض البلادة أيضًا، سئمت المتاح. من حقك — لا أقول من واجبك — أن تحذري اتجاه نظراتي، ما يلفت انتباهي في الأخريات، يهمني أن تتعرفي إلى ما أجدت إخفاءه خلال عشرتنا الطويلة!

تقلصت ملامحها بخيبة أمل: هل هذا ما تركه أحمد أنيس فيك؟!

هي تعرف أن أحمد أنيس سلب وقتي، كل وقتي، حتى خارج المؤسسة، بصَمتِه، أو في مكالمات التليفون.

رفعت حاجبيها: وهذه العبارات السخيفة في كلامكما.

أحمد أنيس احتواني، امتصني. لم تعد لي قدرة على فعل شيء بدونه، لا أوامر، ولا ملاحظات، ولا أسئلة. كان أحمد أنيس — وحده — يفعل كل شيء، يوجه وينصح ويشير، هو أنا، وأنا هو، هو نحن الاثنان، وقفتي على الهامش لا أجاوزها.

دهمني إحساس بالمرارة: لا شأن لأحمد أنيس بما أفكر فيه أو أفعله … أحمد أنيس كان مجرد موظف عندي!

فوَّتَت الملاحظة: كان أحمد أنيس في حياتنا … ورحل.

ورمقتني بإيماءة مستفهمة: لماذا تصر على أن تستدعيه؟!

وبدا الاستياء في نبرة صوتها: أنت تنغص حياتنا بذلك الرجل!

هبطت الفكرة على رأسي في تقاطع الطريق بين شارعي طلعت حرب وقصر النيل. لماذا لا أنسى أحمد أنيس؟

إذا كنت قد أدخلته حياتي لسبب محدد، فإن السبب لم يعد قائمًا. يجب أن أبدل حياتي، كل ما في حياتي من بشر وارتباطات ومواعيد، يغيب أحمد أنيس تمامًا فلا أراه، يخلو البيت إلا مني، تذهب إجلال إلى أمها، فأتأمل ظروفي، وأعيد ترتيبها.

أردت أن أفعل شيئًا، نفعل شيئًا، أكسر رتابة ما يحيط بي من رتابة وملل.

من حق المرء أن يحيا تجارب مثيرة، لا تشغله الملاحظات، ولا الأسئلة، ولا حتى الانتقادات، ما يرى أنه يستحق المغامرة يقدم على فعله.

يلي إغلاق باب حجرة النوم علينا قيام حائط غير مرئي يلغي كل ما كنت أعددته. النظرات التي تومئ وسيلة كل منا للتعبير عن حاجته إلى الآخر. وميض عينيها استجابة لما تلتقطه في نظرتي.

– لا أريد أن أبحث عن واحدة أخرى.

لمحت استجابة في إيماءة رأسها: شجعيني على البقاء في البيت.

بدت الفكرة — حين قلَّبتها في رأسي — مبهجة، ثم باخ — بكلماتها — كل شيء.

أدركت أن ما كان في قبضتي قد أفلت بعيدًا.

أغمضت عينيها كأنها تتأمل الكلمات المناسبة: أنت في حدود الخمسين؟

– لم أبلغ الثامنة والأربعين.

– سن يصبح فيها المرء صديقًا لأبنائه!

فوَّتُّ الملاحظة.

بسطت راحتيها في حيرة: لم أعد أحتمل … أنت تريد ممرضة، لا زوجة.

– هل شكوت لك مرضًا؟

– المصيبة أنك لا تعرف مرضك!

لاحظت أنها لم تعد هي، معاملتها لي تغيرت، وإن لم أدرك دافع هذا التغير. صارت حساسة بما لم تكن عليه من قبل.

هل الأمر يرتبط بإحالتي إلى المعاش؟ هل أتت محاولاتي لكسب ودها بعكس ما أرجوه؟

بدت لي مخلوقًا آخر غير التي أعرفها، فترات الصمت بيننا تطول، لا أجد ما أتكلم فيه، ربما هي أيضًا لا تجد ما تكلم فيه. ضايقني قولها أني لم أتصور حياتي بعد أن يذهب أحمد أنيس. لماذا أتصور؟ أنا أتيت به، جعلته، يجب أن يظل تابعي، خادمي.

حلت الغربة بيننا، غربة مفاجئة، كأني ألتقيها للمرة الأولى، أو أن أحدنا لا يعرف الآخر، يهمس الصوت، يغلبه الانفعال، تتجه الأعين إلى الناحية المقابلة.

غلفت صوتي بمداهنة: لماذا تبدلت مشاعرك؟ … أظن أنك …

هزت يدها مقاطعة: الشفقة هي ما أشعر به ناحيتك، زالت الشفقة فلم يبق سوى الكراهية!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤