١٢

لا أدري متى بدأت المخيلة في استدعاء حنان، تنبهت إلى ما أعانيه حين انتفضت إجلال من بين ذراعي مستنكرة. كنت قد أدرت التسجيل بصوت حنان، تهمس، تفح، تغنج، بما يثيرني.

ضغطَتْ على زر الأباجورة، إلى جانب السرير، انتفضت مذعورة، تملصت من حضني، اتجهت بنظرة مستغرِبة إلى جهاز التسجيل، فوق الكومودينو.

– أنت مريض!

التسمية قاسية!

لو أنها اتهمتني بالجنون، فالمعنى يشمل تصرفات، أملتها لحظات المضاجعة. لم ترفض حنان وأظهرت السعادة، حين أدرت التسجيل، لحظة اتجاه كل منا إلى الآخر بمعانٍ دالة.

هي لا تعرف حنان، لا تعرف صوتها، لم أحاول مضايقتها، أردت أن أثير صمتها. يؤلمني، يغيظني، صمتها، لا صوت ولا حركة، إلا ما يرافق أدائي، لا أتعمده، مصدره العفوية، تغيب الاستجابة في ملامح وجهها، ردود فعل على أي نحو. أستدعي العبارات الساخنة، واللهاث، والتأوهات، والصرخات المكتومة.

أيقظت في نفسي ما لم أكن تنبهت إليه من قبل. فجرت ينابيع صاخبة، موارة. هي في بالي بقسمات جسدها، وتقاطيعه، وملامح وجهها. أستعيد في ذاكرتي كل ما التقطته، الإيماءات، حمرة الأظافر في تراقص أصابعها، وهي تنتر الحذاء من قدميها، إعادة خصلة الشعر المتهدلة، ضغطة الأسنان على الشفة السفلى، تسوية الرموش والحاجبين، تجفيف صدرها بالمنشفة التي أحاطتها بها، كلمتها المغناة تضيف إلى اشتعال النيران: يا شقي.

لا أتصور أني أحيا دون إجلال، أتمنى العيش مع حنان في الوقت نفسه، أحتاج إليهما، أتخيل — هذا ما أملكه — أنهما يرافقان نومي. أحتضن إجلال بساعديَّ، وأضاجع حنان بالأخيلة المحمومة، والأبخرة التي تكاد تحرقني. يتطاير الشرر من عناقنا، تشتعل النيران، تتفجر البراكين، تزأر وحوش الغابة، تتعالى الموسيقى الصاخبة.

أقسى ما أعانيه حين أعانق إجلال بذراعين متشبثتين، يداخلني شعور أن حنان هي التي أعانقها. تنبهت لصوتها وأنا أخترق زحام سوق التوفيقية، تراجعت نظراتي المتلفتة دون أن أجدها، ترامت ضحكتها الصاخبة في جلستي داخل جروبي، نظرت بتلقائية، بدت الطاولة لصق النافذة المطلة على شارع طلعت حرب خالية، والدنيا ساكنة.

وضعت إجلال العلبة الخضراء على البوفيه: قرأت أن هدايا الزوج الكثيرة معناها الخيانة.

أعدت الكلمة مستنكرًا: الخيانة؟!

لفني ارتباك، أحسست أني نسيت كل ما كنت قد أعددته من كلمات: هداياي خيانة؟!

لم تستجب لمحاولاتي باستمالتها، لم تحاول مجرد النظر ناحيتي.

الصدود هو التصرف الذي تقابل به عناقي.

قمت عنها بملامح غاضبة: أنت تمارسين الجنس كوظيفة!

أضفت لدهشتها المتسائلة: هذا ما ينطق به جمود وجهك!

ورشقتها بنظرتي الغاضبة: أنت الآن كالدواء الذي انتهت صلاحيته!

عَلاقتنا العاطفية لم تعد تمتعني، هي مجرد شريك يؤدي ما تطلبه القواعد.

همست من بين أسناني، أعيب عليها سلبية أدائها في المضاجعة، هي تتمدد تحتي، تترك لي نفسها، لا تتحرك إلا عندما أحركها، لا تتكلم، ولا تصدر صوتًا من أي نوع. شغلتني حيل — ينبغي أن تعرفها — لإيقاظ قدرتي الهامدة.

شاهدت في التليفزيون عمر الحريري وهو ينزع الجورب من ساق صباح في فيلم «الرباط المقدس». أهملت نظرة إجلال المندهشة، لما طلبت منها أن ترتدي جوربًا في ساقيها. قلت إنه يضيف إلى جمال الساقين. لم أناقش — فيما بعد — إهمالها ما طلبته. أستطيع أن أطلب، من حقها أن ترفض. ذكَّرتُها بأن الاتصال الجنسي ليس في اللقاء المباشر وحده، لكنه في اللحظات التي تسبقه، واللحظات التي تتلوه.

أزاحت ساعدي بيدها: من حنان؟

هل ذكرت — دون أن أفطن — اسم حنان؟

اقتحمني الارتباك، قلت ما لا أعرفه ولا أفهمه، أعادني استواء جلستها، ونظرتها الغاضبة، إلى نفسي: اسم موظفة في الهيئة.

نظرت إلى ما لم أتبينه جوارها: أريد أن أكون وحدي.

لم أعد أتردد على حجرة نومها، أستلقي على السرير، وفي رفقتي حنان، صورتها كما أعرفها، أخلو لها في خيالات متداخلة. أحدق في الجسد العاري، أتأمل القسمات والملامح والتعبيرات، تمتد الخيالات إلى آفاق لا نهاية لها، تتناثر في مداها حنان، مبتسمة، جالسة، نائمة، راقصة، تهمس بغُنجها المثير، يمس لسانها شفتيها بإيماءة تحريض في أوضاع أطلبها، أو تختارها، أستعيد تكوين جسدها بتقاطيعه وتفصيلاته وانبعاجاته وانحناءاته، لا أعرف أين تكمن الإثارة؟

حتى أظافر اليدين والقدمين المطلية بلون الدم تثيرني في شرود إغماض العين. يجتاحني الغُنج والفحيح، تتملكني رغبة كالجنون في المغامرة، والبحث عن المثير. أحاول كتم الأبخرة المتصاعدة في داخلي، أعاني عجزًا عن لملمة نفسي المبعثرة.

لفني شعور بأن إجلال تعجز عن تلبية رغباتي، لا تستجيب لمشاعري، لا تدرك حقيقة ما أعانيه. أغمض عيني لما أتبين أني كنت أبحث في وجه إجلال عن ملامح حنان.

تظل الرغبة في داخلي وأنا أضاجعها، يأخذني الشرود إلى حنان، أعانق جسد إجلال، تتحرك السيقان بينما فمي يعتصر شفتي حنان، يسري عناقها بالمتعة في خلايا جسدي، أشعر في احتضاني لها أنها هي التي تحتضنني.

شعرت — في لحظة لم أتوقعها — أن مضاجعتي لإجلال واجب ثقيل، تذكرت قول الرجل في مقهى الكورسال: العَلاقة الحلال تخلو من اللذة. وقال الرجل عن امرأة لا أعرفها: لها شفتان ممتلئتان تغريان بالالتهام.

من حقي أن أعوض ما فاتني، أن أشبع رغبتي، وليس مجرد أداء واجب الزوجية.

ما الذي جذبني في حنان، فلا أستطيع نسيانها؟

غاب المعنى في تأملي، واجتراري ما حدث، لكنه استقر في النشوة التي تستغرقني تمامًا. تأوُّد المشية، تكويرة الردفين، استدارة الكعبين وحمرتهما، همس الكلمات، وتباطؤها. حتى طريقة نزع الثياب والحذاء تضعني فوق صهوة الجنون، أهمل كل شيء عدا الرقصات المحمومة.

أخلو إلى نفسي، تؤنسني حنان بطريقة كلامها، وتصرفاتها، وضحكتها، وتخلل شعرها، ورائحة عطر Joy الذي حرصت عليه منذ استعملته — هدية مني — للمرة الأولى. أصحو، فأجد حنان ممددة إلى جانبي. النظرة السريعة إلى المكان تعيدني إلى نفسي، وإلى إجلال التي أحاول تبين ما إذا كانت نائمة بالفعل، أم أنها فطنت إلى المعنى.

قادتني حنان إلى المتعة بما لم أعرفه في إجلال، مخيلتي تجتذبها لحظات احتضاني إجلال، أجاوز الصمت السادر، أغرق في طيات أمواج حنان، في ليونة جسدها الطري، أشعر في عناقها بتغلغل اللذة في أعصابي وخلاياي، كأن جسدي يتحول إلى كتلة مشتعلة من النيران.

ما يصعب تفسيره قيَّد العَلاقة بين إجلال وبيني، تلك طبيعة الزواج: زوجان يضمهما بيت إلى نهاية العمر، الحرية المنطلقة عَلاقتي بحنان، لا نضع محاذير، أو نخشى التفسيرات الخاطئة. المتعة هدف نجري في اتجاهه.

داخل الضيق نبرات صوتها: هذه تصورات أنيس … تحاول تنفيذها دون وعي.

أضافت في ضيقها: هو لا يقل شرًّا عن ياجو.

رنوت إليها بنظرة متوسلة، كأني أطلب عونها: ألا تلاحظين أني أعيش ظروفًا قاسية؟!

– أنت عاجز عن اتخاذ القرارات.

بقيت صامتًا، خشيت لو تكلمت أن أخطئ.

ضايقني قولها أني لم أكن أعرف ما يدور في الهيئة، سيطر أحمد أنيس على كل شيء، دان له العاملون بالرئاسة الفعلية، وهو الذي يأمر، ويوجه، ويزكي الترقيات والعلاوات، بينما جلستي داخل المكتب لا تتيح لي التعرف إلى ما بخارجه. قالت: كان يخفي عنك ما يحدث، وقالت: أوهمك بولائه وهو يضمر الشر، وقالت: صارحك بنفوري منه فاعتبرت مشاعري غيرة … هل أغار عليك من رجل؟!

وهي تهش ذبابة عن وجهها: المشكلات لا تنتهي وتكتفي بالحيرة!

وزمَّت شفتيها المرتجفتين، كأنها تغالب البكاء: أليس غريبًا أن تحاول إطفاء النيران التي أشعلتها بنفسك؟

حدَست أن مزاجها قد تبدَّل.

قالت كلامًا كثيرًا، صفات واتهامات، لم أتصور أنها تواجهني بها: إني أعتمد على الآخرين، ولا أنجح بمجهودي الخاص، وإني ضعيف، ولا أستحق الشفقة.

أدركت أن الكلام معها لم يعد مجديًا. لا أطيق من ينسب لي أخطاء، أو يراجعني في تصرفاتي.

هل تورطت في المؤامرة ضدي؟ هل سكتت عن الخطوات الشريرة، حتى طالعتني النهاية القاسية؟

أردفَتْ في لهجة آمرة: دعني أتخذ القرارات بما يفيد حازم!

وتهيأَتْ للنهوض: سأحميه وأحمي نفسي، وهذا البيت!

وقعت على مئات الفواتير بفساتين وأحذية وقوارير عطر وأحمر شفاه وطلاء أظافر ومقصات ومبارد وأقلام حواجب وأمشاط.

هل تخشى نفاد مصاريف إزالة التجاعيد بالبوتوكس، وأقنعة تجميل الوجه، والتدليك، والمساج، والكريمات المستوردة، وحقن الكولاجين، وتمارين رفع الفخذ، والانتشاء بالأيروبكس؟

وأنا ألعق جانبي فمي: لاحظت تبدلك منذ تركت العمل!

لم أناقش الأمر حين اختارت البقاء في البيت، بدلًا من العمل في مركز البحوث الجنائية والاجتماعية: لدينا من النقود ما يكفي … وزيادة.

ووضعت وجهها في راحتيها: أفضل أن أفرغ نفسي للبيت.

اكتفيت بالقول مداعبًا: لديك حالة تستحق العناية.

تريد أن تظل على حالها في التردد على الكوافير ودكاكين الأحذية والعطور والأزياء والمجوهرات.

رمقتها بنظرة لائمة: تخشين زوال الحياة المرفهة.

– بل أخشى زوال عقلي!

وومضت عيناها بقسوة لم أعهدها: تزوجتك وأنت لا تملك دفع إيجار شقة!

قلت إن علينا أن نتخلى عن الإيماءات والتلميحات، نعبر عما نريد التعبير عنه بالفعل، لا نخفي، ولا نهمس، ولا نتوقع.

أطلت من عينيها نظرة باردة: على أحدنا أن يترك البيت.

كيف أتخلص من هذه العَلاقة التي تذلني؟

الانفعال الذي قلص ملامحها، وشى بصدق التهديد. أحمد أنيس سجل كل شيء باسمي، ليس من حقها أن تأخذ كرسيًّا من الصالة. لم يكن ذلك لأنه خادمي — ثبت لي خطأ التصور — وإنما لأنها كانت ترمقه بعيني الاحتقار.

جاهدت لإظهار تماسكي: ربما وافقت على ترك البيت، لكنني لا أعد بمواصلة الإنفاق!

– لا أريد شيئًا!

– أنت لا تعملين … وأعرف أنك لا تملكين ما تنفقين منه.

– سأعود إلى العمل.

– في الثالثة والأربعين؟!

– هذا شأني.

تحرص أن تبدو بمظهر الواثقة من نفسها.

– هل ستفتحين مكتبًا للاستشارات؟

– المهم أن أعمل، ولو موظفة صغيرة.

وعلا صوتها فبدا كالصراخ: لم أعد أتحمل، أريد الطلاق!

– الطلاق؟!

حدقت في عينيها، أستشف ما إذا كانت صادقة: ألم تفكري في تأثير ذلك على حازم؟

إذا وافقت على الطلاق، فأنا أعطي الفرصة لأحمد أنيس كي يدمرني تمامًا، يصبح مستقبلي كله ورائي.

– أعرف أنك تأثرت نتيجة تغير ظروفنا.

ولانت لهجتي: لا بأس من الانتظار حتى تعودي إلى نفسك!

قتلتني نظرتها الساخرة، الشامتة: المشكلة فيك أنت!

قلت في تذلل: انصحيني!

– فات أوان النصح!

ورمقتني بنظرة ساخطة: أنت في آخر الطريق التي اخترتها!

دنوت بوجهي، أبحث عن شفتيها، لكنها أبعدت ذقني بأطراف أصابعها، وأدارت وجهها إلى الناحية المقابلة.

– أنت تنسين ما يربطنا.

وهي تومئ إلى حازم: تقصد الولد؟

وشاب صوتها حدة: إن كان هو ما يربطنا … خذه!

تنبهت للمعنى: إذا تركت البيت فسيسبقني الولد.

حدقت — بلا تعمد — في انفعالات وجهها، لاحظت خلوه من المساحيق، أو أنها اهتمت بما أخذه العمر.

– إذا تركت البيت فأنت تفقدين كل حقوقك، حتى رعاية حازم ليست من حقك!

أردفتُ في نبرة احتجاجية: تتكلمين عن شاب لا عن طفل، حازم في السابعة عشرة، إنه يعرف مصلحته.

– مصلحته في الابتعاد عن هذا البيت … هذا الجنون.

– دعيه يقرر!

حركت يديها كمن تستجلب الهواء: لا أستطيع أن أتنفس الهواء الذي تتنفسه.

علا صوتها فبدا كالصراخ: لا أطيق!

لم يداخلني قلق حقيقي. كنت أعرف — لثقتي في طبيعتها — أنها ستتراجع، لن تسير في الطريق إلى نهايتها.

وأنا أحاول لملمة نفسي المبعثرة: أنا لا أريد الحرام!

في صوت ينضح بالعداء: هل تقنعني بأنك لم تعرفه على يد أستاذك؟!

– من؟

– لك أساتذة غير أحمد أنيس؟

– تصفين موظفًا عندي بأنه أستاذي؟!

– هو الآن رئيس المؤسسة.

– لا يملك الكفاءة ولا الندية ما يعطيه هذه الصفة.

حدجتني بنظرتها الساخطة: تصر على العيش في الوهم!

رددت الكلمتين بيني وبين نفسي، لكنني ظللت صامتًا، أعاني الحيرة والارتباك، أخشى نتائج لا أعرفها لو أن شفتي انفرجتا عما أكتمه، تبدو النتائج مجهولة، قد أواجه مالا أستطيع تحمله.

زاد نزولي إلى الطريق، لا أقصد مكانًا محددًا، ربما تأملت فاترينات المحال، أو تمشيت على كورنيش النيل. قد أستقل الباص إلى منطقة بعيدة، أظل — عند نهاية الخط — في مكاني، حتى يبدأ الباص رحلة العودة.

كيف أقنعها بأني أترك البيت لعَلاقات نسائية، ترضيني بما ترفض هي تقديمه لي؟

عندما تفصل أي جهاز عن تياره الكهربي، فإنه يصبح هامدًا. هكذا الجسد، إذا لم يتحقق الإيلاج في مصدر المتعة فإنه يتحول إلى الهمود.

أعرف أني لا أستطيع أن أغازل النساء. لم أفطن إلى المعنى حينما كان أحمد أنيس يتولى الأمر، يعبُر ما لا يشغلني من مسافات، أكتفي بالوقوف في خط النهاية، أصحب من يأتي بها، وأمضي.

شعرت أن في صدري حملًا من الكلمات ينبغي أن أتخلص منه.

كيف؟ ولمن؟

إذا كانت تتصور أنها ستحرمني من متعة أتوق لها، فإنه لم يعد يهمني حتى مجرد النظر إليها، أتنقل في الشقة كأني بمفردي، أنزل الطريق دون أن ألتفت ورائي. أمضي من شارع إلى آخر، لا أختار، ولا أعرف الشوارع التي خلَّفتها، أو التي أتجه إليها.

ضبطت نفسي أسرع في خطواتي، فلا تبعد المرأة التي اجتذبتني ساقاها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤