١٣

ترددت على البنك قبل أن أمضي إلى موعد في جروبي. ذكرتني الوقفة أمام الشباك بإنهاء أحمد أنيس لكل ما أطلبه من الإيداع أو السحب. أغناني كارت الائتمان عن حمل النقود، لكنني لم أستعمله. كان أحمد أنيس يحصل على شيكات بما ينفق.

الساعات تنقضي في شوارع القاهرة، دون أن تتحرك السيارات من أمكنتها، الملل يقتلني في جلستي.

هدأت حركة السير عند نهاية شارع الأزهر.

انطلقت بالسيارة في طريق صلاح سالم.

في طابور السيارات المتجهة إلى الناحية المقابلة، في المحاذاة تمامًا، صرخت السيدة من صدمة السيارة، فتحت السيدة فمها وعينيها، حدست أنها تموت. عاد جاب الله السائق إلى الوراء، ثم جانَب موضعها، وزاد في سرعته.

استعدت نظرتي، وواصلت السير.

حذرني أحمد أنيس من العودة إلى موضع سقوط الحمار في الطريق الزراعي، قرب مدينة مشتول السوق.

قال لجاب الله: واصل طريقك!

ولكزه في كتفه: إذا عدنا للاطمئنان أو المواساة، فلن نضمن حياتنا!

عبرت تقاطعات الطريق، كأن السيارة تخترق — بإرادتها — زحام المرور. جاوزت ميدان السيدة عائشة، أطمئن في أسوار المقابر إلى المكان الذي أقصده. ملت من الشارع المفضي إلى جامع السيدة عائشة. التقاء الحدائق والأحواش والمقابر المتلاصقة في الخلاء لمحت مكانًا للسيارة في جانب الميدان الصغير. البحث عن مكان خالٍ لوقوف سيارتي يضايقني. تتلاصق السيارات في جوانب الشوارع فلا تأذن بركوب سيارة أخرى. لم أكن أُعنَى بالأمر. يقودها السائق جاب الله، أو أتركها لتصرف أحمد أنيس، يرتب حياتي منذ الاستيقاظ إلى التوجه للنوم.

ثمة لحظات تنفصل عن الزمان والمكان، لا يشغلني من حولي ولا ما حولي. تحل السكينة، وطراوة اللحظة، أنسى ما يبتعد عن المكان الذي يحتويني، المناقشات، والمشكلات والمشادات والخلافات والمخاوف والقلق، يداخلني شعور بالاتصال بيني وبين الناس من حولي، كأن العالم قد اختُصر في هذا المكان، في هذه اللحظة، في هؤلاء المحيطين بي، أعرفهم، أو أنهم غرباء.

كان الرجلان يتهامسان أمام مكتبة الشروق بميدان طلعت حرب، وينظران ناحيتي، وابتسامة غامضة تعلو شفاههما.

شعرت أن الرجل في ركن «كنتاكي» ميدان التحرير يرمقني بنظرة مقتحمة. حولت عيني بعيدًا، هؤلاء الناس يحيكون لي في الخفاء ما يجعل حياتي مستحيلة.

انتترت — فزعًا — بالصيحة التي أعقبت اصطدامي بالجسد المندفع: حي!

وشى ارتداؤه الخيش بما دفعني إلى الالتصاق بالنافذة الزجاجية. ظللت أتابعه حتى غيبه زحام الميدان.

اخترقت الشوارع إلى مقام السيدة زينب، اتجهت — دون تلفت — إلى المقصورة الهائلة، يمتزج ضوء النجفة — من فوقها — بالضوء الصادر من النافذة المطلة على الميدان.

قرأت سورًا قصيرة، وأدعية، واتتني بها الذاكرة، حاولت أن أجد ما أخاطب به صاحبة المقام، فأعوزتني الكلمات، طالت الوقفة دون أن أنطق كلمة واحدة، عانيت اختلاط الأدعية والنداءات والاحتكاكات واللكزات. نبهني رفع الأذان إلى موعد الصلاة، تخطيت الصفوف التي قدم ناسها لصلاة الظهر، اخترقت زحام المصلين والزائرين، سرت — فيما يشبه الهرولة — إلى موضع السيارة.

أريد من ينفذ الأوامر، يحفظ أسراري الشخصية وأسرار عملي. يلجم لسانه فلا ينطق بغير كلمات الطاعة، لا يسأل ما يشي بالفضول. يعرف متى يظهر في حياتي الشخصية، ومتى يختفي. أنا صاحب الكلمة، أصدر الأمر فينفذه.

لو أني احتفظت بما في نفسي. الجانب الخفي في داخل الإنسان أشبه بالخزينة المغلقة، لا يفتحها إلا هو، لا يظهر ما بها لأحد، حتى لناسه، طبيعة المرء ميله إلى البوح والفضفضة، خزينة أسراره الشخصية يجب أن تظل مغلقة. هذه الأسرار التي لا يعرفها سوانا … قد تكون سببًا لتوثق صداقتنا لأنفسنا.

تملكتني رغبة في أن أعيد تصويب ما أراه خطأً. أزمعت ألا أبوح بما في داخلي، هو رصيد أعود إليه في أوقات الوحدة، أراجع نفسي، وما أعانيه. أتظاهر بالتعالي، وإن داخلني شعور مؤلم بالوَحدة. أرفض مشاعر العجز والمهانة والخوف، ما صنعه في حياتي غدر أحمد أنيس، وتسخيف إجلال، وإذلال حنان.

تملكتني الحيرة: لا أعرف كيف أواجه المواقف؟ هل أصنع جدارًا غير مرئي من العرف الاجتماعي، باتساع المسافة بيني وبين الآخرين؟ هل أضع ملامح جادة؟ هل أرسم ابتسامة مرحبة؟ هل أتحدث في العمل، أو أجاوزها إلى العَلاقة الإنسانية؟

يلفني شعور بالوحدة، وأني أحتاج إلى من يكلمني، يؤنسني، يأخذ مني ويعطي، أبوح له بما يشغلني، ومخاوفي.

أتلفت، لا أجد حولي أحدًا ممن كانوا يستأذنون السكرتارية قبل أن أوافق على استقبالهم، يعيدون ذكر الأسماء والأرقام في «الأنسر»، حتى أرفع سماعة التليفون: آلو.

أغالب الشعور بأني أفتقد أحمد أنيس، هو الشخص الذي أطمئن إليه في هذا العالم، أبثه ما بداخلي، وأطلب ما أريده. ينصح، ويوجه، ويشير بما أفعله، أو يفعله هو بدلًا مني.

غاب أحمد أنيس عن حياتي. تلاشت القوة والسلطة والملاحظات والتنبيهات والأوامر والتعليمات والتوجيهات وإصدار القرارات والتوقيع على الأوراق، كأني ضالٌّ في خلاء لا ينتهي.

لم أعد أذهب إلى النوم في موعد محدد. أتمدد على السرير. أقرأ حتى يسقط الكتاب من يديَّ، وأروح في النوم. قرأت لكاتب أمريكي — لا أذكر اسمه — عن استغلال الوقت الضائع — هكذا سماه — في القراءة التي تقدم الفائدة والتسلية. أجول في الشوارع بصورة لم أعهدها في نفسي، أسير كما لم أسر من قبل. مدفوعًا بالحاجة إلى المشي.

لو أن حياتي عادت إلى ما كانت عليه، قبل أن يدخلها أحمد أنيس، هل كانت أحوالي ستتغير عما هي عليه الآن؟ هل أندم على ما فات، أو أعيد ترتيب المواقف؟

تصاعد الإحساس في داخلي. متى؟ كيف؟ أنه لم يعد بإمكاني العيش بدون أحمد أنيس، هو يعلم أكثر مما أعلم، يعرف كل شيء، وأنا لا أعرف إلا ما أذن لي أن أعرفه، كأن صوته يأمرني أن أفعل ما يريد، ما يحلو له، وأن التلبية هي ما أملكه، أنفذه دون أسئلة ولا اعتراض. لا أتصور أنه يمكن لي أن أفكر وأتكلم وأسأل وأتخذ القرارات، دون أن ألجأ إلى أحمد أنيس، يكون جانبي، ينبهني للمزالق والأخطار. يتولى القيام بكل ما قد أعجز عن أدائه. ربما فعل ما ينبغي أن أفعله.

أكثرت من التلفت، بحثًا عن الشخص الذي يحل محل أحمد أنيس. غابت الوظيفة، لكن حياتي لم تغب، هي قائمة ومستمرة. إذا وجدت من يعينني، فإن الأمل يظل في الأفق، أعمل بما يروقني، بما أتوقع أن أحقق فيه شيئًا. تغيظني الحياة على الهامش. لن أظل قعيد البيت، أقرأ الصحف، أشاهد التليفزيون، أطل من الشرفة. هذا الملل، ألجأ إلى من تفيدني نصائحه وملاحظاته، يؤدي ما لا أريد أن أؤديه، أهبه ثقة مطلقة، وإن أزمعت ألا أكرر الخطأ فأترك له نفسي، يعرف عن أحوالي ما لا ينبغي أن يعرفه، لا يمثل تهديدًا، ولا يتطلع إلى ما يصعب الحصول عليه. تصبح لي أسراري التي لا أبوح بها لأحد، أخفيها حتى عن نفسي.

تمنيت لو أن كل شيء، كل شيء، عاد إلى ما كان عليه في الماضي.

لم أعد قادرًا على استعادة ما مضى، ولا قادرًا على تبين حياة جديدة ينبغي أن أعيشها. تأخر كل شيء، لم يعد إصلاح الأمور ممكنًا. حتى إجلال لا أصدق حكاياتها، لا أتوقع من أحد شيئًا، إجلال جدار كنت أستند إليه، لم يعد موجودًا. أينا المخطئ، تلك ليست القضية، القضية غياب إجلال عن البيت، عن حياتي.

أتوقع شيئًا لا أعرف ملامحه، ولا أخمنها، يظهر في لحظة ما غير متوقعة، لكنني أثق في ذلك التوقع.

يؤلمني الشعور بالوحدة، لا أحد يحتاج لي، أحمد أنيس صديقي الوحيد. لما ابتعد، صرت بلا أصدقاء.

أشعر أني كائن بائس، وحيد.

أحمد أنيس: إني أفتقدك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤