٢

– من تولى المنصب؟

قال ماجد الحسيني: أحمد أنيس.

همست في صوت كالحشرجة: أحمد أنيس؟

استعدت القامة الصغيرة، المدكوكة، والبشرة الدهنية دائمة التفصد، والجبهة الواسعة، والوجنتين البارزتين، والأنف الذي تعلوه الحمرة لمسحه المتكرر بجانب يده، والأسنان التي اختلط فيها السواد بالصفرة.

أعادت إجلال الاسم: أحمد أنيس؟ … هذا رجل لكل العصور، خادم لك، خادم لمن سبقك.

لم أواجه إجلال بالسؤال: لماذا ترفضه؟

تبينت — متأخرًا — أني اخترت الشخص غير المناسب، في المكان غير المناسب، لا شأن لأحمد أنيس بالوظيفة، من حيث التخطيط والتنفيذ والإنتاج، لكنه يجيد التآمر والإيقاع بالآخرين.

لم أكن أعرف أحمد أنيس إذن، إنه شخص آخر يختلف عن الشخص الذي رشحته لاختياري خصال تصورتها فيه.

أدركت أن الوقت الذي يضيع لا يمكن أن أسترده، أو أعوضه، السؤال الذي شغلني هو: كيف أجاوز ذلك؟ كيف أحتفظ بالوقت، لا أضيعه؟

أشعر بالاستياء، السخط، الغضب، على من يعبُر حياته، لا يعيشها بصورة حقيقية، يبدو ما مضى بلا أهمية، كأنه لم يوجد أصلًا.

إذا لم أحسن استغلال الوقت، فستكون الحياة قصيرة، هي تطول إن أضفنا إليها وقت الآخرين، نأخذ من حياتهم، نضيف إلى حياتنا.

اختياري لأحمد أنيس هو الوسيلة التي تصورتها، بدا لي عفيًّا، مستعدًّا، يمتلك الفائض من الوقت.

أنقذني أحمد أنيس مما لاحظته أنا في نفسي، صعوبة التحدث في الجماعة، تأخر حضور البديهة بما يرد الملاحظة في أوانها. ربما بداية ما أعانيه في أيام السعيدية الثانوية، والجامعة، والغربة وسط الآخرين، وندرة الأصدقاء، والاكتفاء بالنظر إلى البحر دون التمشي على الكورنيش.

أهم ما حثَّني على الاطمئنان إلى أحمد أنيس، التزامه الصمت، وصيانة الأسرار. لم أكن أتحدث عما رأيته أو سمعته، حتى بالنسبة للأصدقاء وزملاء العمل. الأخطاء الإنسانية واردة، وعلينا أن نهب الفرصة للتجاوز، البالوعة ذات الرائحة الكريهة ينبغي سد فوهتها.

انتهرته — مرة — لدوام صمته: ألا يوجد حولنا ما يستحق أن تكلمني عنه؟

قال أحمد أنيس: نحن في حاجة إلى حب الناس لا إلى كراهيتهم.

قالت إجلال: أنت الذي أعطيته الفرصة …

ألقيت الجريدة التي كنت أقرؤها، على الطاولة الصغيرة، واتجهت إليها بتساؤل غاضب: أنا؟!

– ما فعلته أنك اكتفيت بالرئاسة، بالواجهة والوجاهة.

دخلني شعور بالحاجة لأن أبل ريقي: أميل الناس للشر يجيدون إخفاء طبعهم!

داخل صوتها تهدج: لكنك اكتفيت بالصمت العاجز وهو يدير الهيئة كما يشاء.

والتمعت عيناها بالغضب: أتحت له أن يستولي على حياتك، ويتصرف كأنه أنت. أنت الآن غير موجود، أو أنك موجود في أحمد أنيس!

شعرت بالكرسي كأنه يهتز من تحتي: أحمد أنيس منديل ورقي، أتخلص منه في الزبالة!

بدت كالصور التي امتصها الزمن، كالأصداء البعيدة، وقفتي في انتظار المصعد، أمام شباك السينما، ومكاتب شركات الطيران، وداخل البنك، وترقب موعد كشف الطبيب، وانتظار إشارة المرور.

مددت يدي — بتلقائية — إلى كوب ماء أمامي، جرعته في دفعة واحدة: هل أترك ما بنيته لملاحظة أبديتها؟

وغالبت ارتعاشة في صوتي: تكلم إيهاب شندي عن الملاحظة … لكنه لم يحددها.

تراجعت إجلال بصدرها لصوت ارتطام قبضتي بالطاولة: حتى النشال يعرف تهمته … تهمتي لا أعرفها!

مدت أصابعها، تزيح إلى الخلف خصلة شعر تهدلت على جبهتها: وشاية.

أكلني القلق: ماذا قلت؟

– انس الأمر!

هل تعرف ما تخفيه؟

حين أعاد الرجل التسجيل أمامي، واستمع إلى صوتي، والكلمات التي قلتها، أدركت أن الغلطة تجاوزت كل الأرقام، وأن أحمد أنيس أحسن تدبير فعلته. لم يعد أمامي إلا التسليم بأني تكلمت، وإن كنت لا أذكر لماذا، ولا الظروف التي أوقعتني في الخطأ. أبعدني عن كل شيء، حتى ما ينبغي أن أعرفه لأتدبر خطواتي التالية.

وأنا أتأمل الفراغ: هو محمد أبو الذهب الذي انتظر حتى حقق علي بك الكبير انتصاره، فقتله، وحل مكانه.

ونفضت رأسي: لكنني لست علي بك الكبير.

وأشرت إلى صدري: أنا رضا شهبون.

حين تركت لأحمد أنيس أن يأخذ أوراقي الخاصة من أوراق مكتبي، لم أتصور أنه سيحتفظ بما يرى أنه يبتزني به، لا يريد أن يكون مساعدًا لي، تابعًا لي. كانت عيناه على الكرسي الذي أجلس عليه. عرَف كيف يسدد الطعنة. أجاد اختيار موضع الطعنة فأحدثت تأثيرها القاتل.

هل كانت ثقتي العمياء في أحمد أنيس دافعًا لتآمره ضدي؟

عرَفت أن مؤامراته ومكائده وشائعاته تخلت عن إلحاق الضرر بالآخرين. حاول أن يلحق الضرر بي شخصيًّا. أعرف إجادته صناعة المكائد، وحبك المؤامرات، وإزاحة من يتصورهم خصومًا، التآمر وسيلته في كل ما يريد بلوغه، الشائعات والحيل والدسائس والمكائد والأكاذيب والشكوك، حتى الأشياء البسيطة والتافهة، يلجأ إلى التآمر لحيازتها، حتى أوامري بفرم التقارير، أهملها، يسر لهم الحصول عليها.

كان ينبغي أن أَحدُس ما يُعِد له نفسه في تعلمه الأبراج، وعلوم الفلك، وقراءة الطالع، وفهمه لقوانين الألعاب الرياضية، وحفظه لفرق الوقت في مدن العالم، وللنكات الحديثة، وتردده على معارض الفنون التشكيلية، واقتنائه أهم أسطوانات الموسيقى العالمية والشعبية، وإجادته تلخيص الروايات والمسرحيات والأفلام بما لا يخل بالمعنى.

فطنت إلى استهواء السلطة له، طمعه في المنصب الرفيع. لم أقدِّر أن منصبي، الكرسي الذي أجلس عليه، هو ما كان يتطلع إليه أحمد أنيس، مستقبله الوظيفي معقود على إبعادي عن الهيئة، أو إحالتي إلى المعاش.

كان على استعداد لتخطي كل الحواجز التي قد تعوقه عن تحقيق أحلامه. حتى الإهانة انعكاس لإعزاز تَغلَّف بكلمات قاسية. قد يهمل ما يوجَّه إليه من إهانات ما دام ذلك سرًّا، يخرج من المكان المغلق وعلى شفتيه ابتسامة مطمئنة، يتحدث — بلهجة تبريرية — عن فنجان القهوة الذي شرباه في جلسة هادئة، يثق أن الذي لا قيمة له، ربما يصبح — في زمن يحفل بالمفاجآت — شيئًا مهمًّا، من الصواب أن نحاول خطب وده. رفْض صداقة من نستصغر شأنه خطأٌ يصعب معالجته بعد أن يصبح الشخص ذا شأن. هذا زمنٌ الاستثناء فيه هو القاعدة، وغير المتصور هو الحقيقة.

لو أني كنت مكانه، هل كنت أفعل غير ما فعل؟

لم أكن أتخذ قرارًا إلا بمشورته، حتى قوائم الترقيات والمرتَّبات والعلاوات والحوافز والبدلات والانتقالات والمكافآت والخصومات والعمل الإضافي والجزاءات الإدارية والإحالة إلى التحقيق.

اطمأن أحمد أنيس إلى دوره كذراع يضرب بها رضا شهبون، يتوعد، يرشد، يفعل ما لا يقوى عليه أحد. أعرف أن دفتر التليفونات الصغير في جيب جاكتته العلوي، يضم أرقامًا سرية، وخاصة، لشخصيات تفتح له الأبواب المغلقة. صار لديه أصدقاء نافذون.

هو يفعل — باسمي — ما يريد، يلعب دور الوسيط والسمسار، يعقد الصفقات، يفرض العمولات، يسرق، يزوِّر، يبتز، ينهب، يُرسي العطاءات على سماسرة يعرفهم. من لا يعرف ينسب ذلك كله إليه، يحمِّل الأسعار بحسابات أعباء، ومصاريف غير منظورة. ثمة كشوف أملاها التزوير، مكافآت حضور، سفريات، بدلات سفر، بدلات انتقال.

لا شأن لي.

ذلك ما فعله أحمد أنيس.

أشرد في تقاطع الكلمات وتشابكها: هذه برامج التليفزيون عن مشوار حياتك … عندي قوائم لكل المناسبات السعيدة للأصدقاء … وقتك أثمن من أن تبدده في هذه التفاصيل الصغيرة … نحن أولى بالوقت.

اقتصرت استعانتي به — لفترة طويلة — على الهيئة، والجهات التي تتعامل معها، هو سكرتير وسائق ومدير للعَلاقات العامة، وهو — بعد أن سكتت إجلال عن تردده على البيت — طباخ وخادم وساعٍ، وكنت أجلس إليه في الشرفة المطلة على نادي الشمس قبل أن أنزل إلى العمل. يعرض — في عبارات موجزة — تطورات العمل.

عرَف كيف يسلك سبيله. يفعل أي شيء ليظل مهمًّا، يفعل ما تمليه نفسه، لا أقل ولا أكثر، ولا وازع لديه.

لا يهم إن كانت الوسائل غير مشروعة، المهم أن يتاح الوصول إلى الهدف. لم يكن أحد يعلم، ولا عكست ملامحه، ما يدور في نفسه.

كانت إجلال تفضل أن تبقى في حجرتها لا تغادرها. إذا جلست في الصالة، اكتفت بمتابعة المناقشات بيني وبينه دون أن تشارك برأي.

فسرت اختيارها العزلة داخل حجرتها، بالحرص على مساحة — تحددها — بينها وبين المترددين على البيت من العاملين معي. حتى جاب الله السائق كانت تشدد على شكرية الخادمة، توارب باب الشقة، تأخذ ما يحمله، وتغلق الباب، دون كلام من أي نوع.

قالت إجلال إن العالم لا ينتظر حتى نراجع أنفسنا، نتبين — في تصرفاتنا — الصواب والخطأ، وتوقعات الأيام المقبلة.

تخللت أصابعي بأصابعها، ودنت بوجهها: لنوطن أنفسنا على النظر إلى الأمام، وعلى الفعل!

رنوت إلى عينيها، ميزت — لأول مرة — لونهما البني الرائق، ينسجم مع سمرة البشرة، كنت أحب الأنف الدقيق، والشفتين الورديتين، والحاجبين الدقيقين كأنهما رُسما بقلم، تأسرني عقصة شعرها في شكل ذيل حصان، تطوحه خلف رأسها، والفستان السماوي الشفاف يضفي عليها ملائكية جميلة.

طوقتني بنظرة حانية: إذا أردت إنهاء مسألة سخيفة فلا تتحدث عنها.

وأطرقت لحظة، ثم رفعت رأسها: المجرى الذي تصدر عنه رائحة كريهة لا تتردد في إغلاقه!

وفي نبرة حاسمة: حاول أن تؤدي أعمالك بمفردك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤