٣
قالت إجلال: من حق الحبل المشدود أن يسترخي قليلًا!
داخلني الشك في كل ما يحيط بي، وكل من عمل تحت إمرتي. أحمد أنيس حلقة في سلسلة تغيب بقية حلقاتها. غلبني الهم، صرت كثير التلفت، دائم التوقع.
ضغطت على زر «الديكتافون».
قلت للسكرتيرة: لا أريد أحمد أنيس.
قالت إجلال: هو لم يتصل.
– لا أريده الآن، ولا أريده في أي وقت.
وعلا صوتي كالصراخ: لا أريده في حياتي كلها!
كان يجب أن ألحظ انفراده بالأوامر، وأن أكتفي بالوقوف على الهامش، أراقب، وأتابع، لا أفعل ما يساوي وظيفتي.
أصل المشكلة أني لم أكن أريد أن أرهق نفسي في الأشياء التافهة، يغنيني عن أدائها من أضع فيه ثقتي، أطلب فينفذ ما أطلبه، لا أسأل: كيف؟
النتيجة وحدها ما يهمني.
أعاني نفاد الوقت بما لا يتيح لي قضاء ما أريده، تبدل الحال فلا أعرف كيف أُمضي الوقت.
لم يعد عندي وقت أخشى ضياعه. تصالحت مع الوقت دون تصور مسبق، ولا إعداد. لا أضيق بالمكالمات الطويلة، وأتمناها، لا أطرح السؤال إن كانت الزيارة سبقها موعد، أستعيد ما كان من الاجتماعات.
فكرت في أن أنكر وجود الوقت، لا أعترف بتأثيره على حياتي. حاولت أن أصحو وأعمل وأنام، لا يرتبط ما أفعله بشروق الشمس ولا غروبها، ولا أيام السبت والأحد إلى نهاية الأسبوع. حتى الساعة نزعتها من يدي، فلا يشغلني ما فات ولا ما أترقبه، لكن التأثير ظل قائمًا وممتدًّا. أصر الآخرون على السنة والشهر والساعة واللحظة، أصروا على الوقت.
الرجل اليويو، حصل بقفزاته التي لا تنتهي على أرض جديدة. المساحات التي تطلَّع إليها غابت عن تصوره هو نفسه. أراد المنتهى، المطلق، حصل — بمفرده — على كل شيء، لا يهم إن كان انفراده سيقيده بالعزلة. المهم أن تتواصل القفزات.
تساهلي هو الذي دفع أحمد أنيس إلى استبدال الجري بالخطوات البطيئة. جرى، وجرى، تخطَّى الموانع والحواجز، لجأ إلى الواسطة والعَلاقات الشخصية، عرَف الطريق إلى الصفقات المخفية، والمصالح المتبادلة. ربما ذرف في انفعاله — الذي أثق بكذبه — دمعة حقيقية، ربما داخلني تأثُّر، يغيب عن ذاكرتي أن الأمر كله تمثيل، ناقشني — من قبل — في تفصيلاته.
لم يعد أحمد أنيس الذي أعرفه.
ثمة ناس، بشر، دورهم خدمة الآخرين، تلبية ما يطلبون تنفيذه. هذا هو اقتناعهم، يعبرون عنه بكل الوسائل. من يجري وراء سيارة المسئول ليفتح له الباب، السكرتير الذي يجد أهمية في تدبير مواعيد اللقاءات. إنه يتصور جدارًا لطموحه، يحرص أن يكون آخر ما يصل إليه، يجد سعادته في إتاحة الفرصة للآخرين، لواحد آخر بالتحديد، كي يقفز من فوق الجدار، يمتد شعوره بالسعادة في الفرصة التي يتيحها له ذلك الواحد الآخر.
لم يكن اختياري لأحمد أنيس عن قصد، هو الذي أجاد تقديم نفسه. كان أسرع موظفي المكتب الستة في تلبية نداءاتي: أفندم! يضم كعبي حذائه إلى بعضهما، يكتب تقاريره على اللاب توب بما يعين على القراءة، يتابع اتجاه نظراتي، فيأتي بما تستقر عليه عيناي.
كانت تصرفاته انعكاسًا لتعبيرات ملامحي، وكلماتي، وتصرفاتي. أرحب بالزائر، أبذل له الود — هذا ما يحرص عليه أحمد أنيس — أعتذر عن عدم اللقاء، يحرص أحمد أنيس — في الزيارات التالية — على جفاء التعامل.
كان يرافقني إلى أي مكان أذهب إليه، لعلي أنا الذي كنت أرافقه، ليس سكرتيرًا ولا حارسًا، ولا حتى صديقًا، لكنه ظلي الذي لا يفارقني.
تعددت أسفاري إلى خارج مصر، نسيت الوقفة أمام مكاتب شركات الطيران وكاونتر الجوازات، أنا أعبر قاعة كبار الزوار إلى خارج المطار. أحمد أنيس يسهل كل شيء، هو يتصرف وإن كنت لا أعرف كيف، تظل حقائبي مغلقة، لا تمتد إليها يد بالتقليب أو التفتيش، أفطن إلى دور أحمد أنيس في الرحلة منذ بداياتها.
إذا بدا السؤال مفاجئًا، لا تواتيني إجابته، فإني أتجه بنظري إلى أحمد أنيس في وقفته بالقرب مني. أطلب عونه، يتدخل بالكلام، أو بالتصرف، دون أن يقتحمني بما يحرجني.
يتفحص عنايتي بالقميص المكوي، ومن الياقة حد السيف — هذا هو تعبيره — والذقن الحليق، والحذاء اللامع.
لم أعد أعرف القرار الذي يجدر بي أن أتخذه، ولا ما يجب عليه هو كذلك. اختلطت الرؤى، وتشابكت، فلا أعرف إلا أنه ينبغي أن أسلم نفسي للهدوء، وما يشبه الاستسلام. أكتفي بالمتابعة الصامتة، الساكنة، لا أفكر، ولا أتكلم، ولا أُقدِم على أي فعل. حتى التصور لم يعد يطرأ ببالي.
يسر لي كل شيء، بدت الحياة جميلة وسهلة وبسيطة، أعيش اللحظة بلا قبل ولا بعد، أحمد أنيس ينهي الإجراءات من ألفها إلى يائها، أخطو في الأرض الممهدة دون تلفت. أنادي، أضغط على الجرس، أجلس في مقعد السيارة الخلفي، أخترق الزحام دون مضايقة، أهمل التفكير فيما أترك لأحمد أنيس أن يُعنى به.
أحمد أنيس وحده هو الذي يفعل كل شيء.
طلبت من أحمد أنيس أن يضع الرجل تحت مراقبته، يكتب تقارير عن سلوكه وتصرفاته.
لما بدا الرجل صعب الاختراق، قال أحمد أنيس في تهوين: دع لي مسئولية التعرف لثمنه.
– ثمنه؟!
– لكل إنسان نقطة ضعف يمكن النفاذ إليه منها، ندفع الثمن الذي يريده.
وعدل ياقة قميصه: ما نفعله لا يعرف الصداقة ولا العواطف، يأخذ عملاؤنا المقابل الذي يقنعهم، فنقدم لهم ما يريدون.
قلت محذرًا: أنت تخطط لكل شيء، لكن النتائج قد تأتي عكسية.
قال بنبرة ملونة: نحن لا نحتاج لشيء، حدنا القانون مهما زادت المغريات.
لكزته بطرَف القلم: أنت شيطان!
وقعت — بإرادتي — في الشرَك الذي أجاد أحمد أنيس نصبه لي، لا يترك المكتب في وجودي، وفي غيابي. يرد على التليفون، يتلقى المكالمات، يدون الأسماء التي أطلبها، أو تطلبني، يُعِد الملفات وبريد الوارد، يتسلم البريد الصادر، ينسق مواعيد الاجتماعات. يرتب مواعيدي، يذكرني بها، يعد لي المذكرات والمستندات، يتابع في الإدارة القانونية ما تُعِده من المذكرات والمحاضر ومشروعات القوانين، يشرف بنفسه على اللقاءات الصحفية والتسجيل للتليفزيون، وترؤس اجتماعات اللجان. يزيل عني حرج تقديم نفسي، تتلاحق الكلمات من فمه، مختلطة بتقديم الاسم والصفة والقيمة والمكانة، وما يداخلني من أحاسيس بالمفاجأة والاعتزاز والسعادة. يحجز في المطاعم والكازينوهات وعروض الأزياء والسكك الحديد وشركات الطيران. يقف في طوابير المسارح ودور السينما وحفلات الأوبرا. ترددت على أماكن كنت أتأكد من أسمائها قبل أن أرافقه إليها: أندية وفنادق وكازينوهات ومطاعم ومسارح ودور سينما. صحبته — هو تابعي — إلى الأندية والمطاعم ودور السينما والمسارح وفنادق النجوم الخمسة والعوامات والكازينوهات على النيل.
سرعة التصرف هي ما يشترطه أداء عمله.
لم أكن أجد الوقت حتى لقراءة رسائلي الشخصية. أضعها داخل الوراقة، أنساها حتى يذكرني بما فيها أحمد أنيس، يفتحها، ويتصفح ما فيها، يرد على التليفون، يسجل الأسماء، يعتذر بانشغالي لمن يعرف ضيقي باتصالاتهم، ينوب عني في حضور مراسم العزاء، والمناسبات الاجتماعية، وافتتاح مواقع العمل. أترك له مهمة التفكير فيما يرهق ذهني.
أعرف أنه يجيد التغلب على كل العقبات التي ربما تواجهه.
يضايقني الوقت البليد، الخامل، الذي يخلو من معنًى، يمضي فلا أتذكره، أضيفه إلى أوقات النوم، وإن تذكرت شذرات من الأحلام: الفرجة على برامج التليفزيون، الانتظار على محطة الباص، الوقوف أمام شباك القطار ودار السينما والمسرح، الجلوس الصامت لانقطاع التيار الكهربائي، إلحاح الزيارات الشخصية.
الوقت الضائع يتخلل ما بين النوم والصحو وتناول الطعام والقراءة والتأمل. ربما يمتد الوقت رائقًا، لكنه يخلو من إمكانية الفعل. ألاحظ الزائر يكثر من النظر إلى ساعة يده، أحدُس حرصه على الوقت، هو يصل بين زيارتي ومواعيد يتهيأ لها.
لا أستطيع أن أعوض ما فات من الوقت، أو أسترده، كل وقت له ظروفه. لم أكن أريد الوقت لذاته، أمتلك وقتًا لا أعرف كيف أنفقه، أريد الوقت الذي يتيح لي الإدارة على النحو الذي يرضيني، أطمئن إلى المعنى، لكي نفيد من الوقت فقد عرَفنا السنة والشهر والأسبوع واليوم والساعة والدقيقة والثانية، كلها تعني الوقت. لو أني استعدت كل تلك الأوقات الشريرة، فسأعاني قلة الوقت المتاح لي كي أتم ما أريده. يغيظني من يكتفي بفتح الأبواب وإغلاقها، تنفيذ الأوامر، أداء الخدمات، قيادة السيارة، تسجيل الأسماء، هو يعبُر حياته، لا يعيشها.
أهملت قول خميس توكُّل المحامي: كن على حذر مما يدبَّر ضدك.
استغرقني عالم أحمد أنيس تمامًا. أعددت نفسي — عند بلوغ سن المعاش — لوظيفة مستشار، لا مدة لنهايتها، وإن شحُبت سلطاتي بالقياس إلى ما أمتلكه من سلطة الرئيس.
رنوت ناحية الباب الموارَب، أتأكد إن كان أحد قد رأى ما فعلت.
قلت: أنت تأخذ قراري؟
ارتعشت أهدابه: أنا أحدُس رأيك.
غالبتُ نفسي فلا يَبين ما أعانيه: ماذا أفعل أنا إذن؟
– أنت تخطط وتشرف، وأنا أنفذ.
حدجته بنظرة تفتش عن معنًى غائب: هذا لم يعد يحدث.
خمنت السؤال الذي كتمه في نفسه: لماذا اخترته دونًا عن بقية الموظفين؟
من حقي أن يعاد النظر في موقفي، ما أثير ضدي من اتهامات لا أعرفها. تحدثوا عن اتهامات دون أن يحددوا تلك الاتهامات.
أعرف أنه لا يوجد في مِلفي — حتى من قبل أن أصبح رئيسًا للهيئة — شائبة من أي نوع، المثالية هي الصفة التي تنطبق على مراحلي الوظيفية.
تعددت واردات الهيئة، آلات النسيج والطباعة وخشب الزان والساج والأرو وخشب البناء والأسمنت وصفائح الأسقف والأدوية والورق والدخان.
وقَّعتُ على ما تبينت أنه كان توريطًا في قرارات مشبوهة، لو أنها مضت في مسارها لكان السجن بديلًا للأمر بتقديم استقالتي، ربما خشي أحمد أنيس أن يلامسه الخطأ، فاكتفى بما أبعدني من الشركة.
لم يعد لأحمد أنيس في حياتي ما كان من قيمة سابقة.
الكره لأحمد أنيس يملؤني، يسيطر على مشاعري تمامًا، لكنني لا أتصور حياتي بدونه، لا أتصور أني أتصرف في غيبة من نصائحه وتوجيهاته.
أخشى الفشل.