٤
هذه هي المرة الأولى التي أترك فيها البيت منذ فترة طويلة. أشعر أن المدة قد استغرقت أشهرًا، أو سنوات، تَحدد فيها عالمي بين جدران البيت.
أن أظل حبيس الجدران الصماء مسألة قاسية، لا أتصور، ولا أقوى عليها، ركبني ملل شديد، لا أعرف ماذا أصنع بوقتي.
قالت إجلال: لم تذهب منذ فترة إلى الطبيب.
حدقت في ملامحها، أفتش عما تخفيه: أنا لا أشكو شيئًا.
في لهجة مهوِّنة: الأصحاء يترددون على الأطباء للاطمئنان على صحتهم!
اعتذر الطبيب بمشغولياته عن عيادتي في البيت. رافقتني إجلال، أصغيت إلى النصائح جيدًا: أمشي ساعة كل يوم، أحرص على ضبط السكر، أتذكر موعد تناول حبة دواء الضغط، أتناول — من قبيل الاحتياط — نصف حبة زنتاك، أقصِّر جلستي أمام التليفزيون.
لم يعد من المقبول أن أبتعد عن الناس، يدفعني الخوف — أو ما لا أدري — إلى الاختفاء.
أجدني إنسانًا جديدًا لم أكن أعرفه، أقرب إلى الطفل الذي يخشى تعثر خطواته.
تذكرت نكتة قديمة رواها لي أحمد أنيس عن زعيم سياسي رحل. قيل إنه كان — في نهايات أيامه — ينادي على جرسون الكازينو: هات واحد يقعد جنبي!
الوحدة قاتلة!
التغير ليس حولي فقط، ليس في غياب سيارة الحراسة، والحراس الشخصيين، والمعاونين الذين يلازمون خطواتي، التغير في داخلي أيضًا، في إحساسي بالوحدة.
هؤلاء الذين انتُزعوا من الأضواء والزحام والإعلام والحاشية والسكرتارية والحراس، يصعب عليهم أن يواجهوا العزلة!
ربما كان أحمد أنيس محقًّا في قوله إنه هو صاحب المولد، وأني كنت وليًّا مقطوعًا نذرُه! لا تشغلني الصورة الحقيقية لما كنت أحياه، ما يشغلني هو الحياة نفسها، الأسئلة والزحام والنداءات والهتافات والأضواء والمناقشات والصخب.
أحتاج من يجالسني، من ينصت إلى آرائي وملاحظاتي، يروي لي كل ما يجتذبني، ويثير انتباهي.
معظم وقتي في البيت. لم يعد التليفون يرد على المكالمات: نشكركم على الاتصال، سنتصل بكم في أقرب فرصة. التليفون جانبي، أرفع السماعة في أوقات تعالي الرنين المتباعدة.
أشاهد فيلم التليفزيون إلى نهايته، أشرد، أتنقل بين جزر واضحة المعالم وشاحبة، لكنني أظل في مكاني حتى تعلو أسماء العاملين في الفيلم، أعرف أنه انتهى. ربما تابعت المواد التالية، أو أحرك الريموت كونترول بين القنوات الفضائية.
اعتادت إجلال تنقلي بين حجرات البيت، دخول المطبخ، الوقوف — بالساعات — في الشرفة، شرودي أمام برامج التليفزيون.
الطرقة طويلة، ضيقة، تفصل بين حجرتي النوم والمطبخ والحمام، وبين المكتبة الخشبية بامتداد الجدار، تتخللها نافذة ألومنيوم تُطل على المنور.
ضايقتني جلستها الدائمة في الشرفة، تنشغل بإبرتي التريكو، والشرود ناحية الحديقة والشارع الهادئ.
– هل هذا كل ما تَقوَين عليه؟
بدا أنها لم تلتقط الكلمات جيدًا، فردَّت راحتها جوار أذنها، وحدجتني بنظرة متسائلة.
قلت بالضيق: ألا يوجد في حياتك سوى أشغال التريكو؟!
– هل يضايقك أني أفعل شيئًا مفيدًا؟
– تلمِزين عليَّ! … كنت أعمل يومي كله حتى أقعدتني مؤامرة حقيرة!
أعرف أنها تتجنب كل ما يثير ذكريات راحلة، خشية أن تنعكس في كلماتي تأثرًا وانفعالًا.
أعادت إجلال ما سبق أن قالته: أنا الآن حر، من حقي أن أعيش — بثيابي الداخلية — داخل الشقة الواسعة، أركب الأوتوبيس، أسير دون وجهة معينة، أتسكع في الشوارع بلا هدف، أجلس على المقهى الذي يصادفني، أتأمل إعلانات الطريق، أدخل في حوار مع جاري — الذي لا أعرفه — في القطار.
لم أكن أحدثها عن العمل وما قد أواجهه من مشكلات، ولا سألتها المشورة في رأي يشغلني. أكتفي — للأسئلة التي تلامس العمل — بكلمات مدغمة تشير إلى المعنى، أو لا تقول شيئًا.
عدم فهمها لطبيعة عملي أساس اختياري لها. هي — وإن كانت لا تعرف — تكملة لوضعي الاجتماعي، واجباتها — كزوجة — تتحدد داخل البيت، لا شأن لها بمذكرات، ولا تقارير، ولا مشكلات تهمني وحدي، وتهم العمل.
تبدل ما اعتدته من حياة. اهتزت الصورة إلى حد التشوش: رنين المنبه، قراءة عناوين الصحف، إجراء المكالمات التليفونية المهمة، التهيؤ للخروج، تناهي صوت أحمد أنيس في المحمول: جاهز يا افندم!
لا يشغلني الانتظار، لا أمارسه. أتوقع أن ينتظرني الآخرون. من المسموح لي أن أضيع وقتهم، وليس من حقهم أن يضيعوا وقتي. أعتذر بالقول: أنا مشغول الآن … هل يمكن إرجاء هذا الأمر إلى وقت آخر؟ … هذه المشكلة تحتاج إلى مناقشة ليس الآن مجالها … سأحدثك عن ملاحظاتي في فرصة قادمة … أُملي القرار، لا أتوقعه، لا أنتظره.
لم يعد ذلك كذلك.
لم أعد أكتفي بقراءة عناوين الصحف. لم يعد أحمد أنيس يقرأ لي الصحف، ويلخص لي ما يتصور، يعرف، أنه يهمني.
أذكر السؤال وأنا أتلفت في حيرة: أين الصحف؟
قال كمن يتوقع السؤال: سألخصها لسيادتك.
اعتدلت بحيث واجهْتُه: لكنني أقرؤها بنفسي.
– سألخص الأخبار المهمة.
ثم وهو يربِّت صدره: هذا عملي.
أدركت أنه من الصعب أن أعيد ترتيب حياتي، الكثير الذي مضى لا بد أن يتداخل مع القليل الذي يوشك على الانطفاء.
أنا دائم الخوف من شيء قادم، لا أعرف تفصيلاته، لكنه قد يحمل الخطر، وينغص أيامي القادمة، هي حالة دائمة، متجددة، لا أدرك بواعثها، ولا احتمالاتها.
أمامي — على الطاولة الخشبية ذات العجلات — صينية، فوقها شرائح خبز محمَّص، وقطعة زبد، وكوب عصير، وفنجان قهوة. يرافق إفطاري قراءة عناوين الصحف، تُثَبت أمام العناوين التي تجذب انتباهي.
لم يعد الطريق يبتلع وقتًا طويلًا بين بيتي في مصر الجديدة وبين الهيئة في شارع طلعت حرب. ابتعادي عن الهيئة جعل المشوار اليومي من الماضي. لم أعد أذهب إلى الهيئة وأعود منها، بمفردي، أو بقيادة أحمد أنيس للسيارة.
عادت المرأة نبيهة إلى الخدمة في البيت. بررَت غيابها بتدخل أحمد أنيس فيما ليس من عمله. اختلط الأمر، لا تدري إن عملت بما اعتادته، وتنفذ ما تأمر به إجلال، أم تعطي أذنها لأحمد أنيس، تلبي أوامره.
حرصت على ما أشارت به إجلال، لا يشعر حازم بأن شيئًا قد تغير، أخرج إلى الهيئة في الصباح، أعود بعد الظهر. إذا لم أستخدم سيارة الهيئة، فلأن الطبيب نصحني أن أمارس رياضة المشي، أستخدم سيارتي حتى لا تصدأ.
دهمني الملل عقب انحناءة الطريق بخطوات، ربما لأني نسيت عادة المشي. تقلني السيارة إلى الهيئة، أو إلى الجهة التي أقصدها، تعود بي إلى البيت.
بدت شوارع وسط البلد في صورة تختلف عما كنت أراه — خطفًا، أو عند الوقوف في الإشارة — من نافذة السيارة.
سرت في الشوارع بلا هدف …
أتوقف أمام الفاترينات، أتأمل المارَّة، والعربات، وعساكر المرور، والشرفات، والنوافذ، ولافتات المحالِّ التجارية، وعيادات الأطباء والمحامين والمحاسبين وشركات التصدير والاستيراد، والملصقات الإعلانية، ومناشر الغسيل، واستندات الصحف، والباعة السريحة، والنساء، لا أختار الشارع الذي أميل إليه، أظل أمشي وأمشي، حتى أكتشف أني ابتعدت كثيرًا عن نقطة البداية. أعود ماشيًا في طرق مختصرة، تختلف — بالتأكيد — عن التي قدِمت منها. ربما ناديت على تاكسي.
أكتشف أني على مقربة من مبنى الهيئة، أو أني أسير أمامه تمامًا. أهم بالاتجاه ناحيته، يلحقني التذكر بأني لم أعد أتردد على المكان، لم تعد لي به صلة، الموظفون يعرفونني جيدًا، أهبهم من وقتي لتلقي المذكرات والتقارير، ومناقشة المشكلات، وإصدار الأوامر، حتى من يعجزون — بوضعهم الوظيفي — عن التردد على المركز، ألتقيهم في زياراتي المتقاربة إلى الفروع، يتفحصون جيدًا رئيس مجلس الإدارة، يحرصون على ما يشعرني بوجودهم.
دخلت مكتبة مدبولي بميدان طلعت حرب، لم أكن فعلت ذلك من قبل، قلبت في الكتب المصفوفة على الأرفف، وعلى الطاولة وسط المكتبة. أعدتها إلى مواضعها، تلفتُّ — بنصف عين — وأنا أنزل الطريق — إلى البناية التي تشغل الهيئة فيها ثلاثة طوابق: الباب الخارجي المنقوش بالحديد المزخرف، الشرفات العالية ذات الزجاج الملون، اللافتات — باسم الشركة — باستدارة الشرفة الرئيسة المطلة على الميدان.
أميل إلى الشوارع الجانبية، بدلًا من أن أمضي في شارع طلعت حرب إلى مقر الهيئة، أرفض نظرات — قد تواجهني — تفيض بالأسئلة والإشفاق، وربما الشماتة، أخترق الشوارع الموازية والحواري والأزقة، رأسي يخلو من أية فكرة عن المكان الذي أتجه إليه.
تطالعني شوارع لم أكن سرت فيها منذ فترة بعيدة، أو لم أشاهدها من قبل.
فطنت إلى أن ساعات ما بين الفجر والتهيؤ للصباح، هي أنسب الأوقات للسير على طريق الكورنيش، أمشي بموازاة الشاطئ، حركة المرور في الشارع قليلة، الضبابية تغلف المرئيات، أجاوز بنايات الهيلتون ودار المعارف والتليفزيون ووزارة الخارجية، أميل من زاوية مقهى السلطان إلى شارع فؤاد، ومنه إلى طلعت حرب، أو أعود — من الاتجاه العكسي — إلى موضع السيارة في موقف ميدان عبد المنعم رياض.
غاب عن حياتي — لعله اختياري — من كنت أجالسهم، نتبادل — في الكازينو المطل على النيل — كلامًا لا صلة له بالعمل، أُفيد من فائض الوقت ولا أعاني قلته، نتنقل بين السياسة، والأغنيات الجديدة، ومباريات الكرة، وتقلبات الجو، وفوائد السير — كل صباح — على رصيف الكورنيش.
التقت عيوننا، وأنا أصعد الدرجات المفضية إلى داخل جروبي، قبالة القصر الجمهوري. تحرك في جلسته إلى جوار الطاولة المنزوية في ركن الفراندا الواسعة، تناثر أمامها طاولات تعلوها شماسي ملونة، خالية.
يغيظني، يقتلني، ما ألاقيه من إهمال وتجاهل، ممن كانوا — قبل أن أترك منصبي — يُظهرون ولاءهم، ويَعِدون بسرعة تنفيذ أوامري، يحزنني أن أظل في المقهى، بينما كل شيء حولي يشغى بالصخب.
ما من شيء أستطيع عمله إلا أن أبقى في البيت، لا أغادره، أكتفي بترقب أوضاع الهيئة بعد أن جلس أحمد أنيس في مقعدي.
لم أعد حتى أتذوق الطعام، لا يشغلني نوعه، وما إذا كان قد أجيدَ طهيه.
قال لي الصحفي ميرغني توفيق إن تليفونه — بعد أن ترك العمل — فقد سخونته. أدركت المعنى بعد أن قلت المكالمات التي تصلني، إلى حد الندرة، إجلال تتكلم في التليفون الموجود في حجرة نومها، وهو ما أفعله في تليفون حجرة نومي، تليفون حجرة المكتب — الذي لم يكن يهدأ عن الرنين — صار صامتًا.
شعرت أني بحاجة إلى من يجالسني، يسمعني وأنصت له. أقسى المشاعر عندما تجد نفسك وحيدًا، ولا أحد يحتاج إليك، لا محاولة للمناقشة، ولا للأخذ والرد، ولا حتى مجرد إبداء التعاطف.
اقتصرت المناقشات في جروبي حول الجماعات الدينية والمتفجرات، وعمليات الاختطاف، وحوادث القطارات، وزحام الشوارع وافتقاد وجود مواقف السيارات، وظاهرة مجاذيب الشوارع، والبذاءات التي يتراشق بها الناس، والعداء في التصرفات.
قال ميرغني توفيق: لم يعد المجتمع — كما كان من قبل — مقيدًا، الانفتاح بدَّل كل شيء.
أردف لنظرتي المتسائلة: هذا عهد الشركات الانفتاحية والبنوك الخاصة ومكاتب الاستيراد والتصدير والمكاتب الاستشارية الأجنبية.
نزع نظارته، مسحها بطرف الكرافتة، ثم أعادها إلى موضعها: هذا عهد تحقيق الطموح.
تعمدت في صوتي نبرة إدانة: هذا عهد الفساد.
وهو يحاول أن يخفي ابتسامته بضم شفتيه: أنت لم تقل هذا الرأي أيام السلطة؟
رشقته بنظرة غاضبة: لم أكن في أي يوم من السلطة.
ظل في هدوئه: هي ليست مقصورة على القيادات السياسية.
وتظاهر بالجدية: لو أنك قلت هذه الآراء وأنت على رأس الهيئة، ربما كانت قد تغيرت أشياء.
التقطت أذني همسة الرجل: هذا رضا شهبون، كان رئيسًا للهيئة.
وعبَّرت تشويحة يده عما ضايقني.
أذهلني أن ميرغني توفيق تحاشاني حين التقينا في شارع سعد زغلول. لم يحاول الحديث إليَّ، ولا حتى الاكتفاء بتحيتي.
أين الود الذي كان يظهره لي؟
في انحناءة الطريق إلى ميدان التحرير التقيت أماني شكر الله، تحاذت سيارتانا تمامًا. كان الطريق متوقفًا. أومأت برأسي، أهملت المفاجأة في ملامحها.
تصنعت الدعابة في صوتي: كيف تسير الهيئة بدوني؟
هزت كتفيها: كل شيء على ما يرام!
وضع الجرسون صينية الشاي على الطاولة، رافق ما فعل بنظرة محدقة، كأنه يفتش عن شيء في داخلي، أو يريد أن يبلغني بما سكت عن قوله.
أزمعت أن أضع من حولي جدارًا غير مرئي، أنصت وأتكلم وأناقش وأبتسم وأضحك، لكن ليس إلى حد المباسطة، لا يرى محدثي الجدار، وإن شعر به، فيحرص على إيقاعٍ محددٍ لا يجاوزه.
عليَّ أن أقود قاربي وحيدًا، بلا مجدافين، ولا شراع، ولا ما يدلني على السباحة الآمنة في أمواج عالية.
هل أغرَق؟
•••
اعتدت السير في الشوارع بمفردي، لا حراس، ولا أصدقاء، أتباطأ في السير، أتأمل واجهات المحال.
ها أنا ذا أخلو إلى نفسي. لم أعرف هذا الأمر منذ سنوات بعيدة، حتى الأوقات التي كنت أغلق فيها باب مكتبي أمام الزوار لم أكن بمفردي، أحمد أنيس موجود دائمًا، ينصح، ويوجه، ويشير، ويقضي بما يراه صوابًا.
أجلس أمام التليفزيون، أشاهد قليلًا، وأشرد غالبًا، وأتثاءب، أنزل إلى حديقة الميريلاند، أسير في التقاطعات داخل الحديقة حتى يدركني التعب، أجلس على أحد المقاعد، تهيؤًا لجولة ثانية، أو أعود إلى البيت، أبحث عما يشغلني، أو أنام.
بقائي في البيت هو ما أطمئن إليه، لا أغادره إلا لضرورة، يرافقني حازم، أو عبد الولي البواب.
صرخت إجلال لرؤية الكلب في يدي، اشتريته من دكان في شارع توفيق: عجزت عن إصدار الأوامر … تريد التعويض بكلب!