٥

هل أجاد حصاري بتصورات غير حقيقية؟

صدقت — بالفعل — أني لا أصلح للخطابة، ولا أميل إلى المجتمعات، ولا أتحدث في اللقاءات العامة، لا يجذبني ما قد يثير الآخرين، وأعاني التردد في الاختيار، وفي اتخاذ القرار، والمجازفة. لم أحاول السؤال، ولا مناقشة التصرفات التي جعلتني ذلك الرجل فعلًا.

أدركت أني يجب أن أخوض معركتي بنفسي.

انفتح الباب تلقائيًّا، فتراجعت بصدري إلى الوراء. اعتدت أن أدير المَقبِض، وأدخل.

ماذا فعل أحمد أنيس؟

لم تكن البوابة الداخلية موجودة في موضعها لصق الباب، قضَى الحارس القديم — ارتدى يونيفورم — على ارتباكي، بالإشارة ناحية الباب: سيادتك من هنا.

تمنيت لو أن وقفتي لم تطل في انتظار المِصعد، لا أتلفت، فلا أواجه حصار النظرات.

تباينت نظرات الموظفين والسعاة المتناثرين على جانبي الصالة الواسعة، ما بين التساؤل والفضول والإشفاق. ميَّزتُ ابتسامة خبيثة في وجهٍ شاحب الملامح، أفسح لي صاحبه الطريق.

لم ألتق أحمد شافعي، حتى مكتبه الأبنوسي غاب عن مكانه. اخترت أحمد أنيس بدلًا منه. أعرف أنه موظف جيد، وكان أحمد أنيس يلجأ إليه في أعمال كثيرة. هل نقله إلى وظيفة أخرى، أو فصله؟

لا شيء تغير: الباب الخشبي المبطن بالقطيفة السماوية، له إطار من المسامير المطلية بالذهب، على الجدران مرايات هائلة تزيدها اتساعًا، فُرشت — بحجم معظم الأرضية — سجادةٌ حمراء من الموكيت المنفوش، على جانبيه زهور ملونة.

قام لرؤيتي في مدخل الحجرة. اتجه ناحيتي قبل أن أتحرك إلى الداخل. صافحني بمودة، وأشار إلى الكرسي القريب من المكتب.

أهملت ضيقي من رجل الأمن، اكتفى — عند رؤيتي — بانحناءة سريعة، لم يفرد طوله، ويضع راحة يده إلى جانب صدغه، هذا هو ما ألفته بمجرد أن أدخل من الباب الرئيس.

كنت أعرف أني — ذات يوم — لن أصبح قويًّا، سأفقد قوتي، لكنني تصورت امتداد القوة فيمن صنعتهم، من عبَّدت لهم الطريق ليقيموا بنايات حياتهم، لكنهم حاولوا هدم ما كنت بنيته لنفسي.

طالعتني الحجرة الواسعة: الأبواب والنوافذ ذات النقوش البارزة، الزجاج المتداخل الألوان، الأرفف الخشبية رصت فوقها كتب وأوراق وأيقونات صغيرة، الأرض افترشتها سجادة تغلب عليها النقوش الحمراء، فوقها كنبتان متقابلتان، يتخللهما طاولات وكراسيُّ، والمكتب الضخم في الوسط، من الأبنوس والصدف، وقُبالة الباب مرآة هائلة تغطي معظم مساحة الجدار، وتدلت من السقف نجفة كريستال هائلة.

لم تعد حجرة المكتب إلى ما كانت عليه، ما أتذكره. تغيرت مواضع الدواليب والطاولات والمناضد والكراسي. صُفت فوق الأرفف كتب ومجلدات، وتكومت على الطاولات أوراق كبيرة، مطوية، قَدَّرت أنها لخرائط وبيانات طويلة، وأُسْندت إلى الجدران أوراق كبيرة مطوية أخرى، أُرخيت سجادة صلاة — لم تكن موجودة — على الكنبة وسط الصالة، فطنْتُ إلى أنه يعلن عن أدائه الصلاة في مواعيدها.

هذا هو الكرسي الذي ظل أحمد أنيس يحلم بالجلوس عليه، يدير، يأمر، يقرأ المذكرات، يوقع التأشيرات، يحظى بالمكانة المتميزة.

أعرف أنه لم يعد يشكل على حياتي الخطر الذي كان يمثله قبل أن أترك المؤسسة. تهديداته لأني كنت أرأس المؤسسة، في داخلها، الآن أنا على الهامش، تتساوى كِفَّتا القوة بيني وبينه، يملك كل منا القدرة على إيذاء الآخر، التساوي حتى في الوسائل.

– كيف حالك؟

غابت الابتسامة المعتذرة، حلت — بدلًا منها — ابتسامة تشي بالثقة، أو بالاستهزاء.

وأنا أعاني ما يقتلني: إذا كان مجرد الحياة خيرًا، فأنا بخير!

أحسست أني لا أقوى على النظر في عينيه، هما عينان تفيضان باللؤم والخسة، عينان متوحشتان.

حين زرت أحمد أنيس في مكتبه — للمرة الأولى — بدا رأسه مدفوسًا في أكداس المِلفات والأوراق المليئة بالمستندات والوثائق والمذكرات والدعاوى والدفوع وتقديرات الضرائب والأحكام القضائية.

عرَفت ظروفه جيدًا. لم أكن أعرف حتى اسمه، نبهتني إليه كلمات ماجد الحسيني رئيس قسم الصادر والوارد، يحيل إليه ما تأخر عن أدائه بقية الموظفين، ينجزه في الموعد الذي يحدده الحسيني. لم يخف تأثره — ودهشته — حين تكلم أحمد أنيس — عن الوقت الذي يملكه، إن استغله، فسيبدل حياته. سألت، وتقصيت، وراجعت مِلفه الوظيفي، زاره في بيته من لامسوا ظروفه الشخصية، سكناه مع أمه في إمبابة، ثبات عَلاقته بأقاربه في شبين القناطر، حرصه على استكمال دراسته في التعليم المفتوح حتى بكالوريوس التجارة، تفضيله التنقل سيرًا بين البيت والمؤسسة.

أطلت الوقوف على باب الحجرة، حتى رفع أحمد أنيس رأسه من الأوراق والملفات: أفندم يا سعادة البك.

تأملت الرجل الذي كنت أعبُره في نظراتي: القامة الصغيرة المدكوكة، الجبهة الواسعة، الوجنتين البارزتين، الأسنان التي اختلط فيها السواد والصفرة (صارت بيضاء بعلاج الأطباء)، والبشرة الدهنية دائمة التفصد بالعرق، وإن لم يعد يجري عليها بظهر يده، ثمة علب مناديل ورقية تتناثر على قطع الأثاث. كان يضع منديلًا في جيب الجاكتة، ويحيط معصمه بساعة مذهَّبة، وفي يده خاتم، ويحمل بين إصبعيه مَبسِمًا مذهَّبًا.

سعدت للذهول — وربما الخوف — الذي نطق في ملامحه.

لم أتردد على مكتبه، ولا أي مكان في المبنى. المرئيات ثابتة منذ الباب الخارجي، وصعودي السُّلَّمات العشر، ثم أميل إلى اليمين، والسير في الطرقة المفروشة بالمشاية الحمراء الطويلة، على جانبيها لوحات أصلية، وإضاءة خافتة، مبروك الساعي — في نهاية الطرقة — يسرع إلى فتح الباب.

بدا أحمد أنيس مرتبكًا، لا يدري إن كان عليه أن يظل في وقفته، أم يقبل ناحيتي.

أشرت إليه، فلم يغادر موضعه. أهملت ما ينبغي على رئيس العمل أن يحرص عليه، يستدعي مرءوسيه ولا يذهب إليهم، تأتيه أخبارهم، ويضع جدارًا غير مرئي بينهم وبينه.

اتجهت إليه بنظرة مشجعة: أحيِّي إخلاصك.

– هذا هو عملي.

فاجأته بالسؤال: هل المرتب يكفيك؟

وهو يغالب الارتباك: أدبِّر نفسي.

– ما رأيك في عمل بعد الظهر؟

وشى صوته بارتباكه: سيادتك …

ثم في استسلام: أنت الرئيس، ومن حقك …

قاطعته: لا شأن لهذا العمل برئاستي، إنه عمل آخر … إضافي.

أوكلت إليه تسيير الأمور، أداء الموظفين مهامَّهم، مراجعة الأرقام والأذونات والاستمارات، دفع العمل بأقصى طاقة.

تعمدت ألا أشرح له بواعث اختياري، عليه أن يعرف وينفذ، وإن لم يكن من حقه أن يسألني، ولا أن يناقش اختياري.

لجأت إليه لأن وقتي ضاق عن استيعاب مسئولياتي. قدم لي من وقته بدلًا من وقتي الذي لم يكن بوسعي أن أضيعه.

تبدلت المواضع، يجلس هو وراء المكتب، وأجلس أنا أمامه. التبدل يفرض ما يصعب تخيله، الأوامر والتأشيرات والتوقيعات، لم أعد مسئولًا عن ذلك كله، هي مسئوليته وحده.

هذا الذي يجيد السير على السلك، ويحسن إخراج الأرانب الحية من الحقيبة الفارغة، ويتقن ألعاب الحواة.

متى بدأ الانشغال بإزاحتي؟ ماذا دبَّر وفعل كي يجلس على كرسي الرئيس؟ ينفرد بالجلوس في هذه الحجرة؟

على مكتبه دوسيهات عليها كلمات «سري للغاية»، و«هام»، و«عاجل للعرض على الوزير».

كتمت ضيقي لحرصه على إبداء الانشغال بالرد على مكالمات التليفون، والتوقيع على الأوراق، وإطلاق الأوامر للموظفين والسعاة.

قام من موضعه، أزاح ستارة النافذة، تدفق الضوء إلى الحجرة، بدت المرئيات في غير الصورة التي اعتدتها، الستائر مسدلة، والإضاءة الجانبية تملأ المكان.

خلا وجهه من أثر انفعال وهو يتحدث بكلمات متباطئة. قال إن نشاط الهيئة شمل كل ما يصلح للتصدير والاستيراد، قال إن الهيئة ستزيد من عملياتها خارج مصر، جاوزت الدول العربية إلى دول كثيرة في العالم، تضاعفت العمليات، لا تقتصر على منتجات محددة، قال إنه تنازل عن بدل الجلسات والأرباح لصندوق تكافل الموظفين، وإنه زاد في منح الموظفين وحوافزهم ومكافآتهم، حتى المصاعد الثلاثة أباح استخدامها للعاملين، لم يعد يقصر استخدامه على مِصعد محدد، وقال إن الهيئة ستُدخل أجهزة إنذار حديثة، وتكييفًا مركزيًّا، وأبوابًا تُفتح تلقائيًّا.

ووشى صوته باعتزاز: كانت الحاجَّة تقول إن يدي خضراء.

دفع لي بورقة، فطِنْتُ أنها نسخة تكرر تصويرها. التقطت اسم حسين رشدي، في سياق كلمات كثيرة، وأرقام، جرى تحته بثلاثة خطوط.

دعك أنفه بظهر يده: لنا وقف بناحية شبراخيت، تبينت — وأنا أراجع شجرة العائلة — أني قريب لحسين رشدي باشا رئيس وزراء مصر أيام ثورة ١٩١٩م … هل تذكره؟

قرأت ما يدور في عينيه: سعد زغلول هو قائد الثورة.

أومأ برأسه: لولا معاونة حسين رشدي للثورة ما أتيح لها الاستمرار.

وسرى في صوته انفعال: كان هو رئيس الوزراء الذي يملك الضغط على سلطات الاحتلال.

– لهذا أقالوه؟

قال في انفعاله: هو الذي استقال حتى يكشف نياتهم.

استطرد كأنه يتعمد نقل الحديث: نسب أبي يمتد إلى حسين رشدي، ونسب حسين رشدي يمتد إلى الخليفة العثماني!

اقتحمني شعور بأني أتعرف إليه للمرة الأولى. لم أجد فيه أحمد أنيس الذي أسأله، وألقي عليه أوامري، وأوبخه. يهز رأسه بالموافقة، أو يهمس بمطالبه.

إن أذنت له بالكلام أمامي، أعاد رواية الحكايات بما يناقض ما أعرفه، الملامح والجزئيات والمنمنمات الصغيرة، ما يبدو عاديًّا، ولا يلفت النظر. يلتقط الخيط من أوله، يتشابك بخيوط أخرى في أثناء الحكي، لكنه يحسن التقاطه دائمًا، لا يُفلت الخيط حتى يبلغ نهايته.

روى كل ما يتعلق بحياته، منذ مولده إلى يوم شغله الوظيفة: متى وُلِد؟ أين؟ من أبوه وأمه؟ المدارس التي لحق بها، والكلية التي تخرج فيها؟ ظروفه المادية، عَلاقاته العاطفية، ميله إلى السهر من عدمه، إن كان يتعاطى الخمر والمكيفات أم لا.

لم يغفل حتى التفاصيل غير المهمة، أو التي قد لا تكون كذلك.

تصاعد في داخلي ما يشبه الغثيان وهو يروي أولى تجاربه الجنسية. لمحه مخبر يلوط بولد داخل خرابة. فاجأه المخبر بأن فصل ما بين فخذيه وأليتي الولد، جذبه من قضيبه دون أن يأبه بتألمه، ولا صرخاته المتوسلة. تمنى — بتحديق النظرات الشامتة — لو أنه مات!

لمَّح أنه لا يلتقط الثمار وحده. عليه أن يشارك فيها من يعملون تحت إمرته. هم يفيدونه، فلا بد أن يفيدهم. الفوائد متبادلة، وأول الخيط يجب أن يمتد إلى نهايته، إذا انقطع فلن يؤدي غرضًا.

دون أن يجاوز الهمس: سيادتك تعرف أني لا آكل وحدي!

– ماذا تقصد؟

– نحسُب ما هو مطلوب على خمسة أو أكثر.

لم يعد الوقت يسرقني، أجاد أحمد أنيس سيطرته عليه.

تباطأ في الرد على تليفونه الخاص. نظر إلى الرقم على الجهاز. أخذ السماعة بيد ملهوفة: حنان عثمان؟

وهو يقرن التفاتته نحوي بالهرش في مؤخرة رأسه: سأتصل بك، عندي ضيوف!

هل بدَّلت صداقتها؟ هل بدَّلت بي أحمد أنيس؟ هل لهاني بها، ليستعيدها بعد أن أخذ الكرسي؟!

بدت — حين رأيتها للمرة الأولى — مختلفة تمامًا عما تصورته في كلمات أحمد أنيس، قامة أقرب إلى القصر والنحافة، بينما لم أتصور لها ملامح محددة. نظراتها المحدقة دفعتني إلى تأملها: قامة طويلة، وجسد ممتلئ، متناسق التكوين، وشعر فاحم السواد، مثل هالة حول وجهها، وعينين واسعتين كعيني قطة، وأنف دقيق، يعلو شفتين أجادت تحديدهما بالحمرة، وبعثت ساقاها المدملجتان في نفسي شعورًا كأنه النشوة.

كان الفستان الأزرق ذو النقط البيضاء محبوكًا على جسدها، فأظهر التكويرات والاستدارات. حدَستُ أنها اختارت جوربًا أسود، مزينًا بنقوش، لتَلفِت الأنظار إلى ساقيها.

لاحظَتْ نظرتي إلى الجزء المكشوف من فخذيها ما بين الفستان والجورب. دارت ابتسامة وهي تسحب ذيل الفستان — بعفوية — إلى ما تحت الركبتين.

قال أحمد أنيس لحنان: هذه الاستاكوزا من الإناث … لحمها أطعم!

ثم وهو يغمز بعينه: لحم الأنثى أطعم في البحر أيضًا!

قلت دون تدبر للمعنى: اكتف بالجندوفلي.

لا أذكر متى، ولا كيف، بدأت أصحبه إلى مجالسي الخاصة وسهراتي؟ ربما لأنه كان يحرص على الصمت ونفي الذات، فلا يتدخل بسؤال، أو بملاحظة، أو ربما تسعفه البديهة — تكرر الأمر فيما بعد — فيروي نكتة، كأني الكرسي الذي يجلس عليه، يقبل عدم الالتفات والإهمال، والإهانة أحيانًا، لا يبدي تذمرًا ولا رفضًا، لا تشغله التزامات من أي نوع.

قلت في نبرة موبخة: أنت تخاطب سيدة محترمة!

– هل أخطأت؟

وأنا أعبر بيدي: هذا التظارف الذي لا معنى له!

لم أكن قد فككت خيمتي، لكنه تصرف — في الأيام الأخيرة — باعتبار أن ذلك هو ما حدث بالفعل. أستعيد الأسئلة والملاحظات والتصرفات، أضع ما كان في رؤية الزمن الحالي، كان يعرف، شارك — بالوشاية — في تقريب لحظة القتل.

هو الذي أتى بها، زودها بتوجيهاته، وما ينبغي عليها فعله، وإن حاول إيهامي أنها خضعت لتأثيري، ووجدت في شخصيتي ما يجذبها.

حاولت استعادة صورة الجسد تحت الفستان. تنزع كل ثيابها، تترك لي إنزال السروال الصغير — كورقة الشجر — من ساقيها، تنحدر يدي من ظهرها إلى خصرها، ثم إلى ردفها، فساقها. أنزع الحذاء والجورب. أمسد الساق العارية بيدي إلى ثنية الفخذ، تتسلل أصابعي من ثنية السروال، تتحسس الشفتان مواضع جسدها، تحيط الذراعان بصدرها، تتشابك السيقان. المضاجعة تأتي متأخرة. أسمي ما يسبقها «الشيء لزوم الشيء».

دفعتني بيدها: أرهقتني بالشيء ولزومه!

بنت الكلب!

ألم تكن عارية طيلة بقائها في البيت، لا تبقي إلا على ورقة الشجر الصغيرة أسفل بطنها؟!

ألم ألعب في هذا الجسد حتى أنهكني التعب؟!

وهو يعيد سماعة التليفون: كنت أخدمها من أجلك.

وربت صدره: الآن … أنا أخدمها من أجلي.

ومال برأسه إلى الخلف: مثلها — كما تعرف — لا تصادق إلا من يمتلك الفائدة!

واتسعت في وجهه ابتسامة تشفٍّ: أنا أعطي لها ما هو أهم من المال.

لعله التقطها من رصيف الكورنيش، هو الموضع الذي تسير فيه مثيلاتها.

الهيئة مزدحمة بالمستشارين، يقلمون أظافرهم، ويتبادلون كلام الدردشة. أحيا الرغبة في العمل.

لماذا لا يجعلني واحدًا من مستشاريه؟

قلت: إن الانسحاب من الحياة العامة أمر صعب، لكنه حتمي. وقلت: إن المرء مطالب بأن يختار وقت الضوء ووقت الظل في حياته. وقلت: إن الاعتزال قبل الأوان لا معنى له، وتأخير الاعتزال سذاجة تعلو إلى مستوى السخف. وقلت: لكل زمن رجاله.

أومأت له أني على استعداد لأن أفعل كل ما يطلبه مني، كل ما يوافق عليه ويرضيه، حتى يزكي عودتي إلى العمل.

تجاهل إيماءاتي، واكتفى بنظرة هادئة محايدة.

أدركت أنه يبحث لنفسه عن طريق خاصة، لا يشاركه السير فيها أحد.

قال في لهجة أثارني ما شابها من ندية: ستجدني طول عمري في خدمة سيادتك.

ماذا يعني بالخدمة؟ هل يرفض عرضي؟ هل طلبت منه من قبلُ أي شيء؟ هل هي محاولة لتسريب الإهانة؟

نهضت مستأذنًا.

علا صوته — وهو في كرسيه — بكلمات تستبقيني، استعاد الكلمات التي تخلو من الحرارة، وطريقة إلقائها، من زمن وقوفه جانب مكتبي.

أنا الآن الرجل الذي كان، وأحمد أنيس هو الرجل الذي صار. ما كنت أمتلكه، ما كان في قبضتي، لم يعد كذلك. غاب، أو تلاشى.

لم يكن للخسارة موضع في حياته. يجيد اقتناص الفرص، والدخول في مغامرات البيع والشراء، والصفقات التي لا تخيب، المناقصات والمزايدات والتوكيلات والشركات المتعددة الجنسيات، كل الأمور تسير حسب القوانين والأنظمة واللوائح.

دخل الساعي مبروك. وقف في هيئة من لديه كلام يقوله، لم يُعنَ حتى بأن ينظر ناحيتي، الكلب!

– الأستاذ محمود البولاقي يظن أني أبلغ سيادتك بآرائه في أحوال العمل داخل المؤسسة.

واجهه أحمد أنيس بعينين ناريتين: ولماذا يظن؟ … لو أنك أخفيت عني ما تراه أو تسمعه فسأدمرك!

تساءلت — بيني وبين نفسي — هل يصفي حسابات قديمة؟

هو واحد من الذين أكلوا من صحني، ثم بصقوا فيه. تناسوا الخيرات والجمائل والخوف والمداهنة والتملق، كأنهم نزعوا جلودهم، فبدوا في أجساد لم يسبق له رؤيتها.

وهو يقلب أوراقًا في يده: قرأت كلماتك في الجريدة.

وحدجني بنظرة متسائلة: من تقصد بالرجل الأول؟

فطنت إلى معنى نظرته: لا أقصد رجلًا بالتحديد.

استطردت فيما يشبه الهمس: أظن أن ترتيب منصبك لم يكن الأول في البروتوكول.

كرمش الضيق ملامح وجهه: دعك من البروتوكول. أنا أعرف وأنت تعرف أنك تقصدني.

هذا ما أخفقت في تعلمه منه: يتخذ موقف الهجوم، يجد في الدفاع أذى لصاحبه.

قهرني الانفعال: أنت لا تريد أن تظل كما أنت.

صنَعْتُه، تمرد عليَّ، أشبَهُ بما فعلَتْه جالاتيا مع بيجماليون الذي صنعها.

وهو يغتصب ابتسامة: أين أنا؟

– في الرقم اثنين، أنت الرجل الثاني، لكنك تريد الرقم واحد.

– في الحقيقة أني كنت الرقم واحد … وهذا ما أنا عليه الآن.

الحروف والكلمات والجمل تتقافز من حولي، يصعب أن أشكل منها معنًى أطمئن إليه. حدَست أن القوى المتصارعة في داخلي تكفي لتدمير الكون.

وهو يتأمل ما لم أتبينه في الحجرة: تعرف أن انتظار الصيد يحتاج — بعد إلقاء السنارة — إلى الصبر.

وكور قبضته: من حقي أن أحصد ثمرة صبري.

– صبرك على ماذا؟

– حقي! … كنت أنا الفعل، وكنت أنت الواجهة!

عاد بنظراته إلى الأوراق أمامه. لاحظت أنه لا يحاول القراءة، مجرد أن ينهي اللقاء.

تهيأت للانصراف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤