٦
إذا كانت الرائحة كريهة، فلا ترفض شمها، وتسد أنفك. الاختناق الذي قد يصيبك بالموت، سيجبرك على إفساح رئتيك للهواء، بصرف النظر عن رداءته. المثالية لا تعني التصلب والتشدد، لا تعني المواقف الحادة والباترة، فهي قد ترتد إلى المرء بعكس ما يأمله من نتائج.
سرت في صوته نبرة تحذير: يجب أن نتعلم ما لم نقرأه في الكتب، ولا تعرفه المعاملات التجارية!
وعبر عن المعنى بهزة من إصبعه: لا بد من أن تضع حاجزًا بينك وبين مرءوسيك، إن لم تحرص عليه ضاعت هيبتك!
اعتدت أن أظل في مكتبي حتى أطمئن إلى اكتمال الحضور في قاعة الاجتماعات. يسبقني أحمد أنيس إلى دفع الباب الموصل بين المكتب والقاعة، ويعلو صوته: الأستاذ رضا شهبون.
أكتفي بهزة رأس، وبنظرة تمسح الوجوه المتطلعة. أشير للوقوف بالجلوس، وأجلس.
جعلت لنفسي — بإلحاح من أحمد أنيس — موعدًا، ساعتين كل مساء في بهو فندق سميراميس، ألتقي فيها أصدقائي ومعارفي، ومن يقصدونني في خدمات.
ينبهني إلى ضرورة المرور — بين فترة وأخرى — في أقسام المؤسسة، يسبقني بخطوات مهرولة، وعينين تتفحصان حتى وقفة الموظفين وراء مكاتبهم بالبدل الكاملة.
شدد أن أضع نفسي في إطار من الهيبة والوقار. أمسك حتى عن الضحك لنكتة، أو عبارة ساذجة، فلا تهتز صورتي أمام الأعين التي تلتقط ما يسيء، ما يهز صورتي، أو يضعها في غير إطارها الصحيح.
بدلت بالسجاير السيجار الهافاني، أحاذر حتى لا يزيد وزني، أقصر طعامي على الخُضرَوات وحبات قليلة من الفاكهة، أحرص على حمامات السونا والجاكوزي والبخار.
سيطر على مشاعري وتصرفاتي، وما ينبغي أن أقوله، أقلب الرؤية في ذهني، أطمئن إلى صوابها، يهبني إنصاته، يقول في لهجة محايدة: جميل، ولكن. أستغرب من نفسي أني أبدل ما كان قد استقر في ذهني تمامًا، ما بدا هو الرأي الصحيح.
خضعت تمامًا لآرائه وملاحظاته واقتراحاته، هي الإطار الذي يصعب — حتى لو أردت — أن أغادره.
الطيبة والشر ليسا في المطلق، لا يوجد إنسان طيب تمامًا، ولا شرير تمامًا، هي درجات من الطيبة أو الشر. لا أحد يستعصي على الإغواء، إذا ضغطنا على نقطة ضعفه، فسنرى العجب.
أَعَد مِلفات لكل المتعاملين مع المؤسسة، كل التفصيلات ذات القيمة، والتي لا أهمية لها، قِطعُ الفسيفساء الصغيرة تصنع اللوحة الكاملة، ما يبدو تافهًا قد ينطوي على معان تستحق الالتفات. سجَّل القوائم على الكومبيوتر، مديري الشركات، ورجال الأعمال، ورؤساء الهيئات التجارية. حرص أن يلخص الأنباء والتقارير الإعلامية، يتيح لنفسه متابعة الأحداث.
له مصادره التي تمده بالمعلومات. يفيد من عَلاقاته المتشابكة في التعرف إلى ما قد أجهله شخصيًّا، أو تغيب صورته الحقيقية، يوزع أخبار نشاطي على الصحف ووكالات الأنباء والقنوات الفضائية، يتأكد من تلقي دور الصحف هداياي ورسائل التهنئة والتعزية، يحرص أن تظل الحقائب — بعد كل رحلة إلى الخارج — مغلقة، لا يفتحها إلا في وجودي، يقرر من تذهب إليه هداياي، ومن لا يستحقها. الصداقة ليست حالة دائمة، والرجوع إلى قوائم الأصدقاء بالإضافة والحذف تحتمه طبيعة العمل، هدية صغيرة تكسب الفهم والود في البداية، وتكسب الخدمة التي أطلبها في الخطوة التالية، أُوقِّع على شيكات تبرع بقيمتها للمدارس، ودور المسنين، والجوامع، والملاجئ. أتلقى دعوات من سفارات ومؤسسات حكومية وأهلية وأندية ومعارض فنية وعروض موسيقية. الجنازات وسرادقات العزاء وحفلات عقد القران والزِّفاف، فرصة للمجاملات الاجتماعية، يدفعني للحرص عليها، يضيف إلى أهميتها — في رأيه — أنها لا تكلف شيئًا، مجرد مصافحة، وكلمات مدغمة لا تعني شيئًا محددًا. ربما صحبني إلى أماكن أتردد في الذهاب إليها. حتى المناسبات التي لا أحضرها، يرسل هو باقات الورود، أو برقيات التعزية.
صارت لي — بمبادرات منه — صداقات مع وزراء في الحكومة، وسابقين، وقيادات سياسية، ورجال أعمال، ورؤساء بنوك، وسفراء عرب وأجانب، وقضاة، وصحفيين، وأعضاء في مجلس الشعب، وفنانين، وفنانات، وموظفين كبار.
تصرفاته تميل إلى السيطرة. لا أذكر الكلمات أو مرادفًا لها في سياق كلماته، لكنها تنعكس في صيغة الأوامر التي تسم ملاحظاته وتوجيهاته ونصائحه، أنت تحتاج إلى مساعدتي فانتبه، لا يتيح الاستفسارات، ولا الأسئلة، ولا محاولة الفهم.
هو يملي ما يجب أن أقوله أمام الناس، ومتى ينبغي أن أحتمي بالصمت. حتى الثياب صارت من اختياره، لكل مناسبة ما يمكن ارتداؤه، حتى الجينز الذي لا أذكر أني ارتديته، نصحني أن أحضر به ندوة عن التقدم الاقتصادي في كلية التجارة، يحب الشباب أن يتحدثوا إلى من يقارب تفكيرهم.
كنت أحرص أن أبتسم، بمناسبة، وبلا مناسبة. أصول العمل تدفعك إلى فعل الابتسام، لا أهمية إن بادلك الضيف ابتسامة مماثلة، أم وضع على وجهه قناعًا من الجهامة، ينفرك من الحياة كلها؟!
نصح أن أظل بعيدًا عن كل ما قد يأتي بالشبهات، وضعي الوظيفي يقضي بأن أجعله هو الذي يتولى — باسمي — عقد الصفقات خارج العمل، هو الذي يتصدر المشهد، ينشغل باللقاءات والاجتماعات وكتابة البيانات والرسائل.
الوظيفة العليا تعويض، أو امتداد مناسب، للأيام القاسية، تشحُب، أو تغيب، الصور التي مثلت حياته.
وثَّق صلاته بالوزراء وكبار موظفي الدولة بما يضمن رعاية مصالحه. يحرص على حضور الحفلات والمناسبات الاجتماعية، قد يلجأ إلى تزكية تليفونية، بطاقة، هدية لا تخلو من معنى. لكي نحصل على ما نريده من مكانة، فلا بد أن نقترب من السلطة، نلامسها، نلاصقها. صار له أصدقاؤه من الوزراء الحاليين والسابقين، وكبار موظفي الدولة، ورجال الأعمال.
حين وصفه رشيد مصيلحي — ابن قريته — أنه قد أصبح سفير طوخ طنبشا في القاهرة، ابتسم في صمت وسعادة، هو يسعى لتعيين أبنائهم في المصالح الحكومية، إلحاق الأولاد بالمدارس والوظائف، إنصاف من تخطته الترقية، تيسير العلاج في الخارج، السفر في بعثات تعليمية.
كان يتخلص من حياته الماضية، يتطهر منها، يحرص على صداقة الشخصيات النافذة. يثق أنه كلما زادت صداقاته، زادت قدرته على الكسب، يوحي لمحدثه أن مصادره السرية تمده بالمعلومات، وعَلاقاته جيدة بالشخصيات المهمة، يجيد الاتصال بالقيادات العليا، تأكيد ولائه لهم، يُقبل على حياة جديدة تغيب تفصيلاتها، لكنها تحيله إنسانًا آخر، له عاداته المختلفة، الجديدة.
قال لي عن رئيس بنك المستقبل: ثق أن كل شيء وكل إنسان قابل للشراء!
أومأت ليستكمل ما يقوله.
– المهم أن نجد الوسيلة التي تغريه بالقبول!
حدجته بنبرة مستفهمة: الكلام يستمد حجته من قوة قائله، المال هو هذه القوة.
ازدردت ريقي لأزيل الجفاف في حلقي: اعرض عليه ما يقنعه بإغلاق فمه!
وهو يتظاهر بالحيرة: لا تحدثني عن المال، فالرجل مستور!
ثم غمز بعينه: في الدنيا مغريات ألذ من المال!
إجلال دائمة الاعتذار عن الخروج. صحبني أحمد أنيس إلى الأندية والفنادق والمطاعم الفاخرة والكازينوهات والمسارح ودور السينما. حفلات الاستقبال ومآدب الغداء وحفلات الكوكتيل والليونز والروتاري والأندية الرياضية والاجتماعية. جلسنا في يوتوبيا والصفوة وجاردينيا وبالم هيلز. الموائد المنفصلة، والسجادات الوثيرة، والأضواء الخافتة. تناول مشروبات لم يكن عرفها من قبل: القهوة التركية، القهوة الأمريكية، الإكسبرسو، الكابتشينو، النسكافيه، لم يعد يثيره تطاير سدادة زجاجة الشمبانيا، انتتر — في المرة الأولى — عندما علت الفرقعة، بتدوير السدادة، وانبثقت الرغوة البيضاء. ردد مسميات شانيل وكريستيان ديور ومدام روشا وجيفنشي وبيير كاردان وكارفن ونينا ريتشي وباكو رابان وإيف سان لوران.
وضع كل الخيوط بين يديه. أجاد — بما لا يحتمله عمل الهيئة — توزيع أعوانه ومرءوسيه في الوزارات والإدارات وهيئات الدولة ومعسكرات الجيش وأقسام الشرطة. حتى الأندية والهيئات الأهلية والجامعات، تناثر فيها أرصاد وعيون، ينقلون له — في تقارير مختصرة، ومطولة — ما تلتقطه آذانهم وأعينهم من المناقشات والهمسات والشائعات، ينقلون حتى تعبيرات الأيدي والنظرات التي تعني شيئًا لا تنطقه الأفواه.
لم تقتصر عيونه على موظفيه. أوكل إلى عيون من النساء مهام الملاحظة والمراقبة وكتابة التقارير.