٨

أدرت المكيف، ودسست جسدي عاريًا داخل اللحاف، هذه هي الكيفية التي يقضي بها أبطال الأفلام الأمريكية نومهم.

أصحو متأخرًا، أطيل البقاء في السرير، أتباطأ في حلاقة ذقني، والوقوف تحت الدش الساخن، عادة لا أبدلها في صيف ولا شتاء، لا أتعجل تناول الإفطار.

إذا أحسست بالتعب، طلبت فيمتلئ البانيو بالماء والشامبو، إلى قرب الحافة، أتمدد في داخل البانيو، تسري الراحة داخلي، ربما تمددت على الطاولة الخشبية، أسلم جسدي للماء الدافئ، وأصابع التدليك، والخبطات المترفقة بجانب اليدين على الكتفين والظهر والعمود الفقري، والضغطات حول العنق، وفوق الكتفين، أطيل التمدد في الجاكوزي ليذيب الدهن تحت الجلد (دلني أحمد أنيس على إذابة أملاح زهرة الأوركيد في ماء الجاكوزي المعتدل الحرارة)، أشرب الخمر دون أن أبلغ حد الإدمان.

تعلمت ما ينبغي تعلمه: العناية بالبشرة، وبالحمام الساخن، والرشاقة والرياضة اليومية، ولو مجرد المشي على طريق الكورنيش، وانتظام مواعيد تناول الطعام، كيف أتناول الطعام بالشوكة والملعقة والسكين، أسلم أصابعي لعاملة المانيكير والباديكير، تعتني بأظافري، وتزيل الجلد الزائد والميت، أحتفظ بخفوت صوتي، أعرف ما يردده أحمد أنيس أمامي من أسماء مشاهير السياسة والفن والأدب، أحسن التعامل مع المرأة.

أطيل الوقوف أمام المرآة، أتفحص ملامحي جيدًا، ما يحتاج إلى رعاية. أشذِّب شاربي، أستخدم عطرًا هادئ الرائحة، أمسِّد جانبي شعر رأسي. أحرص على العناية بمظهري، لا أهمل حتى المنديل الهرمي في جيب الجاكتة العلوي.

عقب أحمد أنيس على اعترافي بأني أريد أن أقلد ما أشاهده: لا تفعل شيئًا دون أن تبلغني! لا تفعل شيئًا دون أن أوافق عليه!

ملاحظاته لا تنتهي: في ملابسي، وسيري، والمفردات التي أستعملها، في تناولي الطعام، وطريقة الجلوس.

حتى جلساتي الخاصة يسترق السمع إليها من وراء الباب، أو يتظاهر بالحاجة إلى شيء، ليلتقط من الكلام ما يبني عليه.

وضع على الطاولة زجاجة زيت زيتون. ظل صامتًا، ينتظر سؤالي عن المعنى. لم أسأل، واكتفيت بنظرة محايدة.

وشى صوته بخيبة أمل: زيت الزيتون مهم لمن هم في عمرنا.

وعدَّ بأصابعه: يفيد في طراوة البشرة وخفض ضغط الدم وتيبس العظام والسكر وتأخر ظهور التجاعيد ومنع اﻟ …

وأدار أصابعه إلى جانب رأسه بما يعكس معنًى سخيفًا.

لم تغادر النظرة المحايدة عيني.

التفت ناحيته في استياء: فقدان الذاكرة أو خرف؟!

بدا عليه ارتباك، تحركت شفتاه يحاول أن ينطق، لكنهما ظلتا مفتوحتين ساكنتين.

حل الصمت بيننا.

افترَّت شفتاه عن ابتسامة محرضة: ملامحك مجهدة … لا ترهق نفسك … إن شعرت بالتعب لا تغادر البيت.

تصورت أنه سيدعوني — ذات يوم — إلى البقاء في البيت، يعرض — عبر التليفون — آراءه واقتراحاته، وما اتخذه من قرارات. أبدي ملاحظاتي بالقبول، أو الرفض.

فاجأته بالقول: هل تلتقيان من ورائي؟

أشار إلى نفسه بعصبية: سيادتك … أنا الذي عرفتك بها.

– منذ ذلك اليوم لم يعد لك صلة بها.

– إذا رأيت ألا ألتقي بها، فهذا ما سأفعله!

كان يطيل الانتظار حتى يرى سيارتي مقبلة. تتوالى كلماته المرحبة من قبل أن ينفتح باب السيارة.

وأنا أتجه ناحية باب المصعد، يسبقني، ويلحق بي رجال الأمن، قال أحمد أنيس: هذا هو المصعد.

التفتُّ ناحية الموضع الذي أشار إليه.

وهو يسبقني إلى المصعد: أعددناه، فلا يستقله سواك.

أطلت تأمل المرايا المحيطة، والنقوش، والإضاءة العالية، والمروحة الصغيرة في زاوية السقف.

أُغلق الباب، فلم يعد سوانا. اتجه بنظراته إلى الأرض وهو يفرُك يديه: لا يصح أن يشاركك المصعد بقية الموظفين!

ربما اطمأن إلى جلسة السعاة أمام مكتبي: اليونيفورم، والذقن الحليقة، وتلبية نداء الجرس.

يضغط على النور الأحمر عند وصوله مكتبي، يعرف الموظفون والزوار أنه يعرض عليَّ أوراقًا يجب ألا يراها أحد.

أعرف أن النور الأحمر لا يعني الانشغال بأمر يتصل بالعمل، هو — في الأغلب — انشغال بما لا يتصل بالعمل.

يثيرني أني تحولت إلى تابع للرجل الذي اخترته ليكون تابعي.

أحنى رأسه بابتسامة صغيرة: ينقصنا دخول البرلمان؟

– من نحن؟

– سعادتكم.

– لم تشغلني هذه المسألة.

– يجب أن تشغلنا.

وعد بأصابعه: النفوذ الأوسع … المكانة الاجتماعية الأكبر … الحصانة … وغيرها كثير.

أغمضت عيني، وشردت في الفراغ: دعني أفكر.

وقاومت الحيرة: أنت تضعني في قلب معمعة لم أُعِد نفسي لها.

وهو يفرك يديه: النصر لنا بإذن الله.

دنا بوجهه، وأحاط فمه براحة يده: جلست هذا الصباح في كافيه كوستا إلى رجل ماضيه طويل مع الانتخابات.

وعلا صوته متباهيًا: هو الذي أسقط مرشح السعديين في انتخابات ١٩٥٠م.

– لم أكن وُلدت بعد.

– الرجل في السبعين، عاصر الانتخابات منذ حكومة حزب الشعب.

– هل يبدل الصناديق إن لم تكن لصالحي؟

– بل سيضمن وضع البطاقات المؤيدة لنا داخل الصناديق.

أردف في تأكيد: هذه مهمته.

سحب ورقًا من أمامه. كتب أرقامًا، جمَع وطرَح وضرَب وقسَم، رفع رأسه، ثم مال على الورق يقرأ ما كتب: عدد العاملين في الهيئة حوالَي ٢٠ ألف عامل. سنضع لكل عامل مرتب شهر قبل الانتخابات، ومرتب شهر بعد الفوز، مكافأة يسيل لها أي لعاب.

وأنا ألعق شفتي: مبلغ كبير!

أكسب صوته نبرة استعراضية: من حق رئيس العمل أن يكافئ مرءوسيه.

بدت أعوام الهيئة كأنها يوم واحد متصل، لا يستوقفني يوم محدد، ولا حادثة بالذات، لا تستوقفني حتى ملامح من كانوا معي إلا كأطياف متباعدة.

لا أعرف إلا القليل مما يفعله، حتى ما يعد له يحرص على إخفائه.

تبينت في نفسي عدم القدرة على اتخاذ القرار. أقلب الأمر، أفكر فيما ينبغي فعله، تطول الساعات دون أن أصل إلى نتيجة ما.

هذه المشكلات التافهة، إذا لم يوجد من يعالجها، فإنها تتحول إلى مشكلات يصعب حلها. أنت لم تحجز تذكرة الطائرة في موعدها، كيف تسافر؟ لم تفطن إلى موعد استشارة الطبيب، هل تطمئن إلى حالتك المرضية؟ سهوت عن موعد مناقصة أو مزايدة، هل ينتظرنا المزايدون؟

مشكلات كثيرة، تحتاج إلى من يُعنَى بها، وربما تبدو تافهة.

يصبر على إخفاقاتي المتوالية، وأسئلتي، وهو يعلِّمني — دون أن يوضح ما يفعل — كيف أدير الحوار، وكيف أتلقى الأسئلة، وأجيب عليها، حتى أطيل، أو أوجز، أو أصمت إن لم يكن ثمة ما يقال.

لم أكن أتصل بشخصٍ ما، جهةٍ ما، إلا إذا مهد لاتصالي بكلمات تضعني في الهيبة اللازمة.

إحساس يشبه اللذة، يتابع من خلاله الصراع والتقاتل بين رؤساء الإدارات، دون أن يشير بتدخلي. لا شأن لي بمن يسقط، أو يخسر حتى نفسه. يُدين نشوء الخلاف وإن التذَّ باستمراره.

قلت: ماذا تعني بقولك: اختلافهم رحمة؟!

– عندما يختلفون تضمن ولاءهم جميعًا!

ولاح على شفتيه طيف ابتسامة: يختلفون فيختفي التآمر.

– لكنهم زملاؤك.

– وهم متآمرون، ويجب إيقاف تآمرهم!

ثم وهو يهرش مؤخرة رأسه: هناك شعارات موضعها الكتب، الحياة المَعيشة شيء آخر!

يدخل حجرة المكتب في اللحظة التي أهم فيها بالضغط على الديكتافون، كأنه يحدُس — على البعد — متى أريد أن أكلمه.

لا يأذن لأحد بدخول مكتبي إلا إذا قرأ المذكرة التي سيعرضها جيدًا. يدون ملاحظات، قبل أن يتيح لقائي، إن داخله التوجس لحق بالزائر، يقف بحيث أتابع حركة شفتيه بالكلمات الصامتة، الإشارات، الإيماءات. تقاطع كلماتي، تبدل الخطأ الذي تصوره بكلمات أخرى تهب المعنى الذي يريده.

تمتد يده إلى الديكتافون — لا أستعمله — يطلب من السكرتيرة إيناس مهنا ألا تأذن لأحد بالدخول، يهمل نظراتي المتحيرة، المتسائلة عن معنى التصرف.

لم أعد أفهم حقيقة مشاعري؟ لماذا أقبل، ولماذا أرفض؟

حتى طلبه من إيناس مهنا موظفة السكرتارية أن تسلمه البوستة، لم أناقشه، ولعلي ارتحت إلى ما فعل، تتحرك في الغرفة، يبعث ردفاها النيران في داخلي، أحاول كتمها، أتظاهر باللامبالاة، أتكلم فيما يفد إلى خاطري، لا تفكير، لا محاولة حتى لاجتذابها، الارتباك يفرض سيطرته تمامًا.

عرَفت خطواتُه طريقَها بين القاعات والرَّدهات والطوابق والغرف، لا يستوقفه سؤال ولا نظرة محدقة. ألِف المكان فهو يتحرك بعفوية واضحة.

أحمد أنيس أول من أستقبله من موظفي الشركة، آخر من يودعني قبل أن تقلني السيارة إلى البيت.

أحمد أنيس يدير كل شيء، يأمر، يراجع قرارات الترقية والمنح والخصم والإجازات، لا يبدي ميلًا فأراجعه، أضيق بتصرفاته، لكنني عاجز عن الفعل.

قال إنه يعتز بأنه قد جعل حياته كلها للعمل، لا يذكر أنه قد حصل على إجازة إلا إذا أخضعه المرض، ثم شكا من أن إدارة المؤسسة ترفض أن تحتسب له الشهادة العالية التي حصل عليها أثناء الخدمة.

•••

صارت أوامره أكثر نفاذًا من تعليماتي وأوامري.

يحرص على حضور المؤتمرات. إذا لم يكن في المؤتمر ما يغري بالمشاركة، ففي الحقيبة التي يحصل عليها فائدة.

يشارك — نيابة عني — في حفلات عقد القران والزِّفاف وأعياد الميلاد، وفي الجنازات والمآتم.

همس بقدرتي في أن أحصل على أية موظفة يريدها. النساء اللائي يعملن في المؤسسة لا يترقين إلا إذا مررن على مكتبي، ثم على أماكن تخصني، أحددها.

قال أحمد أنيس: صدقني … الخطأ والخطيئة هما الأصل. وقال: إذا كان الهواء فاسدًا، فنحن لا نملك إلا أن نستنشقه أو نموت! وقال: من الصعب على ضمير المرء أن يظل صاحيًا في وقتٍ ماتت فيه الضمائر! وقال: علينا أن ننظر إلى الإنسان الخيِّر باعتباره أمنية، وقال: اللؤلؤة لا تساوي شيئًا إذا ظلت حبيسة صَدَفة في قاع البحر! وقال: المهم حجم الثروة وليس كيف تحققت!

حين أومأت إلى حنان والخيانة الزوجية والتوقعات، قال أحمد أنيس: إن الخيانة الزوجية ليست تصرفًا طارئًا، ولا هو من التصرفات النادرة، ولعلها بدأت مع فكرة الزواج نفسها، البواعث متعددة، تبدأ بالفضول وتنتهي بالملل.

– هل تتصور أن المدام ترضى عن الأيام المتشابهة؟

– ماذا تقصد؟

– المدام فاضلة ومحترمة … تصوري أنها تدرك المعاني السلبية في نفوسنا نحن الرجال!

خمن من صمتي استجابتي لقوله، أضاف في لهجة متحمسة: اختصر فاديم كل عَلاقات كازانوفا ودون جوان في زواجه من أجمل ثلاث نساء: كاترين دينيف وجين فوندا وبريجيت باردو.

واتسعت الابتسامة في وجهه: ليتنا نأخذ من الشيعة زواج المتعة!

واغتصب ابتسامة: المرأة — كما تعرف — أشد انضباطًا من الرجل.

فطنت إلى أنه لا يجد الكلمات التي يريد أن يعبر بها.

أردف في ابتسامته الشاحبة: الوفاء طبع في المرأة، أما الرجل فيأمل في عفوها!

واسترق ناحيتي نظرة متفحصة، ربما ليمتحن أثر كلماته.

مرة وحيدة، ثرت عليه، وطردته. كنت قد صحبت إجلال إلى حفل زِفاف في الدقي. قال لي أحمد أنيس في نبرة توبيخ: لا تدخل مطعمًا فاخرًا وفي يدك ساندوتش!

قفزت صورته وهو يظهر التهيب، ويده ممدودة بلفافة من ورق الصحف: فضلة خيركم … فطير مشلتت من البلد!

هو يعرف السومون فيميه والكافيار والاستاكوزا والباتون ساليه والكرواسون والساليزون. تناسى البتاو والعيش المرحرح والعيش الشمسي.

هل يعرف أني أخافه، وأكرهه؟

•••

حازم، كيف أبدو أمامه؟ كيف ينظر لي؟

لاحظت في وجهه طلوع شارب، ولاحظت تغيرًا في صوته، داخلته بحة. كل ما فعلته كان من أجله، لكي يصبح في الحياة التي هو عليها الآن.

أين الصواب، وأين الخطأ؟

قال أحمد أنيس: أنت تفعل ذلك من أجله؟

دون أن أرفع رأسي عن الأوراق: أعرف … لكن سيعرف ذلك؟ هل يحترم أباه!

– أولادنا يعرفون أن كل ما نفعله من أجلهم؟

– حتى الخطأ؟!

قال أحمد أنيس: الخطأ نسبي … ما تراه خطأ قد يراه غيرك عين الصواب!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤