٩

شيء يتحرك في داخلي، يدفعني إلى العنف في الكلمات والتصرفات، أحاول كتم الباعث، فلا أستطيع، لا أعرف لماذا، ولا كيف، أجاوز مشاعري السلبية. أعرف أن ما أفعله هو خطأ، وأنه من العيب أن يظل ذلك الخطأ، ليس ثمة ما يدعو إلى العيب والعنف والقسوة.

أعاني شعورًا بأن من حولي يتحينون الفرص للانقضاض، حتى هؤلاء الذين زرعتهم، وتعهدتهم بالرعاية، وبدأت أشجارهم في طرح الثمار.

– كل ما وضعوه على مائدتي من هذه الثمار كان مسمومًا.

وتنهدت: لو لم أنتبه ربما فارقت الحياة من زمن!

أفتش حجرة النوم — قبل أن أنام — جيدًا أبحث عن عدسة، جهاز تسجيل، أو تنصت، ما يدعو إلى التوجس.

صحوت على موجة هائلة طوتني في داخلها، لا أذكر ما سبق اللحظة، ولا ماذا كان الكابوس، وإن ظللت على السرير لأسترد نفسي.

أمليت على إجلال رقم تليفون أحمد أنيس.

علا حاجباها بالدهشة: لم يعد مدير مكتبك.

فوَّتُّ الملاحظة. طلبت أن تسأل ما إذا كانت هناك أوراق مهمة تحتاج إلى التوقيع.

مازلت الرئيس الذي يسأل، ويناقش، ويهب النصيحة، ويأمر.

تعاملي — بدلًا من الحرس الشخصي— مع البوابين ومنادي السيارات وسائس الجراج وبائع الصحف، من لم أتعامل معهم من قبل، البديل لدور أحمد أنيس في حياتي، أحرص فلا أتباسط معهم مثلما كنت أفعل مع أحمد أنيس.

طلبت من إجلال — وأذان الفجر يُرفع من المسجد القريب — أن ترتدي أجمل ما لديها من ثياب.

قلت في نبرة تذكيرية: هل تذكرين الوزير ماجد إبراهيم؟

– ماله؟

– دعوته على الغداء.

– انقطعت صلتكما منذ ترك الوزارة.

– عرفت أنه سيعود إليها.

وأومأتُ لتوضيح المعنى: لي معه مصالح كثيرة.

كانت قد استغنت عن الخادمة والطباخ: نحن أولى بنقودنا.

تنبهت إلى وقع أقدام فوق سطح الفيلَّا. امتدت يدي — بتلقائية — إلى المسدس فوق الكومودينو المجاور. صوبته ناحية الباب المغلق. درت به ناحية النافذة المواربة.

هل نسيت إغلاقها؟

تنقلت حركتي بين الباب والنافذة. غاب وقع الأقدام، وأرهقني الانفعال والقلق والتوتر، فنمت.

قمت، لأطلب — وأنا أحاول التثبت مما أرى — استدعاء أحمد أنيس، أُملي عليه احتجاجًا إلى الوزير: لماذا يهمل استشارتي في المشكلات المهمة؟!

لمحت في عينيها آثار دمع.

– لماذا؟

أدركتُ أن توجيهاتي تثيرها، هذا ما اعتاده الموظفون في المؤسسة.

– أخاف عليك من الكوابيس … لا تكاد تفارقك.

– أنا؟!

– صراخك لا يهدأ حتى أهزك فتنتبه!

قالت — وهي تنهنه — إني أعاني صعوبة في تكييف نفسي مع حقيقة الأشياء، ما كان زمني مضى. حل — بدلًا منه — زمن أحمد أنيس.

لم تكن تعرف كثيرًا ظروف عملي، لكنها أدركت أن وضع زوجها لم يعد كما كان. طرأ تغيرٌ ما ملموسٌ على عملي الوظيفي، وكانت تتابع ما يحدث بقلة حيلة.

احتوت كفي بين راحتيها: ثق أن الله سينصرك.

– لا شأن لله بهذه المعارك السخيفة، هي مقصورة على الشيطان!

وضربت فخذي بأطراف أصابعي: لو أنه يمتلك عافية، فلن يتأخر في تأجير عافيته.

وراحت عيناي في الفراغ: المومسة لا تقتصر على النساء!

أصحو — في عز الليل — لأن الأرق يمنعني من النوم، ربما طلبت ورقة وقلمًا، أملي عليها رسائل، أو ملاحظات، أو ذكريات، أرى أنها مهمة. ألاحظ أني نسيتها على موضعها فوق الكومودينو المجاور للسرير.

لاحظت — في جلستي على رصيف قهوة ريش — شابًّا في حوالَي الخامسة والثلاثين، يميل على جاره — في سن مقاربة — يُسِر له ما يضحكه، ونظراتهما تتجه ناحيتي.

هل يتحدثان عني؟ هل يشاركان في التآمر ضدي؟

استعدت موقفًا مماثلًا بين رجلين في سن متقدمة، كانا يجلسان لصق نافذة جروبي المطلة على شارع قصر النيل. توقفت يد أحدهما على يد الآخر، سكتا عن الحديث، واتجها إلي بأعين متسعة، تنطق بشعور المفاجأة.

طلبت الكهربائي أول شارع فريد سميكة. راقبته وهو يضع مكبر الصوت على جدار الشرفة المطلة على شارع عبد الحميد بدوي. صحت، بمجرد انصراف الرجل — في مكبر الصوت — أنبه الناس إلى أفعال أحمد أنيس: أحمد أنيس قتلني دون نقطة دم واحدة.

أهملت النظرات المشفقة في عيني إجلال، وما يشبه الصراخ المكتوم على ملامح حازم.

تمنيت لو أن أحمد أنيس رد على كلماتي في مكبر صوت آخر، سأفضحه، أكشف للناس من هو، كيف التقطته من القاع، ودفعت به إلى حيث هو الآن.

إذا كان قد حاول التناسي، فإن الوقائع يصعب نسيانها، أنا ولي نعمته!

حملق بشفة متدلية: هل تتصور أني أخونك؟

وخبط على كتفه بنفسه: لحم أكتافي من خيرك!

يكذب كما يتنفس.

قتل الظاهر بيبرس قائده قطز، فجعله الناس بطلًا شعبيًّا، ونسي الناس ما لقيه علي بك الكبير على يد تابعه محمد أبو الذهب، فبنوا لأبي الذهب جامعًا هائلًا.

هل وصلت نهاية عالمي؟ هل انتهى عالم رضا شهبون؟

وسائلي إلى الناس كثيرة، أوضح وأشرح وأفضح، هذا هو أحمد أنيس الذي ائتمنته فخانني. ثمة الإذاعة والتليفزيون والقنوات الفضائية والصحف والمنشورات التي توزع باليد والملصقات واللافتات المعلقة على مفترق الطرق.

لن أستسلم بسهولة، الحياة معركة، أكسب جولات، وأخسر جولات، المهم أن أنتصر في النهاية.

المثل يتحدث عن الذي يضحك أخيرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤