إذا أشرق الشعاع وضحكت الكلمات
مجلة الإذاعة والتليفزيون
عدد: ٢١١٤
سبتمبر: ١٩٧٥
حين يأتي على الناس زمان يصبح الحديث فيه صراحةً أو همسًا، ينزوي الإنسان في داخل الإنسان، وتسقط القيم وتنهدم الكرامة وتصبح الحياة صورة ممسوخة مُشوَّهة، غير خليقة بأن تُعاش ولا خليقة بأن تدوم.
ذلك أن الصراخ لغة الحناجر، والحناجر لا عمل لها، والهمس لغة الخوف، والخوف لا ضمير له، وإذا انعدم العقل وامَّحى الضميرُ سقطت الحياة.
وقد عشنا هذه الفترة، وأبَيْنا فيها أن نصرخ؛ لأن الصارخين آنذاك كانوا أدوات لتكبير الأصوات، وكانت الأصوات جميعها تنبعث عن مصدر واحد.
وعشنا هذه الفترة، وأبَيْنا أن نهمس؛ لأن ضمائرنا أبَتْ علينا أن تكون همسًا ولنا أقلام، وإذا كرَّم الله القلمَ فأقسم به، فعارٌ على الإنسان أن يمتهن هذا القلم الذي وهبه الله له، فبالكلمة عاشت الأديان جميعًا!
اختارها الله لتكون معجزة معجزاته على الأرض … فحين اختفت شمس موسى وعصاه، وحين ماتت طيور عيسى ومرضاه، وبقيت كلمة الله خالدة على وجه الزمان تثبت دعائم الأديان جميعًا، فتشرق شمس موسى وتسعى عصاه، وتعيش طيور عيسى ويحيا مرضاه، فحامل الكلمة هو شرف الحياة وهو وجودها، وهو قيمتها، شاهد عصره، ونبض قومه، وآهة المظلوم فيهم المُهان، وعضة الجوع عند فقيرهم والمُعدِم، وموقظ الضمير عند غنيهم ذي الكظة القاسي، وصاحب الكلمة هو وحده مَن يستطيع أن يقول للطاغوت جاوزتَ المدى والحدود، فمهلًا أو تحيط بك عدالة السماء ينزلها عليك أبناء الأرض.
وقلنا، وكانت كلماتنا تتخفى في السرد الروائي والقصص، وكان الشعب العربي ينفذ إلى ما وراء الخفاء فيقتنص المحجب من وراء ستار ويذيعه، ويسمع الحاكم الطاغوت ويقف حائرًا بين أن ينزل عقابه وهو سفاح، وأن يكتم غيظه فلا يذيع ما استتر، ولا يشتهر ما استسر، ولا تصبح الكلمة التي يحررها الناس واضحة شهيرة.
وتمر بنا الأيام كالحة السواد، لا هي تقتل فتريح، ولا هي تشرق فنعيش، ولكن الحيرة لم تطل بالطاغوت، فإن كان من حسن الرأي ألا ينزل علينا عقابه الشهير، فلا بأس أن ينزل علينا عقابه المتخفي وراء النذالة والجبن، ويمر عشرون عامًا ونيِّف على صاحب هذا القلم بغير مكان ثابت في مجلة أو جريدة مصرية، ويأبى صاحب هذا القلم أن يُنسَب لغير مصر، فمن أجلها قال كلمته، ومن أجلها يعيش، إذا كان لعيشه معنى، ومن أجلها يموت، إذا كان موته يحمي هباءة هائمة بين سمائها وأرضها.
حتى إذا أذِنَ الله لمصر أن يعود إليها شعاعٌ من النور، توقَّفَ الصراخ وانقطع الهمس وصار الحديث كلامًا يقوله عقل لعقل، وقلب لقلب، وضمير لضمير، عادت العقول والقلوب والضمائر إلى الحياة في دفء الشعاع العائد، وأزال الكلام عنه حجابه وظهر للناس واضحًا كالعمل الطيب، وقلنا … ولكن الذي سمع منا كان إنسانًا، ولم يكن سرطانًا بشريًّا غير جدير بأن يُسمى.
وأحسَّ الإنسان أن ما يسمعه إنما يُقال من أجل مصر، ومصر عند هذا الإنسان هي حياته وروحه، وهبَ لها نفسه عند حرب، ووهب لها نفسه عند سلم، واثقًا أنه إذا عاشت مصر عاش العرب جميعًا.
ولأنه إنسان عرف مصادر الحديث واتجاهه ومنحاه، ولأنه عرف هذا وجدَ صاحب هذا القلم مكانًا ثابتًا يخاطبك منه، مطمئنًّا إلى غده، ناظرًا إلى أمسه، قرير الخلجات، مطمئن الجوانح.