لا مسئولية بغير مساءلة
مجلة الإذاعة والتليفزيون
العدد: ٢١٢٦
٢٠ ديسمبر ١٩٧٥
أكتب هذه الكلمات يوم الثلاثاء حتى تستطيع أن تلحق بالمطبعة المستعجلة التي تريد أن تفرغ من العمل قبل إجازة العيد، وقد سمعت في أثناء الأسبوع أن قراراتٍ سوف تصدر تضم الوزارات التي تعمل في ميدان واحد في قطاعات تجمع بينها.
وقد تظهر هذه الكلمة بعد أن تكون هذه القرارات قد أُعلنَت.
الواقع أن هذه القرارات في ذاتها خطوةٌ إن لم تُؤدِّ إلى ما بعدها تكون غير مُحققة لما يُراد منها.
فإنه من غير المعقول أن يتحمل رئيس الجمهورية وحده مسئولية الحكم في تفاصيله وفي خطوطه العريضة في آنٍ معًا، ولا بد أن تكون هناك جهات تحمل مسئوليتها كاملة، ولكَم أرجو أن تختفي من التصريحات الرسمية وغير الرسمية تلك الجملة التي لا يخلو منها بيان «حسب توجيهات السيد الرئيس».
فإنه ليس من المعقول أن يتفرَّغ الرجل الذي يحمل مسئولية مستقبل مصر وحاضرها، بل ومسئولية جيل بأكمله لتفصيلات الوزارات ودقائق العمل في المصالح.
ليس من المعقول أن الرجل الذي كان يفاوض بالأمس فورد وكيسنجر وويلسن، والذي وجَّه المجتمع العالمي إلى الطريق الذي يجب أن يسلكه في قضية فلسطين — وسلَكَه فعلًا — والذي يفاوض اليوم ديستان أن ينظر في مشكلة الدقيق واللحم والأتوبيس والتليفون.
إن فردًا واحدًا لا يستطيع أن يقوم بهذا، والعقل الذي يُعِد نفسه للكلام في خطوط عريضة يصعب عليه، بل يستحيل أن يفكر في التفصيلات، على خطورة هذه التفصيلات وأهميتها في الحياة اليومية للشعب.
وإليكم موضوعًا تسمع عنه لا يجوز أن يحل مشكلته رئيس الدولة، بل هو من الوضوح واليسر بحيث يجب أن يحله الوزير المسئول دون حتى أن يقول حسب توجيهات السيد الرئيس!
هل يصدق أحد أن التقارير الرسمية تقول إن بند الدقيق الفاخر يحظى وحده بإعانة رسمية من الدولة قدرها ٣٨ مليون جنيه.
ما الدقيق الفاخر؟ إنه ما يُصنع منه الجاتوه والكيك وما إلى ذلك.
ما أهمية ذلك لجموع الشعب؟ أليس عجيبًا أن تنصرف الدولة اليوم بما ظلَّتِ الأجيال تسخر منه، حين قالته ماري أنطوانيت عندما شكا إليها الشعب من عدم وجود الخبز، فقالت: ولماذا لا يأكل الشعب الجاتوه؟
إن هذه الأصناف من الحلوى ليست ضرورة شعبية، ومَن يريد أن ينالها يستطيع أن يدفع من أجلها الثمن الغالي إذا كان لا بد له أن يأكلها.
ويحظى اللحم بإعانة قدرها ٨ ملايين جنيه، ولعمري ماذا يفيد الشعب من هذه الإعانة؟!
إن الذين يريدون أن يأكلوا اللحم عليهم أن يتحملوا غلاء ثمنه، لا بأس على الدولة أن تعين على غلاء اللحم في المواسم وفي عيد الأضحى، أما أن تُعين على غلائه بثمانية ملايين جنيه ليتمتع القادرون بأن يصبح اللحم أرخص لهم بقرش أو قرشَين أو عشرة قروش، فهذا تصرُّف لا أظن أنه جائز.
واعتقادي أن الأيسر والأقرب للمعقول أن تترك الدولة العلف حرًّا حتى يستطيع الكثيرون أن يربوا الماشية، فإن احتكار العلف يجعل التربية محصورة في فئة واحدة، هي الفئة التي أثرت ثراءً فاحشًا في السنوات الماضية، وما زالت تُثري إلى يومنا هذا.
هذا كله كلام في التفاصيل لا يجوز أن يرقى إلى رئيس الدولة، فإن الأعباء الملقاة على عاتقه في كبريات المسائل تحتاج إلى جمعٍ من الرجال، لا إلى رجل واحد.