إن الكرام بحفظ العهد تُمتحَن
الأهرام – العدد ٣٢٦٤٨
٣٠ أبريل ١٩٧٦
لا يستطيع أدبٌ أن يعيش إذا قامت فروع له من جذور بعيدة عن تراثه، وكل أدب في العالم يعيش في ظل التراث الذي ينتسب إليه.
فالأدب الإنجليزي ما زال يعتبر روَّاده الأوائل هم الآباء الشرعيين لفنون أدبهم الحديث على الرغم من أن المسرح والرواية والقصة فروع قديمة أصيلة في الأدب الإنجليزي، إلا أن الأدب الإنجليزي ما زال يحتفل بروَّاد فنِّه الأوائل، ولا يتعالى عليهم ولا يقطع صلاته بهم.
ولكن الأدب العربي أصابته بآخِره كبرياء مُزيَّفة لا تعترف بالتراث ولا بالأصول الأصيلة لأدبنا.
ترى هل يخجل أدباؤنا الشباب من تراثهم أنه كان خلوًا من الرواية والقصة القصيرة والمسرحية؟ وهل يعتبر الشباب الاهتمام بالمتنبي والبحتري وأبي تمام حتى البارودي وشوقي الخالد نوعًا من الرجعية والجمود؟
هل هؤلاء الشعراء وشعرهم يمثِّلون فِكرًا متخلِّفًا لا يجوز للنابهين الأذكياء الرافضين لكل أصل قديم أن ينظروا إليه أو يستلهموه أدبهم أو يثروا أسلوبهم بأساليبه؟
ألا يستطيع هؤلاء القافزون إلى العبقرية من شبيبة الأدباء أن يعرفوا تراثهم ويستفيدوا منه، ليطوروا أدبهم بعد ذلك ويسيروا به في الآفاق الواسعة التي يريدون أن يروِّدوها؟
وهل هذا الرفض من الشباب وليد دراسة أم وليد جهل؟ أم وليد تسرُّع للشهرة دون دراسته؟
زارتني أديبة إنجليزية منذ أعوام ودعوتُ شابًّا من هواة الأدب أن يكون معنا، فكانت الأديبة الإنجليزية تُكلِّمه عن المتنبي وشوقي وبديع الزمان … ويكلمها هو عن شكسبير وإليوت وديكنز حتى لم تستطع الأديبة الإنجليزية آخِرَ الأمر أن تتمالك نفسها، فقالت له: «لك أن تكلمني عن أدبائي ولكن بشرط أن تكون درستَ أدباء لغتك أولًا، فأنا لم أجرؤ على دراسة الأدب العربي إلا بعد أن فرغتُ من دراسة الأدب الإنجليزي وامتحنت فيه ونلت شهادتي.»
والواقع أن الأدب العربي إن لم يعتمد على تراثه في كل مناحي فنونه فمصيره أن يذوي ويفنى ويصبح بلا وجود.
فنحن إنما نكتب الأدب العربي للشعب العربي، ويستطيع القارئ في العراق وسوريا والأردن أن يفهم عنا نحن الكتاب المصريين، وأن يدرك المشاعر التي تموج بها نفوسنا وأن ينبض نبضنا ويتنفس الهواء الذي نتنفسه.
أما القارئ الأوروبي فهو بعيد كلَّ البعد عن لغتنا وعن مشاكلنا، وإذا قرأ عنا فقراءته ستكون قراءة جغرافية أكثر من قراءة أدبية، فالأدب مرتبط بلفظه بقدر ما هو مرتبط بمضمونه، ولقد فهمنا نحن الآداب الغربية؛ لأننا منذ الطفولة على صِلة بحياة الناس هناك، ولأنهم هم روَّاد الرواية والقصة والمسرحية، وكان لا بد لأشكالهم الفنية في هذه المجالات أن تفرض نفسها علينا، أما نحن فإنهم لا يكادون يعرفون عنا شيئًا فإذا قرءوا فلينظروا كيف يعيش هؤلاء الناس الذين يُسمون عربًا.
فالارتماء على أدبهم وطريقة تفكيرهم الأدبية، والحرص الشديد على تقليد أسلوبهم دون الانتماء إلى تراثنا يجعلنا أشبه بالقرود في نظرهم وفي نظر قرائنا على السواء.
وإني لأعجب من الأدباء الشبان حين أسمعهم يقرءون قصصهم في الإذاعة أو في الندوات العامة، فأجدهم لا يكادون يقيمون كلمة عربية صحيحة، وقد اتخذ أغلبهم أسلوب الجُمل القصيرة البرقية في قصصهم، فأعفى نفسه من التركيب العربي للجملة، وهو مع ذلك عاجز عن نطق جملته الأعجمية.
وإني لأحس في كثير مما أقرأ من الأدب الحديث أن الأديب من هؤلاء يريد أن يقول شيئًا ولكن الكلمة لا تكاد تسعفه، ويوشك لولا الخجل أن يقولها في لغة أجنبية، بل إن بعضهم لا يخجل ويفعلها.
وأنا أعرف أن المدارس المصرية لم تعُد تهتم باللغة العربية الاهتمام اللائق باللغة التي نعيش بها، ولكن الأديب الذي يريد أن يصبح أديبًا لا يجوز له أن يعتذر بذلك، فإن عليه أن يُعَلِّم نفسه اللغة التي يريد أن يصبح أديبًا من أدبائها، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالدراسة العميقة للتراث العربي من شعر ونثر، ثم عودًا إلى العنوان؛ إن الكرام بحفظ العهد تُمتحَن!