نحن أقوى من الحياة
الأهرام – العدد ٣٢٦٥٣
٥ مايو ١٩٧٦
ليس في مصر مَن لا يعلم أن هناك أزمة جارفة تحيط بنا، سواء كان ذلك متمثلًا في عدم توازن دخل الفرد مع متطلبات الحياة، أو كان ذلك في الخدمات العامة، ومن المضحك المبكي أن تُقدِّم الجرائد كلَّ يوم دليلًا على ذلك، كأن الأمر ما زال يحتاج إلى دليل، ومثل ذلك يُقبل إذا كان المسئولون لا يعرفون ذلك ويحتاجون إلى مَن يُنبههم إليه، ولكن الشواهد جميعها تدل على أن المسئولين أكثر علمًا منا نحن أفراد الشعب بهذا الانهيار الذي نعانيه، ولذلك كان صديقي محقًّا حين سألني: اكتبوا لنا ماذا علينا نحن أفراد الشعب أن نعمل، ولا عليكم من الماضي فقد عرفنا ما كان فيه، ولا عليكم أيضًا من هذه المتاعب اليومية التي نعانيها في الرزق أو في الخدمات العامة، فكلُّ فرد منا أدرى بأزمته من الآخَرين، إنما وظيفتكم الآن أن ترشدوا الناس كيف يواجهون حياتهم اليومية تلك.
هو مُحقٌّ في هذا الطلب؛ لأن الناس تعوَّدوا أن يطلبوا النصح ليسخروا من الناصح، أو ليعملوا عكس نصيحته.
إن كل فرد في الشعب المصري يعرف كيف يواجه يومه، وهو لا يحتاج في ذلك إلى نصيح أو مرشد، وأكثر ما يثير ضحكي وألمي معًا كلمة التوعية العامة التي أصبحَت منتشرة الآن بشكل يدلُّ على الجهل الفاضح بنفوس الناس، ولأضرب بذلك مثلًا من هذه الإعلانات الساذجة التي تدعو إلى تحديد النسل، كأن الناس يعرفون أنه كلما جاء لهم طفل جديد فُتحت لهم أبواب جديدة من الإنفاق، وكم أتمنى أن أعرف إحصاء عما أحرزته هذه الجماعات وهذه التوعية من نجاح في تحديد النسل، وإني واثق من النتيجة.
إن الناس لا تحتاج إلى مَن يرشدهم كيف يتغلبون على الأزمة، ويكفيك أن تُلقي نظرة على الوجوه، إنها لا تُعبِّر مطلقًا عن مقدار الأزمة التي تعانيها، يبدو أن في داخل كلِّ فرد منا جهازًا يجعل الإنسان يتكيف مع واقعه ويخلق للأشخاص أبوابًا من الأمل ولو كانت وهمية، إلا أنها قادرة على جعله يتقبل الحياة كما تدور به الحياة.
والمثل العاميُّ المعروف يُومئ إليك إلى أيِّ مدى يستطيع المصري أن يسعد من داخله مهما تكن الظروف المحيطة به: «كل موَّال ينزه صاحبه»، لكل مصري موَّال ينشده أو تتغنى به نفسه، فيرتد إليها هدوءها وتشيع فيها الطمأنينة، ويتسرب الأمن إلى حناياها، ويحيا الناس.
قد يكون موَّال بعضنا بسمة طفل، أو تهريج مهرِّج في التليفزيون، أو حديث سخيف في الإذاعة، أو شعور لا معنى له بالصحة والعافية، أو أي شيء قد لا يخطر على بالِ أحد أنه يسبب أي سعادة، فالنفس البشرية عجيبة في قلب الأشياء إلى مصادر للرضى والهناء، إن الشعب المصري الذي مرَّت به هذه الظروف الطاحنة أصبح يستطيع أن يُصدِّر إلى العالم أجمع — في شرقه وفي غربه، في بؤسه المادي وفي ثرائه الفاحش — شيئًا لا يملكه هذا العالم الواسع العريض، هو السعادة، السعادة التي تنبتُ وتنمو وتتفرَّع وتزدهر داخل النفوس بلا تعقيد ولا ثراء ولا مواصلات هانئة ولا تليفونات صالحة، إنها سعادة بلا معنى ولكن لها مصدر نعرفه نحن — المصريين — ولا يعرفه غيرنا من شعوب الأرض، إنه الإيمان العميق في خلايا تاريخنا، وفي كل أنحاء نفوسنا، ونعيش ونضحك، ولتدُرْ بنا الحياة حيثما تريد أن تدور، فنحن دائمًا — كنا وما زلنا وسنظل — أقوى من الحياة.