العدالة والقانون … وحرية الكاتب
الأهرام – العدد ٣٢٦٥٥
٧ مايو ١٩٧٦
في ظل حرية الصحافة تختلف النغمات، فيُقبل الناس على ما يكتب الكُتَّاب، فإن توحدت النغمة أصبحَتْ طبلًا أجوف يملأ الهواء ضجيجًا ولا يسمعه أحد، ويصبح الكلام رخيصًا ولا يحترمه مَن يستقبله.
والقلم أمانة، وويل لكاتب يخون أمانة قلمه، إن أبسط ما ينزل عليه من عقاب أن ينصرف عنه القُرَّاء، ولا كاتب بغير قُرَّاء.
وليس كاتبًا مصريًّا مَن يتغيَّا غير مصر غاية، لها حياتنا ولها نموت، وباسمها نجوب الدنيا شم الأنوف، مرفوعي الهامات، أباةً كرامًا.
لأننا نحيا نقول رأينا تأييدًا أو معارضة، ولمَن يقرأُ ما نقولُ أن يحكم عليه، وله — بطبيعة الحال — أن يختلف معنا أو يتفق، فالكاتب لا ينزلف للناس ولا يُداهن مشاعرهم وآراءهم أجمعين، وإنما هو يستوحي ضميره فيما يكتب، وضميره هو الحقيقة الوحيدة التي يستطيع أن يطمئن إليها. وقد يغضب بعض الناس، وقد يرضى بعضٌ آخَرون، ولكن المهم أن يكون الكاتب صادقًا مع نفسه، وحينئذ سيكون صادقًا مع الناس، فإذا اختلفوا مع الكاتب في الرأي فسيظلون على احترامهم له، فإن شعر إنسانٌ ما أن الكاتب اتَّهمَه بما ليس فيه، فالقانون هناك ينتصف لمَن ظلمَه قلم الكاتب، ويردُّ إلى المُعتدَى عليه كرامته أنصعَ ما تكون؛ لأنها حينئذ ستكون بريئة نقية بحكم القضاء الذي لا يتحيَّف ولا يُطلق الأحكام إلا بعد إعمال الرأي النزيه البعيد عن الغرض والعواطف جميعًا.
ولذلك فإنه لا حرية بلا قانون، الحرية بلا قانون فوضى، وفي ظل الفوضى تستطيع أن تعتدي على الآخَرين، ولكنَّ الآخَرين أيضًا يستطيعون أن يعتدوا على حريتك وعلى كرامتك وعلى مالك وعلى كل ما تقدِّسه، فالفوضى لا تقدِّس شيئًا ولا تنتهي عند أمد.
والحرية المعتمدة على ركيزة القانون تجعل الكاتب يحس أن أصابعه طليقة حول قلمه، لا يحيط بها إلا القانون العام الذي يحميه كما يحمي خصومه، وبغير الحرية لا فن، وخاصة في الأدب؛ لأنه مرتبط بالكلمة، والكلمة لا تتنفس الحياة إن لم تكن حياة حرة طليقة، وهي لن تعيش في ظل القهر أو الإرهاب، إنها إن وُلدت مع قهر أو إرهاب وُلدت ميتة لا قيمة لها ولا وجود، والكلمة الميتة قتيل يُعلِن قاتلها عن جريمته، ويُشهِّر بنفسه ليصبح أمام الناس قاتلًا مُحقَّرًا؛ لأنه ارتكب جريمته دون أي مبرر من خُلق أو شرف ضمير.
والكلمة الحرة إذا تنفست الحياة وعاشت، ظلَّت تطنُّ في آذان الزمان إلى أبد الآبِدين، ولهذا كان الطغاة يخشون الكلمة أكثر مما يخشون الجيوش، فحين اجتاح الطغاة العالم حرصوا على إحراق الكتب؛ لأن الكتب كانت تخيفهم وترعبهم وهم الذين كانوا يخيفون العالم ويملئونه رعبًا، وكما خافوا الكلمة كانوا يخافون القانون؛ لأنهم أمام القانون ليسوا أسماء وإنما هم أشخاص، ولهذا ترسم العدالة معصوبة العينَين وإن كانت مبصرة، فهي ترى الحق وتعطيه لصاحبه، ولا يعنيها مَن يكون، ومع العدالة والقانون تعيش الحرية دائمًا في وئام.